- الحديث الشريف / ٠1شرح الحديث الشريف
- /
- ٠4رياض الصالحين
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
تمهيد :
أيها الإخوة المؤمنون؛ لا زلنا مع الحديث النبوي الشريف، ولا زلنا في باب الأمر بالمحافظة على السُنة وآدابها.
(( عَنْ أَبِي مُوسَى, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ, كَمَثَلِ غَيْثٍ – مطر- أَصَابَ أَرْضًا, فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ, قَبِلَتْ الْمَاءَ, فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ, وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ, وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ, أَمْسَكَتْ الْمَاءَ, فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ, فَشَرِبُوا مِنْهَا, وَسَقَوْا, وَرَعَوْا, وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى, إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ, لَا تُمْسِكُ مَاءً, وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً, فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ, وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ, فَعَلِمَ وَعَلَّمَ, وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا, وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ))
دعوة النبي عليه الصلاة والسلام للناس, كالمطر للأرض العطشى، هذا تشبيه
الحقيقة هذا الحديث الشريف فيه تشبيهٌ بليغ:
هذه الدعوة النبوية التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام من عند الله بمثابة الغيث, والناس حيال هذه الدعوة يشبهون أنواعٌ ثلاثةً من الأراضي:
1- أرضٌ مخصبة: قبلت الماء, وأنبتت الكلأ.
2- وأرضٌ مجدبة: أمسكت الماء, ولم تنبت الكلأ.
3- وأرضٌ قيعان: لم تمسك ماءً، ولم تنبت كلأً.
ما من واحدٍ منا حيال هذه الدعوة النبوية الطاهرة، حيال هذا الدين الجديد، حيال هذا القرآن المجيد, إلا ويشبه أحد هذه الأراضي الثلاث:
إما أنه اهتدى وهدى، تعلَّم وعلم، انتفع ونفع، أخذ وأعطى، امتلأ وفاض، هؤلاء السابقونَ السابقون، أولئك المقربون، هؤلاء الذين جعلوا وقتهم، وجهدهم، وذكاءهم، وخبرتهم، وطاقاتهم في سبيل الله، استفادوا وأفادوا، تعلموا وعلموا، أخذوا وأعطوا، اهتدوا وهدوا.
وإذا كنا كهذه الأرض، فما أسعدنا من أشخاص، فما أسعدنا من مخلوقات، لقد حققنا الهدف من وجودنا، لقد سعدنا وأسعدنا، وإذا أردت أن تسعد فأسعِد الآخرين، كن كهذه الأرض، تعلَّم القرآن وعلِّمه، تعلم سنة النبي عليه الصلاة والسلام وعلِّمها، فهناك شخص يكتفي، لكن هناك شخص يعطي، الحد الأدنى أن يعلم الإنسان أهله، يعلم زوجته، يعلم أقرب الناس إليه، يعلم جيرانه، يعلم شركاءه، يعلم أقاربه، يعلم من يلوذ به، فإذا جاء يوم القيامة جاء أمةً، الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿
شتان بين أن تأتي يوم القيامة فرداً وبين أن تأتي أمة، لأن كل مظاهر العظمة التي كان الإنسان محاطاً بها في الدنيا بمقاييس الأرض, تسقط كل هذه المقاييس، كل هذه المظاهر هي أقنعةٌ مزيَّفة، ما إن يغادر الإنسان الدنيا حتى تسقط، ولا يبقى إلا العمل الصالح، فشتان بين أن تأتي يوم القيامة فرداً، وبين أن تأتي أمةً، بين أن تسعى لذاتك، بين أن تسعى لأسرتك فقط، وبين أن تسعى لهداية الخلق، لذلك الإنسان حينما يسعى لهداية الخلق, يعظم في عين الله عز وجل، هؤلاء الذين ضحَّوا بالغالي والرخيص، والنفس والنفيس, من أجل أن ينشروا دين الله في الآفاق، هؤلاء رضي الله عنهم، ورضاء الله عنهم يعني: أنهم نالوا أعلى رتبةٍ في الكون، نرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون كهذه الأرض.
شرح الحديث : إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم...
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وأما الأرض الثانية، فهي أرضٌ كان منها أجادب: جمع جدباء، أمسكت الماء، لأنها جدباء لم تنبت العشب، أرض صخرية، المطر نزل عليها, فتجمع بِرَكاً، فالإنسان شرب من هذا الماء, وانتفع بالماء، هذا الذي يهتدي لنفسه، يتعلم لنفسه، يستقيم على أمر الله فيسعد، من دكانه إلى بيته، أخذ ولم يعطِ، نجا واستقام، هؤلاء هم أصحاب اليمين، هؤلاء المقتصدون.
لكنه لا يحس بهذه الدوافع لهداية الخلق، لا يحس أن عليه رسالةً, يجب أن يؤدِّيها، أي أنه تعلم واستفاد، صلَّى فسعد، غض بصره عن محارم الله فأسعده الله بأهله، وانتهى الأمر، هؤلاء أنعِم وأكرِم بهم، هؤلاء ناجون، هؤلاء تخَطَّوا الخط الأحمر الخطر، هؤلاء أصحاب اليمين.
هذا يبيِّن أن الذي سأل بعضهم كم نصاب الزكاة؟ فقال: عندنا أم عندكم؟ عندكم واحد بالأربعين، أما عندنا العبد وماله لسيده، إذا كان الواحد متفوقًا, لم تعد له حياة خاصة، هذه ساعة لك، وساعة لربك انتهت، وقته كله لله عز وجل، وهو أسعد الناس، لو شققت على صدره, لرأيت في قلبه سعادةً, لو وزَّعت على أهل بلدٍ لكفتهم، لأنه اتصل بخالق الكون، لأن خالق الكون الأبدي السرمدي رضي عنه، وإذا كان الله معه فمَن عليه؟ وإذا كان عليه فمن معه؟.
السيدة رابعة العدوية تقول: يا رب ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكنني رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتك.
هؤلاء الأحرار، نرجو الله أن نكون من هؤلاء، الباب مفتوح يا أخوان، الأبواب كلها مفتوحة، أبواب التفوّق والبطولة مفتوحة في كل الأزمان، وفي كل الأعصار، وفي كل الأمصار، وفي كل الأصقاع، وفي كل الأقاليم، وفي كل الظروف، وفي كل البيئات، وفي كل شرط, باب الله مفتوح، باب التفوق مفتوح، تفضل، استقم كما أُمرت، واتصل بالواحد الديان، ثم ذق هذه السعادة التي لا توصف.
قال:
الفئة الأولى:
(( يا علي: فو اللهِ لأن يهديَ الله بكَ رجلاً واحدا خير لكَ من حُمْر النَّعَم ))
يا إخوان؛ من قبيل العرفان بالجميل، هناك أشخاصٌ كثيرون, جاؤوا لهذا المسجد فرادى، سنة أو سنتين, جاء أخوهم الأول، وأخوهم الثاني، وأخوهم الثالث، وابن عمهم، وصهرهم، وقريبهم، وجارهم، هذا الإنسان بعد سنتين صاروا عشرة، خمسة عشر، عشرين، طبعاً: الإنسان قلبٌ شاكر، ولسانٌ ذاكر
﴿
عمل صالحاً, قال تعالى:
﴿
الناس لا يتعلَّمون بآذانهم، بل يتعلمون بعيونهم، لغة العمل أبلغ من لغة القول، الكلام وحده لا يقدِّم ولا يؤخر، كلامٌ بكلام لا يجاوز الآذان، ولكن المواقف، لكن الانضباط هو الذي يرفعك عند الله عز وجل
دخل على النبي الكريم رجل من عامة الناس، فهشَّ له النبي وبش، ورحب به أجمل ترحيب، وقال:
(( أهلاً بمن خبرني جبريل بقدومه, قال: أو مثلي؟ قال: أنت خاملٌ في الأرض علمٌ في السماء ))
علم في السماء، قد تكون في السُلَّم الاجتماعي في الدرجات الدنيا، وقد تكون عند الله في الدرجات العليا، لذلك:
﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)﴾
الواقعة تخفض أناساً، وترفع آخرين، وهنيئاً لمن كان مرتفعاً في النهاية، هناك مثل يقول: طوبى لمن كان آخر الضاحكين, الكفار:
﴿
المؤمنون قد يبكون قليلاً، يقلقون على مكانتهم عند الله، يخافون ألا يتقبل الله عملهم، يخافون أن تكون في نيَّاتهم زيغ، يخافون أن يكون هناك مستوىً لا يرضي الله عز وجل، يبكون قليلاً ليضحكوا كثيراً.
(( ألا يا ربَّ نفس طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا, جائعةٍ عاريةٍ يوم القيامة، ألا يا رب نفسٍ جائعةٍ عاريةٍ في الدنيا, طاعمةٍ ناعمةٍ يوم القيامة، ألا يا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رب مهينٍ لنفسه وهو لها مكرم ))
أما الذي لم يقبل الهدى, الذي أرسلت به, كالأرض الرملية:
نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء, هذا الحديث متفقٌ عليه، أعيده على مسامعكم مرةً أخيرة:
(( عَنْ أَبِي مُوسَى, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ, كَمَثَلِ غَيْثٍ, أَصَابَ أَرْضًا, فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ, قَبِلَتْ الْمَاءَ, فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ, وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ, وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ, أَمْسَكَتْ الْمَاءَ, فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ, فَشَرِبُوا مِنْهَا, وَسَقَوْا, وَرَعَوْا, وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى, إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ, لَا تُمْسِكُ مَاءً, وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً, فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ, وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ, فَعَلِمَ وَعَلَّمَ, وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا, وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ))
ومعنى فقه: بمعنى أصبح فقيهاً، لذلك: على الإنسان أن يعمل لأهله بالأسبوع ساعة، لزوجته, وأولاده، لأخواته البنات ، وبنات أخواته، يعني: يجلس جلسة حق, يتحدث عما سمع، يحدِّث الناس بما سمع، يعلم الناس بما تعلم، يفقِّه الناس بما تفقَّه، فإذا دخلت في قلوب الناس كنت أسعدهم، وإذا أردت أن تسعد فأسعد الآخرين.
أحكام البيع والشراء.
أيها الإخوة الأكارم؛ أخوةٌ كرام كثر, طالبوني أن أعيد على أسماعهم موضوع البيوع ، ما منا واحدٌ إلا ويبيع ويشتري، وهناك في البيوع حقائق, يجب أن تعلم بالضرورة.
أيها الإخوة؛ فللبيوع في الإسلام نظام دقيق جداً، الإنسان لا يخلو أن يشتري, أو يبيع, أو أن يكون تاجر في الأساس.
يعني: البيع والشراء نشاط يومي، وكل إنسان, ولو كان موظف, يشتري ويبيع.
فأعتقد أن الموضوع الأول في الفقه.
نحن من فضل الله عز وجل قبل رمضان، وفي رمضان نأخذ باب الصيام كما تعوَّدنا، وامتن الله علينا قبيل الحج, نأخذ باب الحج، في أواخر رمضان, نأخذ باب الزكاة، فوجدت من المناسب أن نلقي درسًا في البيوع، ودرسًا في الصلاة ، الصلاة مهمة جداً، الصلاة درسناها مرتين, والبيوع مرة، ولا بد من أن نعيد على أسماعكم أحكام البيوع بشكلٍ دقيق، ونأخذ من أبواب الصلاة, الأبواب التي نحتاجها بشكلٍ دقيق، يوم الأحد نلقي درسًا في البيوع، ويوم الأحد عبادات, أما الأخلاق فنأخذها من إحياء علوم الدين، وسوف نأخذها يوم السبت إن شاء الله تعالى.
الإسلام عقائد، أمضينا سنةً وزيادة في بحث العقائد، وانتفع بها أناسٌ كثر، الإسلام عقائد، ثم عبادات؛ صلاة, صوم، حج، زكاة، ثم معاملات؛ بيوع، طلاق، زواج، قرض، حوالة، كفالة، ثم أخلاق؛ فالأخلاق نأخذها من إحياء علوم الدين، وهو من أرفع كتب الأخلاق الإسلامية، والبيوع نأخذها مع بعض العبادات بالتناوب، حديث شريف واحد، وبحث في البيوع.
تعريف البيع :
البيع لغةً: مقابلة شيءٍ بشيء، أعطن هذا وخذ هذا، هذا بيع، وكلمة اشترى: بمعنى باع، وشرى: بمعنى باع، لأن بعض الإخوة حينما يقرأ سيدنا يوسف يعجب, قال تعالى:
﴿
اشتروه, ولكن هم باعوه، معنى شروه: أي باعوه، وكلمة بيع: يتعدى لمفعولٍ واحد، تقول: بعت السلعة، مفعول به واحد، ويتعدى لمفعولين, تقول: بعته السلعة, الهاء مفعول به أول، والسلعة مفعول به ثان، أو يتعدى بـ (من)، بعت السلعة منه، أو بعت السلعة له، في عندنا أربعة استعمالات لباع: بعته، أو بعته السلعة، أو بعت منه، أو بعت له، هذا التعريف اللغوي.
لكن التعريف الشرعي شيء آخر: لو بادل تاجر ميتة بميتة, هذا بيع لغوي، أما في الشرع: فهو باطل البيع، لأن الشيء الذي ليس له ثمن لا يباع، بيع لحم الخنزير باطل، البيع في الشرع: مبادلة شيء مرغوبٍ فيه بمثله على وجه الخصوص، أو مقابلة مالٍ بمال على وجهٍ مخصوص، أو عقد معاوضةٍ على غير منافع، ولا متعةٍ، ولا لذة، بيع المنافع إيجار، أما بيع الرقبة هو البيع.
ما حكم البيع وما أدلته؟.
أيها الإخوة؛ البيع مشروع في الكتاب, والسنة، وإجماع الأمة، والمعقول، فالله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا
البيع مشروع بالكتاب، ويقول الله سبحانه وتعالى أيضاً:
(( فعن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ))
سيمر معنا بعد قليل خيار المجلس.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
أخرجه الترمذي والحاكم
لأنه يدعو إلى الله لا بلسانه، بل بمعاملته، وملايين إندونيسيا وحدها, مئة وخمسون مليونًا، الأمة العربية بكاملها من الخليج إلى المحيط مئة مليون، إندونيسيا وحدها مئة وخمسون مليونًا, أسلمت عن طريق التجَّار، تاجر يعطيك سلعة متقنة، فيها نُصح، بسعر معتدل، مع معاملة لطيفة, هذا كأنه داعيةٌ إلى الله عز وجل، هذا داعية لا بلسانه، بل بمعاملته، فكل إنسان إذا كان يبيع ويشتري, يستطيع أن يشد الناس إلى دينه, من معاملته؛ صدق، استقامة، أمانة، إخلاص، عمل طيِّب، سعر معتدل، لطف.
لذلك أحد الصحابة الكبار، وكان من أغنى أغنياء الصحابة، واسمه: عبد الرحمن بن عوف، قيل له: بمَ حصلت هذا الغنى؟ قال: لم أستقل ربحاً، ولم أبع ديناً، يعني:
إذا أعطى الإنسان سعرًا معتدلا, فقد رحم المسلمين، وكان السلف الصالح لما يفتح دكانه صباحاً, ينوي خدمة المسلمين، الدرجة الأولى خدمة المسلمين، هؤلاء الناس لو أمَّنت لهم حاجاتهم؛ طعامهم، شرابهم، لباسهم، بيتهم، دِفْأهم، قدمت عملاً كبيراً، وربما ترقى عند الله بهذا العمل.
أنا أقول لكم: كل واحد منكم له حرفة, ربما كانت حرفته طريقاً له إلى الله عز وجل، ربما سعد بها في الآخرة إذا أتقنها، ونصح الناس بها، لأن الدين النصيحة.
(( التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ ))
هذه السنة القولية.
أما السنة الفعلية – العملية -: كان عليه الصلاة والسلام يشتري حوائجه, وحوائج عياله، وكان يرى الناس يتبايعون, فيقرهم على ذلك، ولا ينكر عليهم، إذاً: فالبيع مشروع بالسنة القولية, والسنة العملية.
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون من خلال تعاملهم على أن البيع مشروع، وأنه جزءٌ من سلوك الإنسان اليومي.
وأما المنطق: فالإنسان يقدم حاجة، ويحتاج إلى مليون حاجة، إذاً: لا بد من أن يبيع ما يتقن، ويشتري ما يحتاج، هكذا طبيعة الحياة الاجتماعية.
الحقيقة للبيع ركنٌ واحد: وهو الرضا.
لقول الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
فالتجارة ليست مشروعةً إلا إذا كانت عن تراضٍ، فالرضا هو الركن الأساسي في البيع، هذا الرضا كيف يعبر عنه؟ الرضا حالة قلبية يعبر عنه باللسان وبالبنان، يعبر عنه باللسان, إذا سألت البائع: بكم هذا البيت؟ قال لك: بمئة ألف, تقول له: اشتريت، أنت عبَّرت عن رضاك بهذا الثمن، وهو عبر عن رضاه بهذا البيع بالإيجاب والقبول، فركن البيع الأساسي تلك الحالة القلبية, يعبر عنها بهذا القول بالإيجاب والقبول: بعتك وقبلت، أتشتري مني هذا الكتاب بسبعين؟ يقول لك الشاري: نعم قَبِلْت، هذا إيجاب وقبول، بكم هذا الكتاب؟ بسبعين، اشتريت، هذا إيجاب وقبول، فالرضا يعبر عنه بالإيجاب والقبول.
أيها الإخوة؛ أو يعبر عنه: بالتعاطي، مكتوب كأس العصير بعشر ليرات، تشرب كأسًا، وتضع عشر ليرات وتمشي، هذا ما قلت له: قبلت، وبعتك, واشتريت، ما في حاجة، دفعت الثمن، وشربت العصير، انتهى الأمر، هذا بيع بالتعاطي, فركن البيع الرضا، والرضا حالة قلبية، يعبر عنها بالإيجاب والقبول، أو يعبر عنها بالتعاطي، يعني قبض المبيع، ودفع الثمن.
بعضهم قال: الأحناف والمالكية والحنبلية, أجازوا صحة البيع بالتعاطي.
كيلو تفاح ممكن بالتعاطي، الشيء الخسيس الذي له قيمة متدنية, يباع بالتعاطي، ولكن الشيء الثمين, يحتاج إلى إيجاب, وإلى قبول، لا زلنا في التعريفات، ولكن هناك أحكام دقيقة, سوف نأتي عليها إن شاء الله تعالى.
العلماء قالوا: العلماء متفقون على أن البيع بالإيجاب والقبول, صحيح عند كل المذاهب ، أما بالتعاطي فهذا البيع مقبول في الأعم الأغلب، لكن التعاطي ينسحب على سائر العقود الأخرى: كالإيجار, والهبة، إلا النكاح، فلخطورة هذا العقد, ليس هناك عقد نكاح بالتعاطي، لا بد من إيجاب وقبول، لأنه خطر، فيجب أن يحتاط به، ولأن الفرق بين الزنا والزواج, هو هذا الإيجاب القبول, قال تعالى:
﴿ قَالَ إِنِّي
فعقد النكاح لا يقبل بالتعاطي، لا بد له من إيجاب وقبول، ولكن عقد الهبة، وعقد الإيجار, يقبل بالتعاطي.
شروط البيع :
البيع له شروط كثيرة، أول هذه الشروط: شروط انعقاد البيع أصلاً، في عندنا بيع صحيح، وبيع باطل، وبيع فاسد، الباطل لا ينعقد، والفاسد يصحح، والصحيح صحيح، فما هي شروط انعقاد البيع؟.
1- أول هذه الشروط: الأهلية.
فالمجنون لا ينعقد بيعه، لو واحد اشترى, أو باع بيتًا بمليون، وقدر الشاري أو أهل البائع أن يثبتوا أنه مجنون، ينفسخ العقد حُكْماً، المجنون لا ينعقد بيعه، لا بد من أن يكون أهلاً للبيع، والصبي غير المميز لا ينعقد بيعه، مَن كان صغيراً أو مجنوناً بيعه باطل، ليس له أي أثر مهما علا الثمن، ولو أن الولي أجازه، البيع باطل، والشراء باطل، لو اشترى صبي أو مجنون, فالشراء باطل، لأنه فاقد الأهلية، والأهلية شرط في انعقاد البيع، ولو فقد البيع الأهلية, لأصبح باطلاً, أي: غير منعقد.
2- الشرط الثاني: التعدد.
الشرط الثاني في انعقاد البيع، ولو تخلَّف هذا الشرط, لأصبح البيع باطلاً: إنما هو التعدد، إنسان يبيع نفسه، هذا شيء غير جائز، كثير من الشركات تشغل له ماله، يشتري مواد أولية الشريك المضارب، وعنده معمل، الشريك المضارب نفسه, يشتري من المواد الأولية الذي اشتراها لمعمله، إذا كان الشاري هو البائع، إذا كان البائع هو الشاري أصالة بأصالة، أو وكالة بأصالة، أو أصالة بوكالة، أو وكالة بوكالة, فالبيع باطل، لأن الإنسان يختار أرخص سعر، وأحسن بضاعة.
تصور أن يتيمًا, تستثمر له ماله، أنت اشتريت بهذا المال حاجات، بضاعة معينة، وأنت عندك مصلحة, تحتاج لهذه البضاعة، فأنت وكيل عن هذا اليتيم في شراء هذه البضاعة ، فأنت كوكيل اليتيم, بعت نفسك لهذه البضاعة، ما دام الشاري هو البائع، فالبيع باطل، أغلب الظن لن تكون منصفاً.
لذلك العلماء قالوا: لا بد من التعدد، يجب أن يكون الشاري إنسان، والبائع إنسان، لأنهم يتخاصمون، يتشاححون، يتناقشون، يتجادلون، يتساومون، يتفاصلون، أما علاقة داخلية مخاطب, كان اسمه سعيد فتحة، يخاطب سعيد فتحتين: بعت واشتريت، هذا ليس بيعًا، بيع وشراء لإنسان واحد ممنوع، تبيع وكالةً, تشتري أصالة ممنوع، تشتري أصالة, وتبيع وكالة ممنوع، تشتري وتبيع وكالة، أنت موكل لفلان بشراء بضاعة، وموكل لفلان ببيع بضاعة، فاشتريت بضاعة فلان التي أنت وكيل عليها، لفلان الذي أنت وكيل له، البيع باطل، لا ينعقد البيع أصلاً، هذا شرع الإسلام، ضماناً للحقوق، حفظاً للحقوق.
أيها الإخوة؛ إلا في الزواج, فيصح أن يكون الإيجاب والقبول من عند شخص واحد، لأنه ثمة حقوقًا, يتحملها الزوجان بالنهاية، لما وكله بالتزويج، ووكله بالزواج، وإنسان واحد تزوج وزوج، أجاب وقبل في عقد واحد، فهو صحيح.
هذا الشرط الأول من شروط انعقاد البيع: الأهلية والتعدد، وهناك شروط أخرى نبحثها في درس قادم إن شاء الله تعالى.
صور من مواقف علي بن أبي طالب.
والآن: إلى سيدنا علي رضي الله عنه.
تعريف بسيدنا علي بن أبي طالب.
أيها الإخوة؛ كلكم يعلم أن هذا الصحابي الجليل، رابع الخلفاء الراشدين، نشأ في بيت النبي عليه الصلاة والسلام, منذ أن كان في السادسة من عمره، فحينما نشأ في هذا البيت، وحينما جاء الإسلام، ونزل الوحي، كان أول غلامٍ أسلم في الإسلام، والسيدة خديجة رضي الله عنها أول امرأة أسلمت، وسيدنا زيد بن حارثة أول غلامٍ أسلم.
فسيدنا علي رضي الله عنه كان أول المسلمين، وهو في السادسة من عمره, بدأ يعيش مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الصادق الأمين، يتأدب على يديه، ويتأثر بطهره، وعظمة نفسه، وتقى ضميره، وحين بلغ العاشرة، كان الوحي قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وكان هو سابق المسلمين، وسارت حياته من ذلك اليوم, إلى أن يجيء اليوم, الذي سيلقى فيه ربه تطبيقاً كاملاً، وأميناً لمنهج النبي عليه الصلاة والسلام، وتعاليم القرآن، لم يكن في حياته كلها صبوة, ولا شهوة, ولا هفوة.
إخواننا الكرام؛ الذين عرفوا الله في سن متقدمة, هنيئاً لهم ألف مرة، لكن الشباب الصغار, الذين نشؤوا في طاعة الله، فتحوا أعينهم على المسجد، وعلى ذكر الله، وعلى تلاوة قرآن، وعلى الحلال والحرام, فهؤلاء هنيئاً لهم ألفَ ألف مرة.
لقد أُشْرِب قلبُ سيدنا علي رضي الله عنه حبَّ القرآن، فقال مرة:
سلوني، سَلوني، سلوني عن كتاب الله ما شئتم, فو الله ما من آية من آياته, إلا وأنا أعلم, أنزلت في ليل أم في نهار؟
لذلك: الله عز وجل يعطي أعداءه الدنيا، أما أحبابه فيعطيهم العلم والمعرفة، فمَن كان له من العلم والمعرفة نصيب وافر, فهنيئاً له، فهو من المقربين.
سيدنا الحسن البصري, وصف سيدنا علي, فقال:
لما سمع سيدنا علي قول الله عز وجل:
﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) ﴾
قال: لا بحديثٍ غير حديثك, نؤمن يا رب كل شيء, قال تعالى:
سيدنا علي كان ممن سبق، وممن صدق، أخي أنا لي بالدرس ثلاث وعشرون سنة، العبرة بالصدق، لو صدقت لصدقت الجميع، ليس الطريق لمن سبق، ولكن الطريق لمن صدق ، سيدنا علي كان من الصادقين, ومن السابقين.
هنيأ لك هذه الإخوة يا أبا الحسن.
للنبي صلى الله عليه وسلم مع سيدنا علي موقف لا ينسى، فعندنا تمت هجرة النبي والمسلمين إلى المدينة، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وجعل لكل أنصاريٍ أخاً من المهاجرين، حتى إذا فرغ عليه الصلاة والسلام من دمجهم في هذا الإخاء العظيم، رنا بصره تلقاء شاب عالي الجبهة، رَيَّان النفس، مشرق الضمير، وأشار النبي عليه الصلاة والسلام إليه, فأقبل عليه، وبين الأبصار المشدودة, إلى هذا المشهد الجليل، أجلس النبي عليه الصلاة والسلام علياً إلى جواره، وربط على كتفه، وضمه إليه، وقال:
من أسباب تفوقه:
أنه كان بعيداً عن الدنيا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
من أقوله :
مرة حدثهم عن الإسلام، فقال هذا الإمام العظيم:
تعلموا العلم تعرفوا به - الإنسان بلا علم كالبهيمة - واعملوا تكونوا من أهله، ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد أتت مقبلة، ولكل واحدةٍ منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة, ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ألا وإن الزاهدين في الأرض في الدنيا, قد اتخذوا الأرض بساطا، والتراب فراشا، والماء طيبا، ألا وإن ومن اشتاق إلى الآخرة, سلا عن الشهوات، ومن أشفق عن النار, رجع عن المحرمات، ومن طلب الجنة, سارع إلى الطاعات، ومن زهد في الدنيا، هانت عليه مصائبها، ألا وإن لله عباداً, شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة، حوائجهم خفيفة، صبروا أياماً قليلة لعقبى راحة طويلة، إذا رأيتهم في الليل, رأيتهم صافين أقدامهم, تجري دموعهم على خدودهم ، يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم، وأما نهارهم فظماءٌ -أي صائمون- حلماء، بررة، أتقياء, كأنهم القداح، ينظر إليهم الناظر, فيقول: مرضى، وما بهم من مرض، ولكن الأمر عظيم
من أجل هذا, كان هذا الإمام العظيم, يلبس الثوب الخشن، فيسأله أصحابه: أن يعطي نفسه بعض حقها، فيقول هذا الإمام العظيم:
هذا الثوب الخشن, يصرف عني الزهو – الخيلاء - ويساعدني على الخشوع في صلاتي-إذا واحد لباسه أنيق جداً، وصلى، تجده يحدث نفسه فيقول: هذا اللون ظريف, إذا كان جميلا جداً في أثناء الصلاة, يفتن عن صلاته- وهو قدوة صالحة للناس, كي لا يسرفوا ويتبذخوا
هذا الثوب الخشن, يصرف عني الزهو، ويساعدني على الخشوع في صلاتي، وهو قدوة صالحة للناس, كي لا يسرفوا ويتبذخوا، لكن بكل زمن له ترتيب؛ إذا الإنسان هبط مستوى ثيابه عن المستوى المقبول، صار مزدراً بين الناس، وطعن الناس في رجاحة عقله، هذا الكلام صحيح بين الزهاد، صحيح بين أصحاب رسول الله، صحيح في مجتمع نظيف، مجتمع متفوق، ولكن النبي يقول:
(( إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى أخْوَانِكُمْ, فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ وَلِبَاسَكُمْ, حَتَّى تَكُونُوا فِي النَّاسِ كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ, فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ ))
النبي مشرِّع، هناك أناس يقيِّمونك من لباسك فقط، فإذا كنت مسلماً, فأنت تمثل المسلمين، لا ينبغي أن ترتدي ثياباً غالية الثمن، ولكن يجب أن ترتدي ثياباً نظيفة مرتبة، هذا هو الحد الأدنى.
من أقواله رضي الله عنه:
وفي درس قادم إن شاء الله تعالى, نتابع الحديث عن هذا الإمام العظيم.
و الحمد لله رب العالمين