- التربية الإسلامية
- /
- ٠2مدارج السالكين
منزلة الفقر :
أيها الأخوة الأكارم ؛ مع الدرس الواحد والعشرين من دروس منازل السالكين , في مراتب إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعين , ومنزلة اليوم منزلة الفقر .
تمهيد :
أيها الأخوة الأكارم ؛ من عَرَفَ نفسهُ عَرَفَ ربه ، الإنسانُ أولُ صِفة من صفاتِهِ أنهُ مُفتقرٌ إلى ربهِ ، فإذا استغنى عن ربهِ , فقد وقعَ في شرِّ أعمالِهِ ، لذلك حقيقة العبودية هي الافتقار إلى الله عزّ وجل ، حقيقة الإنسان هي أنهُ فقير ، حقيقة هذا المخلوق الذي سخر الله لهُ الكونَ من أجلهِ , أنهُ مُحتاجٌ إلى اللهِ في كلِّ شيء , فلذلك حينما يغيبُ الإنسانُ عن هذه الحقيقة ، حينما يغفلُ عنها، حينما يظنُ نفسهُ على خِلافِ ما هوَ عليه , فقد وقعَ في جهلٍ كبير .
الجهل والعلم والفرق بينهما :
يا أخوة الإيمان ؛ تعريف الجهلِ في أبسطِ تعاريفهِ : أنهُ ما خالفَ الواقع .
يعني :
إذا قُلت ؛ هذا إبريق ماء , هذا الكلام فيهِ جهل .
إذا قلت ؛ هذا كأس حليب وهو ماء ، هذا الكلام فيهِ جهل .
ما تعريفُ الجهل ؟ ما كانَ خِلافَ الواقع , فأنتَ لكَ واقع ، لكَ واقع راهن ، حقيقة صارخة ، شِئتَ أم أبيت ، أحببتَ أو كرهت , أن تتوهم أنكَ على خِلاف ما أنتَ عليه , فأنتَ قد وقعتَ في جهلٍ كبير .
بالمناسبة : ما تعريفُ العِلم ؟
العلم هو إدراكُ الشيء على ما هو عليه بدليل .
يعني :
إذا رأى الطبيب أنَّ ارتفاع الحرارة وارتفاع الضغط مؤشرانِ لمرضِ كذا , وكانَ ارتفاع الضغطِ وارتفاع الحرارة مؤشران على مرضٍ آخر , فإذا شخصَ مرضاً غيرَ المرض الذي يُعانيه المريض , فهذا التشخيص فيه جهل , يجبُ أن نعلمَ ما الجهل ؟.
في مراتٍ سابقة عرّفتُ العِلمَ :
بأنهُ علاقةٌ ثابتة بينَ شيئين مقطوعُ بصحتها , يؤكدّها الواقع عليها دليل .
علاقةٌ بينَ شيئين يعني قانون .
كلُّ المعادنِ تتمددُ بالحرارة مقطوعٌ بصحتها , لو لم يكن مقطوعاً بصحتها , لكانَ الوهمُ والشكُ والظن ، يؤكدها الواقع , لو لم يؤكدها الواقع لكانت جهلاً ، عليها دليل , لو لم يكن عليها دليل لكانت تقليداً .
ما التقليد ؟
حقيقةٌ تفتقرُ إلى دليل .
ما الجهل ؟
ما خالفَ الواقع .
ما القطع ؟
ما كان بعيداً عن الشكِ والوهمِ والظن , هذا هو العِلم .
فيجب أن نعلم ، يجب أن نعتقد أنَّ العِلم :
إدراكُ الشيء على ما هوَ عليه .
فَهم هذه الآية كما أرادها الله ، حُكمُ هذه القضية كما جاءَ بهِ رسول الله ، حقيقة الكون ، حقيقة الإنسان ، حقيقةُ الحياة الدنيا ، حقيقةُ ما بعد الموت ، ما قبلَ الموت كذا ، حقيقةُ المال لهُ دورٌ معين , يعني إذا أدركتَ كلَّ شيء على ما هو عليه فأنتَ عالِم , لكن لو أردتَ أن تُحدّثَ الناسَ بهذا الشيء لطالبوكَ بالدليل .
إذا أدركتَ كلَّ شيء على ما هو عليه ومعكَ الدليل فأنتَ عالِم .
ويا حبذّا لو أنَّ دِماغنا أو فِكرنا أو عقلنا , كما يقول الناس : محشوٌ بالحقائق , المشكلة : أن تجد رجلاً دماغهُ محشوٌ بالأباطيل ، بالأوهام ، بالخرافات ، بالجهل , الجهل شيء , قد تفهمُ الجهلَ فهماً بسيطاً ، قد تفهمُ الجهلَ عدمُ المعرفة , لا , الجهل معرفة لكنها مغلوطة ، الجاهل إنسان يعلم , لكن يعلم أفكاراً ومقولات لاعلاقة لها بالواقع , يعني : إذا أردتَ أن تُلقي ماءً معَ مِلح في طريقِ زوجٍ لعلهُ يُحبُ زوجتهُ , هذا جهل , لأنهُ لا علاقة أبداً بينَ هذا وذاك .
في أحد عُلماء دمشق الأكارم , توفي رَحِمهُ الله , له كرامات كثيرة , فجاءهُ أحد طُلاب العِلم , وقال له : يا سيدي , أرجوكَ رجاءً حاراً , أن تأخذني إلى الحج , أن تدفُعني , هو يظنُ هذا الأخ , أن هذا الشيخ لهُ كرامات , فإذا دفعهُِ صارَ في مكة , وفي مكة يوفر نفقات السفر ورسوم الدخول وما إلى ذلك , ثم يجذِبهُ إلى الشام ، فلما طلبَ منهُ هذا الطلب , نظرَ إليه , رآهُ جاهلاً ، قالَ له : غداً تعالَ إليّ ، أخذهُ إلى التكية السليمانية , وأمرهُ أن يحلِفَ يميناً بالطلاق , ألا يقولَ لأحدٍ ما سيجري معهُ , وحلفَ هذا اليمين , وأوقفهُ على حافة البحرة الكبيرة في هذا المسجد , ودفعهُ إلى الماء .
إذا هناكَ إمكان أن تنفي عن ذهنكَ كُلَّ الجهل ، ما معنى الجهل ؟ معلومات غلط ، نحنُ أُمةُ محمد صلى الله عليه وسلم مرحومة , شيء جميل , إذاً : لنفعل ما نشاء , هذا هو الجهل .
عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ :
((سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ , فَمَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ , وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا , لَيَرِدُ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي , ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ , قَالَ أَبُو حَازِمٍ : فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ , وَأَنَا أُحَدِّثُهُمْ هَذَا , فَقَالَ : هَكَذَا سَمِعْتَ سَهْلاً , فَقُلْتُ : نَعَمْ , قَالَ : وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ يَزِيدُ فِيهِ , قَالَ : إِنَّهُمْ مِنِّي , فَيُقَالُ : إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ , فَأَقُولُ : سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي))
إذا تعلّقتَ بِفكرةِ , أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة يشفعُ لكَ , وأنتَ واقعٌ في ذنوبٍ كثيرة , فهذا جهل .
إذاً : هذا الذي أرجوه في هذا الدرس , أن تعلم أنَّ حقيقة العِلم : إدراكُ الشيء على ما هو عليه بدليل ، وأنَّ طبيعة الجهل إدراكُ الشيء على خِلافِ ما هوَ عليه .
أبسط مثل ؛ أنتَ عِندكَ مركبة ، قيل لكَ ؛ هذا الضوء الأحمر في علبة السُرعة إذا تألّق , معنى ذلك أنهُ يُسليك , وحقيقةُ هذا الضوءِ الأحمر أنهُ إذا تألّق , فهناكَ خطرٌ كبير , يجب أن تقف فوراً , وأن تضع الزيت في المُحرك , فإذا قُلتُ لأحدِكم ؛ هذا الضوء يتألّق للتسلية , ليكونَ زينةً للسيارة , زينة أثناء الطريق , قد يتألق , هذا الكلام فيهِ جهل ، فإذا أمكنكَ أن تنفي عن معلوماتك , وعن معتقداتك , وعن تصوراتك , وعن أفكارك , وعن مقولاتك , كلَّ ما له علاقةٌ بالجهل , فأنتَ بطل .
لذلك :
إذا أردتَ الدنيا فعليكَ بالعِلم ، وإذا أردتَ الآخرة فعليكَ بالعِلم ، وإذا أردتهُما معاً فعليكَ بالعِلم .
هذه المُقدّمة : أردتُ أن أصل إلى أنَّ لكَ طبيعة ، أن ترجو هذه الطبيعة أو أن لا ترجوها ، أن تُحبّها أو أن لا تُحبها ، أن ترضى عنها أو أن لا ترضى عنها , بحثٌ آخر , أمّا أنتَ لكَ واقع , واحد عندهُ بيت ، هذا البيت المتوافر في هذا الوقت , أعجبكَ لم يُعجِبُك ، كبير صغير ، مُشرق مُظلم ، أُجرة مُلك , هذا البيت يجب أن توفّق أغراضكَ وفقَ هذا البيت .
حقيقة الإنسان :
الآن : أنتَ لكَ حقيقة أعجبتكَ أم لم تُعجِبك ، رضيتَ عنها لم ترض عنها ، أنتَ عبدٌ لله ، مُفتقرٌ إلى اللهِ في كلِّ شيء ، لا تملِكُ شيئاً .
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
دِماغك مُلك الله عزّ وجل ، وأنتَ معك دكتوراه بالفيزياء , من أعلى جامعة في أمريكا , ربنا عزّ وجل يعمل تعديلاً طفيفاً , تُصبح مجنوناً , لستَ مالِكاً لدماغك ، ولستَ مالِكاً لقلبك ، ينبض بإحكام والدسامات مضبوطة ، لستَ مالِكاً لرئتيك ، لستَ مالِكاً لعضلاتك لأعصابك .
﴿قل اللهم مالِكَ المُلك﴾
كلُّ شيءٍ يُملّك , الله سبحانهُ وتعالى مالِكهُ , هذه حقيقة إذا أيقنتَ بها , تجد نفسكَ مُنساقاً إلى الله عزّ وجل , لأنهُ لا وجودَ لغيرهِ .
يعني : يدُ من تعمل في داخل الأعصاب ، لو أنَّ نقطة دم تجمدت في بعض الشرايين في الدِماغ , في هذا المكان شلل ، في هذا المكان ذهاب عقل , في هذا المكان ذهاب ذاكرة ، بيد الله عزّ وجل .
فهناكَ حقيقةٌ صارخةٌ هي موضوع هذا الدرس : ما هذه الحقيقة ؟ هوَ أنكَ مُفتقِرٌ إلى الله في كلِّ شيء , والله عزَّ وجل قادِرٌ على كلِّ شيء .
راكب طائرة , تُحلّقُ بهِ على ارتفاع ثلاثة وأربعين ألف قدم فوق أوروبا , احترقت الطائرة في الجو , وتصدعت , وسقطت , ومات جميع ركابِها , عدا راكباً واحداً , أُيعقل أن تحترق طائرة على ارتفاع ثلاثة وأربعين ألف قدم فوق غابات الألب في أوروبا , وأن ينجوَ أحدُ رُكابِها ؟ هذا الراكب كانَ مقعدهُ مكان تصدع الطائرة , عندما تصدعت وقع ، نزلَ على خمسة أمتار من الثلج مكدسّة فوقَ أغصان من السرو , هذه الأغصان مع خمسة أمتار ثلج , كانت كالوسائد التي امتصت هذه الصدمة , فنزلَ واقفاً .
﴿قل اللهم مالِكُ المُلك﴾
وأعرفُ رجلاً آخر , بعيداً عن الدينِ بُعداً كبيراً , مُسرفاً في المعاصي , لسببٍ تافهٍ جداً , وهو في أوجِ حياته , وأوجِ نشاطهِ , وأوجِ جبروتهِ , قبضهُ الله عزّ وجل , أراد أن يُعدّل مكان جهاز كهربائي على الحائط , فرفعهُ قليلاً , فلما اضطر أن يستعمِلهُ , طلب كرسياً , هذا الكرسي وقف عليه , فدخل في مقعدهِ , أُخذَ إلى مستشفى , فبقي فيها خمسةَ عشرة يوماً , وتوفي في المستشفى .
الله أنقذ إنساناً , وقع من طائرة على ارتفاع ثلاثة وأربعين ألف قدم , وهذا لهذا السبب التافه قبضهُ الله عزّ وجل .
يجب أن تعلم أنكَ فقير , الله عزّ وجل لأتفه الأسباب يُعطيكَ كلَّ شيء ، ولأتفه الأسباب يأخذُ مِنكَ كلَّ شيء .
برغي في جهاز في السيارة ما كان مشدوداً , فالزيت نَزل من هذا المكان , الجهاز اضطرب ، اختل ، توقفت السيارة ، خرج صاحِبُها ليتفقد الخلل ، ضربة شمس قضت عليه , يعني هذا الصانع لو أنهُ ضبط هذا البُرغي لما مات , فـ :
﴿قل اللهم مالِكُ المُلك﴾
مُفتقر إلى الله في كل شيء .
هذا هو التمهيد لهذا الدرس ، يعني في حقيقة واقعة , هكذا أرادها الله , ولكن قبلَ كلِّ شيء , لماذا أرادَ الله أن نكونَ فقراء ؟ هُنا السؤال .
الحقيقة الأولى :
أنتَ فقير , معنى فقير ؛ أي مُفتقر , هُناك الفقر الذي أراده الله في بعض الآيات :
﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾
هذا موضوع آخر ، موضوعٌ آخر بعيد عن درسنا كُلَّ البُعد ، لكن حينما قال الله عزّ وجل :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾
الأصحاء والأقوياء والأغنياء والأذكياء , كلُّ الناس ، قويّهم وضعيفهم ، غنيهم وفقيرهم ، كبيرهم وصغيرهم ، ذكيهم وغبيّهم ، وسيمُهم وذميمُهم .
﴿يا أيها الناسُ أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني﴾
بهذا المعنى أنتَ فقير .
الآن السؤال : لماذا أنتَ فقير ؟
سِرُّ سعادتنا أن نكونَ فقراء , لأننا إذا افتقرنا إلى الله أقبلنا عليه , فإذا أقبلنا عليه سَعِدنا بِقُربِهِ ، أما إذا استغنينا عنهُ شقينا باستغنائِنا عنه .
فلما ربنا عزّ وجل قال :
﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾
يا عبادي , أنا خلقتكم ضعفاء كيّ تحتموا بي ، كي تُقبِلوا علي ، كي تلتجئوا إلي ، كي تستنجدوا بي ، كي تستعينوا بي ، ولو أنيّ خلقتكم أقوياء , لاستغنيتم بقوتكم , فشقيتم باستغنائكم .
أول فكرة : هناكَ حقيقةٌ راهنة : يجبُ أن تقبلها , اقبلها أو لا تقبلها , هي حقيقة لا بدَّ من أن تستوعِبها.
الفكرة الثانية : أنتَ فقير .
الفكرة الثالثة : أنتَ فقير لمصلحتك ، لمصلحة سعادتك ، لمصلحة دينك ، لمصلحة دُنياك ، لمصلحة آخِرتك ، لمصلحة إقبالِك .
معنى الفقر :
فقر بمعناها الشائع , ليست مُرادة في هذا الدرس ، إنسان دخلُهُ أقلُّ من مصروفِهِ ، إنسان يُعاني ضيقَ ذاتِ اليد ، إنسان يحتاج إلى مساعدة , هذا هوَ الفقير عِندَ الناس , أما عِندَ علماءِ القلوب وأنتَ في أعلى درجات الغِنى فقير .
ربنا عزّ وجل أحياناً يُرسل للإنسان مُصيبة لا يستطيع دفعها , ولو أنهُ يملك أموالَ الدنيا .
كُنتُ مرة عندَ طبيب قلب , جاءه هاتف أمامي من رجل , يبدو أنهُ من أغنى الأغنياء , بعدَ أن انتهت المكالمة , الطبيب أخبرني عن ذلك ، قالَ المُتكلّم للطبيب : يا أيها الطبيب , إلى أيّ مكان نأخذهُ ؟ لأنه لا يوجد أمل , قال : ندفعُ أيَّ مبلغٍ مهما بلغ , قال : لا يوجد أمل , قال : نأخذهُ إلى أرقى بلدٍ في العالم , قال : لا يوجد أمل , المرض من الدرجة الخامسة , وأيّ إنسان إذا أراد أن يستأصلهُ , لا بدَّ من أن ينمو مباشرةً ، أنا شعرت , والله اقشعرَّ بدني , شعرت أنَّ هُناكَ مصائب لا يحُلها المال ولِتملك ما تملك .
إذاً: أنتَ فقير , فالذي معهُ مال , وظنَّ نفسهُ بالمال يحل كل مشكلة , معناها جاهل , موضوع الورع والتقوى , معناها جاهل ، معلوماته غلط ، هناكَ مصائب لا يَحُلها المال مهما كانَ وفيراً .
أنتَ قوي , ربنا عزّ وجل قادر في حالات يُمرّغُكَ في الوحل ، يُذيقكَ ألوان الهوان وأنتَ قوي .
أحبّ أحدهم أن يعقد قبل يومين مؤتمراً صحفياً , وثاني يوم انتحر , وزير الداخلية , وأنتَ في أعلى درجات القوة ، ثاني يوم في أدنى درجات الضعف , فإذا قلت : أنا قوي فأنتَ جاهل ، القوي هوَ الله عزّ وجل , إذا قلت : أنا لي شكلٌ وسيم ، حادث واحد يشوهك ، هُناك أطباء للتجميل , هُناك زرع جلد , هناك ..... الجمال يذهب فجأةً , والقوة تذهب فجأةً , والمال يذهب فجأةً .
في رجل , له قصة تكاد لا تُصدّق , رجل كرهَ الإقامة في هذا البلد ، ففكر وخطط وصمم ، باع معملهُ ومحله التجاري , وباع بيتهُ , وباع سيارتهُ , وجمّعَ هذه الأموال , وحوّلها إلى بلدٍ , يعني حيثُ البحبوحة والرخاء , ليشتري البيت الفخم , ويعيش بالفوائد ، حيث نوى أن يضع مبلغاً ضخماً في المصرف , فوائدهُ تكفيهِ لأعلى درجات الإنفاق ، لغلطة بسيطة في إيداع المبلغ , أودعهُ باسم مستعار لليوم التالي , هذا الإنسان أدركَ أنَّ هذا المبلغ لهُ صار في اليوم التالي , قال : ليسَ لكَ عِندي شيء , فَقَدَ ثروتهُ كُلَها في تصرفٍ أحمق .
فأنا أُركّز على أنكَ فقير , يعني أنتَ بقوتكَ مُفتقر إلى الله ، وأنتَ قوي مُفتقر ، دعكَ من الضعيف , وأنتَ قوي مُفتقر ، وأنت غني مُفتقر ، وأنتَ صحيح مُفتقر ، ودائماً في حِكمة أرادها الله عزّ وجل أنهُ : إذا الإنسان مُختص بأحد فروع الطب , ويعتدّ باختصاصه , ويعتني بصحتهِ عنايةً بالغة ، اعتدادهُ بعِلمهِ ونسيانهُ أنهُ فقير .
شيء غريب أنَّ بعضَ الأطباء المُتخصصين بأمراض الهضم يُصابون بقرحة في المعدة ، بعض أطباء المتخصصين بأمراض معينة يُصابون بالأمراض نفسها , لماذا ؟ لأنَّ الإنسانَ فقير , فإذا ظنَّ أنهُ غيرُ فقير أدّبهُ الله عزّ وجل , لهذا قالَ عليه الصلاة والسلام :
((مِنْ مأمَنِهِ يؤتَى الحَذِرُ))
هذا المثل : يُرْوَى عن أكْثَمَ بن صيفي التميمي ، أي أن الحَذَرَ لا يدفع عنه ما لا بد له منه ، وإن جَهِدَ جَهْده ، ومنه الحديث :
((لا ينفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ))
إذا أردتَ أن تكونَ أقوى الناس فتوكل على الله ، إذا أردتَ أن تكونَ أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثقُ منكَ بما في يديك .
الإفتقار :
معنى الفقر العام الشائع بين الناس : إنسان دخلهُ أقل من مصروفه , يحتاج لمساعدة , هذا المعنى لا يعنينا في هذا الدرس إطلاقاً , يعنينا قولهُ تعالى :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾
الحقيقة ؛ الإنسان متى يشعر بافتقاره ؟
هُناكَ طريقان :
إمّا أن تعرِفَ الله عزّ وجل وإمّا أن تعرِفَ حقيقةَ نفسك .
والمعرفة لها ثلاث طُرق :
إمّا أن تتأمل , وإمّا أن تقرأ , وإمّا أن تنظر .
التأمل في الكون : أخالِقُ هذا الكون ضعيف ؟ لا والله قوي .
الكون يُنبِئُكَ ببعضِ الحقائق وأفعالُ الله عزّ وجل تُنبِئُك .
أفعال الله عزّ وجل دائماً وأبداً يُريكَ الله لأفعالِهِ آياتٍ باهرات ، يُريكَ غنيّاً افتقرَ فجأةً ، ويُريكَ فقيراً اغتنى ، يُريكَ قويّاً أذلّهُ الله ، يُريكَ ضعيفاً أعزّهُ الله ، ألم تقل جاريةٌ في قصر العزيز , حينما رأت يوسفَ عليه السلام , كيفَ كانَ عبداً في قصرِ العزيز , ثمَّ كيفَ صارَ عزيزَ مِصر , حينما رأتهُ في موكِبهِ , قالت : سُبحانَ من جعلَ العبيدَ ملوكاً بطاعتهِ , ومن جعلَ الملوكَ عبيداً بمعصيته .
الحقيقة : في درسٍ سابق بيّنتُ أنَّ الإنسان بإمكانهِ أن يكشِفَ الحقائق من خِلال التجارب , ولكن متى ؟ بعدَ فوات الأوان , إذاً : لا قيمة لها ، في الثمانين أُدرك أنهُ القضية الفولانية هكذا , نحنُ إذا تعلّمنا العِلم ، نحنُ إذا فَهِمنا كلامَ ربّنا ، نحنُ إذا فَهِمنها سُنّة رسول الله ، نعرِفُ الحقائق في وقت مُبكّر ، نستفيدُ منها .
لذلك : دعاني اليوم في صلاة الفجر , أن أبيّن هذه الفِكرة : أنه حينما قالَ فِرعون : آمنتُ بالذي آمنت به بنو إسرائيل ، حينما أعلنَ فِرعون إسلامهُ في نص القرآن الكريم , وقالَ : وأنا من المُسلمين , فِرعون الذي قالَ : أنا ربكم الأعلى ، فِرعون الذي ذبّحَ أبناء بني إسرائيل ، فِرعون الذي استحيا نِساءهم ، فِرعون الذي قال : ما أرى لكم من إلهٍ غيري ، هذا فرعون , هذا الطاغية , ما الذي دعاهُ إلى أن يؤمن بأنهُ لا إلهَ إلا الله حينما أدركهُ الغرق , وأن يقولَ بالحرف الواحد : وأنا من المسلمين ؟ .
استنبطت من هذه الآية : أنَّ الموضوع ليسَ أن تؤمن أو أن لا تؤمن ، ليسَ هذا هو الموضوع ، الموضع أن تؤمن في وقت مناسب أو غير مناسب أو بعدَ فوات الأوان فقط ، هذه كلمة دقيقة جداً أقولُها لكم : الموضوع ليسَ أن تؤمن أو أن لا تؤمن , لا والله ما هكذا الموضوع , الموضوع لا بدَّ من أن تؤمن , والدليل : أكفرُ كُفّارِ الأرض آمن , ولكن متى ؟ آمن بعدَ فوات الأوان ، بعد أن لا ينفعهُ إيمانهُ ، آمنَ وقد أمضى حياتهُ في معصية الله .
فأُعيد عليكم هذه المقولة : ليسَ الموضوع أن تؤمن أو أن لا تؤمن , هذه مُعادلة مغلوطة ، الموضوع إمّا أن تؤمن في الوقت المناسب , وإما أن تؤمن في الوقت غير المُناسب ، إمّا أن تؤمن قبلَ فوات الأوان , وإما أن تؤمن بعدَ فوات الأوان , لأنَّ فِرعون آمن وأسلم , لكنَّ الله عاتبهُ قال :
﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾
أيُّ طالِبٍ إذا دخلَ الامتحان , وأخفقَ في الإجابة , يخرج من الامتحان , يفتح الكتاب , عَرَفَ الجواب ، متى عَرَفَ الجواب ؟ بعدَ فوات الأوان , يأخذ الصِفر وقد عَرَفَ الجواب , قضية زمن , فنحنُ قضية إيماننا بالله قضية زمن فقط , إمّا أن نؤمن ونحنُ أصحاء أشداء أقوياء في مُقتبلِ حياتنا حتى نستفيدَ من إيماننا ، وإمّا أن نؤمن بعدَ فوات الأوان بعدَ أن لا ينفعُ الندم .
فمرة ثانية : عوّد نفسك أن تتعامل مع الحقائق , وحاول أن تنزع من ذاكِرتكَ ومن ذهنكَ كل خرافة وكل جهل، الجهل معلومة غلط ، الجهل مقولة غلط ، الجهل تصور غلط ، الجهل إدراك غلط ، الجهل فلسفة غلط ، يعني قد تحمل أعلى شهادة في الأرض , وهناك في الذهن آلاف المعلومات المغلوطة .
أول فكرة :
عوّد نفسك أن تتعامل مع الحقائق , لا مع الخرافات ، لا مع الأوهام ، لا مع الشكوك ، لا مع الظنون ، لا مع التقليد , لا مع فكرةٍ بِلا دليل .
الفكرة الثانية :
أنتَ لكَ حقيقة ، لكَ واقع ، يعني أنتَ معك مركبة , قوتها 5 حصان ، عندك بضاعة 5 طن , متألم ندمان , بحثُ آخر ، هذه المركبة لا تحمل إلا خمسمائة كيلو ، هذا واقع ، فإمّا أن تُحملّها ما لا تُطيق فتُصيبُها بالخلل , وإمّا أن تتعامل معها تعاملاً واقعياً .
أنا ما أرى أنَّ المُسلم إنسان خيالي ، ولا إنسان حالم ، ولا إنسان مُخرّف , ولا إنسان عايش في أوهام ، دائماً أهلُ الدنيا يشمئزون من كل تجاوز للواقع , لستَ واقعيّاً , أنا أقول لكم : المؤمن الحق في أعلى درجات الواقعية , أنت أيها الإنسان فقيرٌ إلى الله .
في إنسان بأحد المصحات العقلية , يعني في مهجع رقم 6 ، هذا المهجع - والعياذُ بالله - بدرجة متطورة جداً , لا يُبقي على جِسمه ثياباً كما خلقهُ الله ، ويأكل من بِرازهِ , شيء لا يتصور , إنسان له أجهزة , ودماغ , وشرايين , وأوردة , وعضلات , وأعصاب , وعضلات قوية , يتحرك , ويأكل , ويتكلّم , لكن في خلل في عقله , فصارَ يأكلُ بِرازهُ , وحدثني أحدُ من أثِقُ بهِ , أنَّ له قريبةً يضعونها على سرير , ويربطونها بأربطة , ليمنعونها من أكلِ بِرازها .
أنتَ فقير إلى الله , فقير في عقلك ، فقير في عضلاتك .
لمّا قالَ النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف .
عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ , أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ :
((قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ لأَصْحَابِهِ , اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ , وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ , وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا , وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا , وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا , وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا , وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا , وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا , ولا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا , وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا , وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا))
يعني : كل عَظَمة الإنسان إن كانَ له عَظَمة متعلقة بعمل أجهزتهِ .
فلو توقفت كليتاه عن العمل , هُنا المُشكلة , انقلبت حياتهُ إلى جحيم .
لو انسدّت قناةُ العين , فسالَ الدمعُ من على خدهِ وخرش خدهُ حياتهُ جحيم .
إذا أُصيب جهاز التوازن في الأذن الوسطى بالعطب يقع لا يقف , جهاز التوازن , أنت لولا هذا الجهاز , تحتاج إلى قاعدة استناد 60 - 70 سم , والدليل : انظر إلى النماذج البشرية في المحلات التجارية , دقق في الأرض , ترى لها قاعدة استناد 70 سم , التمثال الذي يُلبسونه الثياب , بائعو الثياب الجاهزة عِندهم تماثيل , هذه التماثيل من أجل أن تقف , تحتاج إلى قاعدة استناد قطرها 70 سم ، فأنتَ لِحكمةٍ أرادها الله عزّ وجل جعلَ لكَ قدمين صغيرتين لطيفتين تتناسبا مع قِوامك بفضل جِهاز التوازن , جهاز التوازن ثلاث قنوات : فيها سائل , فيها أهداب , لمّا الإنسان يميل , فيتحرك السائل , ويبقى مستوى السائل , ولمّا القوس مال , فيمس الأهداب , فيتحسس الإنسان , ويأخذ الاحتياط , هذا سِر ركوب الدراجة , أساساً لولا جهاز التوازن لا يستطيع إنسان ركوب دراجة ، فأنتَ مُفتقر إلى الله ، مُفتقر إلى الله بمادة أودعها الله في عينيك تمنع التجمد , لو ذهبت إلى فلندا إلى الدائرة القطبية , بإمكانكَ أن تضعَ على عينيك كمامات لتحميهما من البرد , مستحيل , لا بد من أن ترى طريقك , وهذا السائل مُلامس للجو الخارجي , أودعَ الله فيكَ هذه المادة .
أخواننا الأطباء - جزاهم الله عنّا كلَّ خير - حينما درسوا الطِب , وجدوا أنَّ حياة الإنسان تقوم على آلاف الشروط , الغدة النُخامية ملكة الغُدد الصماء , لو أصابها خلل ، الغدة الدرقية لو أصابها خلل ، الكظر , الإنسان شاهد أفعى , صورة الأفعى انطبعت على الشبكية , في الشبكية صار في إحساس 130 مليون مخروط , والعصب البصري 900 ألف عصب , نقل الصورة إلى الدماغ , والدماغ أدرك بحسب المفهومات , المفهومات بحث قائم بذاته , الطفل حينما يحبو يرى أفعى لا يخافُ منها , يُخيفهُ أبوه منها , يُنبأ أنها مؤذية , دخل المدرسة من خلال تعامله مع الواقع , ينشأ عندهُ مفهوم الأفعى , فإذا رأى الأفعى استحضرَ هذا المفهوم فخافَ منها ، لمّا خاف الدماغ أبلغ النظام الهرموني , وعلى رأسهِ الملكة , وهي الغدة النُخامية , أبلغها أنَّ هُناك خطراً ، الغدة النُخامية تُبلغ الكظر غُدتان فوق الكُليتين ، الكظر يُرسل أربعة أوامر هرمونية مباشرةً ، أول أمر يُرسِلهُ إلى القلب يُسرع , كان النبض 80 صار 180 – 150 , من أجل أن يسير الدمُ سريعاً إلى العضلات ، هرمون ثان يضيق لمعة الأوعية , لأنَّ الإنسان ليسَ بحاجة إلى شكل وردي , بحاجة إلى دم للعضلات , كي يهرب , أو كي يُقاوم ، هرمون ثالث يُسرّع الرئتين ، هرمون رابع يطرح كميات سُكر في الدم جديدة , وأنتَ لا تدري , فأنتَ مُفتقر في أجهزتك إلى آلاف الأجهزة عشرات الأجهزة والغُدد الصمّاء .
يعني مرض السُكر ما هو ؟ يعني البنكرياس يفرز مادة الأنسولين ، الأنسولين تساعد على احتراق السُكر في درجة 37, إذا قلّت هذه المادة يحتاج إلى حُقن أنسولين .
لا مفر من هذه الحقيقة : المُشكلة : أنَّ هُناك حقيقة لا بدَّ من أن تتعاملَ معها , أعجبتكَ أو لم تُعجِبك ، قَنِعتَ بها أو لم تقنع بِها ، رضيتَ بها أو لم ترض ، إنكَ فقير إلى الله , لهذا قال بعضُ العارفين بالل ه:
وما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع
وما لي سوى قرعي لبابك حيلة فإذا رددت فأي باب أقرع ؟
أنتَ بالافتقار إلى الله غني .
من هو الغني ؟
أول فكرة :
أن تتعامل مع الحقائق .
ثاني فكرة :
اعلم عِلمَ اليقين : أنكَ فقير ؛ أيّ مُفتقر , أيّ مُحتاج .
الفكرة الثالثة :
لماذا جعلكَ الله فقيراً ؟ كي تُقبِلَ عليه , كي تستعينَ بهِ , كي تلجأَ إليه , كي تسعدَ بقُربِهِ .
الفكرة الرابعة : أنكَ إذا كُنتَ مُفتقراً إلى الله فأنتَ الغني , إذا كُنتَ مُفتقراً في قوتك إلى الله فأنتَ القوي , هذه أهم فكرة الذي يشعر بالغِنى , من كان له اعتماد على جِهة غنيّة جداً ، يعني طالب في بجيبه ليرة , وطالب ليسَ بجيبهِ ولا قرش , لكنَّ له أب لو طلب منه مليون لأعطاه , أيهما أغنى ؟ حسب الظاهر الأول معه ليرة والثاني لا يملك ولا ليرة , أمّا الأول ليسَ لهُ أب , يتيم , معهُ هذه الليرة فقط , أمّا الثاني ليسَ في جيبهِ ليرة , لكنَّ له أب يملك مئات الملايين , وهو يُحبهُ حُباً جمّاً , يطلُبَ منه يعطيه ما يشاء .
إذا الله عزّ وجل أفقر إنساناً أو حرمهُ شيئاً ، لا يُلقينَّ في روعِهِ أنَّ هذا إهانة لهُ .
العطاء والحرمان :
قاعدة :
موضوع دقيق جداً مستنبط من قولهِ تعالى :
﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ﴾
الله قال : كلا , لماذا قال : كلا ؟ كلا أداةُ ردعٍ ونفي , يعني ليسَ إعطائي لكم إكراماً وليسَ حِرماني لكم إهانةً , عطائي ليسَ إكراماً ومنعي ليسَ حِرماناً , عطائي ابتلاء وحرماني دواء .
القاعدة الأساسية الذهبية : أنَّ كلَّ شيء آتاكَ الله إياه , لا يُمكنُ أن يُسمى نِعمةً إلا إذا استخدمتها في طاعة الله .
فالمال تعريفهُ في علم العقيدة : ابتلاء , أنفقتهُ في طاعة الله صارَ نعمة , أنفقتهُ في معصية الله صارَ نقمة .
الزوجة نعمة ؟ لا , تزوجتها حملتها على طاعة الله أصبحت نعمة , تركتها وشأنها تفسد وتُفسد هي نقمة , لذلك :
إيّاك أن تقول لإنسان آتاه الله مالاً ؛ هنيئاً لكَ , لا تقل له : هنيئاً لكَ , إلا إذا رأيتهُ يُنفقُ هذا المالَ في طاعة الله ، لا تقل لإنسان يتمتع بقوة جيدة ؛ هنيئاً لك , لا تقل له : هنيئاً لك إلا إذا استخدمَ هذه القوة في طاعة الله .
هذه قاعدة أساسية : كلُّ حظوظ الدنيا بدءاً بالمال ومروراً بالصحة والذكاء والجمال والقوة , هذه الحظوظ هي في نص القرآن الكريم ابتلاء .
﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاهُ ربهُ فأكرمهُ ونعمّهُ فيقول - هو هذه مقولته - ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدرَ عليه رِزقهُ فيقول – هو - ربي أهان كلا ﴾
لا هذا صحيح ولا هذا صحيح .
ليسَ عطائي إكراماً ولا منعي حرماناً ، عطائي ابتلاء وحرماني دواء .
يعني : أيها الإنسان , إذا ابتلاك اللهُ بشيء لا تشعر بالهوان , الله منع عني , وأعطى غيري , الله لا يُحبني , لا , أشعر أنَّ الله يُحبُك ولأنهُ يُحبُكَ ابتلاك .
وفي الحديث الشريف : إذا أحب الله عبداً ابتلاه ، فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه , قيل : وما اقتناه ؟ قال : لم يترك له أهلاً ولا مالاً .
ما قيل عن الفقر والغنى :
وقال بعض العلماء : الفقر والغِنى ابتلاء من الله لعبدِهِ .
كم قال الله تعالى :
﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربهُ فأكرمهُ ونعمّهُ فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدرَ عليه رِزقهُ فيقول ربي أهانن كلا ﴾
أي ليسَ كلُّ من وسّعتُ عليه وأعطيتهُ أكون قد أكرمته , ولا كلُّ من ضيقتُ عليه وقتّرتُ عليه أكونُ قد أهنتهُ , طيب : ما هو الإكرام ؟.
الآن : الله عزّ وجل نفى أن يكونَ إعطاؤهُ المال أو الصحة أو القوة أو الذكاءَ أو أي شيء آخر إكراماً ، ونفى أن يكونَ الحرمان من هذه إهانةً ، ليسَ إكراماً في توافرها وليسَ إهانةً في تقتيرها .
من هو المكرم ؟
إذاً :
ما تعريف الإكرام ؟
من هو المُكرّم ؟
من يذكر آية واضحةً وضوح الشمس جليّةً جلاءَ النهار , تؤكد أنَّ الإكرام هو كذا ؟
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾
الجواب :
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾
المُكرّم هو الطائعُ للهِ عزّ وجل ، إذا أردت أن تعرف من هوَ المُكرّم حقيقةً ، إذا رأيتهُ مستقيماً على أمر الله .
ليسَ الوليُّ من يطيرُ في الهواء , ولا من يمشي على وجه الماء , ولكنَّ الوليَّ كلَّ الوليّ من تجدهُ عِندَ الأمرِ والنهي .
حقيقة الافتقار :
ما حقيقة الافتقار إلى الله ؟
قبلَ أن نختمَ الدرس هُناك حقائق لا بدَّ من ذِكرِها .
أولاً :
الافتقار إلى الله في ظاهِرهِ تذلل , تجد رجلاً متعجرفاً , أنا فعلتُ كذا , أنا قادر أن أُنفق كذا , أنا قادر أن أُمرّغَ به الوحل , ممكن , هذا الموقف فيه استغناء واستعلاء , ومعظم المقطوعين عن الله عزّ وجل , لا بدَّ من أن تلمح في سلوكهم هذا الاعتزاز والغرور والاستعلاء والغطرسة والعُنجهية .
ماذا تستنبط من هذه القصة ؟
القصة التي تعرفونها جميعاً : لمّا أحد الملوك اسمه جَبَلةَ بن الأيهم , جاء سيدنا عمر مُسلماً , في أثناء الطواف داس إزاره أحد الأعراب من فزارة بدوي , فالتفت نحوه وهشمه بضربة أصابت أنفه , فاشتكى إلى عمر رضي الله عنه , فجاء طلب هذا الملك , كان ملك الغساسنة , قال له :
أصحيحٌ يا بن أيهم ما ادعى هذا الفزاريُّ الجريح ؟
قال :
لستُ ممن يكتمُ شيئاً أنا أدّبتُ الفتى أدركتُ حقيّ بيديَّ
قال :
أرض الفتى لا بدَّ من إرضائه ما زال ظِفرُكَ عالقاً بدمائهِ
أو يُهشـــــمنَّ الآن أنفُك وتنـــال ما فعـلتهُ كفُك
قال :
كيــــفَ ذاكَ يا أمـير هو سوقـةٌ وأنا عـرشٌ وتاج
كيفَ ترضى أن يَخِرَّ النجمُ أرضاً ؟
قال له عمر :
نزوات الجاهلية ورياح العُنجهية قد دفناها أقمنا فوقها صرحاً جديداً
وتساوى الناسُ أحراراً لدينا وعبيداً
قالَ :
كانَ وهمــاً ما جرى في خَلَدي أنني عِنـــدكمَ أقـوى وأعز
أنا مرتدٌ إذا أكرهتني
قال :
عُنقُ المُرتـد بالسيفِ تُحزّ عالمٌ نبنيه كلُّ صدعٍ فيه بشبا السيفِ يداوى
وأعزُّ الناسِ بالعبدِ بالصعلوكِ تساوى
هذا موقف , فالإنسان لمّا يأخذ موقفاً فيه استعلاء وتكبّر وغطرسة وعنجهية وعرض عضلات وتجبّر , يبدو للناس أنهُ قوي وعزيز , يأتي المؤمن يأخذ موقفاً آخر , موقف التواضع والاستكانة إلى الله عزّ وجل , موقف الاعتراف بالضعف , موقف الاعتراف بالتقصير , يعني تواضع .
اعلم هذا :
أيُهُما أحبُّ للنفس ؟ هنا سُئِل أحد العلماء , قال : الفقر له بداية وله نهاية وظاهر وباطن ، بدايتهُ التذللُ إلى الله ونهايتهُ العِزُّ بالله .
ما في إنسان تواضع لله كرسول الله , دخلَ مكةَ فاتحاً وقد أخرجتهُ وأصحابهُ , وائتمرت على قتلهِ , ونكّلت به وبأصحابهِ ، دخلها فاتحاً , كادت ذؤابة عِمامتهِ تُلامِسُ عُنُقَ بعيرهِ تواضُعاً لله عزّ وجل ، ولا أعلمُ مخلوقاً على وجه الأرض نالَ عِزّاً وشرفاً كرسول الله .
فإذا أنت مُفتقر لله عزّ وجل فيما يبدو للناس , درويش هذا درويش ، متواضع زيادة , إذا كُنتَ مُفتقراً إلى الله عزّ وجل هذه بدايتُك , أمّا نهايتُك أنتَ العزيز ، أنتَ رفيعُ الشأن ، أنتَ مرهوب الجانب ، أنتَ الذي يهابُكَ الناس , فقال : بدايتهُ التذللُ إلى الله ونهايتهُ العِزُّ ، ظاهِرهُ العُدم , قد تملك ألوف الملايين وأنتَ فقير ، أنتَ من خوف الفقر في فقر ، ومن خوف المرض في مرض ، وقد لا تملكُ شيئاً وأنتَ غني .
لذلك النبي الكريم قال :
((أنتَ من خوف الفقر في فقر))
يعني : توقّعُ المصيبةِ مصيبةٌ أكبرُ منها .
إذاً : ظاهِرُ الفقرِ العُدمُ وباطِنهُ الغِنى .
إذا الإنسان افتقر إلى الله , ما الذي يحصل ؟
سؤال :
إذا الإنسان افتقر إلى الله ما الذي يحصل ؟
إنهُ يستغني بهِ ، وإذا استغنى بهِ صارَ أغنى الأغنياء ، من هوَ الغنيُّ الحقيقي ؟ هو المُفتقر , لهذا أروعُ كلمة قالها الإمامُ عليُّ كرّمَ اللهُ وجهه قال :
الغِنى والفقر , وسكت , قال : بعدَ العرضِ على الله .
لا يسمى الغنيُّ غنيّاً الآن ، ولا الفقيرُ فقيراً ، غني غِنى طارئاً لسنواتٍ معدودة ، وفقراً طارئاً ، لكنَّ الغِنى الحقيقي أن تُطيعَ الله , وتأتيهِ يومَ القيامةِ ناجيّاً من عذابه , فقال : الغِنى والفقر بعدَ العرضِ على الله .
قالَ بعضهم : إذا صحَّ الافتقارُ إلى الله تعالى صحَّ الاستغناء بهِ , لن تستغنيَّ بهِ إلا إذا افتقرتَ إليه ، إن لم تفتقر إليه لا تستغني بهِ ، لا يَصِحُ استغناؤك إلا إذا افتقرتَ إليه , وإذا صحَّ الاستغناءُ بالله عزّ وجل كَمُلَ غِناك .
أعلى درجات الغِنى أن تكونَ في أدنى درجات الفقر , هذه من المُفارقات .
اسمع هذا الجواب لهذا السؤال :
سُئِلَ بعضُهم : أنفتقرُ إلى اللهِ أم نستغني بهِ ؟ فقالَ : كِلاهُما كِلاهُما , يجبُ أن تفتقرَ إليهِ أولاً , حتى تستغني بهِ ثانياً .
إذا كُنتَ في كُلِ حالٍ معي فعن حملِ زادي أنا في غِنى .
كُن مع الله ترى الله معك , واترك الكُلَّ وحاذر طمعك , وإذا أعطاكَ من يمنعهُ , ثمَّ من يُعطي إذا ما منعك .
أحد العلماء قال : غداً لا يوزنُ الفقرُ والغِنى ولكن يوزنُ الصبرُ والشُكر .
الخاتمة :
خاتمة القول :
فلذلك حقيقةٌ يجب أن نعترفَ بها في الأساس : تعامل مع الحقائق , وإيّاكَ كمؤمن أن تتعامل مع الأوهام أو الخرافات أو الجهل ، وما الجهل ؟ هو اعتقادٌ مُخالفٌ للواقع ، ما العلم ؟ إدراك الشيء على ما هو عليه بدليل ، ما الجهل ؟ إدراكُ الشيء على خِلاف ما هو عليه بلا دليل , فالتعامل مع الحقائق .
ثانياً : هناك حقيقةً صارخة , وهيَ أنكَ مُحتاجٌ إلى الله في كلِّ شيء .
الحقيقة الثالثة : أنَّ الافتقارَ لمصلحتك , لو أنَّ الله جعلكَ غنيّاً , لاستغنيتَ بغِناكَ عن الله , فشقيتَ باستغنائك ، جعلكَ مفتقراً إليه , كي تكونَ مفتقراً مُقبِلاً مُلتجئاً مُعتزّاً , حتى تسعدَ بهذا .
الفكرة الأخيرة :
الغِنى الحقيقي طريقهُ الافتقار إلى الله , وهذا هو حجمُكَ الحقيقي ، ورَحِمَ اللهُ عبداً عَرَفَ حدّهُ فوقفَ عِندهُ .