- الخطب
- /
- ٠3الخطب الإذاعية
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين... نحمده حق حمده، ونسأله المزيد من فضله، فهو يعلم السرَّ وأخفى، والجهرَ والنجوى، خلق فسوى، وقدر فهدى، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أساءوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَذكر من يذكره، ويشكر من يشكره، وهو نعم المولى، ونعم النصير .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خيرته من خلقه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وترك أمته على بيضاء نقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً كثيرا ً.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.
الأولاد غراس الحياة، وقطوف الأمل، وقرّة العين، وهم البُشرى، وهم زينة الحياة الدنيا، وهم المودة والرحمة، بل هم زهور الأمة، وبراعم الإنسانية .
ورعاية الأولاد واجبة، وحبهم قربى إلى خالقهم، في رسالات السماء، وفي شرائع الأرض، بل هو واجب وطني، وقومي، وديني.
وأبناؤنا الذين تشكّلهم فطرتهم السليمة، وتغرس فيهم بيئتهم المنضبطة مكارم الأخلاق، ويتلقون من مجتمعهم المعارف والقيمُ والمفاهيمُ الإنسانيَّةُ والحضاريةُ، عندئذ يكون عليهم المعوّل في الحفاظ على مكاسب الأمة، واستعادة ماضيها المجيد، وخوض معاركها الضارية والمصيرية ضد أعدائها .
ويجب أن نحمي أولادنا من كل ما يفسد فطرتهم السليمة التي فطروا عليها بسبب الجهل والفقر، والقهر، في بعض البيئات التي يترعرعون فيها حيث لاحيلة لهم في اختيارها، ولا في إصلاحها.
ورعاية الأولاد عن طريق تربيتهم تربية إيمانية، وأخلاقية، وعلمية، ونفسية واجتماعية، وجسمية، وجنسية، ووطنية، وتهيئة الظروف المناسبة لنموهم النمو السليم المتوازن ؛ لهو هدف كبير لايعلو عليه هدف آخر .
والأمة في أمس الحاجة إلى جيل يكون ناهضاً بمستقبلها، تتمثل فيه صحة الجسد، وطُهرُ النفس، ورجاحة العقل، وقد بني بناء متوازناً وفق فيه بين المادة والروح، وبين الحاجات والقيم، ويسعى إلى إصلاح الدنيا والآخرة.. بني بناءً يجعله إنساناً متميزاً يرى ما لا يراه الآخرون، ويشعر بما لا يشعرون، يتمتع بوعي عميق، وإدراك دقيق، له قلبٌ كبير، وعزم متين، وإرادة صلبة، هدفه أكبر من حاجاته، ورسالته أسمى من رغباته، يملك نفسه ولا تملكه، يقود هواه ولا ينقاد له، تحكمه القيم ويحتكم إليها، من دون أن يسخرها أو يسخر منها، يحسن فهم هذا الدين القويم، ويحسن تطبيقه، ويحسن عرضه على الطرف الآخر، ومثل هذا الجيل يحتاج في بنائه إلى داعية واع لخطورة رسالته، مخلص في أدائها، متسلح بالعلم والقيم، حتى يبرزخصائص وسطية الإسلام... فلا إفراط، ولا تفريط، ولا غلو، ولا تقصير، ولا طغيان، ولا إخسار، فالإسلام وسط بين المادية المقيتة، والروحية الحالمة، بين الواقعية المرة، والمثالية التخيلية، بين الفردية الطاغية، والجماعية الساحقة، بين الثبات الرتيب، والتغير المضطرب، بين الحاجات الملحة، والقيم البعيدة، بين العقلانية الباردة، والعاطفية المتقدة، بين نوازع الجسد، ومتطلبات الروح .
وحينما نرعى أبناءنا إنما نقدِّم للحياة عنصراً نظيفاً، وللمجتمع لَبِنَةً صالحةً، وهذا ما تهدِفُ إليه التربيةُ في أعظم أهدافها، حتّى يَسعدَ المجتمعُ بأبنائه، ويسعَدوا هم به .
عندها نستطيع أن نقابل القنبلة الذَّرية، بقنبلة الذُرية، أي بتربية جيل واع، ملتزم، ينهض بأمته، ويعيد لها دورها القيادي بين الأمم.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ))
في هذا الحديث ملمح خطير، وهو أن الأب من خلال نص الحديث يطعم ابنه، ويكسوه، ويؤويه، ولكن:
يضيعه أولاً حينما يهمل تربيته، وينشغل بدنياه... وعندئذ تتقاذفه، قنوات المجاري الفضائية، ومواقع القمامة الإباحية، وقد قام عدد من الباحثين الاجتماعيين بدراسة ظواهرالسرقة والاغتصاب والقتل المفرد والقتل الجماعي، وأعمال العنف فوجدوا أن للمواد الإباحية تأثيرا مباشرا وملحوظا في جميع هذه الجرائم والأعمال، فضلاً عن أن في العالم اليوم أربعين مليوناً من المصابين بمرض الإيدز، وقد مات في العقدين الماضيين إثنان وعشرون مليوناً بهذا المرض .
ويضيعه ثانياً حينما لا ينشئه على المبادئ الإسلامية الصحيحة، ولا يغرس فيه القيم الأخلاقية الرفيعة، ولا يدله على عالم رباني، يقدم لابنه الإسلام الوسطي المتوازن الذي كان عليه النبي وأصحابه والذي تزدهر به الحياة في الدنيا، والحياة في الآخرة .
ويضيعه ثالثاً حينما لا يتابع تفاصيل حركته في الحياة، فلا يعلم الأب مع من يتصل ابنه، أيتصل ابنه مع الغلاة المتطرفين الذين انحرفت عقيدتهم، وساء عملهم، ويتلقى منهم التوجيه الخاطئ، الذي يجر له الانحراف والهلاك لهم، ولمن حولهم ممن اقتدى بهم،وسار معهم فشقوا وأشقوا من معهم في الدنيا والآخرة .
فأبناؤنا إن لم نحسن تربيتهم كانوا بين الانغماس في الفساد، والغلو في الدين .
الغلو في الدين
" الغلو " مصطلح ورد في القرآن الكريم في موضعين:
وورد في السنة المطهرة في حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((إياكم والغلوَّ في الدين ! فإنه أهلك من كان قبلكم، الغلوُّ في الدين))
ومعنى الغلو: مجاوزة الحد، والحد هو النصُّ الشرعي، كلام الله عزَّ وجلَّ، وما صح من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن يُفهم هذا النص وفق قواعد علم الأصول، وقد قال تعالى في كتابه العزيز:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا ُّبِينًا﴾
﴿ يَا ّأَيُهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾
وإذا بحث الفقيه في مسألة من مسائل الدين، فهو يجمع النصوص القرآنية والنبويّة فيها، ويؤلف بينها على وجه لا يغلب بعضها على بعض، ولا يأخذ نصاً ويهمل غيره، ولا يأخذ فقرة من نصٍّ ويُهمل بقية الفقرات.
أما الغلاة المتهورون فيضربون بعض النصوص ببعض، أو يأخذون نصاً يُلائم غلوَّهم يُسلِّطون عليه الأضواء، ويُعَتِّمون على نصٍّ آحر، ينقض غلوهم، فالآيات التي يمكن أن تغطي غلوَّهم، يشدُّونها عن طريق التأويل المتكلف إلى ما يوافق أهواءهم، والآيات التي تناقض غلوهم يغفلون ذكرها، وإذا ذُكَّروا بها صرفوها إلى غير المعنى الذي أراده الله.
أمّا فيما يتعلق بالأحاديث الشريفة، فهم يقبلون الضعيف، بل الموضوع، إذا غطّى غلوهم ويُعرضون عن الحسن، بل الصحيح إذا فضح انحرافهم.
ثم إنهم ـ فيما سوى القرآن والسنة ـ يقبلون كل قولٍ يدعم غلوهم متجاوزين القاعدة المنهجية: " إن كنت ناقلاً فالصحة، وإذا كنت مدَّعياً فالدليل " ويرفضون كل قول ليس في جانبهم ولو دعمه أقوى دليل.
إنهم يتخيَّرون من النصوص مّا يعجبهم، فهم ـ وهذا حالهم ـ من أهل الرأي، الذين تحَكَّموا بالنصّ ولم يحتَكِموا إليه، واعتقدوا ثم استدلوا، وهذا انحراف خطير، والصواب أن يستدلوا ثم يعتقدوا .
أنواع الغلو
والغلوُّ نوعان: اعتقادي.. وهو أن الغلاة يعتقدون فيمّا هو جزء من الدين أنه الدين كلّه .
وغلاة كلّ فرع من فروع الدين، يُحلُّون هذا الفرع محلَّ الأصل، وينظرون إلى من عُني ببقية فروع الدين نظرة ازدراءٍ وإشفاق، وقد أشار إلى هذين النوعين من الغلّو الإمام الشاطبي في " موافقاته ".
ولا يخفى أن من كليات الدين الجانب الاعتقادي، والجانب السلوكي، والجانب النفسي، وحينما تحلُّ كلية من هذه الكليات محلَّ الدين كلّه، فهذا غلو وأي غلو ... هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن تضخيم الفرع في الدين ليحلَّ محلَّ الأصل غلوٌّ في الدين أيضاً .. وأي غلو
والنوع الثاني من الغلو: الغلو العملي..
فحينما يقع الإنسان فريسة وساوسه المتسلطة، فيظن أنه بمفرده يستطيع أن يرفع المعاناة عن الأمة كلها بعمل غير مشروع في منهج الله .
وحينما يتجاوز في عبادته الحد الذي شرَّعه الله فيهمل عمله ويهمل أسرته، وبهذا يختل توازنه، ولا يحقق الهدف الأمثل من تدينه...
ولا شك أن الغلو الاعتقادي هو الأخطر، لأن صاحبه لايرجع عنه، إذ يعتقد أنه على صواب
فهو لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، وإن اعتماد القوة وحدها، والحلول الأمنية وحدها، في معالجة هذا النوع من الغلو لا يحقق الهدف، ما لم يكن مصحوباً بدرجة عالية من الاستماع الجيد إلى المغالي، وتفهم دقيق لرأيه، ومراعاة لدوافعه وجراحاته، وإقناعه بدل قمعه، فالقوة لاتصنع الحق، ولكن الحق يصنع القوة، والقوة من دون حكمة تدمر صاحبها .
ولأن هذا النوع من الغلو افترقت منه الفِرق، وبزغت عنده الأهواء، واختلفت فيه العقول، وتباعدت من أجله القلوب، وسالت من تداعياته الدماء، قال تعالى:
﴿ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
أسباب الغلو
وأسباب الغلو كثيرة، ومن أبرزها الجهل، وهو: عدم معرفة حكم الله جلّ وعلا، وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فقد يكون المغالي معظماً للحرمات، غيوراً على دين الله، فإذا رأى إنساناً متلبساً بمعصية، لم يطق، أو لم يتصور أن هذا الشخص مسلم، أو أن ذنبه يمكن أن يُغفر، لذلك يتهمه بالكفر والخروج من الدين. وقد تكون له محبة لرجل صالح، وأصل هذه المحبة مشروع في الدين، لكن هذه المحبة زادت وطغت بسبب الجهل حتى وصلت إلى درجة الغلو الذي رفع هذا الإنسان فوق منزلته ؛ واتهم كل من لم يقره على هذا الغلو بالكفر والفسق. وقد يكون الجهل جهلاً بالدليل لعدم معرفته أو لعدم الاطلاع عليه، وقد يكون جهلاً بالاستنباط، أو جهلاً بقواعد اللغة العربية.
والجهل أسهلُ أسبابِ الغلو معالجةً، ولا سيما إذا كان المغالي بريئاً من الهوى، والنزعات الشريرة، فالجهل يزول بالعلم.. ففي عهد عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد ناظر الخوارج وحاورهم، فرجع منهم ما يزيد عن ألفي إنسان في مجلس واحد.
ومن أسباب الغلو: الهوى.. الذي يجر صاحبه إلى التعسف في التأويل، وردّ النصوص الصحيحة، وقد يكون الهوى لغرض دنيوي من طلب الرئاسة أو الشهرة أو نحوهما، وقد يكون المغالي بعيداً عن هذه المطالب، ولكن الانحراف سبق إلى عقله وقلبه واستقر فيهما، وتعمَّق جذوره، وترسخأصوله، وكما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرفَ الهوى... فصادف قلباً فارغاً فتمكَّنا
وحينئذ يَعِزُّ على المغالي أن يتخلى من غلوه، وأن يقرَّ على نفسه أنه كان متحمساً للباطل، مناوئاً للحق، فيتشبث بباطله ويلتمس له الأدلة الضعيفة الواهية من هنا وهناك. لذلك قيل: تعلَّموا قبل أن ترأسوا، فإن ترأستم فلن تعلموا.
وقد يكون الهوى بسبب نفسية مريضة معتلَّة منحرفة، تميل إلى الحدة والعنف، والعسف في آرائها ومواقفها، وتنظر دائماً إلى الجانب السلبي والمظلم للآخرين.. وقد يتصف صاحبها بالعلو والفوقية، من دون أن يشعر بذلك، فضلاً عن أن يعترف به. فإذا التقى الأشخاص أو قرأ كتبهم، فليبحث عن نقاط ضعفهم، مغفلاً النواحي الإيجابية التي يتمتعون بها، وعندها تتبخَّر ثقته بالعلماء العاملين، والدعاة المخلصين، و يبتعد عنهم ويستقل بنفسه ورأيه، فينتج عن هذا الشذوذ في الآراء والمواقف والتصورات، ثم في السلوك.
ومن أسباب الغلو في الدين: غلو الطرف الآخر.. فالذين يجرُّون المجتمعات الإسلامية إلى الفساد، والإباحية، و إلى الانحلال الخلقي، وينتهكون الحرمات، ويستخفون بالثوابت، ويدنسون المقدسات هم في الحقيقة من المتسببين في حدوث الغلو، وإن أعلنوا الحرب عليه.. فمظاهر الاباحية والانحلال في المدرسة والجامعة والشارع والشاطئ والمتجر والحديقة وفي وسائل الإعلام ؛ إذا أقرَّها المجتمع وسكت عنها، أو شجعها ودعمها وحماها، فإن هذا المجتمع عليه أن يستعد للتعامل مع أنماط كثيرة من الغلو.
وقبل أن نبحث عن الحلول الفعَّالة للقضاء على الغلو.. يجب أن نفرِّق بين غلو حقيقي وهو مجاوزة للحدِّ الشرعي، وانحراف عن سواء السبيل، وبين غلو موهوم في رأس أعداء الدين.. فهم يصفون المؤمنين الملتزمين بالأصولية والتقوقع تارة، وبالتطرف والتزمت تارة أخرى.. وهم في الحقيقة يدعون بإخلاص إلى الله تعالى، وإلى دينه، وإلى تحكيم شريعته، والعمل بكتابه وسنة نبيه.
معالجة الغلو
ولا سبيل إلى القضاء على الغلو الحقيقي في الدين.. إلا بتمكين العلماء الربانيين العاملين المخلصين من القيام بواجبهم في الدعوة إلى الله، وَفقَ أُسس صحيحة متوازنة، ومن خلال رؤية صافية لحقيقة الدين الحنيف، وباساليب نابعة من الكتاب والسنّة .
وأما الجهاد فهو أصل في الدين، وكما أن في التعليم تعليماً أساسياً لا يصح ولا يسمح للطالب أن ينتقل إلى التعليم الثانوي قبل أن ينجح في التعليم الأساسي، كذلك في الجهاد ؛ هناك جهاد أساسي وهو جهاد النفس والهوى، دليله في قوله تعالى:
﴿ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾
أي بالقرآن، وفي قوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
فالجهاد الأساسي الأول جهاد النفس والهوى وهذا الجهاد عند ابن القيم في زاد المعاد أربعُ مراتب استقاها من سورة العصر:
إحداها: أَنْ يُجاهِدَ نفسه على تعلُّم العلم من العلماء الربانيين، المحققين الورعين فلا فلاح للنفس، ولا سعادة فى معاشها، ومعادها إلا به، ومتى فاتها هذا العلم، شقيت فى الدَّارين.
إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، ابن عمر ! دينك دينك... إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا .
الثانية: أن يُجاهد نفسه على العمل به، وإلا فمجرَّدُ العلم من دون عمل لاقيمة له فهو إن لم يَضُرَّها لا ينفعْها.
الثالثة: أن يُجاهد نفسه على الدعوة إليه، وتعليمِهِ مَنْ لا يعلمهُ، وإلا كان مِن الذين يكتُمون ما أنزل الله مِن الهُدى والبينات، ولا ينفعُهُ علمُهُ، ولا يُنجِيه يوم القيامة.
الرابعة: أن يُجاهِد َنفسه على الصبر على مشاقِّ طلب العلم، والعمل به، والدعوة إليه .
فإذا استكمل المسلم هذه المراتب الأربع، صار من الربَّانِيينَ، ومن المجمع عليه على أن العَالِمَ لا يَستحِقُّ أن يُسمى ربَّانياً حتى يعرِفَ الحقَّ، ويعملَ به، ويُعَلِّمَه، ويصبر على طلبه، والعمل به، والدعوة إليه .
والجهاد الأساسي الثاني هو الجهاد البنائي ودليله في قوله تعالى:
﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾
والحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح، هؤلاء الأعداء الأقارب والأباعد، حققوا شروطاً صعبة جداً، بنوا بها قوتهم، خلال مئات من السنين، فأملوا بسبب قوتهم إرادتهم، وثقافتهم، وإباحيتهم على بقية الشعوب، فأفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة .
ونحن ـ المسلمين ـ ينبغي علينا من خلال الأمر القرآني لنا أن نعد لهم ما نستطيع من قوة ؛ بمفهوم القوة الواسع، فالآباء ينبغي أن يعرفوا أن الأبوة رسالة ومسؤولية، وأن تربية أولادهم أعظم كسبهم، والأمهات ينبغي لهن أن يتفرغن لتربية أولادهن والعناية بهم، كي تتماسك الأسر، ويكون الأولاد لبنات في بناء المجتمع، ومعلمنا ينبغي له أن يحمل رسالة سامية يسعى إلى تحقيقها، وطالبنا ينبغي أن يتفوق، وعاملنا ينبغي أن يتقن عمله، وفلاحنا ينبغي أن يرتبط بأرضه ليزرعها، وموظفنا ينبغي أن نعطيه حقه، وينبغي له أن يتفانى في خدمة المواطنين، وقاضينا ينبغي أن يعدل، والأستاذ الجامعي ينبغي أن يؤثر خدمة أمته، على حظوظه من دنيا الآخرين، وداعيتنا ينبغي أن ينصح لا أن يمدح، وضابطنا ينبغي له أن يوقن أن المعركة مع العدو قادمة لا محالة، وأن حديث العدو عن السلام مراوغة، وكذب، وكسب للوقت ليس غير، وثرواتنا ينبغي أن تستخرج، ومصانعنا ينبغي أن تطور، وأرضنا ينبغـي أن تستصلح، ومياهنا ينبغي أن يرشد استهلاكها، وهذا لا يكون إلا بإيمان بالله، يحملنا على طاعته، وإيمان باليوم الآخر يمنعنا أن يظلم بعضنا بعضاً، وأن نطلب جزاء جهدنا وجهادنا في الجنة، وهذا نوع من الجهاد لا تقطف ثماره عاجلاً بل آجلاً.
وحين تقول للطالب ـ مثلاً ـ: واصل دراستك وكن متفوقاً، وخطط لسنوات قادمة لتكون شيئاً مذكوراً في حياة الأمة، ومستقبلها لاستثقل هذا، وآثر سماع الأخبار، وأن يكون منفعلاً لا فاعلاً، إن بعض الاندفاع قد يضاعف المعاناة بدلاً من حلها، فكما أننا نصغر أمام شاب يموت في سبيل الله، وفق منهج الله، كذلك نحن في أمس الحاجة إلى شاب يعيش في سبيل الله ويقدم لأمته كل خير .
والغفلة عن المستقبل ستجعلنا مشغولين أبداً بإطفاء الحرائق هنا وهناك عن العمل الجاد الذي يخفف المعاناة عن أجيالنا اللاحقة.
وأن علاج الجرح المفتوح على أهميته يجب ألا ينسينا التفكير في مستقبل أجيالنا التي سوف تتساءل: هل تركنا لها شيئاً آخر غير الجراح ؟!
ينبغي أن يفكر الفرد الواحد في الموقع الذي يفرغ فيه طاقته، ويؤدي من خلاله دوره ورسالته .
وبتحديد هدفه والمسير إليه، بخطى ثابتة، وبعد أن يقطع مراحل منه، فيكون قد رسم الهدف وحدد الطريق وبدأ السعي.. وهذا يوصل وفق السنة الربانية إلى الهدف، ثم تتزايد الأعداد الإيجابية التي تمارس دورها بشكل صحيح، بدلاً من أن تكون هذه الأعداد تتساءل فقط ماذا نعمل ؟ ثم لا تعمل شيئا ً.
أما المسلم المخلص فيكفي أن يبذل جهده وطاقته ولا يدخر منها شيئاً في موقع معين، ثم لا يضيره أن تتحقق النتائج على يد غيره بعد وضع الأساس وبدء البناء.
إن رَفْع المعاناة عن الأمة يتطلب عدداً كبيراً من المؤمنين الواعين المخلصين المضحين في جميع الميادين، وهذا ما يجب السَّعْي إليه، ولأن ينجح أحدنا في إعداد مجموعة من المواطنين إعدادًا إيمانياً، وعلمياً، وعقلياً، وخلقياً، ونفسياً، واجتماعياً، وجسدياً... أحب، وأنفع من أن يلقي بنفسه في أُتون نار تقول: هل من مزيد، إن النجاح يكمن في أن يستخدم المرء عقله قبل يده، كما يفعل أعداؤنا.
يقول الإمام علي رضي الله عنه: " الناس ثلاث، عالم رباني، و متعلم على سبيل النجاة، و همج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم، و لم يلجئوا إلى ركن وثيق، فاحذر يا بني أن تكون منهم ".
الحذر الشديد من الوقوع في فخاخ تنصب لأبناء أمتنا العربية والإسلامية، قد يوقعهم فيها ذهول الصدمة، أو ثورة الحماس. إن أكثر ما نحتاج إليه في أمور كثيرة من حياتنا هو التوازن، والانطلاق من الثوابت الراسخة، من غير أن يفقدنا التأثر بالأفعال وردود الأفعال الرؤية الصحيحة، ولا نحتاج إلى كبير عناء لنكتشف أن كثيراً من خطايانا وأخطائنا كانت نتيجة جنوح في النظرة بعيداً عن التوازن والاعتدال المطلوب.
إن للمشاعر حقها في أن تغلي وتفور، أما الأفعال فلابد أن تكون مضبوطة بهدي المنهج الرباني، ومقاصد الشرع، وضوابط المصلحة، ولا يكون ذلك إلا بالرجوع إلى العلماء الربانيين الورعين، الذين لا يجاملون مصالح الخاصة، ولا يتملقون عواطف العامة، وقد كان العلماء على تعاقب العصور صمام أمان عندما تطيش الآراء وتضطرب الأمور، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾
ولذا فإن من أعظم ما يوصى به في مثل هذه الأحداث العامة كبح جماح الانفعالات، بحيث لا تنتج اجتهادات خاصة ربما جنى بعضها أول ما يجني على المسلمين ومصالحهم، وأن يكون عند المسلمين بخاصة برغم حرارة الانفعال وشدة التأثر تبصر في معالجة الأمور، فينبغي ألا يخرجنا التأثر إلى التهور، ولا الحماس إلى الطيش، وإن الحماس طاقة فاعلة منتجة إذا وجهت في الطريق الرشيد، وإن العبرة ليست بتنفيس المشاعر، وتفريغ العواطف، ولكن العبرة بتحقيق المصالح، ودرء المفاسد .
فإذا نجحنا في الجهاد النفسي والبنائي، فينتظر أن ننجح في الجهاد القتالي
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، واشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين .
ليس هناك مِن مرحلةٍ في تاريخِ أمِّتنا نحنُ في أَمَسِّ الحاجةِ فيها إلى التعاونِ والتكاتفِ والتناصرِ والتضامنِ كهذه المرحلة الدقيقة التي تمرُّ بها أمّتُنا العربيةُ والإسلاميةُ، ولاسيما في ظلِّ النظامِ العالميِّ الجديدِ، وفي ظلّ غيابِ التوازن الدوليِّ، وتحَكُّمِ القُطبِ الواحد، وازدواجيةِ المعايير، وسيطرةِ الاحتكاراتِ الكبرى، والتطوراتِ الهائلةِ في وسائل الاتصالاتِ والمعلوماتيةِ، وازديادِ الهُوِّةِ بين الدول الغنية المتقدِّمة والدول الفقيرة النامية، وانفجارِ الحروبِ الإقليميةِ والمحليةِ، والصراعاتِ القبليةِ والدينيةِ والعِرْقيةِ في مناطق متعددة من العالم... إضافة إلى نهجِ العَولمة الثقافيةِ والاقتصاديةِ.
إنّ عالَمَ اليومِ يكاد يتحوّلُ إلى غابةٍ تتحكّم فيها مراكز القوّةِ، وتغيبُ عنها ضوابطُ المبادئِ والقيم، ومع ذلك فإن قُوى الهيمنة تتحدّث عن حقوق الإنسان، في الوقت الذي يجري فيه انتهاكٌ لحقوق الإنسان، قال السيد الرئيس في أحد خطاباته ( العالَمُ الإسلاميُ اليومَ يواجه تحدياتٍ كبيرةً تستهدفُ الإسلامَ وما يمثِّلُه من قيمٍ نبيلةٍ، وما يدعو إليه من أخوّةٍ وعدالةٍ ومساواةٍ وحرية، وإذا كان من واجبنا أن ندافعَ عن ديننِا ؛ فإنّ لنا فيه يَنبوعَ قوةٍ، ومصدرَ إلهام في مواجهةِ كلِّ ما يقابلُنا من أخطارٍ وتحدياتٍ ) .