الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا علماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، و أرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
بادئ ذي بدء، أشكر لكم دعوتكم الكريمة التي إن دلَّت على شيءٍ فعلى حسن الظن بي، وأرجو الله أن أكون عند حسن ظنكم، إن وجدتم في كلمتي ما كنتم تتوقعون، فالفضل لله وحده، وإلا فحسبكم الله ونعم الوكيل، أشكر لكم دعوتكم الكريمة التي إن دلَّت على شيء فعلى حسن الظن بي وأرجو الله مرة ثانية أن أكون عند حسن ظنكم.
سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: " تعلَّموا العِلم فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قُربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سُبل أهل الجنَّة، وهو الأُنس في الوحشة، والصاحب في الغُربة، والمحدِّث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزَينُ عند الأخلاء" .
سيدنا معاذ بن جبل كان حزب النبي الكريم، والله جلَّ جلاله في أول سورةٍ نزلت من القرآن الكريم، وفي أول كلمةٍ فيها، كلمة:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7)﴾
القراءة الأولى: قراءة بحثٍ وإيمان:
وقد أشار الله جلَّ جلاله، أنَّ العِلم بمفتاحه وهو فِعل اقرأ، وفي اللغة العربية إنَّ الفِعل إذا حذف مفعوله أُطلق معناه، فلنقرأ في كتاب الله جلَّ جلاله، أو في بيان المعصوم محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في كتاب الكون، فالكون قرآنٌ صامت، والقرآن كونٌ ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي، لكن الله جلَّ جلاله قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فالأصل في القراءة الأولى أن تكون قراءة بحثٍ وإيمان، تنتهي يقيناً إلى معرفة الله الواحد الديَّان، موجوداً وواحداً وكاملاً وخالقاً ومربيّاً ومسيِّراً، هذه القراءة مقدورٌ عليها بدليل أنها تنطلق من أقرب شيءٍ إلى الإنسان، من نفسه التي بين جنبيه، قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) .
القراءة الثانية: قراءة شُكرٍ وعرفان:
القراءة الأولى قراءة بحثٍ وإيمان، لكن القراءة الثانية قراءة شُكرٍ وعرفان، أساسها شُكر المُنعم، وهو الله جلَّ جلاله على نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) والقراءة الثانية، قراءة الشُكر والعرفان، الأولى البحث والإيمان، الثانية شُكر وعرفان، بعد قراءة البحث والإيمان، لقد سخَّر الله الكون لهذا الإنسان، تسخير تعريفٍ وتكريم، أمّا تسخير التعريف، فكل ما في السماوات والأرض ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، ويشفُّ عن أسمائه الحسنى، وصفاته الفُضلى، قال تعالى:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾
وأمّا تسخير التكريم، ففي قوله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾
واجب الإنسان تجاه تسخير التعريف أن يؤمن، واجب الإنسان تجاه تسخير التكريم أن يشكر، فالإنسان إذا آمن وشكر، فقد حقق الغاية من وجوده، لذلك يتوقف من الله تعالى التأديب الإلهي والمعالجة الربانية، يقول الله عزَّ وجل:
﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) فالتعليم بالقلم هو اللغة التي امتنَّ الله جلَّ جلاله على الإنسان بها، حينما قال:
﴿ الرَّحْمَٰنُ (1( عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾
البيان الشفهي، يُعبِّر به الإنسان عن أفكاره، وعن مشاعره، ويتعرَّف إلى أفكار الآخرين ومشاعرهم، فيتعلم بالبيان ويُعلِّم، هذه أول طريقة.
أمّا البيان الكتابي: تنتقل المعارف من إنسانٍ لآخر، من دون اتصال، من جيلٍ إلى جيل، من دون مجاورة، من أُمةٍ إلى أُمة، من دون مُعاصرة، ثم تنتقل المعارف وتتراكم في خزائن العلوم الإنسانية كلها، هذا بفضل (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) .
القراءة الثالثة: قراءة الوحي والإذعان:
أمّا القراءة الثالثة: قراءة الوحي والإذعان، فمعرفة طرفٍ من حقيقة الذات الإلهية وكمالها المُطلق، ومعرفة الماضي السحيق والمستقبل البعيد، ومعرفة حقيقة الحياة الدنيا ومعرفة حقيقة الحياة الآخرة، ومعرفة حقيقة الإنسان، وسر وجوده، وغاية وجوده، ومعرفة حقيقة النبوات والرسالات، ومعرفة حقيقة المنهج ودقائقه، ومفردات التكاليف وتفاصيلها، هذا كله يؤخذ من الوحيَين، الكتاب والسُنَّة، وهذا مما يُستنبط به من قوله تعالى: (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) .
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) ولكن لا يعني هذا الكلام أنَّ المسلمين اليوم يقرؤون هذه القراءات الثلاث، لو قرؤوها لما استطاع أحدٌ أن ينال منهم، ولكن هذا من قبيل ما ينبغي أن يكون، لا من قبيل ما هو كائن.
القراءة الرابعة: قراءة نفعيِّة ليس غير:
لذلك القراءة الرابعة: هذه القراءة نفعيِّة ليس غير، هذه القراءة لا تتناقض مع القراءات الثلاث ولكن، حينما يكتفي الأقوياء بها، ويسخِّرونها لنهب الثروات، وسحق الشعوب، وتكون قراءة عدوانٍ وطغيان (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ(7)) هذا طغيان العِلم، الذي يقود الإنسان أحياناً الذي قرأ هذه القراءة النفعيِّة، بعيداً عن الإيمان والعرفان، والإذعان لله الواحد الديان، يقوده هذا العِلم إلى القوة فيبني مجده على أنقاض الآخرين، يبني غناه على فقرهم، يبني قوته على ضعفهم، يبني أمنه على خوفهم، يبني عزه على ذلهم، يبني حياته على موتهم، وبهذا يكون قد طغى بالعِلم واستخدم العِلم لغير ما أُريد له، ولقد ضرب الله لنا مثلاً في القرآن الكريم، قوم عادٍ نموذجاً متكرراً لهذا الإنسان، الذي قرأ قراءةً نفعيِّةً فطغى و بغى، ونسيَ المبتدى والمنتهى، ونسيَ الجبار الأعلى، هذا ما يفعله الأقوياء في بلاد الغرب اليوم.
أيُّها الإخوة الكرام: أشكر لكم دعوتكم الكريمة، وحفظ الله لكم إيمانكم، وأهلكم، وأولادكم، وصحتكم، ومالكم، آخر واحدة دقيقة جداً.. واستقرار بلادكم، وهذه النعمة لا تُعرف إلا إذا فُقِدت، والسلام عليكم.
الملف مدقق