وضع داكن
21-11-2024
Logo
الخطبة : 1172 - مناسك الحج - حبّ النبي الكريم حقيقة ينبغي أن تنسحب على كل مؤمن إلى يوم القيامة.
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

الحج أحد أركان الإسلام الخمسة وهو عبادة مالية وبدنية وشعائرية في آن واحد :


أيها الأخوة الكرام، الحج أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو عبادة مالية بدنية شعائرية في آن معاً، وهو تلك الرحلة الفريدة في عالم الأسفار، ينتقل فيها المسلمُ ببدنه وقلبه إلى البلد الأمين، الذي أقسم الله به في القرآن الكريم، ليقف في عرفات الله، وليطَّوف ببيته الحرام، الذي جعله الإسلامُ رمزاً لتوحيد الله، ووحدة المسلمين، ففرض على المسلم أن يستقبله كلَّ يوم خمس مرات في صلواته، قال تعالى:

﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة البقرة: 144]

ثم فرض عليه أن يتوجَّه إليه بشخصه، إلى بيت الله الحرام، ويطوفَ به بنفسه، في العمر مرة واحدة، إن هذا البيت العتيق هو أول بيت وُضع للناس، هو أول بيت أُقيم في الأرض لعبادة الله، مجدِّدُ بنائه الخليل إبراهيم، وولده الذبيح إسماعيل، وهما الرسولان الكريمان اللذان جعل الله من ذريتهما هذه الأمة المسلمة، واستجاب دعوتهما الخالصة، وهما يُشيدان هذا البناء العتيد، قال تعالى:

﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ*رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

[ سورة البقرة: 128]

قال النبي عليه الصلاة والسلام:

((أنا دعوة إبراهيم وبُشرى عيسى بن مريم))

[ابن سعد عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر]

الحج هو تلبية دعوة الله بدافع محبته وابتغاء رضوانه :


الحج أيها الأخوة ، برهان عملي يقدمه المؤمن لربه ولنفسه، على أن تلبية دعوة الله بدافع محبته، وابتغاء رضوانه، أفضل عنده من ماله، وأهله، وولده، وعمله، ودياره، ومما تتميز به هذه العبادة أنها تحتاج إلى تفرغ تام، تصلي وأنت في بيتك، وأنت في بلدك، وأنت في عملك، وأنت في وظيفتك، وأنت في تجارتك، لكن هذه العبادة تحتاج إلى تفرغ تام، فلا تؤدى إلا في بيت الله الحرام، إذاً لا بدّ من مغادرة الأوطان، وترك الأهل والخلان، وتحمُّل مشاقِّ السفر، والتعرض لأخطاره، وإنفاق المال في سبيل رضوانه، وإذا صحّ أن ثمن هذه العبادة باهظ التكاليف فإنه يصحُّ أيضاً أن ثمرة هذه العبادة باهرة النتائج، حيث قال المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم:

((من حجَّ فلم يرْفُثْ ولم يفْسُقْ رَجَعَ من ذنوبه كيومَ ولدته أمه))

[ متفق عليه أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

وقال أيضاً:

((...الحج يهدم ما كان قبله))

[أخرجه مسلم عن عبد الرحمن بن شماسة المهري]

وقال أيضاً:

((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))

[متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]

وقال أيضاً:

((الحُجَّاجُ وَالعُمَّارُ وَفْدُ اللهِ، إِنْ سَأَلُوا أُعْطُوا، وَإِنُ دَعَوْا أُجِيبُوا، وَإِنْ أَنْفَقُوا أُخْلِفَ عَلَيْهِمْ))

[البيهقي والمنذري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده]

لبيك اللهم لبيك استجابة لنداء ودعوة يقعان في قلب كل مؤمن :


لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:

((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب))

[رواه الترمذي والإمام أحمد عن ابن مسعود ]

و إن :

(( النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ...))

[ أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ ]

يذهب المسلم إلى بيت الله الحرام، ويُخلِّف في بلدته هموم المعاش والرزق، هموم العمل والكسب، هموم الزوجة والولد، وهموم الحاضر والمستقبل، وبعد أن يُحرم من الميقات يبتعد عن الدنيا كلياً، ويتجرَّد إلى الله عز وجل ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
أيها الأخوة، هذه التلبية كأنها استجابة لنداء ودعوة يقعان في قلبه، أن يا عبدي خلِّ نفسك وتعال إليّ، تعال يا عبدي، لأريحك من هموم كالجبال، تجثم على صدرك، تعال يا عبدي لأطهرك من شهوات تُنغِّص حياتك.

إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول؟
***

تعالَ يا عبدي، وذق طعم محبتي، تعال يا عبدي، وذق حلاوة مناجاتي، لبيك اللهم لبيك، يقع في قلبه أن تعال يا عبدي، يجيبه لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، تعال يا عبدي لأريك من آياتي الباهرات، تعال لأريك ملكوت الأرض والسماوات، تعال يا عبدي لأضيء جوانحك بنوري الذي أشرقت به الظلمات، تعال لأعمر قلبك بسكينة عزت على أهل الأرض والسماوات، تعال لأملأ نفسك غنىً ورضا شقيتْ بفقدهما نفوس كثيرات، تعال يا عبدي لأخرجك من وحول الشهوات إلى جنات القربات، تعال يا عبدي لأنقذك من وحشة البعد إلى أُنس القرب، تعال يا عبدي لأخلصك من رُعب الشرك وذل النفاق إلى طمأنينة التوحيد وعز الطاعة.

 

دعوة الله كلّ إنسان إلى زيارة بيته الحرام ليسعد بهذا اللقاء و تنزاح عنه الهموم :


لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، تعال يا عبدي لأنقلك من دنياك المحدودة، وعملك الرتيب، وهمومك الطاحنة، إلى آفاق معرفتي، وشرف ذكري، وجنة قربي، تعال يا عبدي وحُطَّ همومك ومتاعبك، ومخاوفك عندي، أنا أضمن لك زوالها، تعال يا عبدي واذكر حاجاتك، وأنت تدعوني فأنا أضمن لك قضاءها، إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عُمارها، فطوبى لعبد تطهَّر في بيته ثم زارني، وحقَّ على المزور أن يكرم الزائر.
فكيف يكون إكرامي لك إذا قطعت المسافات، وتجشمت المشقات، وتحملت النفقات، وزرتني في بيتي الحرام، ووقفت بعرفة تدعوني، وتسترضيني، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
تعال يا عبدي، وزرني في بيتي، لتنزاح عنك هموم كالجبال، ولتعاين الحقائق، ولتستعد للقاء:

((إِذَا أَصْحَحْتُ لِعَبْدِي جِسْمَهُ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي الْمَعِيشَةِ، فَأَتَتْ عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لَمْ يَفِدْ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ))

[البيهقي في السنن الكبرى ومسند أبي يعلى والترغيب والترهيب للمنذري عن أبي سعيد الخدري]

تعال يا عبدي، وطُف حول الكعبة طواف المحب حول محبوبه، واسعَ بين الصفا والمروة سعي المشتاق لمطلوبه، تعال يا عبدي، وقبِّل الحجر الأسود، يميني في الأرض، واذرُف الدمع على ما فات من عمر ضيعته في غير ما خُلقت له، وعاهدني على ترك المعاصي والمخالفات، وعلى الإقبال على الطاعات والقربات، وكن لي كما أُريد لأكن لك كما تريد، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تُسلِّم لي فيما أُريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد، خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
تعال يا عبدي إلى عرفات، يوم عرفة هو يوم اللقاء الأكبر، تعال لتتعرض لنفحة من نفحاتي تطهر قلبك من كل درن وشهوة، وتُصفي نفسك من كل شائبة وهمّ، هذه النفحات تملأ قلبك سعادة وطمأنينة، وتشيع في نفسك سعادة لو وُزِّعت على أهل بلد لكفتهم، عندئذ لا تندم إلا على ساعة أمضيتها في القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.
تعال لعرفات يوم عرفة، لتعرف أنك المخلوق الأول من بين كل المخلوقات، ولك وحدك سخرت الأرض والسماوات، وأنك حُمِّلت الأمانة التي أشفقت من حملها الجبال والأرض والسماوات، وأني جئت بك إلى الدنيا لتعرفني، وتعمل عملاً صالحاً يؤهلك لجنة الخلد، تعال إلى عرفات يوم عرفة، لتعرف أن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، وأنك إن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتُّك فاتك كلُّ شيء.

 

من ذاق روعة اللقاء و حلاوة المناجاة في عرفات تصبح الآخرة أكبر همه :


أيها الأخوة الأكارم، وبعد أن يذوق المؤمن في عرفات، من خلال دعائه، وإقباله، واتصاله، من خلال روعة اللقاء، وحلاوة المناجاة، ينغمس في لذة هي لذة القرب، عندئذ تصغر الدنيا في عينيه، وتنتقل من قلبه إلى يديه، ويصبح أكبر همه الآخرة فيسعى إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر، وقد يُكشف للحاج في عرفات أن كل شيء ساقه الله له مما يكرهه هو محض عدل، ومحض فضل، ومحض رحمة، وعندئذ يتحقق قوله تعالى:

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة البقرة: 216]

الرّمي تعبير ماديّ و عهد موثَّق في عداوة الشيطان و رفض وساوسه :

وبعد أن يفيض الحاجُّ من عرفات، وقد حصلت له المعرفة، واستنار قلبه، وصحت رؤيته، يرى أن السعادة كلها في طاعة الله، وأن الشقاء كله في معصيته، عندئذ يرى عداوة الشيطان، وكيف أنه يَعِدُ أولياءه بالفقر إذا أنفقوا، ويخوفهم مما سوى الله، إذا أنابوا وتابوا، ويعدهم، ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، قال تعالى:

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾

[ سورة إبراهيم: 22 ]

عندئذ يُعبِّر الحاج عن عداوته للشيطان تعبيراً رمزياً برمي الجمار، ليكون الرمي تعبيراً مادياً، وعهداً موثقاً في عداوة الشيطان، ورفضاً لوساوسه وخطراته.
يقول الإمام الغزالي: اعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة، وفي الحقيقة ترمي بها وجه الشيطان، وتقصم ظهره، ولا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله تعالى.

 

الهدي هدية إلى الله عز وجل و تعبير عن شكر الإنسان ربه على نعمة الهدى:

وحينما يتجه الحاج لسوق الهدي، ونحر الأضاحي، وكأن الهدي هدية إلى الله وتعبير عن شكر الله على نعمة الهدى، التي هي أثمن نعمة على الإطلاق، وكأن ذبح الأضحية ذبح لكل شهوة، ورغبة لا تُرضي الله، وتضحية بكل غالٍ ورخيص، ونفس ونفيس، في سبيل مرضاة رب العالمين، قال تعالى:

﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة الحج: 37 ]

اتجاه الحجاج إلى المدينة المنورة بعد الانتهاء من مناسك الحج :


ثم يكون طواف الإفاضة تثبيتاً لهذه الحقائق، وتلك المشاعر، ثم يطوف طواف الوداع لينطلق منه إلى بلده إنساناً آخر، استنار قلبه بحقائق الإيمان، وأشرقت نفسه بأنوار القرب، وعقد العزم على تحقيق ما عاهد الله عليه، وإذا صحَّ أن الحج رحلة إلى الله، فإنه يصحُّ أيضاً أنه الرحلة قبل الأخيرة، لتجعل الرحلة الأخيرة مُفضية إلى جنة عرضها السماوات والأرض.وبعد أن ينتهي الحجاج من مناسك الحج يتجهون إلى المدينة المنورة، التي هي من أحبّ بلاد الله إلى الله، يتجهون إليها لزيارة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، فقد رُوي:

(( من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي))

[ الطبراني عن ابن عمر]

طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عين طاعة الله :

أيها الأخوة، وقد عُلِّقت في مكان بارز من الحجرة الشريفة في المدينة المنورة الآية الكريمة:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾

[ سورة النساء: 64 ]

وقد أشار القرطبي إلى أن الآية تصدق على زيارة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، وليس هذا لغير النبي صلى الله عليه وسلم.
أي أن هذه الآية خاصة بالنبي وليست لغيره من الأولياء، وقد أورد القاسمي في تفسيره أن في هذه الآية تنويهاً بشأن النبي عليه الصلاة والسلام، فالرجل حينما يظلم نفسه بمعصية ربه، من خلال خروجه عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وجب عليه أن يستغفر الله، وأن يعتذر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تتم التوبة إلى الله، ولا تُقبل إلا إذا ضمَّ إلى استغفار الله استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم عين طاعة الله، ورفض سنة النبي صلى الله عليه وسلم عين معصية الله، وإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين إرضاء الله، يستنبط هذا من إفراد الضمير في قوله تعالى:

﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾

[سورة التوبة: 62]

لم يقل يرضوهما، ولا أدل على ذلك من قول الله تعالى:

﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾

[سورة النساء: 80]

ومن قوله تعالى:

﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[سورة آل عمران: 31]

حبّ النبي سرّ السعادة التي تغمر قلب المسلم :


أيها الأخوة، لعل سرَّ السعادة التي تغمر قلب المسلم حينما يزور مقام النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما إن يرى معالم المدينة حتى يزداد خفقان قلبه، وما إن يبصر الروضة الشريفة حتى يجهش بالبكاء، وعندئذ تُصبح نفس الزائر صافية من كل كدر، نقية من كل شائبة، سليمة من كل عيب، منتشية بحبها له صلى الله عليه وسلم وقُربها منه، وهذه حقيقة الشفاعة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:

((من جاءني زائراً، لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً على الله أن أكون له شفيعاً يوم القيامة))

[رواه ابن خزيمة في صحيحه والبزار والدار قطني عن ابن عمر رضي الله عنهما ]

وإذا شئت الدليل القرآني على ما يشعر به المسلم من سكينة وسعادة حينما يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو أو بآخر، فهو قوله تعالى:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾

[ سورة التوبة: 103 ]

وقال الرازي في تفسيره: إن روح محمد صلى الله عليه وسلم كانت روحاً قوية صافية مشرقة باهرة لشدة قربه من الله، ولأن قلبه الشريف مهبط لتجليات الله جلّ وعلا، فإذا ذكر أصحابه بالخير والود، أو ذكره المؤمنون بالحب والتقدير، فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم، فأشرقت بهذا السبب نفوسهم، وصفت سرائرهم، وهذه المعاني تفسر قوله تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾

[ سورة الأحزاب: 56 ]

من وقف في عرفات ولم يغلب على ظنه أن الله غفر له فلا حج له :

أيها الأخوة الكرام، هذه بعض حكم مناسك الحج، والذي يؤسف أشد الأسف أنك تلتقي بالحاج بعد أن أدى هذه الفريضة يحدثك عن كل شيء إلا الحج، إلا الأحوال التي غمر الله بها قلبه، فالحج رحلة إلى الله، أما أن نهتم بالطعام، والشراب، والطرقات، والمواصلات، والطائرات، والمطارات، وعدد الحجيج، فهذه كلها حقائق لا تقدم ولا تؤخر، أنت في المشاعر هل شعرت بمشاعر؟ هل شعرت بقرب من الله؟ هل شعرت أنك اصطلحت مع الله؟
من وقف في عرفات، ولم يغلب على ظنه أن الله غفر له فلا حج له، ينبغي أن يغلب على ظنك أن الله غفر لك وأنك فتحت مع الله صفحة جديدة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

* * *

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمد صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.

حبّ النبي الكريم حقيقة ينبغي أن تنسحب على كل مؤمن إلى يوم القيامة :

أيها الأخوة، رُوي أن بلالاً رضي الله عنه سافر إلى الشام، وطال به المقام، بعد وفاة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، ولقد رأى وهو في منامه وهو بالشام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني؟ فانتبه حزيناً، وركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يبكي عنده كثيراً، فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما وجعل يضمهما، ويقبلهما فقالا: نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصرّا عليه، فصعد وعلا سطح المسجد، ووقف موقفه الذي كان يقفه، ولما بدأ بقوله: الله أكبر.. وتذكر أهل المدينة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجَّت المدينة، وخرج المسلمون من بيوتهم فما رأيت يوماً أكثر باكياً وباكيةً في المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم.
أبو سفيان رضي الله عنهم بعد أن أسلم وأصبح من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول رضي الله عنه، قال: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً. هذه الحقيقة ينبغي أن تنسحب على كل مؤمن إلى يوم القيامة.
خبيب بن عدي رضي الله عنه، قبض عليه كفار قريش، وجاؤوا به إلى مكة قبل فتح مكة، ووضعوه على شجرة وسمروا يديه، قبل أن يقتلوه، جاء أبو سفيان قال: يا خبيب أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت معافى في أهلك عندك عافية الدنيا ونعيمها؟ أحياناً الإنسان عنده رزقه لكن أحياناً أخرى عنده أشياء كثيرة جداً فوق رزقه، الورود، والعطورات، والحلويات، مثلاً للتقريب، أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت معافى في أهلك عندك عافية الدنيا ونعيمها؟ قال: والله ما أحب أن أكون في أهلي وولدي، ويصاب رسول الله بشوكة. هذا هو الدين.

الدين حبّ فإذا ألغينا الحب من الدين أصبح ثقافة وعادات وتقاليد ليس غير :


الدين حبّ، الدين أن تحب الله، الدين أن تحب أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام جميعاً، الدين أن تحب التابعين، الدين أن تحب العلماء العاملين، الدين أن تحب أخوانك المؤمنين، الدين أن تحب المساجد، أن تحب الأعمال الصالحة، أن تحب الإنفاق في سبيل الله، الدين أن تحب المساكين الفقراء، الدين حبّ، فإذا ألغينا الحب من الدين أصبح الدين ثقافة، وفلكلوراً، وعادات، وتقاليد، ليس غير، والنبي قال:

(( لن يُغلب اثنا عشر ألفاً من قلة ))

[ أبو داود و الترمذي عن ابن عباس ]

المسلمون اليوم في أحدث إحصاء مليار وثمانمئة مليون، وليست كلمتهم هي العليا، وليس أمرهم بيدهم، وللطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل، لماذا؟ لأن أمر الله هان عليهم فهانوا على الله، قال أبو سفيان: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.
لذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ))

[ متفق عليه عَنْ أَنَسٍ]

امرأةٌ أنصاريَّة، والله قصة لا تصدق، لكنها وقعت بلغها أن النبي عليه الصلاة والسلام قد قتل في أحد، فانطلقت إلى ساحة المعركة، رأت أباها مقتولاً، وابنها مقتولاً، وأخاها مقتولاً، وزوجها مقتولاً، وتقول ما فعل رسول الله؟ فلما رأته بعينها واطمأنت على حياته، قالت: يا رسول الله كل مصيبةٍ بعدك جلل، أبوها وأخوها وزوجها وابنها، هكذا كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
أخواننا الكرام الفرق كبير جداً بين عهد الصحابة وبين مسلمي اليوم، والله الذي لا إله إلا هو لو فهم الصحابة الكرام الإسلام كما نفهمه نحن ما خرج من مكة المكرمة، ولا وصل إلى المدينة، هذا إسلام الحب، إسلام الاستقامة، إسلام التقوى، إسلام العمل الصالح، إسلام العقيدة الصحيحة، إسلام أن تقيم الإسلام في بيتك، وفي عملك، إسلام أن تحب أخواتك.

 

الدعاء :

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور