وضع داكن
21-11-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة المطففين - تفسير الآيات 07 – 36 الأبرار يتنعمون في الجنة بتجليات الله عزَّ وجل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.

الكتاب هو صفحة أعمال الإنسان وكل إنسان له صفحة أعمال:


 وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:

﴿ كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَٰبٌ مَّرۡقُومٌ (9) وَيۡلٌ يَوۡمَئِذٍ لِّلۡمُكَذِّبِينَ (10) ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعۡتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ (13) كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ (14) كَلَّآ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ لَّمَحۡجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمۡ لَصَالُواْ ٱلۡجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡأَبۡرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)﴾

[ سورة المطففين ]

 صار الكتاب هو صفحة أعمال الإنسان، وكل إنسان له صفحة أعمال، وفي التنظيمات الإدارية الحديثة كل موظَّف له إضبارة، كُتب الشكر في سجلِّه صورةٌ عنها، وكتب العقوبات في سجلِّه صورةٌ عنها، والتوبيخات والتحذيرات والإنذارات والمكافآت والعقوبات كلها هناك صور عنها.

صفحات هذا الكتاب مرقَّمة ومضبوطة لا تُنسَى منه صفحةٌ واحدة:


 إنسان عادي من الناس حينما نظَّم الأمور جعل لكل موظف سجلًّا يشهد على أعماله الطيّبة وأعماله السيِّئة، ففي ضوء الترفيعات أو البعثات أو المهمات يلقون نظرة على سجله. فإذا كان الإنسان نظَّم هذا التنظيم فليس عجباً أنّ رب العالمين جعل لكل إنسان كتاباً، وفي كتابه هذا أعماله كلُّها، صحيحها وفاسدها، الأعمال السامية والأعمال المنحطة، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، وما من حركةٍ ولا سَكنةٍ، ولا عملٍ صالح ولا عملٍ سيّئ، ولا مخالفةٍ ولا معصيةٍ، ولا صدقةٍ ولا زكاةٍ إلا في هذا الكتاب:

﴿ ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14)﴾

[  سورة الإسراء ]

 فإن طفحَ هذا الكتاب بالأعمال الصالحة يقود صاحبه إلى الجنة، وإن طفحَ هذا الكتاب بالأعمال السيِّئة يقود صاحبه إلى النار، فالآيات الأولى: ﴿كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ *وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سِجِّينٌ* كِتَٰبٌ مَّرۡقُومٌ﴾ أي صفحاته مرقَّمة، مضبوط، لا يُنسَى منه صفحةٌ واحدة، ولا تضاف صفحةٌ تزويراً، ولا تُنزَع منه صفحةٌ تستيراً، لا تزويراً ولا تستيراً: ﴿كِتَٰبٌ مَّرۡقُومٌ﴾ ومرقوم أيضاً أعماله كلُّها مصوَّرة، فإذا ارتكب الإنسان مخالفة، وقيل له: أنت خالفت، وهذه المخالفة بكتاب رسمي هذا خبر، أما إذا قدِّمت له صورةٌ وهو يخالف فالصورة أبلغ، ﴿كِتَٰبٌ مَّرۡقُومٌ﴾ مرقومٌ في صفحاته، ومرقومٌ في صوره.

من علامة المكذبين أنَّهم لا يعبؤون بآيات الله عزَّ وجل ولا بقوانينه:


 قال تعالى: ﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سِجِّينٌ*كِتَٰبٌ مَّرۡقُومٌ*وَيۡلٌ يَوۡمَئِذٍ لِّلۡمُكَذِّبِينَ*ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوۡمِ ٱلدِّينِ*وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعۡتَدٍ أَثِيمٍ﴾ هذا الترابط المستمر بين التكذيب بالدين والعمل السيِّئ:

﴿  أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)﴾

[  سورة الماعون ]

﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ(50)﴾

[  سورة القصص ]

﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِۦٓ إِلَّا كُلُّ مُعۡتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِ ءَايَٰتُنَا قَالَ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ﴾ أي أن من علامة المكذبين أنَّهم لا يعبؤون بآيات الله عزَّ وجل ولا بقوانينه، ولا بنُظُمه، ولا بآياته القرآنية، ولا بتشريعاته.

غير المؤمن محجوب عن رؤية الله عز وجل حجاب رؤيةٍ وحجاب إهانة:


 قال تعالى: ﴿قَالَ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ*كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾ كلُّ عملٍ سيِّئ يشكل غشاوةٌ تُلقَى على القلب، غشاوة فوق غشاوة، إلى أن يصبح الرَّان، أي غشاوةٌ سميكةٌ لا يمكن خرقها.
﴿كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ*كَلَّآ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ يَوۡمَئِذٍ لَّمَحۡجُوبُونَ﴾ هؤلاء محجوبون حجاب رؤيةٍ وحجاب إهانة، لذلك فإنّ المؤمن يرى الله عزَّ وجل رأيَ العين يوم القيامة، أما غير المؤمن فمحجوب عن رؤيته؛ حجاب رؤيةٍ وحجاب إهانة.
﴿كَلَّآ إِنَّهُمۡ عَن رَّبِّهِمۡ يَوۡمَئِذٍ لَّمَحۡجُوبُونَ*ثُمَّ إِنَّهُمۡ لَصَالُواْ ٱلۡجَحِيمِ*ثُمَّ يُقَالُ هَٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِۦ تُكَذِّبُونَ﴾ القرآن الكريم فيه توازن، أي أنه إذا بثَّ في نفوسنا الخوف والوجل والذعر في الوقت نفسه يطمئننا إلى أنَّ المستقيم المحسن المؤمن له عند الله مصيرٌ سعيد، فربنا عز وجل قال:

﴿ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى(14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى(15)﴾

[ سورة الليل ]

 هذه النار لا يصلاها الناس اعتباطاً، لا يصلاها إلا الأشقى، فهذا تركيب حصري قصري، الأشقياء وحدهم يصلون النار.

الإنسان إما أن يكون براً وإما أن يكون فاجراً شقياً:


 كذلك هنا ربنا عزَّ وجل قال: ﴿كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡأَبۡرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ فقد يكون مَحْضَرُ الجريمة مُودَع في القصر العدلي، وفي القصر العدلي زنزانة، وقد ينتقل منها إلى السجن، لكن في الجامعات سجل للطلاب الأوائل، فكتاب الأبرار، أيْ من مكانه تعرف مضمونه، مكانه في عليِّين، أي في الجنة، يُحفَظ كتاب الأبرار في عليين، فإذا كان الكتاب في الجنة فأين صاحبه؟ في الجنة قطعاً: ﴿كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡأَبۡرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ والنبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( الناس رجلان برٌ تقيٌ كريمٌ على الله، وفاجرٌ شقيٌ هيّنٌ على الله ))

[ صحيح الجامع ]

 فالإنسان إما أن يكون بَراً وإما أن يكون فاجراً شريراً شقياً، الأبرار جمع بَرّ، وهناك بِر، فهذه الكلمة مثلثة، ومعنى مثلثة أيْ أنّ الباء تكتب وتلفظ بالضم والفتح والكسر، البُر القمح، والبَر العمل الصالح وكذلك اليابسة، والبِر الإحسان:

﴿  إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)﴾

[  سورة الطور ]

 البِر الإحسان، بالبِرِّ يُستعبَد الحر، والبَر اليابسة، والبَر أيضاً الإنسان الطيِّب، والبُر القمح، والأبرار جمع بَر، أي الإنسان الطيِّب، الطاهر، النقي، المحسن، صاحب الوفاء، صاحب المروءة، صاحب الحلم، الذي يعفو، الذي يرحم، المنصف، المتواضع، ليس فيه كِبر، ليس لديه استعلاء، ليس عنده حقد، ولا حسد، هذا هو البَر، كتاب الأبرار أي سجل أعمالهم في الجنة منشور.

أبواب الأعمال الصالحة التي لا تحتاج إلى إنفاق واسعةٌ جداً لا تُحصى ولا تُعدّ:


 قال تعالى:

﴿ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَٰبٌ مَّرۡقُومٌ (20) يَشۡهَدُهُ ٱلۡمُقَرَّبُونَ (21)﴾

[ سورة المطففين ]

 كذلك هذا الكتاب مرقوم، صفحاته مرقَّمة، وصفحاته مصوَّرة، كل عمل صالح فيه صورته، أي كأنَّ هذا الكتاب ينطق بعمل الإنسان في الدنيا، في اليوم الفلاني وفي التاريخ الفلاني أغاث إنساناً، في اليوم الفلاني عاد مريضاً، في اليوم الفلاني دعا إلى الله، في اليوم الفلاني كان براً بوالدته، في اليوم الفلاني أنقذ غريقاً، في اليوم الفلاني دفع من ماله لبناء مسجد، فهذه الأعمال الطيبة من صلاة، من صوم، من حج، من زكاة، من حضور مجالس علم، من دعوة إلى الله، من ذكر لله، من معاونة للناس، من إنفاق أموال، من بناء مساجد، من بناء دُور للأيتام، من إصلاح بين زوجين، من إصلاح بين شريكين، فالأعمال الصالحة لا تُعدُّ ولا تحصى، واسعة جداً، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( إنَّكم لن تسَعوا النَّاس بأموالِكم ولكن ليسَعْهم منكم بسطُ الوجهِ. ))

[ مجمع الزوائد وهوضعيف ]

 أي أنَّ أبواب الأعمال الصالحة التي لا تحتاج إلى إنفاق واسعةٌ جداً لا تُحصى ولا تُعدّ: ﴿كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡأَبۡرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ*وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ*كِتَٰبٌ مَّرۡقُومٌ﴾ هذا الكتاب المرقوم: ﴿يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ صغائر الأعمال يكافئُ عليها، أما جلائل الأعمال فيكافئُ عليها وزيادة، فقد قال تعالى:

﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ(26)﴾

[  سورة يونس ]


لو قرأنا القرآن الكريم لشعرنا أن الله سبحانه وتعالى يطمئننا:


 قال تعالى:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾

[  سورة النور ]

 هذا وعد إلهي وقال تعالى:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)﴾

[ سورة النساء ]

﴿ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍۢ فَلَن يُكْفَرُوهُ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌۢ بِٱلْمُتَّقِينَ(115)﴾

[ سورة آل عمران ]

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾

[  سورة الأنفال ]

﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ(143)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًۢا بَعْدَ إِذْ هَدَىٰهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ(115)﴾

[ سورة التوبة ]

﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾

[  سورة النساء ]

﴿ فَلَا تَهِنُواْ وَتَدْعُوٓاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ (35)﴾

[ سورة محمد ]


إذا عرفتَ الله عزَّ وجلَّ فأنت موعود بالخير في الدنيا والآخرة:


 لو قرأت القرآن الكريم لشعرتَ أن الله سبحانه وتعالى يطمئننا، وقد قال الله تعالى:

﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾

[  سورة التوبة  ]

 لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا من خير، أي إذا عرفتَ الله عزَّ وجلَّ فأنت موعود بالخير في الدنيا والآخرة، اطمئن فلن تلد الأيام إلا الخيرات، أما أهل الدنيا فلن تلد الأيام لهم إلا المصائب، وكما قال عليه الصلاة والسلام:

((  بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعاً هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْراً مُنْسِياً أَوْ غِنًى مُطْغِياً أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً أَوْ هَرَماً مُفَنِّداً أَوْ مَوْتاً مُجْهِزاً أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُ. ))

[ الترمذي عن أبي هريرة  ]

 ليس هذا الكلام للمؤمنين، لا، هذا الكلام لمن أدار ظهره للدين، هذا الكلام لأهل الدنيا، لمن آمنوا بالدنيا، لمن جعلوها أكبر همهم ومبلغ علمهم، لمن تنافسوا عليها، لمن عصوا الله من أجلها، هذا الكلام لمن لم يبالِ بوعد الله ووعيده، قال عليه الصلاة والسلام: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعاً هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْراً مُنْسِياً أَوْ غِنًى مُطْغِياً أَوْ مَرَضاً مُفْسِداً أَوْ هَرَماً مُفَنِّداً أَوْ مَوْتاً مُجْهِزاً أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ).

كتاب الأبرار في أعلى درجات الجنة:


 إذاً ربنا عزَّ وجلَّ قال: ﴿كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡأَبۡرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ أي هذا الكتاب في أعلى درجات الجنة.
﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ*كِتَٰبٌ مَّرۡقُومٌ*يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ قال بعض المفسرين: المقربون هم الملائكة، وقال بعضهم: المؤمنون، أي هذا الكتاب خاضع للنشر، أي منشور، فإذا عمِل الإنسان عملاً طيباً، فهذا العمل الطيب يُنشَر في جريدة، أما الأعمال السيئة تبقى محفوظة في سجلات في المحاكم، وفي دوائر الشرطة، وفي بعض الأماكن الخاصة، أما الأعمال الطيبة فتُنشر، فهذا الكتاب: 

﴿ كَلَّآ إِنَّ كِتَٰبَ ٱلۡأَبۡرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ(18) وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَٰبٌ مَّرۡقُومٌ (20) يَشۡهَدُهُ ٱلۡمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)﴾

[ سورة المطففين ]

 المطلق على إطلاقه، الأبرار جمع بَرّ، وهو الإنسان الطاهر الطيب، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الناس رجلان برٌ تقيٌ كريمٌ على الله، وفاجرٌ شقيٌ هيّنٌ على الله) .

بمجرد أن نتوب توبةً نصوحاً فإننا ندخل في النعيم:


 قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ في نعيمٍ منذ أن عرفوا الله، يبدأ هذا النعيم منذ التوبة النصوح، وهذا الكلام موجَّهٌ لنا جميعاً، بمجرد أن تتوب توبةً نصوحاً فإنك تدخل في النعيم، نعيم القرب، نعيم الطمأنينة، نعيم الثقة بالله عزَّ وجلَّ، نعيم أنك من عباده المخلَصين، نعيم أنك بأعين الله عزَّ وجلَّ:

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ(48)﴾

[  سورة الطور ]


نعيم الحفظ الإلهي:


﴿ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ ۖ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(64)﴾

[  سورة يوسف ]

 نعيم أن الله يدافع عنك:

﴿  إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٖ كَفُورٍ(38)﴾

[   سورة الحج ]

 نعيم المودة مع الله عزَّ وجلَّ:

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَٰنُ وُدًّا(96)﴾

[ سورة مريم ]

 هذا هو النعيم، نعيم القرب، نعيم التجلي الإلهي، نعيم الثقة بالله.

الإنسان إذا عرف الله عزَّ وجلَّ يهون عليه كلُّ شيء ويحتقر كلُّ شيء سواه:


 إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتَّقِ الله، من هاب الله هابه كل شيء، من أحبنا أحببناه، ومن طلب منا أعطيناه، ومن اكتفى بنا عن ما لنا كنا له وما لنا.

أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا   فإنا منحنا بالرضى من أحبنـــا

ولذ بحمانا و احتمِ بجنابنــــــا   لنحميك مما فيه أشرار خلقنـــا

وعن ذكرنا لا يشغلنَّك شاغلٌ   وأخلص لنا تلقَ المسرة والهنـا

[ علي بن محمد بن وفا ]

 هذا النعيم، في قلب المؤمن من النعيم ما لو شُقَّ قلبه وعاين الناس النعيم الذي فيه لحسدوه جميعاً، وكما قال أبو يزيد البسطامي: "لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف" .
﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ حتى إن بعضهم يفسر قوله عليه الصلاة والسلام:

((  أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ وَسَعْدٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَعِيدٌ فِي الْجَنَّةِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ. ))

[ سنن الترمذي  ]

 أي الآن في الجنة قبل أن يموت، أي في سعادة وأي سعادة أعظم من أن ترى أنك قد اهتديت إلى الله، ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كلُّ شيء وأنا أحبُّ إليك من كل شيء.
أي إذا كان معك دفتر شيكات مفتوح ضع أي رقم ووقِّع، فإنه يُصرَف، فهل هذا مثل واحد معه قليل من النقود؟ هذا دفتر وقلم، فتضع رقماً بمئة مليون يُصرَف، ألف مليون يُصرَف، مئة ألف مليون يُصرَف، وبالعملة الصعبة أيضاً، والإنسان إذا عرف الله عزَّ وجلَّ يهون عليه كلُّ شيء ويحتقر كلُّ شيء سواه.

المؤمن يسعد بالله عزَّ وجلَّ واللهُ معه أينما كان:


 قال تعالى:

﴿  قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خَٰشِعُونَ(2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)﴾

[  سورة المؤمنون ]

 قال بعض المفسرين: اللغو: كلُّ ما سوى الله عزَّ وجلَّ، كلُّ ما سوى الله لغو، لأنه سوف يُلغى، البناء يلغى إما بالموت أو يوم القيامة يُلغى، الأبنية الشامخة متى تُلغى؟ إما بموت صاحبها أو بزلزال أو يوم القيامة، الشمس تُكوَّر، النجوم تُبعثَر، الجبال تُسيَّر:

﴿  كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(27)﴾

[ سورة الرحمن ]

إذاً: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ حتى لا يقع الإنسان في وهم، إذا كنت باراً فيجب أن تكون في نعيم، أنا أحياناً ألتقي مع أخ مؤمن يقول لي: إني مسرور جداً، والله كأنني أعيش في جنّة، هذا هو الإيمان، أما خلاف ذلك لست مؤمناً، من علامة إيمانك أنك سعيد في كلِّ الظروف، وأنت وسط الأزمة، وأزمات العصر الحديث كثيرة جداً، أزمات السكن، وأزمات دَخْل، أزمات أعمال، أزمات مواد أولية، وأزمات كثيرة جداً، فإذا كنت مؤمناً فأنت سعيد في كلِّ الظروف، لأن السعادة لا تأتيك من الخارج، بل تأتي من الداخل.
 أهل الدنيا يسعدون بالمال، يسعدون بوسائل الرفاه، يسعدون بالبيوت، يسعدون بالدخل الكبير، يسعدون بالطعام الجيد، يسعدون باللباس الأنيق، يسعدون بالمكانة الاجتماعية، لكن المؤمن يسعد بالله عزَّ وجلَّ، واللهُ معه أينما كان.

حسن الظن بالله ثمن الجنة:


 قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ 

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[  سورة النحل ]

فلو شاهدت عيناك من حُـْسنِنــا    الذي رأَوه لما وليتَ عنا لـغيرنـــا

ولو سمعت أذناك حسن خطابنا    خلعت عنك ثياب العجب وجئتنـــا

ولو ذقت من طعم المحبــة ذرةً    عذرت الذي أضحى قتيلاً بـحبنـــا

ولو نسمَتْ من قربنا لك نسمــةٌ    لَمتَّ غريبـــــاً واشتيقــــاً لقربنـــا

ولو لاح من أنوارنــــا لك لائـح    تركت جميع الكائنـــــات وجئتنــا

فما حبنـــا سهل وكل من ادّعى    سهولته قلنــــا لـــــه قد جهلتنـــــا

[ علي بن محمد بن وفا ]

 قال ابن الفارض:

لو قال تيهاً قفْ على جمر الغضى    لوقفتُ متمهــــلاً ولـــــم أتوقــــف

أو من كان مــــن يرضى بخـــدي    موطئاً لوضعته أرضاً ولم أستنكفِ

[ ابن الفارض ]

 (لو قال تيهاً) أي محبوبه وهو الله عزَّ وجلّ، (لو قال تيهاً قف على جمر الغضى) ، وهو أشد أنواع الجمر حرارةً، إنّ الإسلام كله محبة، الإسلام كله مواجد وأحوال، الإسلام له جسد وله روح، الجسد الصوم والصلاة والحج والزكاة، وهذه الأوامر والنواهي هذا هو الجسد، إن للإسلام مناراً وضياءً، المنار البناء، أما الضياء فهو النور المنبعث من هذا المنار، فالأحوال القلبية؛ الشعور بالقرب من الله عزَّ وجلَّ، والشعور بالطمأنينة، بالرضى، بالراحة، الثقة بالله عزَّ وجلَّ، المؤمن واثق من الله عزَّ وجلَّ لا يخيب ظنه بالله عزَّ وجلَّ، حسن الظن بالله ثمن الجنة.

ربنا سبحانه وتعالى لحكمةٍ بالغة جعل صفحةَ الوجه صفحةً للنفس:


 قال عليه الصلاة والسلام:

((  أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي ملأ ذَكَرْتُهُ فِي ملأ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. ))

[ صحيح البخاري  ]

 هذه الأحوال إذا وجدت سعد الإنسان، أما إذا لم توجد، فالإسلام يصبح شيئاً عادياً، يصلي بملل، ويؤدي الزكاة بثقل، ويقوم بالعبادات دون شوق وحرارة، لذلك تجد بعض الناس يقول لك: إن هذا الشخص تديّن، وبعد فترة انقلب على عقبيه؛ فلِتَ، طبعاً لأنه لم يتصل بالله عزَّ وجلَّ الصلة الحقيقية، فإنه تدين تديُّناً شكلياً، وهذا الشيء الشكلي مملٌّ، وبعدئذٍ ينتهي:

﴿ إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(22) عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعۡرِفُ فِي وُجُوهِهِمۡ نَضۡرَةَ ٱلنَّعِيمِ (24)﴾

[ سورة المطففين ]

 هناك وجه شقي وهناك وجه مُنعَّم، سبحان الله سيدنا عثمان بن عفان كان على المنبر يخطب، فدخل رجل فقال: "أيدخل علينا رجلٌ وأثر الزنى بين عينيه؟ فقال له الصحابة: أوحيٌ بعد رسول الله؟ قال: لا، ولكنها فراسةٌ صادقة"، إنّ عمل الإنسان يظهر على وجهه، هناك وجه مقبل، وهناك وجه مضيء كمصباح متألق، وكذلك هناك وجه ضوءه خفيف، وهناك أيضاً وجه ضوءه قد انطفأ، وهو وجه فيه شقاء، فيه حقد، كل صفات النفس منطبعةٌ على صفحة الوجه، وربنا سبحانه وتعالى لحكمةٍ بالغة جعل صفحةَ الوجه صفحةً للنفس: ﴿تَعۡرِفُ فِي وُجُوهِهِمۡ﴾ فأيُّ وجه إذا أقبل على الله عزَّ وجلَّ تألَّق النور فيه، فسيدنا بلال له وجهٌ يأخذ بالألباب، نور، أي وجهٍ إذا أقبل على الله عزَّ وجلَّ تألق بنور الله.

طعام أهل الجنة رحيق مختوم أما أهل النار فشرابهم وطعامهم من غسلين:


 قال تعالى: ﴿تَعۡرِفُ فِي وُجُوهِهِمۡ نَضۡرَةَ ٱلنَّعِيمِ﴾ الآن بالمعنى المادي في الدنيا؛ إذا رأيتَ شخصاً يعتني كثيراً بأكله وصحته، واستيقظ من نومه بعد نوم عميق، ثم أكل إلى أن شبع، وترفَّه في الحمامات تجد وجهه مشرقاً، وكأن الدماء تجري في وجهه، أما إذا كان الواحد متعَباً مهموماً تجد حول عينيه دائرة سوداء، وغضوناً واصفراراً في وجهه، هذا في الدنيا فكيف في الآخرة؟!
﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ*تَعۡرِفُ فِي وُجُوهِهِمۡ نَضۡرَةَ ٱلنَّعِيمِ﴾ النعيم له نضرة.

﴿ يُسۡقَوۡنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخۡتُومٍ (25)﴾

[ سورة المطففين ]

 قال العلماء: الرحيق شرابٌ نفيس، أما مختوم فله معنيان؛ أول معنى: أن هذا الشراب صُنِع خصيصى لهم، وفي زماننا إذا كانت قارورات الشراب غالية جداً فهي مختومة، وتفتحها بمفتاح، لأنها خاصةٌ بك، لا أن تقول للبائع: املأها لنا، فالشراب المختوم أغلى، فهذا لم يقربه أحد، وصُنِع خصيصى لك، ولم تقترب منه يدٌ، لأنه مختوم، وبعضهم قال: كلمة مختوم تعني له عقابيل، أي ينتهي برائحة طيبة، فإذا شرب الإنسان كأساً من الماء فيه ماء الزهر، في أثناء الشرب لا يشعر برائحتها، ولكن حينما ينتهي من الشرب خلال ثانية تفوح عليه رائحة ماء الزهر، فقال العلماء: هذا الشراب النفيس ختامه مسك، إما أنه مختوم بمادةٍ هي المسك، والختم مسك، أو أنه إذا شربت منه تفوح عليك رائحة المسك، وهذا هو الشراب النفيس، أما أهل النار فشرابهم وطعامهم من غسلين، أي شيء لا يحتمل، قال تعالى:

﴿ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ(6)﴾

[  سورة الغاشية ]


التنافس على الآخرة يسعد الناس و التنافس على الدنيا يشقيهم:


 قال تعالى:

﴿  يُسۡقَوۡنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخۡتُومٍ (25)خِتَٰمُهُۥ مِسۡكٌۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ (26)﴾

[ سورة المطففين ]

 فلو أن الناس تنافسوا في هذا الطريق لسعدوا جميعاً، وإذا تنافسوا على الدنيا لشَقوا جميعاً، ويمكن أنْ أقول لك بكلِّ بساطة: كل المآسي البشرية من التنافس على الدنيا؛ على مستوى الأمم، وعلى مستوى الشعوب، التنافس على النفط، التنافس على مواطن النفوذ، التنافس على المناجم، وعلى الثروات الباطنية، والتنافس على المغانم، فما يشهده العالم من حروب في العصور الحديثة كله بسبب التنافس على حطام الدنيا، ، الدنيا دار من لا دار له ولها يسعى من لا عقل له، لو تصورت تصوراً تنافس الناس في طريق الإيمان لرأيتَه شيئاً لا يوصف، أي كل إنسان يريد أن يخدم أخاه ويؤثره في الدنيا، إنسان أخذ محلاً تجارياً واسعاً جيداً، وله أخ ليس له محل، فيقول له: تعال وخذ نصفه، تكون قد حُلَّت المشكلة، عندك بيت زائد عن حاجتك أعطه لمَن لا بيت له، فلو أن الناس تنافسوا في الآخرة لسعدوا جميعاً لكن تنافسوا على الدنيا فشقَوا جميعاً، وربنا عزَّ وجلَّ يقول: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ﴾ ففي هذه الموضوعات تنافَسوا، وفي هذا المجال تنافسوا، وتنافسوا في معرفتكم بي، افتخروا بمعرفة الله، بقراءة القرآن، بفهم كتاب الله، بالعمل الطيب.

من أجل سنوات معدودة نضيِّع آخرة أبدية لا تنتهي:


 يقولون: إنّ سيدنا عمر كان يزور امرأة أرملة، فيقدم لها الطعامَ والشرابَ، يطرق بابها فتقول له: والله لقد أتى شخص قبلك، ثم يبكر ساعة فيأتي رجل قبله، فذات مرة صلى الصبح وذهب فرأى سيدنا الصديق قد سبقه.
 فأنت تصور خمسة أشخاص عاشوا في بيت مؤمنين كيف يعيشون؟ بتنافس، إذا كانت التفاحة كبيرة آثر بها غيره، وكذا المكان الجيد بالغرفة والثاني أيضاً يقابله بمؤاثرة، فإذا كانت حياتنا مجموعة مؤاثرات ومجموعة عطاءات فالحياة تغدو سعيدة جداً.
﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ﴾ ما الذي يحصل الآن؟ تنافسٌ على جمع الدرهم والدينار، من أجل أن يجمع ثروةً طائلة يبيع دينه كلّه، يضع القيم كلها تحت قدمه، يضع المبادئ السامية تحت قدمه من أجل لُعاعة من الدنيا، كما وصفها النبي عليه الصلاة والسلام لا تدوم، فأنا أسمع قصصاً غريبة، فهناك شخص أجرى تحسينات في بيته إلى درجة قصوى لم يترك شيئاً إلا وأدخله لتحسين بيته، وهو في بحبوحة، وبعد ما انتهى بشهر جاءته المنية، فلو أنَّ الدنيا جاءت بالحلال لكانت شيئاً حسناً، لكن أنْ تعصي الله من أجلها، وهي غير باقية فهذه هي الخسارة الكبيرة، تعصي الله من أجلها فتبيع دينك، وتبيع الآخرة بأكملها من أجل سنوات معدودة!
من يستطيع أن يركِّز وضعه وهو قبل الأربعين سنة؟ فالإنسان حتى يستطيع أنْ يأخذ الشهادة، وحتى يشتري بيتاً تخرج عيونه بالطول والعرض، وما أكثر الخطأ في أساساته، إلى أنْ يستقر، أو إلى أنْ يشتري عيادة، أو إلى أنْ يشتري معدات طب الأسنان لعيادته فيصبح في سنّ الأربعين، وكما قال عليه الصلاة والسلام:

(( أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين. ))

[ سنن الترمذي ]

 وذلك قبل هذه الأزمات القلبية المعاصرة، أما الآن فأصبح بالأربعينات معترك المنايا، وهو في عمر الثانية والأربعين توفى، وفي الثانية والثلاثين جاءته الجلطة، ففي الثانية والخمسين، أو الرابعة والخمسين، أو التاسعة والأربعين، ونحو ذلك، فتابعوا الأخبار أزمات كبيرة جداً، فمن أجل سنوات معدودة نضيِّع آخرة أبدية لا تنتهي فوالله إن هذه لخسارة كبيرة.

التسنيم إما أن تكون شراباً خالصاً للمقربين وإما أن تكون شراباً ممزوجاً للأبرار:


 قال تعالى:

﴿ يُسۡقَوۡنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخۡتُومٍ (25)خِتَٰمُهُۥ مِسۡكٌۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُۥ مِن تَسۡنِيمٍ (27)﴾

[ سورة المطففين ]

 هذا الشراب ممزوج بشراب آخر من تسنيم، والتسنيم كما وصفها الله عزَّ وجل:

﴿ عَيۡنًا يَشۡرَبُ بِهَا ٱلۡمُقَرَّبُونَ (28)﴾

[ سورة المطففين ]

 العلماء استنبطوا أنَّ التسنيم نبعٌ يشرب منه المقرَّبون، يشربونها صِرفاً، لكن هذا الشراب؛ الرحيق المختوم يشرب منه الأبرار ممزوجاً مع التسنيم، كما لو أعطينا شخصاً قطعة مُذهَبة، وشخصٌ آخر أُعطِي قطعة من الذهب الخالص من عيار أربعة وعشرين، فالأولى مُذهَبة مطلية بالذهب، أما تلك فمن الذهب الخالص، فمن هنا يُستنبط أن التسنيم شرابٌ نفيسٌ، نفيس للمقربين، وبعضهم أيضاً استنبط أنَّك في الجنة إما أن تسعد بتجليات الله عزَّ وجل، وإما أن تسعد بما فيها من طعامٍ وشرابٍ وجنَّاتٍ وثمارٍ وحورٍ عين.. إلى آخره، فإما أن تسعد به، وإما أن تسعد بجنته، وإما أن تسعد بهما معاً، فهؤلاء الأبرار يسعدون برحيقٍ مختومٍ ممزوجٍ بتسنيم.
 التسنيـم من سَنَمَ، أي المكان العالي، فبعضهم قد أعطاها تفسيراً مادياً، أي المياه المُنصبّة من مكانٍ مرتفع كالشلال، وبعضهم وجّهها توجيهاً آخر، أي النعيم بذات الله عزَّ وجلَّ، وهو أرقى درجات القرب.
والأبرار ينعمون بما في الجنة من حورٍ عين، وما فيها من فواكه مما تلذُّ به الأنفس والأعين، وفوق ذلك فهي ممزوجة بتسنيم، فالتسنيم إما أن تكون شراباً خالصاً للمقربين، وإما أن تكون شراباً ممزوجاً للأبرار.

لا يحيط بالله إلا الله عزَّ وجل:


 بالمناسبة، كل ما ذُكر عن الآخرة لا ينبغي لنا أن نزيد عليه شيئاً، لأن الآخرة غيبٌ لم يرها أحدٌ، ولا نعرف عنها إلا في حدود ما ذكر الله عزَّ وجل عنها، فالبحث في كيفيَّتها وفي كُنهها وفي حقيقتها بحثٌ غير مُجدٍ، فإذا وُعِد الطالب المتفوِّق بقصر فخم جداً، وهذا الوعد صادر من أعلى جهة في الدولة، فالطالب بدلاً من أن يضيّع الوقت في السؤال والبحث عن ماهية القصر، وما به من الغرف وعددها، وكم طابقاً، وبأي منطقة يقع؟ وهل له حديقة أو مسبح؟ فبدلاً من أن تفكر في مواصفات القصر اجتهد حتى تنال القصر، فأيُّهما أبلغ؟ أن تفكر في مواصفاته أم أن تَجِتهدَ حتى تناله؟
لذلك ليس للإنسان أي حق في أن يفصِّل، أو يضيف إضافات على ما جاء في كتاب الله، ونحن فيما يتعلَّق بالجنة نبقى في حدود ما ذكر الله عزَّ وجل فقط، لأن الشيء المجدي أن تكون أهلاً للجنة، أن تجتهد في الدنيا حتى تدخل الجنة، هذا هو الشيء المجدي، أمَّا أن تفكِّر في شيء مُغيّب عنك فهذا عبثٌ، فالآخرة لا نعرف عنها إلا ما ذكره الله عزَّ وجلَّ، لكن الله عزَّ وجلَّ تعرف عنه كل شيء من خلال الكون، فيمكنك أن تعرف عن الله الشيء الكثير الكَثير ولكن لا يحيط بالله إلا الله عزَّ وجل، لا يعرف الله حقَّ المعرفة إلا الله:

﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍۢ مِّنْ عِلْمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ ۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ(255)﴾

[  سورة البقرة ]

 لكن من خلال الكون قد تعرف عنه الكثير الكَثير إذاً: ﴿يُسۡقَوۡنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخۡتُومٍ*خِتَٰمُهُۥ مِسۡكٌۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ﴾ وهذا الرحيق المختوم من صفاته أيضاً أنَّه ﴿وَمِزَاجُهُۥ مِن تَسۡنِيمٍ﴾ أي أن هذه السعادة في الجنة، وهذا التمتُّع بما في الجنة من عطاءات ممزوج بالتجلي الإلهي، كما لو دُعِيتَ إلى حفلة أو إلى وليمةٍ فاخرة، وصاحب البيت أجلسك إلى جنبه ورحَّب بك، ومن حين لآخر يلتفت نحوك قائلاً: أهلاً وسهلاً، شرَّفتنا يا أخي، والله البيت استنار بقدومك، فهو يأكل طعاماً طيباً كثيراً، وبالإضافة إلى الطعام النفيس هذا الإكرام الترحيبي، فأحياناً الإنسان يأكل وينصرف فهذا إطعام، أما الإطعام مع الترحيب ففيه إكرام.

الأبرار يتنعمون في الجنة بتجليات الله عزَّ وجل وهذا هو ملخص الآيات:


 إذاً فربنا عزَّ وجل في الآخرة بالإضافة لِمَا في الجنة من فواكه وثمار وجنَّات وأنهار، وأنهار من عسل وأنهار من لبن، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، بالإضافة إلى كل ذلك هناك تجليَّات الله عزَّ وجل.
المقربون مشغولون بالله عمن سواه، الأبرار يتنعمون في الجنة وبتجليات الله عزَّ وجل، وهذا هو ملخص الآيات، أي ﴿وَمِزَاجُهُۥ مِن تَسۡنِيمٍ﴾ هذه العطاءات ممزوجة بشراب من نوع راقٍ جداً وعالٍ، وقد يكون تجليات الله عزَّ وجل، أما المقربون فهم يشربون من هذه العين صِرفاً:

﴿ عَيۡنًا يَشۡرَبُ بِهَا ٱلۡمُقَرَّبُونَ (28)إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضۡحَكُونَ(29)﴾

[ سورة المطففين ]

 سبحان الله! قد ضربت يوماً مثلاً بسيارات النقل العام قديماً، الذاهبة لحي المهاجرين، فكانت تقف في ساحة المرجة، وتقف باتجاه الشرق، ففي أيام الصيف الحارة يصعد الناس إلى السيارة ليركبوا، فتجد على اليمين شمساً، وعلى اليسار ظلاً، إذا أعمل الراكبُ فكرَه قعد في جهة الشمس، وإذا عطل فكره دون إعمال قعد في جهة الظل، وهذه السيارة خلال دقائق ستدور دورة حول ساحة المرجة فستنعكس الآية، فمن قعد في هذا الظل تنعَّم فيه دقيقتين، وظل لمدة ثلث ساعة حتى يصل إلى الموقف الأخير تلفحه الشمس، في شهر آب الحار، ومن قعد متعرضاً للشمس دقيقتين، إلى أن دارت السيارة حول الساحة تنعّم بالظل إلى آخر الخط. فإذا صعد شخص إلى السيارة، وجلس في الظل، ورأى من يجلس في الشمس، فقد يضحك عليه، ويتهمه بالجنون، ويقول له: لِمَ لم تقعد هنا؟ ولكن بعد أن تدور السيارة دورة واحدة تنعكس الآية، وتظهر له الحقيقة.

المؤمن يضحي بسمعته أمام الناس حفاظاً على سمعته أمام الله عزّ وجل:


 هذا الذي يحدث، فالكفار الآن يضحكون من المؤمنين، ويستهزئون بهم، ويسخرون منهم، فالمؤمن لا يحضر الحفلات المختلطة، ولا يذهب إلى الأماكن الجميلة الموبوءة، ولا يحب الاختلاط، ويعصِّب سريعاً، ويقولون عنه: إنه جلف، فلا يصافح ولا يسلِّم على النساء، ولا يروي نكته لفتاة، مثلاً، ويضحكون لتصرفاته، فقال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضۡحَكُونَ﴾ يقولون: هذا لا يفهم شيئاً، فمن البيت إلى الدكان، ومن الدكان إلى البيت، ولا يقول إلا الله، ويقرأ القرآن، ويقولون له: روِّحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلَّت عميت، فهذا يحفظونه، فأهل الدنيا كلَّهم يحفظون هذا القول، ويأخذونه على غير ما حُمِل عليه، روِّحوا القلوب باللهو البريء، أي إذا مزح الإنسان مع أهله، وكان لطيفاً وذكرَ طرفة يلطف مجلس أهله فلا مانع، فإن القلوب إذا كلَّت عميت، لا أن يبل قلبه بمعصية، أو بمسلسل ساقط، أو يبل قلبه بحفلة مختلطة، فبهذا لم يبل قلبه بل نَجَّس قلبه، فبدلاً من أن يبلَّ قلبه نجسه، فربنا عزَّ وجل قال:

﴿  إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضۡحَكُونَ(29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمۡ يَتَغَامَزُونَ (30)﴾

[ سورة المطففين ]

 هذا صاحبنا الذي حدثناك عنه هل رأيته؟ يقول هذا سخريةً وغمزاً ولمزاً، أليس هذا شخص مؤمن!

﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمۡ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا ٱنقَلَبُوٓاْ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31)﴾

[ سورة المطففين ]

 أحياناً يجلس الرجل مع أهله، ويقول: والله اليوم التقينا مع شخص، وعند دخول فتاة لم يصافحها، وضحك الناس عليه، فهو يرى هذا الشيء مضحكاً، وقصة تُروى.
 إذا كان أحد المؤمنين قد خشي الله عزَّ وجل، أو لم يقترف معصية، أو خجل، يقولون: لماذا وضع نفسه في موقف حرج؟ لأن رضى الله غالٍ عليه، ولم يرد أن يخرِّب ويفسد علاقته مع الله عزَّ وجل، فضحى بسمعته أمام الناس حِفاظاً على سمعته عند الله عزّ وجل فقد قال: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمۡ يَتَغَامَزُونَ*وَإِذَا ٱنقَلَبُوٓاْ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ﴾

يوم القيامة تدور الدائرة وتنعكس الآية فمن كان يظن أنه في سعادة يصبح في شقاء أبدي:


﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوٓاْ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ لَضَآلُّونَ(32)﴾

[ سورة المطففين ]

أي أن الكافر لا يكفيه أنه كافر بل يريد حمل الناس كلهم على كفره، والمنحرف يريد أن يجعل كل الناس منحرفين، فإذا التقى أحدهم بشخص مستقيم ينكر عليه استقامته، ويقول له: أنت تشدِّدها كثيراً، فليس الأمر لهذه الدرجة، يجب أن تكون وسطاً، كلمات مبهمة ولكن لها معانٍ خطيرة، وقد قال ربنا عزَّ وجل :

﴿ وَمَآ أُرۡسِلُواْ عَلَيۡهِمۡ حَٰفِظِينَ (33)﴾

[ سورة المطففين ]

 هؤلاء ليسوا أوصياء عليهم، كل إنسان ينصِّب نفسه وصياً على الناس يكون أحمق، من أنت؟ له رب، له رب يُثِيبه على عمله، ويقدِّر الليل والنهار، فربنا عزَّ وجل قال: ﴿وَمَآ أُرۡسِلُواْ عَلَيۡهِمۡ حَٰفِظِينَ﴾ فهؤلاء الذين ينصِّبون أنفسهم أوصياء على الناس وينتقدونهم على استقامتهم وعلى تمسّكهم بالدين، وعلى وَرعهم، وقد قيل: "ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط" ركعتان، إذاً:

﴿  وَمَآ أُرۡسِلُواْ عَلَيۡهِمۡ حَٰفِظِينَ(33) فَٱلۡيَوۡمَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ ٱلۡكُفَّارِ يَضۡحَكُونَ (34)﴾

[ سورة المطففين ]

 فقد دارت الدائرة، دارت دورة فانعكست الآية، فمن كان يظن نفسه في سعادة فقد أصبح في شقاء أبدي، والذي تحمَّل الدنيا قليلاً جاءت الجنة فسعد بالله سعادةً أبدية.

الأمور بنتائجها :


 قال تعالى: ﴿فَٱلۡيَوۡمَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ ٱلۡكُفَّارِ يَضۡحَكُونَ﴾ طبعاً ليس ضحك الشماتة، ولكنه ضَحِك أنك حينما كنتُ أصلي، وحينما كنتَ تراني أخاف الله عزَّ وجل، وأحرص على طاعته، وحينما كنت أجلس مجالس العلم كنتَ أنت تستصعب القعود، وتقول لنفسك: لمَ لا تقعد في محل وثير وأرائك لترتاح، وتسهر وتمزح، لكن المؤمن يؤثر مجلس العلم، جالساً على ركبتيه، ولا يجد أرائك مريحة، ويقعد ساعة من الزمن يستمع إلى الحق، وغيره مضطجعٌ على أريكة وثيرة يشاهد مسلسلاً تلفزيونياً، مسروراً، ويتناول الشاي والقهوة، ويحضرون له الموجودات في الثلاجة والبراد من الفواكه والتفاح، بينما الآخر في المسجد، فشتَّان بين الاثنين، هذا يمهِّد لنفسه في الآخرة، هذا يُسعدها، وقد قيل: "ألا يا رُبَّ نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا جائعةٍ عاريةٍ يوم القيامة، ألا يا رُبَّ نفسٍ جائعةٍ عاريةٍ في الدنيا طاعمةٍ ناعمةٍ يوم القيامة، ألا يا رُبَّ مكرمٍ لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رُبَّ مهينٍ لنفسه وهو لها مُكرم"
 فالأمور بنتائجها، فإذا دخل إنسان إلى الجامعة يجد المقاعد عرضها أربعون سنتيمتراً فقط، ومن الخشب، وظهرها يتخذ زاوية قائمة دون أي تجويف، وأغلب الظن أنه يجد برداً في الشتاء، وحراً في الصيف، وكنا ندرس في الجامعة اليوم الدراسي اثنتا عشرة ساعة في اليوم الواحد، والمحاضرات متلاحقة، فهذا الضغط الدراسي يصيب الإنسان بالملل، وإذا درس طالب بالجامعة خمس أو ست سنوات، وحصل بعد ذلك على الشهادة العليا، وتخصص ثم رجع إلى بلده، فإنه يقعد خلف مكتبه إن كان طبيباً، ويتقاضى من كل مريض عطاءً ينسيه أتعاب أيام دراسته، فيحصل في اليوم على أكثر من خمسة آلاف أو ستة آلاف ليرة، وهذا دخل وفير يرضيه.

إذا تعب الإنسان في الدنيا وبذل جهداً كبيراً سعد في الآخرة إلى أبد الآبدين:


 فبالطبع هو قد درس اثنتي عشرة سنة، وتحمَّل المشاق، فأين كنت أنت تجلس حينها؟ أما أماكن اللهو فمريحة جداً والكرسي فيها وثير ومريح، وفي هذه الأماكن ترفيه كبير، كذلك الدنيا والآخرة، فإذا تعب الإنسان في الدنيا هكذا، وبذل جهداً كبيراً يسعد في الآخرة إلى أبد الآبدين، أما إذا آثر الرفاه في الدنيا:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)﴾

[  سورة الليل ]

﴿  وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41)﴾

[ سورة النازعات ]

﴿  فَٱلۡيَوۡمَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ ٱلۡكُفَّارِ يَضۡحَكُونَ(34) عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلۡ ثُوِّبَ ٱلۡكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ(36)﴾

[ سورة المطففين ]

 إنه سؤال، لكنَّه يبدو سؤالاً محرجاً: يا أيها الذين كفروا هل كنتم رابحين؟ لا واللِه، هل كنتم فائزين؟ هل كنتم أذكياء؟ لا واللهِ، لقد كانوا حمقى، فبعض الناس ذكاؤهم جزئي، فيمكن أن تجد إنساناً  في اختصاصه ذكي ، ولكنه في الذكاء الشمولي كان أحمق.
 إذا اعتبرنا أنّ الذكاء نوعان؛ ذكاء جزئي، فكل واحد في عمله وبخبراته واختصاصه وشهاداته ومهنته ذكي وفذّ وخبير، فهذا ذكاء جزئي، ليس له علاقة، أما الذكاء الشمولي فأن تكون الدنيا والآخرة أمامك هكذا مبسوطتان، فمن آثر دنياه على آخرته كان غبياً بمقياس الذكاء.

﴿ هَلۡ ثُوِّبَ ٱلۡكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ(36)﴾

[ سورة المطففين ]

 الجواب: نعم، فكل إنسان دفع ثمن عمله غالياً.

مخافة الله والاستقامة على أمره هذا هو الدين كله من دون تعقيد:


 طبعاً هذه السور جعلها الله عزَّ وجل قصيرة، لأنَّها ترسِّخ قواعد الإيمان، ففي النهاية العلوم الدينية كثيرة جداً، لكن كل هذه العلوم إن لم تُبْنَ على معرفة الله أولاً، وعلى الاستقامة على أمر الله ثانياً، وعلى العمل الصالح ثالثاً فإنها لا تُجدي، وأساس الدين هذه الطهارة النفسية، وهذا العمل الطيِّب.
فالإنسان في الدنيا عندما يكون حريصاً على أشياء ثانوية، ويهمل الأشياء الأساسية فهذا غير رابح، ولو حصَّل من العلوم الفرعية الكثيرة، لكن لم يحصِّل تطهير النفس وتزكيتها، فالخلاصة خسارة، أما الإنسان عندما يعرف جوهر الدين وهو معرفة الله أولاً، والاستقامة على أمره ثانياً، فمهما حصَّل مما تبقى عليه فهذا جيد، لأنه حصَّل الجوهر.
 سيدنا عبد الله بن عمر عندما سأل بدوياً، وقال له: بعني هذه الشاة، فقال: ليست لي، فقال له: قل لصاحبها ماتت، أو أكلها الذئب، وخذ ثمنها، فقال: والله إنني لفي أشدِّ الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت له: ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني فإني عنده صادقٌ أمين، ولكن أين الله؟
 هذا البدوي لا يعرف شيئاً من تفريعات الدين، لكن يعرف مخافة الله، والاستقامة على أمره، هذا هو الدين كله من دون تعقيد، فإذا قلت: أين الله في كل أعمالك فأنت ديِّن، وإذا كنت متجاهلاً لله عزَّ وجل في علاقاتك التجارية؛ في بيعك وشرائك، لكنك تصلي الصلاة بأوقاتها، والعبادات تامة، وهناك مخالفات، وأكل مال حرام، وهناك معاصٍ فأنت ما عرفت من الدين شيئاً، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( كفى بالمرء علماً أن يخشى الله.  ))

[ ضعيف الجامع ]

 يكفيك علماً أن تخشى الله، والدين منابعه صافية جداً، انظر إلى المياه؛ مياه بردى؛ ماء فرات منير، متلألئ، صافٍ، وانظر إلى المصب، بقدر ما يأتي من مياه إلى النبع، روافد من مياه آسنة، أصبح في الدين خرافات وضلالات وانحرافات ومبالغات كالنهر الآسن. فإذا كنتَ تريد الدين الصحيح فعليك بينابيعه الأولى، وارجع إلى الينابيع، وأحد أكبر هذه الينابيع كتاب الله عزَّ وجلَّ، ولكن هناك قصص وأضاليل وخرافات، ما أنزل الله بها من سلطان.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور