- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (007)سورة الأعراف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثالث من دروس سورة الأعراف، ومع الآية الرابعة، وهي قوله تعالى :
﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ(4) ﴾
مسائل لغوية متعلقة بالآية : وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ
1 ـ( كَم ) الاستفهامية ، و( كَم ) الخبرية :
أيها الإخوة، نحتاج أحياناً لشرح الآيات إلى بعض قواعد اللغة:
كم في اللغة على نوعين: تأتي كم استفهامية، وتأتي كم تكثيرية، أو خبرية، فإذا سألتُ: كم كتاباً قرأتَ؟ يقول لي: خمسة كتب، هذه كم استفهامية، أما إذا كان الذي أمامي قد قرأ كتباً لا تعد ولا تحصى، يقول لي: كم كتابٍ قرأتُ، هذه كم خبرية، أو تكثيرية، إذا كان الشيء يُعدّ يُذكر العدد، فإن كان لا يُعدّ تأتي كم التكثيرية أو كم الخبرية.
فالله عز وجل لأنه رب العالمين، لأنه خلق الإنسان ليسعده في الدنيا والآخرة، فإذا ضل عن طريق سعادته، وسلامته ساق الله له من الشدائد ما يحمله على التوبة .
وقد بينت في دروس سابقة كيف أن الله سبحانه وتعالى يتوب على عباده ليتوب عليهم، أي يسوق لهم بعض الشدائد ليحملهم بها على التوبة، أو يتوبون فيتوب عليهم أي يقبل توبتهم.
2 ـ المجاز في قوله : مِن قريةٍ :
إذاً:
﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ
القرية مكان، والقرية جماد، والقرية غير عاقلة، والقرية لا تجيب، أي اسأل أهل القرية، ونقول أحياناً في بلاغاتنا اليومية: اجتمع مجلس الوزراء، المجلس الكرسي، هل يعقل أن تجتمع مقاعد الوزراء وتتخذ قرارات؟! المقصود بالمجلس مَن على الكرسي، هذا اسمه مجاز عقلي، قد يُعبر عن صاحب المكان بالمكان، وقد يُعبّر عن الكل بالجزء، وقد يعبر عن الجزء بالكل .
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ
لا تدخل
مثلاً :
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
المنية ليس لها أظافر، ألفيتَ كلَّ تميمة لا تنفـع.
شُبِّهت المنية بإنسان، وحُذف الإنسان، وبقي بعض لوزامه، أو شُبِّهت المنية بوحش، وحذف الوحش، وبقيت بعض لوازمه، وهو إنشاب الأظافر، هذا بحث في البلاغة يطول في المجاز العقلي والكناية .
إذاً:
فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ
1 – ملمحٌ لطيف في الآية :
أيها الإخوة، في القرآن ملمح دقيق جداً، أهلكناها وانتهى الأمر، قال :
هناك ملمح دقيق جداً في هذه الآية، يعني أنت حينما ترى مصيبة قد وقعت سأوضح لك الحقيقة بالمثل التالي:
يعني هناك موظف حامت حوله الشبهات، صار حوله لَغْطٌ كثير، هناك من يقول: إنه يأخذ مالاً ليس له، أو إنه يشترط على أية موافقة بمبلغ من المال، صار هناك لغط، وصار هناك تساؤلات، و صار هناك همس، و صار هناك غمز، و صار هناك لمز، الإدارة العامة أجرت تحقيقاً سرياً، أرسلت له من يدفع له المال، فقبله، أرسلت له من يطالبه بمخالفة للقانون، فاشترط مبلغاً من المال، بعد غمز، ولمز، وتحقيقات، وإشارات، ولغط، وفضيحة شاعت، وبعد تحقيقات دقيقة ومتأنية، ومديدة، حتى اجتمعت الأمور، والمعلومات الدقيقة على أنه ليس مستقيماً، واجتمع مجلس الإدارة، وطُرِح أمر هذا الموظف، وكان من يدافع عنه، ومعلوماته غير دقيقة، والذي أدلى بالمعلومات الدقيقة، وبالأدلة الدقيقة أيضاً، فاتُّخِذ قرارٌ بالأكثرية بكف يده عن العمل، وكُلِّف أمين السر بكتابة مسوَّدة بهذا القرار، والقرار وُقِّعت مسودته، ثم كُتب على الكمبيوتر، ثم وُقعت النسخة الأخيرة، وعُممت على كل الدوائر، وبعدها صدر القرار بكف يده عن العمل .
الآن دقق، كفُّ اليد عن العمل قرار طارئ؟ لا، إنه مدروس، هو قرار صدر فجأة ؟ لا، بل كان قبْله دراسة طويلة .
هذا الكلام أسوقه لكم كي تؤمن معي أن مصيبة وقعت، ليست هذه المصيبة ارتجالية، ولا مزاجية، ولا طارئة، مصيبة وقعت لحكمة بالغة، وبعد دراسة وافية، وبعد تعنت الإنسان، وبعد استكباره عن أن يتوب، وبعد مباهاته بهذا العمل السيئ، وبعد إجراءات كثيرة تنبيهية، وبعد تحذيرات، وبعد أعمال عديدة لحمله على أن يكون صالحاً فلم ينصلح، فاتُّخذ هذا القرار .
2 – كل مصيبة بقدَر ولحكمة :
يعني إياك أن تظن أن مصيبة كبيرة نزلت بإنسان، قضية فجائية، أو قضية مزاجية، أو قضية طارئة، الأمر أعقد من هذا بكثير .
الفكرة دقيقة جداً، يعني حينما يشرد الإنسان عن الله، وحينما يبتعد الإنسان عن ربه، وعن منهج ربه، وحينما يبني مجده على أنقاض الناس، حينما يبني حياته على موتهم، حينما يبني عزه على ذلهم، حينما يبني غناه على فقرهم، حينما تأخذه العزة بالإثم، حينما يُنصح فلا يقبل، تُقدم له المعلومات الدقيقة التي لصالحه، فيرفضها حينما يركب رأسه، حينما وحينما وحينما... عندئذٍ يصدر قرار من الله عز وجل بإهلاكه، مع وقف التنفيذ، يأتي التنفيذ بحكمة بالغة وتقدير كبير .
لذلك:
(( اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك ، عدلٌ فيّ قضاؤك ))
(( أعوذ بنور وجهك التي أشرقت له السماوات والأرض ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تحل بي غضبك ، أو أن تنزل بي سخطك ، أعوذ بك من فجأة نقمتك، وتحول عافيتك ، وجميع سخطك، لك العتبى حتى ترضى ))
فجأة خثرة بالدماغ، شلل، هذه لم تأتِ فجأة، أنت توهمتها فجأة، هناك معاصٍ، وهناك آثام، أحياناً طبعاً، نحن لا نحكم إلا على الظاهر .
3 – المصيبة إمّا ردعٌ أو رفعٌ أو دفعٌ أو كشفٌ أو قصمٌ :
إن المصائب أنواع، لئلَّا يتوهم أحدكم أن الإنسان إذا أصابته خثرة فهو عاصٍ، لا، المعاصي أنواع، هناك مصيبة دفع، هذه مصائب المؤمنين، يدفعه إلى بابه، هناك مصيبة رفع، هذه مصائب المتقين، ليرفع درجته عند الله، هناك مصائب الردع للعصاة والمذنبين، هناك مصائب القصم للمجرمين، يوجد ردع، ويوجد قصم، ويوجد دفع، ويوجد رفع، ويوجد كشف، مصائب الأنبياء كشفٌ، فإنهم ينطوون على كمالات لا تظهر إلا في ظروف صعبة .
الأنبياء مصائبهم مصائب كشف لكمالاتهم، والمؤمنون مصائبهم دفع إلى بابِه، ورفع في مقاماتهم، بينما العصاة والمذنبون مصائبهم ردع، إن كان فيهم بقية خير، أو قصم إذا كانوا قد شردوا عن الله شرود البعير .
لكن أحياناً قد يأتي مرض مفاجئ، أحياناً إذا كان صاحب هذا المرض غارقًا في المعاصي والآثام، والفسق، والفجور، والزنا، نقول: هذا الذي جاء من الله هو فجأة نقمته، هو تحول عافيته، سبقه تحذيرات، وإنذارات، ودعوة صامتة، وتأديب تربوي، وسبقه إكرام استدراجي، وسبقته محاولات، والله عز وجل حلم عليه، وأمده، وحذره، فلما أصر على معصيته، ونسي ربه، وشرد عنه شرود البعير جاءت المصيبة .
إذاً: أخطر شيء في الإنسان أن يكون قد صدر قرار من الله بإهلاكه، مع وقف التنفيذ، هذا فجأة قد يكون حادث سير أحياناً يشله نصفين، قد يكون مصيبة تودي بماله كله، على كلٍ نعوذ بالله من فجأة نقمته، وتحول عافيته، وجميع سخطه، وله العتبى حتى يرضى لكن عافيته أوسع لنا، قل هذا الدعاء :
(( اللهم إني عبدك ، وابن عبدك ، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمُك، عدل فيّ قضاؤك، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له نور السماوات والأرض ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تنزل بي سخطك ، أو أن تحل علي غضبك، أعوذ بك من فجأة نقمتك وتحول عافيتك ، وجميع سخطك ، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي .
اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك عليّ - أعترف يعني - وأبوء لك بذنبي ، فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ))
4 – فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا
إذاً :
إنّ الإنسان يُؤوي إلى فراشه، يستقر في سريره، السرير دافئ، والبيت مريح، وقد تناول طعام العشاء، وكل شيء على ما يرام، فجأة زلزال يجعل عالي المدينة سافلها.
والله سمعت عن إنسان في مدينة عربية أصابها زلزال، من شدة الخوف الذي ملأ قلوب أهل البيت، خرجت الأم، وحملت وليدها الصغير على صدرها، وانطلقت إلى الشارع من شدة الخوف نظرت إلى وليدها فإذا هو حذاء زوجها .
﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2) ﴾
أحياناً نستمع إلى الزلازل، إعصار تسونامي، ساحل من أجمل سواحل العالم، يرتاده كبار كبار أغنياء العالم في عيد الميلاد، البرد شديد بأوروبا ، وثلوج، وكذا في أمريكا ، فيأتون إلى منتجعات من نوع العشر نجوم ، لكنهم رأوا فيها نجوم الظهر، أتوا إلى بلاد الزنا، والشذوذ، والتعري، نخبة نخبة نخبة أغنياء العالم، فجاء زلزال تسونامي على قدرهم، أمامنا مشاهد كثرة، أحياناً تجد جزيرة كلها نوادٍ للعُراة تغرق كلياً .
على كلٍ: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾
(( يا رب ، أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك ؟ قال : أحب عبادي إلي تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي لأحد بسوء أحبني ، وأحب من أحبني ، وحببني إلى خلقي قال : يا ربي إنك تعلم إني أحبك ، وأحبك من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال : ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي ))
يجب أن تذهب إلى المستشفى أحياناً، هذا بلا رجل، هذا معه مرض جلدي مخيف، هذا معه فشل كلوي، هذا معه تشمع كبد، هذا معه خثرة بالدماغ، أنت صحيح معافى، يا رب أتم علينا الصحة .
فأحياناً المصائب مفيدة جداً، تحدث قوة ردع المصائب، وأحياناً النعم تُحدِث محبة لله عز وجل، وأحياناً الآيات الكونية تُحدث شعوراً بالتعظيم، فكأن المؤمن يجب أن يعظم ربه أولاً، وأن يخافه ثانياً، وأن يحب ثالثاً .
5 – القرية مكان مثالي للمعيشة :
يعني بعض رؤساء الدول الكبرى في أوربا جمع عدداً كبيراً من العلماء في منتجع، وأقاموا فيه شهراً ليدرسوا إجابة عن سؤال واحد: لماذا العنف في العالم؟ طبعاً الإجابات طويلة، وأنا ذكرت بعضها في دروس سابقة، لكن أشاروا عليه بأن التجمعات السكانية الكبيرة يضعف فيها الضبط الاجتماعي، أما التجمعات القليلة الضبط أشد بكثير، فلذلك اقترحوا عليه ألا تزيد مدينة على 200 ألف إنسان، أما 18 مليوناً فشيء مرعب!!! ففي هذه المدينة وحشة، وأعمال عنف، وجرائم، واحتيالات ما لا سبيل إلى وصفه.
6 – لا أحد يتوقع توقيت المصيبة والهلاك فاحذورا نقمة الله :
بالمناسبة: سبحان الله ! لحكمة أرادها الله أن الإنسان الذي وصل إلى القمر، والذي راد الفضاء وصلت مركباته إلى المشتري
الإنسان الذي نقل الصورة عبر القارات الملونة، نقل الصوت، اخترع الغواصات، اخترع الطائرات، البوارج، اخترع أسلحة فتاكة، لا يستطيع أن يتنبأ بالزلزال، ولا قبل ثانية واحدة، مع كل علمه، بينما الدواب تتنبأ بالزلازل قبل عشرين دقيقة، لذلك قلما تُصاب دابة بأخطار الزلازل، قبل عشرين دقيقة تنطلق بعيدة عن مكان الزلزال، وفي بلدة واحدة في زلزال تسونامي رأت الحيوانات تعدو مسرعة فقلدتها فنجت.
فقد تأتي المصيبة ليلاً، وقد تأتي عصراً وقت القيلولة، لذلك إذا رأى الإنسان أن الله يمده بالنعم وهو يعصيه فليحذره، لا سمح الله ولا قدر وأنت تعصيه فاحذره.
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12) ﴾
وترون رأي العين الزلازل، والفيضانات، والصواعق، والحروب الأهلية :
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ
هذه الصواعق، ومعها الصواريخ .
(( رأس الحكمة مخافة الله تعالى ))
7 – طاعة الله وقاية من العذاب :
لذلك أنت حينما تطيع الله أنت في ظل الله، في رعاية الله، في توفيق الله، في حفظ الله، في ذمة الله .
(( مَن صَلَّى الصُّبْحَ فَهو في ذِمَّةِ اللهِ، فلا يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ مِن ذِمَّتِهِ بشَيءٍ، فيُدْرِكَهُ، فَيَكُبَّهُ في نَارِ جَهَنَّمَ. ))
(( يا ابنَ آدمَ، لا تُعجِزْني مِن أربعِ ركَعاتٍ في أوَّلِ نهارِك، أَكْفِكَ آخِرَه. ))
إنسان صلى الفجر في جماعة، وصلى قيام الليل، وقرأ قرآناً، وذكر الله، هذا في النهار في حصن حصين، في توفيق، في سداد، في حكمة، له هيبة ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ﴾
﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(5) ﴾
الإنسان على نفسه بصيرة ، والإقرارُ سيد الأدلة :
ما معنى هذه الآية ؟ معنى هذه الآية أن الإنسان :
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15) ﴾
﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23( انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ
هذا ذكرني بإنسان كان يتولى الدعاية للدخان في الشاشات الغربية، شاب في ريعان الشباب، يرتدي الكوبوي، ويركب على حصان، ويدخن ويقول: تعال إلى حيث النكهة، هي نكهة الخمر، لأن معظم الدخان منقوع في الخمر، هذا قبل أن يموت قال: كنت أكذب عليكم، الدخان قتلني.
لذلك: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾
عند الموت تنكشف كل الحقائق :
أنا أؤكد لكم أن أي إنسان على وجه الأرض من دون استثناء، من أي دين، من أي ملة، من أي طائفة، من أي مذهب، ولو كان ملحداً، عند الموت تنكشف له الحقائق التي جاء بها الأنبياء، فيقول:
لما أدرك فرعونَ الغرقُ قال :
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
أي إنسان من الستة آلاف مليون حينما يأتيه الموت يكتشف الحقيقة التي جاء بها الأنبياء، لذلك :
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ(22) ﴾
النبي عليه الصلاة والسلام خاطب كفار قريش وهم قتلى فقال :
(( تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عليهم فَنَادَاهُمْ، فَقالَ: يا أَبَا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ يا أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ يا عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ يا شيبَةَ بنَ رَبِيعَةَ أَليسَ قدْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فإنِّي قدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، كيفَ يَسْمَعُوا وَأنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ما أَنْتُمْ بأَسْمع لِما أَقُولُ منهمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا في قَلِيبِ بَدْرٍ. ))
لقد كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس .
إياك، ثم إياك، ثم إياك أن تكون في خندق معادٍ للدين، لأنك إذا وقعت في هذا الخندق هل تعلم من هو الطرف الآخر؟ الله رب العالمين، لذلك الله عز وجل توعّد إنسانين بحرب منه، الوعيد الأول في القرآن الكريم، والثاني في السنة، الأول :
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
آكلو الربا، وبالسنة :
(( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ))
إذاً:
خيارك مع الإيمان خيارُ وقت فقط :
إخواننا الكرام، خيارك مع مليون موضوع خيار قبول أو رفض، مع مليون إلا أن خيارك مع الإيمان خيار وقت فقط، إما أن تؤمن في الوقت المناسب، وتنتفع بإيمانك، أو أن تؤمن بعد فوات الأوان .
مَن هو أكفر كفار الأرض ؟ فرعون ، الذي قال :
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى(24) ﴾
والذي قال :
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي
عندما أدركه الغرق قال: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾
لذلك البطولة أن تضحك أخيراً لا أن تضحك أولاً، ثم تبكي كثيراً، من ضحك أخيراً ضحك كثيراً.
﴿ وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً(9) ﴾
أما الأول فـ :
﴿ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً(13) ﴾
كان فاسقاً، قوياً، غنياً، يدخل إلى بيته فيضحك ضحك الحيوانات أحياناً، لكن المؤمن يخاف في الدنيا، فيُضحكه الله في الآخرة .
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34) ﴾
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا
ما هو البأسُ ؟
يعني مثلاً: الرشح مرض طارئ لأسبوع، أحياناً كسر عظم فيُجبر، هناك مئات الأمراض شفاؤها مضمون وسريع، أما أحياناً ورم خبيث فهذا مرض قاضٍ، فهناك أورام، وهناك احتشاء، وهناك خثرات بالدماغ، وهناك فشل كلوي، وهناك تشمع كبد .
فلذلك هذا هو البأس، يعني قوة مدمرة لا تقابل ، ولا تقاوم ، زلزال تسونامي خلَّف خمسة ملايين متشرد، و ثلاثمئة ألف قتيل، ولا في عشر سنوات يمكن أن تقف هذه البلاد على قدميها، هذا بأس، فإما كوارث طبيعية، أو أمراض وبيلة، أو حروب أهلية كما تسمعون كل يوم.
أقسم لي إنسان التقى بي قبل أيام، قال لي: بيني وبين أهلي عشرة كيلو مترات، ومن أشهر مديدة لم أرَهم، فلو ذهبت إليهم لكنت مقتولاً حتماً، اشكروا الله عز وجل، واسألوا الله أن يديم نعم الأمن والسلامة، وأن يجعل هذا الأمن والسلامة في كل بلاد المسلمين .
إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
1 – لا تستطيع خداع كل الناس لكل الوقت :
﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾
هذه الفطرة تستطيع أن توهم بعض الناس لأمد طويل بشيء ما، وبإمكانك أن توهم كل الناس لأمد قصير بشيء ما، أما أن توهمهم جميعاً لأمد طويل فهذا مستحيل، أما أن تخدع نفسك، أو أن تخدع ربك ولو لثانية واحدة فهذا من رابع المستحيلات
2 – الإنسان ثلاثةُ أثلاث :
إخواننا الكرام، الإنسان فيه ثلاثة أثلاث، فيه ثلث يعرفه جميع الناس، مهندس طبيب، معلم، طويل، أبيض، متزوج، من سكان دمشق مثلاً، فيه ثلث يعرفه كل الناس، وفيه ثلث آخر لا يعرفه إلا أقرب الناس إليه، زوجته، وأولاده، وجيرانه، وشريكه في العمل، ومن سافر معه، ومن حاككه بالدرهم والدينار، هذا الثلث الثاني، أما الثلث الثالث فلا يعلمه إلا الله، والمشكلة دائماً في هذا الثلث.
يعني يخطب الرجلُ بنتاً فتجده ملاكًا، سبحان الله ! تقول لك: مَلك ! بعد حين أصبح وحشًا، كيف انقلب من مَلَك إلى وحش؟ هذا من الثلث الثالث.
لذلك إذا أراد الإنسان أن يمدح إنساناً فليقل: أظنه صالحاً، ولا أزكي على الله أحداً، سيدنا الصديق لمّا ولى سيدَنَا عمر، قال : << هذا علمي به، يا رب، لو سألتني: لمَ وليته ؟ أقول : يا رب، وليت عليهم أرحمهم ، هذا علمي به ، فإن بدل وغير فلا علم لي بالغيب >>
كن متأدباً مع الله ، فإن بدل وغير فلا علم لي بالغيب .
لذلك ورد :
((أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما))
أيها الإخوة الكرام:
﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ(6) ﴾
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ المُرْسَلِينَ
شبهة مدفوعة في نص هذه الآية :
التوفيق بين آيات إثبات السؤال وآيات عدم إثبات السؤال :
أحياناً يتوهم الإنسان أن في القرآن تناقضاً، يعني يأتيك بقوله تعالى :
﴿ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً(10) ﴾
﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
مرة سألني أخ عن هذه الآية، قلت له: إنسان عليه مخالفة سير، ثم ارتكب جريمة قتل، حكم عليه بالإعدام، وهو ذاهب ليعدم يقول أحدهم: عليه مخالفة سير، لا يحاسبوه عليها، هذه هو معفى منها، لأنهم سيعدمونه ﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾
﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ(39) ﴾
لكن الله عز وجل يقول: أنا سوف أسأل الذين أرسلت إليهم رسلي، هل استجابوا؟ هل صدقوا؟ هل آمنوا ؟ هل كذبوا؟ وسأسأل رسلي: هل بلغتموهم؟ هل طبقتم ما تقولون ؟ يعني المتكلم له حساب، تكلمت، هل أنت مطبق لما قلت؟ ألا تستحي مني؟ ألا تستحي أن تقول شيئاً أنت لا تفعله؟
﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3) ﴾
فالمتكلم يُسأل له حساب، والمستمع يُسأل، هل طبقت الذي سمعت، أم ماذا كنت تعمل؟
أيها الإخوة الكرام، الكفار في عهد النبي كانوا كفاراً ، وكانوا وقحين، فلو رأوا في القرآن تناقضاً لما سكتوا، ولكنهم كانوا عرباً، وكانت لغتهم عربية ويعرفون آثار العربية .
بين السبب والفاعل :
حتى أوضح لكم هذا أضرب مثلاَ :
أحياناً تقول: هذا الطالب رسب في صفه، ماذا تريد أن تقول؟ كان كسولاً فاستحق الرسوب، والذي جعله يرسب كسله فقط، لو قلت بعد حين: إن إدارة المدرسة رسّبته في الصف، ماذا تقصد؟ اتخاذ القرار بترسيبه، إعطاؤه جلاء الراسب، هذا قرار يحتاج إلى منفذ، فإذا عزوت الرسوب إلى الطالب فهو السبب، وإذا عزوته إلى الإدارة فهي الفاعلة، ولا تناقض بين الأمرين، أنت قد تقول: هناك تناقض يا أخي، فمرة قلت: الطالب رسب، مرة قلت: الأستاذ رسّبه، لا يوجد تناقض أبداً، إذا عزوت الرسوب إلى الطالب، أي بسبب كسله رسب، وإذا عزوت الرسوب إلى المدير، معنى ذلك أنه اتخذ قراراً بترسيبه .
أحياناً تُعزى المصيبة إلى الإنسان.
﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
أنتم السبب، وفي آية :
﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
من الله فعلاً، لكن من الإنسان سبباً، فإذا كان الرجل عربيًا يتقن هذه اللغة فما عنده مشكلة أبداً، هناك تنوع في العبارة، أحياناً نقصد الفاعل، وأحياناً نقصد المتسبب، أما كفار قريش فلو رأوا تناقضاً لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها على النبي صلى الله عليه وسلم،
حينما قال عليه الصلاة والسلام :
(( اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد يعبدك ))
العصابة جماعة الخير كان معناها سابقاً، الآن معنى عصابة: مجموعة لصوص، اختلف المعنى، استعمار، كلمة رائعة :
﴿ وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا
أما الآن فهناك قوى غاشمة تنهب الثروات، تقتل الناس، كلمة استعمار بغيضة الآن، أما أصلها كلمة رائعة، فالإنسان لضعفه باللغة، ولعدم اهتمامه بتطور الألفاظ قد لا يفهم بعض الآيات، وقد يرى فيها بعض التناقض .
﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ
فَلَنَقُصَّنّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ
أعمالهم، الآن أحدث طريقة في التحقيق أن تريه الصورة، فتسكته: ﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾
﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى(45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46) ﴾
الله معنا .
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ
بعلمه، ومع المؤمنين بالتوفيق، والنصر، والتأييد، والحفظ .
وفي درس قادم إن شاء الله ننتقل إلى قوله تعالى :
﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(8) ﴾
والحمد لله رب العالمين