وضع داكن
23-11-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الأعلى - تفسير الآيات 3 -8 التيسير.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:

﴿ وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3)  وَٱلَّذِيٓ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ (4) فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ (5)﴾

[ سورة الأعلى ]


تقدير الله تعالى الذي ينظّم الخلائق:


الأفْعى تسْتطيعُ في الظلام الدامس أن تصِلَ إلى الفأرة وتأكلها، فمن هداها إلى ذلك؟! وضَعوا مادَّةً شَمْعِيَّة على عَيْنَيْها، ووضَعوا لها في غُرْفَةٍ فأرةً فاتَّجَهَتْ إليها مباشرة إلى أنْ اكْتَشَفوا أنَّ هناك حُفْرَتَيْن صغيرتين في رأسِها تتحَسَّسان بالأشِعَّة تحت الحمْراء، فلما طُمست هاتان الحُفْرَتَان لم تهْتدِ إلى فريسَتِها، وبعضُ أنواع الدبابير تحفِرُ حُفْرَةً في الأرض، وتصْطادُ جُنْدُباً وتغْرز فيه سُماً في مكانٍ خاصٍ فَتُخَدِّرُهُ لِيَكون طعاماً طازجاً لِصِغارِها، وتأتي الأُنْثى فَتَبيض إلى جانب هذه الطعام الطازج، ثمَّ تموت الأُنْثى ويموت الذَكر، ويبقى هذا الطعام الطازِج إلى جانب هذه البُيوض الصغيرة التي حينما تخْرج من البيْضات تأْكُلُ هذا الطعام﴿ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾ ، وهذا الحَيوانُ المَنَوي دخل في البُوَيْضَة ولَقَّحَها وانْقَسَمَت البويضة إلى آلاف الأقْسام في أيام، فَمَن هدى بعض هذه الخلايا المُنْقَسِمَة لِتَكون عموداً فَقَرِياً؟! ومن هدى قِسْماً آخر من الخلايا لِيَكون قلْباً؟! من هدى قِسْماً ثالثاً من الخلايا لِيَكون عضَلاتٍ؟! من هدى قِسْماً رابِعاً لِيَكون عِظاماً؟! وسائِلًا شفافًا في العَيْن؟! وخلايا عَصَبِيَّة وجِلْدِيَّة وشَعْر ومَعي وأمْعاء؟! شيءٌ واحدٌ ينتَظِمُ الخلائق كُلَّها:

﴿ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلْأَعۡلَى (1) ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ (2) وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3) وَٱلَّذِيٓ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ (4)﴾

[ سورة الأعلى ]

قال بعض المُفَسِّرين: المَرْعى يُطْلق على كُلِّ نباتٍ تُنْبِتُهُ الأرض؛ أي أنْعم علينا بِنِعْمة الخلق والإيجاد، وأنْعَم علينا نِعْمَةً أُخْرى هي نِعْمَةُ الإمْداد، فما قيمة الإيجاد لولا الإمْداد؟! ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ* وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ* وَٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلۡمَرۡعَىٰ﴾ المرْعى إذاً مُطْلق النبات.
﴿ فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ﴾ معنى غُثاءً أيْ جَعَلَهُ يابِساً، ومعْنى أحْوى أيْ مُسْوَداً، فالنبات ينتقِلُ من الخُضْرَةِ إلى الاصْفِرار ثم إلى الاسْوِداد، انظروا إلى أَوْراق الأشجار بعد فصل الخريف تُصْبِحُ سوداء اللَّون، ﴿ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ* وَٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلۡمَرۡعَىٰ* فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ﴾ 
شيءٌ آخر يُسْتَنْبط من تسَلْسُل هذه الكلمات وهي أنَّ الحياة إلى فناء، مِن خُضْرَةٍ نضِرَة إلى اصْفِرارٍ وذُبول إلى موتٍ واسْوِداد، وهكذا حياة الإنسان من شباب وانْدِفاع وأحْلام عِراض إلى كُهولةٍ، إلى شَيْخوخة، إلى مَوْت، وكُلُّ ما في الأرض يُنْبِئنا بزوال العالم؛ غُروب الشَّمْس، ومجيءُ الخريف، وسُقوط أوْراق الأشْجار﴿ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ* وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ* وَٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلۡمَرۡعَىٰ* فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ﴾

البشارة الأولى لرسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- في السورة:


جاءَتْ أوَّلُ بِشارَةٍ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-، ويروي بعضُ كُتاب السيرة أنَّ هذه السورة من أحَبِّ السُّوَر إلى سيِّدنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، فَحينما قرأ ﴿سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلْأَعۡلَى﴾ قال:
لمَّا نزلَت (فَسبِّحْ بِاسْمِ ربِّكَ العَظِيمِ) قالَ لَنا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ:  اجعَلوها في رُكوعِكُم فلمَّا نزلَت: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قالَ لَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ:

(( اجعَلوها في سجودِكُم ))

[ أخرجه أبو داود، وابن ماجه واللفظ له، وأحمد عن عقبة بن عامر (ضعيف) ]

ونحن في الصلاة نقول: سبحان ربِّيَ الأعلى، فقد كانت هذه السورة مِن أحَبِّ السُّوَر إلى النبي  -عليه الصلاة والسلام-، الآن جاءَت البِشارة الأولى:

﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ (6)﴾

[ سورة الأعلى ]

أي يا محمد سوف نُقْرِئك القرآن، أما أنت فلا تنْسى، بعضهم فَسَّرَ (لا تنسى) لا: ناهِيَة، وبعضهم فسرها نافِيَة؛ أي أنت لا تنْسى –خبر-، وفي تفسير آخر: إياك أن تنسى، إذا قال الله -عزَّ وجلَّ-: لا تنْسَ نهْياً؛ أي عليه أن يبْتَعِدَ عن أسباب النِّسْيان:

شَكَوْتُ إلى وكيعٍ سوء حِفْظي     فأرْشَدني إلى ترْك المعاصي

وأنـْـبـأنـي بِــأنَّ الــعـلـم نــورٌ     ونــورُ اللـه لا يُهْدى لِعـاصي 

[ الإمام الشافعي ]

لا تعْصِهِ في النهار يوقِظك في الليل، قد ينْسَى المرء بعض العِلْم بالمَعْصِيَة فالمعاصي تُنْسي، كِتاب الله -عزَّ وجلَّ- مهما يكون واضِحاً لَدَيْك إذا خالَفْتَهُ تنْساهُ وتُصْبِحُ في حِجابٍ عنه؛ لذلك الآية تحْتمل وَجْهَين، وقد ورد في الأثر: (القرآن ذو وُجوه)؛ له وُجوهٌ عديدة، ﴿سَنُقْرِئُكَ﴾ هذه بِشارةٌ يا محمد ﴿ فَلَا تَنسَىٰٓ﴾ حِفْظُهُ علينا، بل عَدَّ بعضهم هذا مُعْجِزَةً لِرَسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-، الإنسانُ الأُمِيّ يقرأ القرآن مرَّةً واحدة فيحفظه كله، هذا فوق طاقة البشَر، المُتَعَلِّم يعود إلى المصحف يقرأ فينسى فيعود، ثم يذكر ويقرأ عدة مرات، كيف حفظ النبي-عليه الصلاة والسلام- كتاب الله كله من أوَّلِ مرة؟! قالوا: هذه بِشارة، وهذه مُعْجِزة إنْ كانت الـ(لا) نافِيَة، بِمَعْنى خبر﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ﴾ ، وإنْ كانت الـ(لا) ناهِيَة فهذا تأديبٌ لنا عن طريق النبي-عليه الصلاة والسلام-؛ أي لا تفْعل شيئاً تنسى معه القرآن الكريم، لو أنَّك خالَفْتَهُ لَنَسَيْتَه ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ﴾ .

العلاقة بين التَذَكُّر وبين الاِهْتِمام:


شيءٌ آخر في موضوع النِّسْيان؛ هناك قانون لو تتبَّعْنا موضوع النِّسْيان في عِلْم النفْس، الإنسان يتذَكَّرُ الشيء الذي يهْتَمّ به؛ هذه قاعِدَة، فلو أنَّ خطيباً أخذ رقم هاتِفِ خطيبَتِهِ، أنا أَجْزِمُ أنَّهُ يحْفظهُ أوَّلَ مرَّة ولا ينْساه أبداً، التاجر الذي له دَيْن ذاكِرَتُهُ هي الدَّفْتر فلا ينسى، فالشيء الذي تُحِبُّهُ لا تنْساه،    والشيء الذي تهْتمّ له لا تنْساه،  والشيء الذي يعْنيك لا تنْساه، ولو وعَدَك إنْسان بِوَظيفة عالِيَة وأعْطاك رقْم هاتِفِه فأغْلَبُ الظنّ أنَّكَ تحْفظهُ من دون كِتابة، وإنْ كنتَ مالِكاً لِمَحَلٍّ تِجاري تعرفُ ما عندك مِن بِضاعَةٍ مادَّةً مادَّة، تقول للغُلام: اِصْعَد للسقيفة على الرفِّ اليمين بَقِيَتْ لنا قِطْعَة واحدة فأَنْزِلْها، ما هذه الذاكرة؟! هذا تأكيد أنَّ الشيء الذي تُحِبُّه وتهتم له ويَعْنيك لا تنْساه، فالنبي-صلى الله عليه وسلَّم- كان شُغْلُهُ الشاغِل الله لِذلك لا ينْسى كلامه ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ﴾ ، فإنْ كانت على سبيل النفي فهذه قانون وبُشْرى (أنت لا تنسى)، ولا ينْسى إلا من كان غير مُهْتَمٍّ بِهذا الشيء، يُمْكن أن تسأل عن اسم وعُنوان شَخْصٍ وأنت لا تنْوي أن تُراسِلَهُ فتنْسى هذا العنوان، النِّسْيان والتَذَكُّر موضوع ضَخْمٌ جداً يحْتاج إلى تَوَسُّع، ولكن مُلَخَّصُهُ: هناك علاقة عِلْمِيَّة بين التَذَكُّر وبين الاِهْتِمام، وقُلْ لي ماذا تذْكر؟ أقل لك بِماذا أنت مُهْتَمّ؟ قال عليه الصلاة والسلام:

(( مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ))

[ رواه ابن ماجه عن زَيْد بْن ثَابِت ]


المقصود بالمشيئة:


﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ (6) إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلْجَهۡرَ وَمَا يَخْفَىٰ (7)﴾

[ سورة الأعلى ]

هذا استثناء؛ أي قد تنْسى، والمُفَسِّرون في هذه الآية لهم مذاهب شَتى، بعضهم يقول:

1- الله -سبحانه وتعالى- لِحِكْمَةٍ بالِغَة قد يُنْسي نَبِيَّهُ شيئاً- وهذا يحْدث-،

قال عليه الصلاة والسلام:

(( ...إنَّه لو حَدَثَ في الصَّلَاةِ شيءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ به، ولَكِنْ إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أنْسَى كما تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، وإذَا شَكَّ أحَدُكُمْ في صَلَاتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عليه، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ. ))

[  عن عبد الله بن مسعود أخرجه البخاري، ومسلم باختلاف يسير ]

عندئذ يكون النِّسْيان من الله-عزَّ وجلَّ- ينسيه شيئًا لحكمة بالغة، كيف أنَّ الله-سبحانه وتعالى- ألْقى على المؤمنين أمَنَةً نُعاساً يغْشى طائِفَةً منهم، هذا النُّعاس الذي أصابَهُم هو رحْمَة بِهم، وكذلك قد ينْسى الإنسان شيئاً رحْمَةً به، والمؤمن يتَذَوَّقُ هذه الآية، قد ينْسى موْعِداً نِسْياناً قطْعِياً فلو ذهبَ إلى هذا المكان لَكَان شَرّ كبير، يُنْسيهِ الله هذا المَوْعد ويَمْحوهُ من ذاكِرَتِهِ نِهائِياً، ولا إثْمَ عليه، ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ* إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ﴾ هذا المعنى الأول؛ أي إلا ما شاء الله أنْ يُنْسيك إياه فإنَّكَ تنْساهُ لأنَّك بشرٌ.

2-المعنى الثاني دقيقٌ جداً: أنَّ إرادة الله -عزَّ وجلَّ- ومشيئَتَهُ لا يُمْكن أنْ تُقَيَّد،

هذا الموضوع يقودنا إلى موضوعاتٍ أُخْرى؛ أحَدُهم سَمِع أنَّك إذا سافَرْتَ وتَصَدَّقْت فإنَّ الله -سبحانه وتعالى- يحْميك في هذا السفر، فأنت إذا تصَدَّقْتَ بِمِئَة ليرة قبل السفر فهل عَطَّلْتَ مشيئة الله -عزَّ وجلَّ-؟! لا يُمْكن أن يحْدُثَ شيء؟! لا، ما دُمْتَ معه لا يحْدثُ شيء، فإذا دَفَعْتَ الصَدَقَة ونسيتَهُ وانْحَرَفْتَ في السفر تأتيك المصيبة ولو دفعْتَ هذه الصدقَة، مشيئة الله مُطْلقة لا تُقيد، قد يقول لك إنسانٌ: أنا زكَّيْتُ عن مالي، وله طُمأنينة قاطِعَة أنَّ مالهُ لن يتْلَف، فإذا به يُفاجئ أنَّهُ تلف! إذا دفعت الزكاة وتوقعت أنّ المال لن يُتْلَف إطلاقًا، وأخذْتَ حُرِّيَتَكَ بأشْياء ثانِيَة وحصل اختلاط ومعْصِيَة، حصل مخالفات، وأنا دفعت زكاة مالي!! لا، إنَّك لن تُقَيِّد مشيئة الله بِهذه الزكاة، مع أنَّك زَكَّيْتَ تأتي المُصيبة، لا تُمنعُ المصيبة إلا إذا كنتَ معه، حينها يحْميك ويحْفظك، فإذا دَفَعْتَ جُزْءًا من مالك هل بِهذا المال تتعطَّلُ مشيئةُ الله-عزَّ وجلَّ-؟ لا، ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ* إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ مشيئة الله ليس فوقها مشيئة، ولا شيءَ يحُدُّها أو يُعَطِّلُها أو يمْنَعُها؛ لأن الله-سبحانه وتعالى- يعلم السر وما يخفى،﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ﴾ هذه بِشارة؛ نُقْرئك فلا تنْسى فإياك أن تنْسى، ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ﴾ لأنَّك مُهْتَمّ وهذا قانون، بشارة ونهي وقانون﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ﴾ ، بِشارةٌ ومعجزة من الله أنّ حِفْظ القرآن علينا لا عليك، وقانون لأنَّك مُهْتَمٌ ومُحِبٌّ ومُوَلَّهٌ بنا فلن تنْسى كلامنا، ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ﴾ إياك أن تنْسى وتفعل فعلاً ينسيك كلامنا، لا تعصِه في النهار يوقظك في الليل.

شَكَوْتُ إلى وكيعٍ سوء حِفْظي     فأرْشَدني إلى ترْك المعاصي

وأنـْـبـأنـي بِــأنَّ الــعـلـم نــورٌ     ونــورُ اللـه لا يُهْدى لِعـاصي 

قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية، ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ* إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ﴾ أيْ إلا أن تكون مشيئة الله قد قرَّرَتْ أنَّ النِّسْيان ضروري؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أنْسَى كما تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي) فإذا كان النبي-عليه الصلاة والسلام- ينْسى فَمَن نحن؟ لكن نِسْيان النبي لِحِكْمَةٍ بالغة، وإذا كان المؤمن مُستقيماً على أمر الله فإن الله –سبحانه وتعالى- يُنْسيهِ أحيانًا شيئاً  في نسيانه خير كثير، وقد يُنْسي أعداءه شيئًا لو ذكروا ذلك لضيّقوا عليه، ينسيهم شيئًا فينجو بنسيان أعدائه له، وفوق هذا وذاك النِّسْيان نِعْمة من نِعَمِ الله -عزَّ وجلَّ-، فَما من واحد منا إلا وارتكب في حياته غلطة مع إنسان كلما ذَكَرَها ذابَتْ نفْسهُ خجلاً، فَلَو أنَّ هذا الشُّعور يسْتمِرّ لانْقَلَبَتْ حياتنا جحيماً، لكن حِكْمة الله -عزَّ وجلَّ- أنَّ الإنسان ينْسى، فهذه المُشْكِلَة تنْساها بعد أسبوع، وتلك بعد أُسْبوعَيْن، وهذه بعد شهر، وهذه بعد يوم، وهذه بعد ساعة، فالنِّسْيان أكبر نعمة من نِعَم الله -عزَّ وجلَّ- على بني البشر.

الله هو عالم السر والجهر:


﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ*إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ﴾ كما قلتُ لكم في درْسٍ سابق:

﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾

[ سورة طه ]

 فالجَهْر من باب أولى، والآن في المطارات يوجد قَوْس يدخل المسافر ضِمنه فإذا كانت معه أداة حادة أو سلاح فهذا القوس يصدر صوتًا عند إخفائه خوفًا من اختطاف الطائرة، فهذا القوس يتحَسَّس للمواد المعدنية ويصدر صوتًا، فإذا كان أحدهم يحمل سلاحًا علنًا فهل هناك من حاجة لدخول هذا القوس؟! لا حاجة لذلك، هذا يُحاسب فورًا، فإذا كان الشيء المخْفِي يُكْشَف فالشيء المُعْلَن من باب أوْلى، فالشيءُ المُعْلَن معْلَنٌ أما الشيء المَخْفي فهو الذي يعْرِفُهُ الله -عزَّ وجلَّ-، أما الذي تعلنه بلسانك هذا من باب أولى؛ يعلمه الله ويعلمه الناس ﴿ إِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ﴾ ، في الدرْس الماضي (السر وأخفى) ما خَفِيَ عن صاحِبِك، وقد يُخْفى عنك أنت فلا تعْلم ما سيكون، كما قال الإمام علِي-كرَّمَ الله وجْهَهُ-:" علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون"، هذا معنى أخْفى ﴿فَإِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى﴾ و﴿ إِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ﴾ ، فالجَهْر معْروف، ولكن ما يخْفى عن الناس يعْلَمُهُ الله، وما يخْفى عن بعض الناس يعْلَمُهُ الله، وما يخْفى عنك يعْلَمُه الله -عزَّ وجلَّ-؛ لأنَّهُ يعلم ما يخْفى فَمَشيئَتُه مطلقة.
مثلاً: سمِعَ أحدهم بِمَجْلس العِلْم أنَّ الإنسان إذا اسْتقام على أمْر الله تمامًا يُوَفِّقُهُ الله بِحَياته، فاسْتقام لا حُباً بالله إنما حُباً بِنَجاحِهِ في تِجارَتِهِ، يستقيم فيلغي بيع التقسيط، والبيع بسعرين، وحسم السندات، يُلْغي كُلَّ المُحَرَّمات وهو ينتظر التوفيق من الله -عزَّ وجلَّ-، فهو صحيح ما سمع في مجلس العلم:

(( استَقيموا ولَن تُحصوا، واعلَموا أنَّ خيرَ أعمالِكُمُ الصَّلاةَ ولا يحافظُ علَى الوضوءِ إلَّا مؤمنٌ ))

[ ثوبان مولى رسول الله صحيح ابن ماجه عن ]

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾

[ سورة فصلت ]

هذا كلام رب العالمين، كلام حق والذي قاله صادق، وقد جاء هذا الإنسان لِيُطَبِّقَ هذا القانون ففوجئ، رغْم اسْتِقامته لم يُوفق! ما السبب؟ تأتي هذه الآية: ﴿ إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ﴾ فربنا-عزَّ وجلَّ- يعْلم سِرَّ هذا الإنسان، إنَّهُ اسْتَقام كَوَسيلَةٍ من وسائِل الرِّبْح لا حُباً في الله-عزَّ وجلَّ- ولا بِما عنده، ولا حُباً بِتَجَلِّياته، ولا حُباً بنجاتِهِ من عذابه، إنه يستقيم ليربح، ولأنَّ الله يعْلم السِرَّ وأخْفى عندئذٍ ربنا -عزَّ وجلَّ- يُؤَخِّر عنه التوفيق مُعالجَةً له، وكأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يقول: يا عبدي اسْتَقِم من أجْلي لا من أجل أن ترْبح، واسْتَقِم اسْتِقامَةً خالِصَةً من أجْلي.

﴿ قُلْ إِنِّىٓ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ ٱلدِّينَ (11)﴾

[ سورة الزمر ]

فعندما يأتي الإنسان بقانون قرآني-قاعدة-؛ مثلاً:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]

هذه قاعدة، فإذا طبَّقَها من غير إخْلاصٍ لله-عزَّ وجلَّ-، وحُباً في سلامته، وحُباً في حياةٍ في الدنيا مثالية كاملة ومُرَفَّهَة، فإن طُبِّقَتْ هذه الآية بِهذه النِيَّة فإنَّ هذه الآية لن تُطَبَّقَ على هذا المُطَبِّق؛ لأنَّ مشيئة الله -عزَّ وجلَّ- لا تحُدُّها مشيئة.

البشارة الثانية: التيسير:


مَثلاً: النائب في المجْلس النيابي له حصانة لكنّ الذي منَحَهُ الحصانة ينْزعها منه أحياناً إن أساء اسْتِخْدامها، فهناك مشيئةٌ فوق مشيئته، مَشيئَةُ الذي منحَ الحصانة قد تُنْزَعُ منه، إذًا:

﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ (6) إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلْجَهۡرَ وَمَا يَخْفَىٰ (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ (8)﴾

[ سورة الأعلى ]

البشارة الثانية: التَّيْسير ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ﴾ اليُسْرى مُطْلَقَة، فالأصل أنَّ الله -سبحانه وتعالى- حينما خلق الدنيا وخلق البشر على هذه الأرض وضَعَ لهم أهْدافاً، والهَدَفُ من خلْقِهِم أن يتعرَّفوا إليه عن طريق الكَوْن وبِبَساطة فِكْرِهِم، فإذا عَرَفوه استقاموا على أمْره، وإذا اسْتقاموا على أمْره أقْبلوا عليه، فإذا أقْبلوا عليه شعروا بِلَذَّة القُرْب وعَمِلوا الأعْمال الصالحة لِيَزْداد إقْبالهم عليه، فإذا عملوا أعمالاً صالحة أهَّلَتْهُم هذه الأعمال لِيَكونوا معه إلى الأبد.

﴿ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍۢ مُّقْتَدِرٍ (55)﴾

[ سورة القمر ]

هذا هو التخْطيط الإلهي لِخَلْق الإنسان.

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات  ]

﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ﴾ إذا تطابقَتْ أهْداف العَبْد مع الهَدَف الذي خُلِقَ العبد من أجْله تيَسَّرَتْ أُمورُهُ، قال تعالى:

﴿ مَا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

هذا العذاب لا معنى له:

﴿ وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقًا (16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِۦ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)﴾

[ سورة الجن ]

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96)﴾

سورة الأعراف 

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) ﴾

[ سورة فصلت ]

﴿ أَلَآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)﴾

[ سورة يونس ]


التيسير في هذه الآية هو تيْسيرُ دَعوة:


الأصل في الحياة أنَّ الإنسان إذا سار وِفْق الأُصول التي شرعها الله -عزَّ وجلَّ- وباتِّجاه الهَدَف الذي رسمَهُ الله له، وبالسرعة المناسبة فإنَّ حياته كلها تنْقلبُ يُسْراً لا عُسْراً، إلا أنَّه من شذَّ عن هذا الهدف وخرج عن هذا الطريق وأبْطأ في سُرْعَتِه فإنّ الله -سبحانه وتعالى- يتَّخِذُ من التَّعْسير عِلاجاً له؛ لأنَّ مُعْظَمَ الناس في هذه الأيام مُنْحَرِفون والله -سبحانه وتعالى- يَتَوَلى مُعالَجَتَهُم عن طريق أمْوالهم أو أولادهم أو نِسائِهم أو أنفسهم أو إتْلاف مالهم، فَيَبْدو للساذج أنَّ الحياة كلُّها تعب في تعب، ونَصَب في نصب، ولا راحَةَ لأحد في الدنيا، وسبحان الله! خلقنا الله للعذاب-هكذا يقول بعضهم-، هذه حالة استثنائية فمثلاً: إذا الْتَقَيْتَ بِصَفٍّ مُتَخَلِّف عقْلِياً ووجدْتَ كُلَّ الطلاب معاقبين ومُضَيَّق عليهم، ويتأخرون عن الخروج لأسباب تقصيرهم، فتقول: ما هذا النظام التربوي؟! هذه شعبة اسْتِثنائِيَّة وكل طلابها متخلفون، أما الأصل أنَّ الطالب كرامته وافرة وكذا راحته مادام يدرس بجد ونشاط، ولذلك من سوء فهم الإنسان وسذاجته يظنّ عندما يعالج ربنا -عزَّ وجلَّ- معظم الناس بالتضْييق عليهم بالأموال والأولاد ومشكلات الحياة والهموم...، يظنُّ أنَّ الحياة كلُّها عذاب، لا، الحياةُ كُلُّها يُسْرٌ لِمَن عرف الله -عزَّ وجلَّ-﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ﴾ ، فأوَّل شيء في هذه الآية أنَّ هذه بِشارة لرسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-، ألم يقُم صلى الله عليه وسلم وحْدَهُ يدعو إلى لله -عزَّ وجلَّ-، فما مضى رُبعُ قرْنٍ حتى تغَيَّر وَجْهُ الدنيا؛ هذا هو التيسير، وهذا هو العطاء الذي لا ينتهي، وهذا هو معنى قوله تعالى:

﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍۢ ۚ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾

[ سورة النساء ]

رجلٌ واحد يدعو إلى الله -عزَّ وجلَّ- في خمس وعشرين سنة يقلب وجْهَ الأرض ويُبَدِّلُ الشقاء سعادة، والقلق طمأنينةً، والفقر غِنىً، وقد قال له: "لعلكَ يا عديُّ إنما يمنعك من دخولِ في هذا الدينِ ما ترى من حاجتِهم، فواللهِ ليوشِكنَّ المالُ أن يُفيضَ فيهم حتى لا يوجد من يأخذُه، ولعلك إنما يمنعُك من دخولٍ فيه ما ترى من كثرةِ عدوِّهم وقلَّةِ عددِهم، فواللهِ ليوشِكَنَّ أن تسمعَ بالمرأةِ تخرجُ من القادسيةِ على بعيرِها حتى تزورَ هذا البيتَ لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخولٍ فيه أنك ترى أن المُلكَ والسلطانَ في غيرِهم، وأَيْمُ اللهِ ليوشِكَنَّ أن تسمعَ بالقصورِ البِيض ِمن أرضِ بابلٍ قد فُتِحَتْ عليهم" 

[ ابن كثير (البداية والنهاية) عن عدي بن حاتم الطائي  ]

هذا كلُّه وَقَع، ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ﴾ ، هات إنسانًا صادقًا وخذ تيسيرًا للأمور، طبْعاً التيْسير في هذه الآية هو تيْسيرُ دَعْوة، فالإسلام انتشر رغْمَ كُلِّ العقبات والصُعوبات، ورغم أنَّ زُعماء قُرَيْش وَقَفوا له كالطَّوْد الشامِخ فما اسْتطاعوا، وتآمروا عليه فما اسْتطاعوا، وحاربوه مرات عديدة فما اسْتطاعوا.

﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ ۖ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَٰكِرِينَ (30)﴾

[ سورة الأنفال ]

﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا(15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ ٱلْكَٰفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًۢا (17)﴾

[ سورة الطارق ]

﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ﴾ فهذا أوَّلُ شيء بأنَّهُ بشارة لرسول الله -عليه الصلاة والسلام- أنه مادام يدعو إلى الله -عزَّ وجلَّ- فلابد من أن الله تعالى يتولى تيْسير أُموره في الدعْوة، النبي الكريم كان التيْسير طبيعَةً من طبائِعِهِ، وهذه بعض الأحاديث الشريفة:

(( ما خُيِّرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أمْرَيْنِ إلَّا اخْتارَ أيْسَرَهُما ما لَمْ يَأْثَمْ، فإذا كانَ الإثْمُ كانَ أبْعَدَهُما منه، واللَّهِ ما انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ في شيءٍ يُؤْتَى إلَيْهِ قَطُّ، حتَّى تُنْتَهَكَ حُرُماتُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ. ))

[ أخرجه البخاري، ومسلم عن عائشة أم المؤمنين  ]

فالتيسير من طبيعته، وكان إذا خلا في بَيْتِهِ فهو ألْيَنُ الناس ضحاكاً بساماً، وكانت الجارِيَة – الطفلة الصغيرة- تأخذ بِيَد رسول الله فتنْطلق به حيث شاءتْ؛ منتهى اليسر، وكان إذا دخل بيْته لفَّ ثوْبه لئلا يحدث صوتًا يُوقِظ أهْل بيته ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ﴾ ، وكان إذا سجد اعْتلى ظهْره الحَسَن والحُسَين يُطيلُ سجوده لئلا يُزْعِجهما، وكان يقول لهما: "نِعْم الجمَلُ جَمَلُكُما، ونِعْمَ العدلان أنتما" ، ينطلق من اليسر لبسَ العمامة والقلنْسوة، ولبس العمامة بلا قلنسوة، والقلنسوة بلا عمامة، وكان يلبس الصوف والقطن والكتان والبُرد اليماني، والبُرد الأخضر، وجُبَّةً وقِباءً وقميصاً، وكان يلْبِسُ خُفاً أو نعْلاً ورِداءً وإزاراً وسراويل، وكان يلْبسُ ما تيسَّر له من اللِّباس؛ ولذلك قال علي رضي الله عنه: "لا يكون الرجل قَيِّمَ أهْلِهِ حتى لا يُبالي أيَّ ثوْبَيْه لَبِس" ، فإذا كان القميص غير مكوٍ فلا تصنع مشكلة في البيت؛ يسرْ، فإذا كان الرجل في البيت يسراً في المُعاملة يكْتسب هَيْبَةً ومكانة في البيت، وإذا كان هناك تشْديد على أُمور تافِهَة تُنْتَقَصُ من مكانته، أما إذا غَضِبْتَ لِمَعْصِيَة ارْتُكِبَتْ في البيت فاغْضَبْ ولا حرج فهذا غضَبٌ لله -عزَّ وجلَّ-.

طعام النبي -صلى الله عليه وسلم-:


أما في طعامه؛ فهذا رجل قال: "لي صديق كان من أعظم الناس في عَيْني، وكان رأسُ ما عَظَّمَهُ في عَيْني صِغَرُ الدنيا في عَيْنَيْه! فكان خارِجاً عن سلطان بطْنه، فلا يشْتهي ما لا يجد، ولا يُكْثر إذا وجد"، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لا يردُّ موْجوداً في الطعام، ولا يتكلَّفُ مفْقوداً، وما عاب طعاماً قطُّ في حياته، وكان يأكل الحلْوى والعسل والرُّطب والتمْر ونقيعُ التمْر، بعضُ الفَسَقَة يشْربون النبيذ على أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلَّم-شرِبَ النبيذ وقد كذبوا، فالنبي -صلى الله عليه وسلَّم-كان ينْبُذُ بعض التمْرات في إناء الماء ويشْربُهُ صباحاً كَشَرابٍ حُلْوٍ فقط؛ من المساء إلى الصباح تمْراتٍ يلقيها في إناء ويشرب الماء صباحًا، هذا هو النبيذ الذي شربهُ النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكان يأكل القِثاء والرطب والتمر والخبز؛ خبز الشعير و خبز الملة، والخبز بالخل فقط، دُعِيَ إلى وليمة، ما الوليمة؟ خُبْز وخلّ! فقال عليه الصلاة والسلام: 

(( نِعْمَ الأُدُمُ -أوِ الإدامُ- الخَلُّ ))

[ أخرجه مسلم عن عائشة أم المؤمنين   ]

وقيل: "نِعْم الإدام الجوع" ، وعندها تأكل أيَّ شيءٍ وتراهُ طيِّباً، وكان يقول:

(( لَوْ دُعِيتُ إلى كُراعٍ لَأَجَبْتُ، ولو أُهْدِيَ إلَيَّ كُراعٌ لَقَبِلْتُ ))

[ صحيح البخاري عن أبي هريرة  ]

رجل خروف فقط-فتة مقادم-، وكان يأكل القديد، دخل عليه رجل فارتعدت فرائصه هيبة، فقال له:

(( هوِّن عليكَ، فإنِّي لستُ بملِكٍ، إنَّما أَنا ابنُ امرأةٍ تأكُلُ القَديدَ ))

[ أخرجه ابن ماجه عن أبي مسعود عقبة بن عمرو ]

وكان يأكل الدَّباء أي اليقْطين، وكان إذا لم يجد طعاماً في البيت يقول:

(( دَخَلَ عَلَيَّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ذَاتَ يَومٍ فَقالَ: هلْ عِنْدَكُمْ شيءٌ؟ فَقُلْنَا: لَا، قالَ: فإنِّي إذَنْ صَائِمٌ ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يا رَسولَ اللهِ، أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَقالَ: أَرِينِيهِ، فَلقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فأكَلَ ))

[ صحيح مسلم عن عائشة أم المؤمنين  ]

لا يردُّ موْجوداً في الطعام، ولا يتكلَّفُ مفْقوداً وما عاب طعاماً قطُّ في حياته، وكان ينام على السرير، وعلى الحصير، وعلى الفِراش، وينام على النطع -لوح خشب-، دخل عليه عمر ورآهُ نائِماً على الحصير، وقد أثَّر الحصير على خَدِّهِ الشريف، فَبَكى عمر، فقال له:
...ما يُبْكِيكَ يا ابْنَ الخَطَّابِ؟ قُلتُ: يا نَبِيَّ اللهِ، وَما لي لا أَبْكِي وَهذا الحَصِيرُ قدْ أَثَّرَ في جَنْبِكَ
-سيد العالمين، وسيد أنبيائه-، وَهذِه خِزَانَتُكَ لا أَرَى فِيهَا إِلَّا ما أَرَى، وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى في الثِّمَارِ وَالأنْهَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَصَفْوَتُهُ، وَهذِه خِزَانَتُكَ! فَقالَ:

(( يا ابْنَ الخَطَّابِ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الآخِرَةُ وَلَهُمُ الدُّنْيَا؟....  ))

[ صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب ]


أساس الدين اليسر:


كان يقول عليه الصلاة والسلام: 

(( إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا، وأَبْشِرُوا، واسْتَعِينُوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ. ))

[ صحيح البخاري عن أبي هريرة  ]

الدين أساسه يُسْرٌ، لا تُشَدِّدوا على أنفسكم فَيُشَدَّدَ عليكم، قيل لبني إسرائيل: اذْبحوا بقرة، فقالوا: ما لونها؟ صفراءُ فاقعٌ لونها، وما هي؟ مِن سؤال إلى آخر حتى أصبحت البقرة التي أُمِروا بِذَبْحِها ليس في بلادهم إلا واحدة، فَطَلَبَت صاحبتها ملأها ذَهباً.

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسْـَٔلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْـَٔلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)﴾

[ سورة المائدة ]

إن الله أمركم بأشياء، ونهاكم عن أشياء، وسكت عن أشياء رحمة بكم، فهذا الذي سكت الله عنه رحمة بكم لا تسألوا عنه، وقد سألني أحدهم: هل يجوز أن ألبس الكنزة الأجنبيَّة؟ ويقول: لا يجوز لأنها مصنوعة في بلاد الكفار، فقلت له: كما تريد، لا يجوز، لقد ضيّق على نفسه الدائرة هذا لباس أجنبي، وقد ورد في الأثر: " إنَّ المنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى"، هذا الذي يُكلِّفُ ناقته فوق ما تسْتطيع لا أرضًا قطع، ولا ظهْراً أبقى، أصابها الإعْياء فَقَعَدَتْ وقَعَدَ معها، والآن السيارات إذا كَلَّفْتها ما تُطيق تنقطع عن السَّيْر، لقد كان عليه الصلاة والسلام في أعْماله يؤثر اليُسْر، وكان يقول:

(( يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا، ولا تُنَفِّرُوا ))

[ أخرجه البخاري، ومسلم عن أنس بن مالك  ]

وكان يقول: 

(( رَحِمَ اللهُ عبدًا سَمْحًا إذا باعَ، سَمْحًا إذا اشْتَرى، سَمْحًا إذا قَضَى، سَمْحًا إذا اقْتَضَى ))

[ أخرجه البخاري باختلاف يسير عن جابر بن عبد الله ]

وكان يقول عليه الصلاة والسلام:

(( حَرُم على النارِ كلُّ هيِّنٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من الناسِ ))

[ أخرجه الترمذي، وابن حبان، والطبراني باختلاف يسير عن عبد الله بن مسعود  ]

أحدهم قرأ حديثاً ولُغَتُهُ ضعيفة فقال: المؤمن كيسُ قُطْنٍ، فقيل له: ما معنى كيسُ قطن؟ فقال: هَيِّنٌ ليِّنٌ قلبه أبيض، والحديث: "المؤمن كيِّس فَطِن حَذِر" .

(( الْمُؤْمِنُ مَأْلَفٌ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ ))

[ أخرجه الإمام أحمد، والبزار، وابن عدي عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ  ]

يوجد شخص فظّ مستعلٍ يَقرف ويُقرِف، أما المؤمن يألف ويؤلف (وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ) 

(( إنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إلى اللَّهِ الألَدُّ الخَصِمُ ))

[ صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين   ]

الذي له حِقْدٌ في قَلْبِه، والنبي الكريم التقى بِرَجُلٍ فقال له:

(( ... ما اسْمُكَ؟ قالَ: حَزْنٌ، قالَ: أنْتَ سَهْلٌ، قالَ: لا أُغَيِّرُ اسْمًا سَمَّانِيهِ أبِي، قالَ ابنُ المُسَيِّبِ: فَما زَالَتِ الحُزُونَةُ فِينَا بَعْدُ! ))

[ صحيح البخاري عن المسيب بن حزن  ]

وجارِيَة صغيرة قال لها: ما اسمك؟ فقالت: اسمي عاصِيَة، فقال لها:

(( أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ غَيَّرَ اسْمَ عَاصِيَةَ وَقالَ: أَنْتِ جَمِيلَةُ ))

[ صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر  ]

كان يُؤثر اليُسْر في الأمر كُلِّه.

(( لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا، ولو أنْ تَلْقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ ))

[ أخرجه مسلم عن أبي ذر الغفاري  ]


معاني ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ﴾:


إذًا ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ﴾: 
1-أولاً بِشارة أنَّ هذا الدين سوف ينتشر، وسوف تعْلو رايَتُهُ في الآفاق وسوف يصِلُ إلى مشارق الأرض ومغاربها، وسوْفَ تُفَتَّحُ لكم البلاد؛ هذا المعنى الأول.
2-المعنى الثاني: كان عليه الصلاة والسلام يؤثرُ اليُسْر في الأمر كُلِّه.
3- المعنى الثالث: أنَّكَ إذا أحْبَبْتَهُ؛ أحْبَبْتَ النبي-عليه الصلاة والسلام- وصَلَّيْتَ عليه يحْدِثُ في نفْسِك انْقِلابات لم تكن تعْرِفُها، قال تعالى:

﴿ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلْأُمِّىَّ ٱلَّذِى يَجِدُونَهُۥ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلْأَغْلَٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِىٓ أُنزِلَ مَعَهُۥ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ(157)﴾

[ سورة الأعراف  ]

الإنسان قبل معرفته بالله -عزَّ وجلَّ-وصُحْبَتِهِ لِرَسول الله -عليه الصلاة والسلام- تكون نفسُهُ عبارة عن مجْموعة مُيول تراهُ مُصِراً عليها، هذا الإصْرار على بعض الشهوات يزول، وهذه الأغلال والشهوات التي تُقَيِّد صاحبها تزول، وجربوا بِمُجَرَّد أن تتوب إلى الله -عزَّ وجلَّ- وتعرف الله تجد أنَّ تلك القوة التي كانت تمْنعك عن الامتناع عن الدخان قد زالت، ما كنت تظنه شيئًا لا تسْتطع ترْكه يُتْرَكُ بِسُهولة، بعضهم يقول: أنا لا أستطيع غضَّ البصر ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلْأَغْلَٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ ، ولا أستطيع ألا أغضب، اِسْتَقِم وسَتَرى! فالله يمنحك هدوءًا وحلمًا، وقد يكون الإيمان شكليًا، فإذا اسْتَقَمْتَ اسْتِقامَةً حقيقيَّة وغَضَضْتَ بصرك وحَرَّرْتَ دخْلك وبررْتَ والديك وصَلَيْتَ وذَكَرْت تجد أنَّ أخْلاقك تتبدل تبدلاً جذْرِياً، وهذا ما تعْنيه هذه الآية: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلْأَغْلَٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ ، الصادق هو الذي يعرف هذا الكلام، بمجرد أن تتوب إلى الله-عزَّ وجلَّ- توبة نصوحًا تشْعُرُ وكأنَّ جبلاً كان جاثمًا على صدرك أُزيحَ عنك، فالمؤمن خفيف الظل والمحْمل والهموم، وضع هُمومه كُلَّها عند الله -عزَّ وجلَّ- قيل: "من جعل الهُموم هماً واحِداً كفاهُ الله الهُموم كُلَّها"، دَبِّرْ ألا تُدَبِّر.

إِذا كنت في كلِّ حال مَعي   فعن حمل زادي أنا في غِنى

[ أبو الحسن الششتري ]

قل له: ليس لي إلا أنت يا ربّ، وسَتَرى، وورد في الأثر: "كُنْ كما أُريد ولا تُعْلِمْني بِما يُصْلِحُك، وأنت تريد وأنا أريد فإذا سَلَّمْتَ لي فيما أُريد كَفَيْتُكَ ما تريد، وإن لم تُسَلِّم لي فيما أُريد أتْعَبْتُك فيما تريد، ثمَّ لا يكون إلا ما أريد" ، شَرْعُهُ يُسْرٌ؛ المعنى الثالث.
المعنى الأول: اليسر بشارة لديني، المعنى الثاني: اليسر من طبعه -صلى الله عليه وسلَّم-، فالنبي الكريم -اسْمعوا هذه القِصَّة- جاءه أعْرابي يطْلب منه شيئًا فأعْطاه، وقال له: يا أعْرابي أأَحْسَنْتُ إليك؟ فقال: لا، ولا أجْملْت-للنبي-عليه الصلاة والسلام- بمنتهى الفظاظة والغلظة-، فَغَضِبَ المسلمون غضَباً شديداً وقاموا إليه-فقد تحدى نبيهم-، فأشار إليهم عليه الصلاة والسلام أنْ كُفوا عنه ثمَّ دخل منْزله، وأرْسل للأعْرابي عطاءً زائِداً وقال له: يا أعْرابي أأحْسَنْتُ إليك؟ فقال: نعم، وجزاك الله من أهْل وعشيرةٍ خيراً ، - وقيل: مَن بدا جفا، وليس معنى بدا سكن البادِيَة فممكن أن يكون البدوي في منتهى الرقة، ولكن من ابتعد عن مجالس العِلم، طبعاً يُصبح كلامه قاسياً، فإذا حضر مجالس العِلم أصْبح ليِّناً لين الكمال واللطف- فقال له النبي- عليه الصلاة والسلام-: إنَّك قلتَ ما قلت به من ألَمٍ منك، فلما كان الغد جاء الأعْرابي فقال عليه الصلاة والسلام: إنَّ هذا الأعْرابي قال ما قال، فَزِدْناهُ فَزَعَمَ ما زَعَم أنَّهُ رَضِيَ، أفَهكذا يا أعْرابي، فقال: نعم، جزاك الله من أهْل ومن عشيرةٍ خيراً  -القِصَّة انتهتْ-، اِلْتَفَتَ النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى أصْحابِهِ لِيُعَلِّمَهُم فقال: إنَّ مثَلي ومثل هذا الأعْرابي كَمَثَلِ رجلٍ له ناقةٌ شَرِدَتْ عليه، فَتَبِعَها الناس فلم يزيدوها إلا نُفوراً، فناداهم صاحبُ الناقة أنْ خَلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرْفُقُ بِها وأعْلم منكم بها، فَتَوَجَّهَ إليها صاحب الناقة بين يدَيْها، فأخذ لها من زِمامها فرَدَّها هوْناً هوناً حتى جاءت واسْتناخت وشدَّ عليها رحْلها واسْتَوى عليها، وإني لو تَرَكْتُكم حيثُ قال الرجل ما قال فَقَتَلْتُموه دخل النار، هكذا كان يُعالِجُ أعْداءَهُ، وشَرْعُهُ -صلى الله عليه وسلم- يُسْرٌ في يُسْر، قال عليه الصلاة والسلام:

(( دَعُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، إنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ علَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عن شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ ))

[ أخرجه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة  ]

أي أمرنا بالصدقة تصدقت ولو بشيء يسير، كله مقبول، (فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عن شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ) كليًا لأنَّ المنْهِياتُ أخطر، أما المأمورات فخذ منها ما تستطيع، قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (22)﴾

[ سورة القمر ]

﴿ وَجَٰهِدُواْ فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦ ۚ هُوَ ٱجْتَبَىٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍۢ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَٰهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلَىٰكُمْ ۖ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ (78)﴾

[ سورة الحج  ]

﴿ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَٰفِرِينَ (286)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَٱطَّهَّرُواْ ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍۢ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

[ سورة المائدة ]

هذا من يسر الشرع الذي جاء به المصطفى -عليه الصلاة والسلام- فشرعه كان يسرًا في يسر، فالوُضوء في حال غِياب الماء، أو حدوث الأذى من الماء شُرِعَ التَيَمُّم والنبي-صلى الله عليه وسلم- تيَمَّمَ مرَّةً بِمَسْح اليَدَيْن إلى المِرْفَقَيْن، ومرَّةً بِمَسْح اليَدَيْن فقط، والصلاة قاعِداً تجوز، ومُضطَجِعاً تجوز، وبالإيماءة تجوز، فهل هناك يُسْرٌ أكثر من هذا؟! المُهِمّ ألّا تنقطع عن الصلاة، وكذا في السفر شُرِعَ قصْرُ الصلاة في عَدَد ركعاتها، وقصْرُ الصلاة في الخوف نوعٌ آخر، فَقِبْلَةُ الخائِفِ هي جِهَةُ أمْنِهِ، وقِبْلَةُ المُسافر هي جِهَةُ دابَّتِهِ، والحائض لا تُصَلي تيسيراً لها، والمريض والمُسافر لا يصومان، والحج من اسْتطاع إليه سبيلاً، والزكاةُ يُمكنُ أن تُقَدّم عَيْناً أو نقْداً، حتى أنَّ الفُقَهاء قالوا: إذا تَزَوَّجَ الشابُ امْرأةً وكانت صغيرةً وخاف عليها أنْ يتْرُكها في البيت وحْدها له أنْ يُصَلي الأُسْبوع الأوَّل كُلَّهُ في البيت لا في المسْجد رأفَةً بها؛ هذا من تيسير الشرع، والطلاق من التيْسير إذا اسْتحالَتْ الحياة الزَّوْجِيَّة فالطلاق صمام أمان، والخُلْعُ من التيْسير إذا كانت الكراهِيَّةُ شديدةً للمرأة أنْ تطلب الخلْع، ولو تتبَّعْنا أمور الشرْع لَوَجَدْنا أنَّ الشرْع كُلَّهُ يدور على ﴿ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾ وفي الدرس القادم إن شاء الله نبْدأ بِقَوْله تعالى:

﴿ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ(9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ(10) وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلْأَشْقَى (11) ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ(12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ(13)﴾

[ سورة الأعلى ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور