الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
على الإنسان أن يصل إلى المفهوم الصحيح المفضي إلى سعادته:
الدرس الماضي كان حول المطلب الأسمى لكل إنسان، بينت لكم في الدرس الماضي أن كل إنسان على وجه الأرض يبتغي السلامة والسعادة، من أين يأتي الشقاء إذاً؟ من الخطأ في تصور الطريق المؤدي إلى السعادة، إذاً المؤمن يبتغي كغيره السعادة لكنه أصاب الهدف، أصاب الطريق الصحيح إليها فسعد في الدنيا والآخرة، وبينت لكم أيضاً أن الإنسان حينما يتلقى من العالم الخارجي هذه الصور، الصور الحسية، الصور البصرية، السمعية، الشمية، الذوقية، الصور اللمسية، وحينما يتلقى من عالمه الداخلي المشاعر الإحساس بالخوف، بالغضب، بالرجاء، بالحزن، بالانقباض، بالانشراح، هذه الصور الخارجية والداخلية، أو هذه الصور الحسية والشعورية تجتمع في مكان هو المُصَوِّرة أو مركز الإدراك، مركز الإدراك يعطي نسخة من هذه الصور إلى المُخَيّلة، الإنسان حينما يبدع يحتاج إلى مواد أولية للإبداع، وتعطى نسخة أخرى إلى الذاكرة، ونسخة ثالثة إلى مركز البحث العلمي أو مركز التفكير والمحاكمة، الإنسان بحسب مقاييسه يُحَاكم، يوازن، يقيس، يقبل، يرفض، يعترض، يتحفظ، هناك مركز للمحاكمة أو مركز للتفكير، هذه الصور الكثيرة من خلال هذا المركز تصنف إلى أربعة أصناف:
الوهم: وهو الشيء الباطل يلقيه جانباً.
والشك: تساوت أدلة تأييده مع أدلة نقضه، يوضع في مكان مؤقتاً كي يُبَت في أمره.
وغلبة الظن: ما يغلب على ظنك أنه صحيح.
واليقين، اليقين وغلبة الظن تحتلان مركزهما في العقيدة، والعقيدة هي التي تُوَجه الإرادة، والإرادة تُوَجِّه السلوك، إذاً هذا الذي يُجري محاكمة صحيحة فيأخذ ما صح، ويدع ما بَطل، وينقل هذه المفاهيم إلى مركز العقيدة، ومركز العقيدة ينقله إلى الإرادة، والإرادة إلى السلوك، وهكذا استقام الإنسان على أمر الله لأن عقيدته صحيحة.
إذا اعتقد الإنسان أن الجنة ليست بالعمل إنما بالأمل، إذا اعتقد الإنسان أن الله عز وجل لن يُحَاسب الناس على أعمالهم، إذا اعتقد الإنسان أن النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول بعض السذج يأخذ العُصاة مهما كانت معصيتهم فيدخلهم الجنة، إذا اعتقد الإنسان هذا الاعتقاد وهو خطأ، وضعه في مركز اليقين، نتج عنه سلوك منحرف، إذاً ترون معي كم هي خطيرة العقيدة، من كانت عقيدته صحيحة صحّ عمله، ومن كانت عقيدته فاسدة فَسد عمله، فالاعتقاد الصحيح هو الشيء الأول في الدين، لذلك قيل:
(( إنَّ هذا العِلمَ دِينٌ، فانظُروا عمَّن تأخُذون دينَكم. ))
[ شعيب الأرناؤوط : تخريج العواصم والقواصم: خلاصة حكم المحدث : لا يصح في المرفوع ]
ابن عمر دينك دينك إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا، لذلك حضور هذا المجلس مهم جداً، الإنسان إذا صحت عقيدته صحّ عمله، سَعِد في الدنيا والآخرة، لذلك كان طلب العلم فرض عين على كل مسلم، لست مخيراً، لا ينبغي أن تحضر الدرس من قبيل أنك فارغ، اليوم لا يوجد عندك شيء، الوقت شتاء، لا يوجد شيء، السهرة في المسجد أولى، ليس من هذا القبيل، من نوع آخر، لابد من حضور مجلس العلم، لأنك بالعلم تعرف الله عز وجل، وإذا عرفت الله سعدت به.
اليوم درسنا في موضوع الأحكام العقلية والأحكام العادية، أي أرجو أن تصبروا عليّ قليلاً لأن الدرس دقيق، وسوف أُبَسط الأمر بقدر ما أستطيع.
الأحكام العقلية، عندنا أحكام عادية، أي أنت في كل حياتك أَلِفت أن النار تحرق، فإذا رأيت النار حكمت عليها بأنها لابدّ من أن تحرق، هذا الحكم أنت استنبطته من العادة، من التجربة، ولكن العقل له أحكام خاصة، العقل مُستقل بأحكامه، كيف يحكم العقل؟ قال العلماء: كل ما يتصوره الفكر لا يخلو أن يكون واحداً من الأقسام التالية، بمعنى أي شيء تتصوره، أي شيء يخطُر على بالك، أية قضية، أية قصة، أي حدث، أية فكرة، أي طرح، أي شيء تتصوره لابد من أن يكون ضمن الأقسام التالية:
القسم الأول: هو ما يقبل العقل إمكان وجوده وإمكان عدمه، فلان الفلاني موجود، وكان من الممكن أن يكون غير موجود، القسم الأول ما يقبل العقل إمكان وجوده وإمكان عدمه، هذه الورود الآن موجودة، ويمكن أن تكون غير موجودة، هذا الكأس من الماء موجود، ويمكن أن يكون غير موجود، فإذا نظرت إلى كأس الماء تقول: يمكن أن يوجد والعقل يقبل ألا يوجد، لو أن الذي قدّم هذا الكأس لم يقدمه أو نسي أن يقدمه فهناك قسم يسمى: جائز الوجود، أي يجوز أن يوجد ويجوز ألا يوجد، الإنسان جائز الوجود:
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)﴾
الإنسان جائز الوجود، جبل قاسيون جائز الوجود، وُجِد، ولو أن الله عز وجل وضعه في مكان آخر لم يوجد، لو أن هذا الالتواء الذي صنعه الله لم يصنعه هذا الجبل لم يوجد، كانت دمشق أرضاً منبسطة، فكل شيء تقع عليه عينك من باب جائز الوجود، لأنَّ الله خلقه، الذي خلقهُ خلقه وكان من الممكن ألا يخلقه، واضحة؟
جائز الوجود هو ما يقبل العقل إمكان وجوده وإمكان عدمه، وهذا القسم يُسمى: جائز الوجود، أو ممكن الوجود عقلاً، لأن وجوده أو عدمه ليس واجباً ولا مستحيلاً، ليس واجب الوجود وليس مستحيل الوجود، إنه جائز الوجود، إذاً أنت من هذا القسم، نقول لكم دائماً: هناك نعمة الإيجاد، أي الله عز وجل تفضّل علينا وخلقنا، ولو أن مشيئته لم تتعلق بخلقنا لم نُخلَق، ولم نكن نحن في هذا المسجد، من هو فلان الفلاني؟ شاءت إرادة الله عز وجل أن يوجد، ولو لم تشأ لم يكن، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، كان الله ولم يكن معه شيء، فالذي وُجِد بعده وُجِد بمشيئته، فالذي وجد وجد، وهذا الذي وُجِد كان من الممكن ألا يوجد فهو جائز الوجود.
عندنا قسم ثاني هو ما يوجب العقل عدمه، أيْ مستحيل أن يوجد، بشكل مبسط مستحيل أن يكون هذا الحرم منيراً بهذا الضوء ومعتماً في الوقت نفسه، مستحيل، إذا قلت: هناك نور، فليس هناك ظلمة، وإذا قلت: هناك ظلمة، فليس هناك نور، لأن النور والظلام نقيضان لا يجتمعان في مكان واحد، وفي زمان واحد، وفي جهة واحدة، وفي حالة واحدة، فإن اجتماعهما مستحيل، إنَّ وجود أحدهما ينقض وجود الآخر.
فلان عالم جاهل، مستحيل، العقل يرفض هذا الطرح، العالم لا يكون جاهلاً والجاهل لا يكون عالماً، أما عالم بعلمٍ جاهل بعلم فهذا بحث آخر، أنا أقول من جهة واحدة، وفي وقت واحد، وفي مكان واحد، وفي صفة واحدة الشيء لا يقبل نقيضه، العلماء فرّقوا بين الشيئين المتعاكسين والشيئين المتناقضين، الشيئان المتناقضان أحدهما ينقض وجود الآخر، والشيئان المتعاكسان كالأبيض والأسود، ممكن، الأبيض والأسود لونان متعاكسان يجتمعان، فالشيئان المتعاكسان يجتمعان لكن الشيئين المتناقضين لا يجتمعان، أحدهما ينقض وجود الآخر، إلى الآن واضح الأمر؟
الشيء الثاني ما يوجب العقل عَدَمه، ولا يُجيز إمكان وجوده في أية حالة من الحالات التي يتصورها الذهن، وهذا القسم يسمى: مستحيل الوجود عقلاً.
والإنسان أحياناً يقول لك: مستحيل، أخي فلان قال لك: كنت والله أنا في حلب، والتقيت مع رفيقك فلان، مستحيل، كان عندي في الأمس يسهر في البيت، أنت لا تقبل يكون إنسان في ليلة واحدة في دمشق وفي حلب، تقول له: أنت كذاب، كان عندي البارحة يسهر كيف تقول كان معك في حلب؟ العقل ضابط، يضبط الأمور، هذا مستحيل عقلاً.
والقسم الثالث ما يوجب العقل وجوده ولا يُجيز إمكان انعدامه في أيّة حالة من الحالات التي يتصورها الذهن، وهذا القسم يسمى واجب الوجود عقلاً، فالقضية مُبسّطة جداً، جائز الوجود، مستحيل الوجود، واجب الوجود، هناك أشياء واجبة الوجود، هناك أشياء مستحيلة الوجود، هناك أشياء جائزة الوجود، طبعاً هذه معلومات نظرية إليكم الأمثلة.
أمثلة على حكم العقل الجائز الوجود:
أمثلة على جائز الوجود، نحن البشر موجودون على سطح الأرض بشكل واقعي، ولكن العقل يرى أنه كان من الممكن ألا نكون موجودين، فوجودنا إذاً أمر ممكن عقلاً لا واجباً، ومعنى ممكن أي يجوز أن نوجد، ويجوز ألا نوجد، العقل يقبل وجودنا وعدم وجودنا، سيدنا علي رضي الله عنه قال عن الله عز وجل: علِم ما كان، وعلِم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، هل فهمتم آخر واحدة؟ وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، هذا جائز الوجود، أنت لك دخل محدود، من بيتك إلى المسجد، لابأس، أما ربنا يعرف لو أعطاك مبلغاً ضخماً جداً لا تعرف أين تصير؟ بالجوامع أم بالملاهي، لا نعرف، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، لذلك قال الإمام الغزالي: ليس في الإمكان أبدع مما كان.
بل إن تفسير هذا القول ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني، هذا الذي أعطاك الله عز وجل أبدع ما يكون، لأنه عَلِم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، هذه نعمة الإيجاد، النار مُحرقة هكذا صممها الله عز وجل، ولو صممها غير محرقة لكانت، فالنار مُحرقة، هذا حكم جائز الوجود، اللهُ عز وجل هو الخالق، هو الذي أعطاها هذه الصفة، فلو شاء في لحظة ما أن يسلبها هذه الصفة لكان ذلك:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)﴾
أخي هل القرآن فيه خرافات؟ لا، ليس فيه خرافات، لو كنت مفكراً أنت الذي أعطى النار القدرة على الإحراق هو الله عز وجل، الذي أعطى يسلب، فكما أنه من الممكن أن تكون النار مُحرقة، من الممكن أيضاً أن تكون النار غير محرقة، فصفة الحرق في النار من نوع جائز الوجود وليس من نوع واجب الوجود، هذا مثل ثان.
الأحياء الذين نشاهدهم إذا ماتوا لا يعودون إلى الحياة، بكل حياتنا ما سمعنا أنَّ إنساناً بعدما مات ودفنوه سمعوا صوتاً في القبر، فتحوه فوجدوه حياً، أرجعوه إلى بيته وانتهى الأمر، هذا لم يحصل، بعدما مات يرجع من القبر؟ ما سبق أن صارت، لكن هذه الظاهرة من نوع جائز الوجود، الذي وهبه الحياة سلبه الحياة، والذي سلبه الحياة من الممكن أن يهبه الحياة مرة ثانية، من هنا كانت معجزة سيدنا عيسى إحياء الموتى، المؤمن بسيط جداً، على الله شيء يسير جداً، وهبه الحياة، سلبه الحياة، وهبه الحياة مرة ثانية، فأن يعُود الميت حياً هذا شيء جائز الوجود، هذه القضية تُطرح على الشكل التالي، الذي وهبه الحياة سلبه إياها، والذي سلبه إياها وهبه إياها.
اجتياز الإنسان المسافات البعيدة في أقطار الأرض أو السماء بطرفة عين أمر ممكن عقلاً، بحسب معطيات الأرض تحتاج إلى سيارة كي تنقلك إلى حلب، أو تحتاج إلى طائرة، والإنسان ركب مركبة سرعتها 40000 كم/ سا، أسرع مركبة التي ذهب بها إلى القمر، الطائرات الراقية جداً السريعة أعتقد 1200 أو 1300كم/سا، يمكن أسرع من الصوت أكثر من ذلك، الصواريخ أسرع، أما هذه المركبة التي ركِبها الإنسان إلى القمر سرعتها 40000 كم/سا، لو أن هناك قدرة تنقل الإنسان إلى القمر في ثانية لكان هذا ممكنًا عقلاً، إذاً حينما أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس في لمح البصر، هذا الشيء ممكن عقلاً بشرط وجود قوة تنقله بهذه السرعة، كيف كان أجدادنا يستحيل عليهم فهم أن ينتقل الإنسان؟ الآن من دمشق إلى المدينة المنورة أو إلى جدة في ساعتين، هذه القصة قبل ألف سنة مستحيلة، فلما توافرت للإنسان طائرة تسير بسرعة عالية جداً صار الشيء مقبولاً الآن، هذا تشالنجر الذي احترق اسمه: المتحدي، كان يطوف حول الأرض دورات عديدة وركّاب هذا الطائرة يرون الأرض كما ترونها على الخارطة، العلم تقدم.
إذاً لو أن الله عز وجل بقدرته نقل هذا النبي الكريم من مكة إلى بيت المقدس في لمح البصر، هذا شيء جائز عقلاً، جائز الوجود، أي ما دام هناك قدرة تُوفِّر له هذا النقل السريع إذاً ممكن.
الشيء الآن يبدو لكم مستحيلاً، جبل بكامله لو أنه زُحزِح عن مكانه وارتفع فوقف في السماء هذا مستحيل؟ لا، جائز، الذي هي الأرض بقبضته:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)﴾
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)﴾
الذي يحمل الأرض ومن عليها قادر أن يحمل جبلاً في السماء، حتى أن تقول: هذا الجبل قاسيون هل يعقل أن يزحزح عن مكانه ويرتفع إلى قبة السماء؟ ممكن عقلاً، لأن الذي يحمل الأرض هو الله عزّ وجل، وهو على كل شيء قدير.
انقلاب الجماد إلى حيوان أمر ممكن عقلاً، لأن هذه المادة شيء يقودنا إلى موضوع في الكيمياء، المواد كلها مُركبة أساسها العناصر، العناصر بسيطة، عندنا بالكيمياء مئة وستة عناصر، أي هيدروجين، أوكسجين، الحديد، النحاس، القصدير، الألمنيوم، اليورانيوم، مئة وستة عناصر، هذا العنصر جزئياته مؤلف من ذرات، والذرة عبارة عن نواة يوجد حولها كهارب، أول مدار فيه كهروب واحد، المدار الثاني اثنان، وهكذا، ثمانية مدارات أعتقد، فالفرق بين عنصر غازي وعنصر صلب كهروب واحد، فإن ربنا عز وجل أعطى البحر أمراً أن كن جماداً، ربنا عزّ وجل أجرى تعديلاً طفيفاً، أضاف كهروباً حول النواة فانقلب البحر جماداً، شيء سهل على الله كثيراً، كما أمر سيدنا موسى:
﴿ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)﴾
﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)﴾
﴿ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)﴾
على الله عز وجل سهل جداً لأنه تعديل بسيط، كن فيكون، فأن تكن العصا أفعى والأفعى عصاً، وأن ينقلب البحر جماداً طريقاً يبساً أمر ممكن، جائز الوجود، لأن الله عز وجل على كل شيء قدير، معنى جائز الوجود العقلُ يقبل وجوده ويقبل عدم الوجود.
الأشياء لا تُفعل بذاتها إنما تفعل بمشيئة الله:
كاستنباط أخير، وهكذا كل موجود سوى الله تعالى فوجوده وصفاته وكذلك انعدامه وانعدام صفاته أمر ممكن عقلاً وليس شيء منه في حكم العقل بواجب في العقل ولا مستحيل، ممكن، الشيء وجوده وصفاته، وانعدامه وانعدام صفاته، أي إذا إنسان اشترى بيتاً في الطابق الثاني عشر، فرح به، ودفع ثمنه مليوني ليرة، وكساه كسوة درجة أولى، وظنّ نفسه أنه مستقر فيه، هذا الحديد الصلب ثبات صفاته بيد الله عز وجل، بأي لحظة الله عز وجل يأمر الحديد أن تخلى عن صفات القساوة فيقع البيت، فإذا أنت كنت ساكناً في بيت بالطابق الثاني عشر أو الحادي عشر أو الخامس أو السادس، هذا البيت قائم بالله عز وجل، لكن ربنا عز وجل من أجل استقرار الحياة ثبت أشياء، أعطى الأشياء صفات ثابتة، أما هذه الصفات في أي لحظة الله عز وجل يسلب الحديد قسوته، ينهار البناء، يسلب الأرض استقرارها، تنهدم الأبنية، حتى وجود بيتك بقدرة الله قائم، أخي والله وضعنا سبعة أكياس إسمنت للسقف، أمكن، بعلم التوحيد هذا كلام فيه سخف، عندما ربنا عز وجل يسلب الإسمنت تماسكه، والحديد متانته، ينهار البناء، لكن ربنا من أجل انتظام الحياة ثبت صفات الأشياء، هذا التثبيت بمشيئته، في أي لحظة يسلب الشيء صفاته، لذلك قال علماء التوحيد: الأشياء لا تفعل بذاتها إنما تفعل بمشيئة الله.
أي هذا الدواء فعّال إذا شاء الله، وليس فعالاً إذا لم يشأ، فشيء ظاهري إنسان يأخذ دواء يشفى، الثاني يستعمل الدواء نفسه لا يشفى، يا رب ما القصة؟ عندما أعطى الله هذا الدواء شفاء التسكين أو صفات البرء سمح لهذه الصفات أن تفعل فعلها وهنا لم يسمح، لذلك:
(( عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصابَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ))
الشفاء يحتاج إلى إذن من الله، أي الدواء لا يستطيع أن يشفي إلا إذا سمح الله له، أي الصفات الفعالة في الدواء هذه الصفات لا تفعل فعلها إلا إذا شاء الله سبحانه وتعالى، هذا هو التوحيد، لذلك الإنسان بالتوحيد ترتاح نفسه، الأشياء كلها بيد الله، الأشخاص كلهم بيد الله، الخيّرون كلهم بيد الله، الشريرون كلهم بيد الله، إلى أن يشاء الله، ماذا قال سيدنا إبراهيم؟
﴿ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)﴾
﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾
هذا هو التوحيد.
أمثلة على حكم العقل المستحيل الوجود:
الآن المستحيل عقلاً، كخلاصة لما سبق كل شيء موجود سوى الله عز وجل وجوده وصفاته، وانعدامه وانعدام صفاته، أمر ممكن عقلاً ليس واجباً وليس مستحيلاً.
الآن أمثلة على المستحيل عقلاً وجوده، الشيء الواحد من جهة واحدة، وفي مكان واحد، وفي زمان واحد، وفي صفة واحدة، يستحيل في حكم العقل أن يكون موجوداً ومعدوماً في الوقت نفسه، عالم جاهل لا يمكن، مظلمة منيرة، إما أن تكون مُظْلمة وإما أن تكون مُنيرة، موجود وغير موجود، مستحيل، الشيء الواحد من جهة واحدة، وفي وقت واحد، وفي مكان واحد، وفي صفة واحدة يستحيل وجوده وعدم وجوده، هذا مستحيل، إذا اختلف الزمن ممكن، موجود اليوم غائب البارحة، ممكن، إذا اختلف المكان ممكن، موجود في دمشق غائب في حلب، ممكن، إذا اختلف الشخص؛ فلان موجود في الشام، وفلان في حلب موجود، ممكن، إذا اختلفت الجهة أو اختلف المكان أو اختلف الزمان أو اختلفت الصفة، ممكن يجتمع النقيضان، فلان عالم بالطب جاهل بالدين، ممكن، الصفة اختلفت، أما بالطب وبالذات شخص واحد وبالطب وبوقت واحد وبزمان واحد وبمكان واحد عالم جاهل مستحيل، هذا مثال على المستحيل عقلاً وجوده.
العقل لا يقبل أن يكون الجزء أكبر من الكل، لأنه جزء، إنسان راتبه ألف ليرة، صرف منه أجرة البيت دفعها منه الأجرة خمسة آلاف، هذه مستحيلة، كيف دفعها من الألف؟ هذه مستحيل، طبعاً هذه أشياء بديهية، الأطفال يرفضونها، هذا المستحيل عقلاً، الجزء لا يكون أكبر من الكُل، إلا إذا تديّن ثمن أجرة البيت.
الدجال له عين عمياء، هذه العين العمياء عمياء، أما أن تكون عمياء وبصيرة في وقت واحد هذا شيء مستحيل، لكن يوجد شخص رياضي قال: الأعور نصف أعمى، صح، والأعور نصف بصير، صح، كتب نصف أعمى صورة نصف بصير مخرج، مادام هناك قاسم مشترك بينهما، قسم على النصف كان الأعمى كالبصير، هذه مستحيلة، هذه أغلوطة رياضية، أما الأعور نصف أعمى، هذه العين إما أنها عمياء أو مُبصرة، أما عمياء مبصرة فهذا مستحيل أيضاً عقلاً.
يوجد شاعر بشار بن برد فذهب إلى خياط خاط له ثوباً، أي هو قباء، انزعج من الخياطة لا هو بالطويل ولا هو بالقصير، فقال هذا الشاعر لهذا الخياط والله لأهجونك في بيت لا تدري أمدح هو أم ذم، فالخياط كان أعور، فقال هذا الشاعر:
خَاطَ لي زَيْدٌ قِبَاء ليتَ عينيه سِوَاء
أي لا تعرف مدح ليتهما مبصرتان، أو ليتهما عمياوان.
إذاً من القواعد الفلسفية في المستحيل عقلاً أنه يستحيل عقلاً اجتماع النقيضين في شيء واحد وزمان واحد، هذه لها تطبيقات مهمة جداً، مثلاً بالقضاء إذا كان المتهم أثبت للقاضي أنه في وقت وقوع الجريمة كان خارج القطر مثلاً، انتهى براءة، مستحيل عقلاً أن يكون الإنسان في دمشق وفي باريس في وقت واحد، مستحيل، فإذا أثبت المتهم أنه في وقت وقوع الجريمة كان خارج القطر، أنا أعرف متهماً وقت التهمة كان عند موظف في بلد آخر، فالمحقق اتصل بالموظف: هل كان فلان عندك يوم كذا الساعة كذا؟ قال له: نعم، فأطلق سراحه، لأنه عقل، مستحيل عقلاً أن يكون في مكانين بآن واحد، فيستحيل عقلاً اجتماع النقيضين في شيء واحد وزمان واحد.
ومستحيل عقلاً ترجيح أحد المتساويين تساوياً تاماً على الآخر من غير مرجِّح، إذا كان كأسان بالوزن نفسه، والشكل نفسه، واللون نفسه، والصفاء نفسه، أن تقول: هذه أحسن من هذه، هذا مستحيل عقلاً، مستحيل تُرجح شيئين متساويين تساوياً تاماً دون سبب، وهناك شيء أيضاً مستحيل وهو مهم جداً، مستحيل توقف وجود الشيء على وجود نفسه، هذه دقيقة تتوضح بمثل، كأن تقول: والله لا أدخل الدار حتى آخذ منك ألف درهم، ثم تقول: ووالله لا آخذ منك ألف درهم حتى أكون داخل الدار، لا تصير، لا تدخل هذه الدار إلا إذا قبضت ألف درهم، ولا تقبضها إلا داخل الدار، هذه مستحيلة.
فقال هذا: علقنا دخول الدار على أخذ الدراهم، ثم علقنا أخذ الدراهم على كوننا في داخل الدار، فأصبحت القضية مستحيلة الحل، صحيح لا تقسم، ومقسوم لا تأكل، وكُل حتى تشبع، هذا شيء مستحيل:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء
[ الحسين بن منصور الحلاج ]
مستحيل سوف يبتل بالماء، سوف أغرق بالماء، لأني مكتوف، هذا الجبر والعياذ بالله، عقيدة الجبر عقيدة خطرة، خلقه شقياً، وقدّر عليه أن يرتكب كل المعاصي، فارتكبها تنفيذاً لأمر الله، فلما ارتكبها حاسبه لم ارتكبتها؟ وأدخله النار خالداً مخلّداً، من كان يظن بالله ذلك فهو لا يعرف الله إطلاقاً.
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
[ الحسين بن منصور الحلاج ]
أي هذه المعصية لن تتركها إلا إذا شاء الله، والله عز وجل لم يشأ لك أن تتركها، فلماذا فعلتها؟ من هذا النوع تماماً، هذا الشيء مستحيل عقلاً، لن تقلع عن المعصية إلا إذا شاء الله، والله عز وجل لم يشأ أن تقلع عنها، ثم تحاسب لماذا فعلتها؟ هذه مستحيلة عقلاً، ليسَ له ذنب.
الشيء لا يمكن أن يوجد نفسه ما لم يكن موجوداً، لأن الإيجاد يحتاج إلى قوة موجدة، ولا يمكن أن يكون موجوداً حتى يوجد نفسه، فتوقف وجود الشيء المعدوم على وجود نفسه هذا مستحيل عقلاً، هذا الكون العظيم كيف أخي؟ أوجد نفسه، قبله كان في عدم، العدم شيء سلبي كيف أوجد نفسه؟ هو كان موجوداً سابقاً حتى أوجد نفسه؟ ما كان موجوداً سابقاً، لو كان موجوداً قبل أن يكون موجود معقول، لكن كان في عدم قبله، كيف كان معدوماً ثم صار موجوداً؟ إذا قلت: هو أوجد نفسه، معنى هذا الموجد موجود قبل الشيء الذي أوجده، هذا شيء مستحيل عقلاً.
هناك مثل آخر يضربوه أيضاً واضح، فكلمة ضرب مثلاً لها ستة تقاليب باللغة، ضرب، رضب، برض، ضبر، ربض، بضر، هذه الحروف ضع الضاد أولاً ثم الراء والباء، ثم ضع الضاد والباء والراء، ثم ضع الراء الضاد الباء، وهكذا ست تقاليب، يستحيل عقلاً أن توجد احتمالاً سابعاً، مستحيل، ستة احتمالات، يوجد ستة تقاليب، هذا المستحيل الوجود، طبعاً في الدروس القدمة سوف نضرب أمثلة كثيرة وسوف نصل إلى جوهر الموضوع، الآن كمقدمات لا نزال نحن.
أمثلة على حكم العقل الواجب الوجود:
بقي علينا، تحدثنا عن جائز الوجود، وعن مستحيل الوجود، بقي علينا واجب الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى، واجب الوجود، أي وجوبه واجد، ووجوده واجب، ينحصر وجوب الوجود في الخالق جلّ وعلا، وفي صفاته العلية، أي العقل لا يقبل هذا الكون من دون خالق، فوجوده واجب ليس مستحيلاً وليس ممكناً، واجب الوجود، أوضح من ذلك، أنت تشاهد هذه المسجلة، لا توجد قوة في الأرض تقنعك أنها وحدها صارت مسجلة، يوجد مهندسون، شركة عمرها حوالي ثلاثين سنة أو أربعين سنة، فيها مئتا مهندس، بحوث يومية، تحسينات، إضافات حتى صارت، انظر إلى السيارة لابدّ لها من مصنع، كل شيء لابد له من خالق، وكل مُنَظَّم لابد له من مُنظِّم.
أوضح مثل، كان هناك مقالم خشب قديماً، مصنوعة من الخشب، لو جئت بقطعة حطب وضعتها على الطاولة، كم سنة أو كم شهراً أو كم قرناً تنقلب هذه القطعة من الحطب إلى مقلمة؟ الجواب: ولو بقيت مليار مليار سنة يبقى الحطب حطباً إلى أن تأتي يد وتصنعها، إذاً كل صنعة لابدّ لها من صانع، كل مُنَظَّم لابُد له من مُنظِّم، كل شيء لابُد له من خالق، الآن إذا اقترن النظام مع الحركة لابد له من مُسَيّر، مثلاً وجدت سيارة واقفة فوراً تنتقل للمعمل، تصوّر معملاً مساحته عشرة آلاف دونم، قسم للحديد، قسم للتجميع، خط سير، قسم للعجلات، قسم للأجهزة الكهربائية، قسم للمحرك، مكان إدارة، مكان تجريب، مكان خبرات، مكان بحوث، خط السير، تجميع الأدوات، سمعت السيارة من يعلم كم مجموع القطع بالسيارة؟ رقم كبير، أي أعداد كبيرة جداً، فكل عدد له مستودعه، له تصميمه، له ترتيب دقيق، هذه السيارة لابُد لها من صانع، لكنك إذا رأيت سيارة تسير في الطريق بحكمة، الإشارة حمراء توقفت، مرَّ طفلٌ أمامَها، أطلق السائق البوق، عند الانعطاف السرعة خفت، وجدت حفرة حادت عنها، أنت تجلس بمكان عال، ماذا تحكم؟ أن في هذه السيارة سائقاً، لا يمكن، لأنه حركة مع نظام، النظام فقط يريد صانعاً، أما حركة ونظام تحتاج إلى مسيّر، لا يمكن، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ الأرض تسير على خط سير دقيق جداً لا تحيد عنه قيد أنملة، من الذي يُمسكها أن تزول؟ هو الله سبحانه وتعالى، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ الآن إذا كان قطار خرج عن سكته، قاطرة حديثة كبيرة جداً وزنها مثلاً -هناك أوزان كبيرة-أربعون طناً، خمسون طن وزن المقطورة، هذه حديثة، فإذا خرجت عن السكة تحتاج إلى رافعات ضخمة جداً كي تعيدها إلى السكة، فهذه الأرض لو أنها خرجت عن مسارها من الذي يستطيع أن يُعيدها إلى مسارها؟ الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ أي من يستطيع أن يمسكها مِن بعده؟ الله سبحانه وتعالى، فينحصر وجوب الوجود في الخالق جلّ وعلا وفي صفاته العلية، وقد قام الدليل العقلي على أن وجود الخالق العظيم واجب، وأنه يستحيل عدمه، لأن العقل لا يُجيز بحال أن يكون العدم هو أصل الوجود.
أي لا شيء من لا شيء، كل شيء من كل شيء، لا شيء من لا شيء، إذ لو كان الأصل العدم لاستحال أن يتحول العدم إلى وجود، بما فيه من ذوات، وصفات، وقوى، وهذا كله له تفصيلات دقيقة جداً نأخذها في مكانها حين الحديث عن أسماء الله الحسنى وعن أولى أسمائه وهو أنه موجود.
هذا كله عن الأحكام العقلية، جائز الوجود، مستحيل الوجود، واجب الوجود، واجب الوجود الله سبحانه وتعالى، والكون كله جائز الوجود، وهناك قواعد مستحيلة الوجود كأن يكون الجزء أكبر من الكل، والشيء ونقيضه، والشيء وعدمه، تحدثنا عنها.
الفرق بين حكم العادة وحكم العقل:
الآن عندنا الأحكام العادية، أي أنت من خلال حياتك اليومية أَلِفْتَ أن النار تُحرق، فإذا حكمتَ على النار بأنها تحرق فهذا حكم عادي وليس حكماً عقلياً، مستنبط من التجربة، فأحكام البشر هذا الميت لن يعود، حكم عادي، هذا البحر لن ينقلب إلى يبس، حكم عادي، هذه النار لابد من أن تحرق، حكم عادي، وهذه الأحكام العادية مستنبطة من التجربة، لكن الأحكام العقلية مستنبطة من بنية العقل.
في الأمور العادية نحكم على الشيء بحسب العادة لا بحسب المنطق، فهناك أشياء مستحيلة في حكم العادة لا في حكم العقل، أي مستحيل أن يعود الميت حياً، هذه في حكم العادة، لكن لو أن النبي بإذن الله لمسَ الميت فعاد ينطق هذا ممكن في حكم العقل، مستحيل في حُكم العادة، وهناك واجب في حكم العادة وهو ضد المستحيل، أي حينما تعطف هذا الكأس ينصب الماء على الطاولة، هذا واجب بحكم العادة لكن ممكن ألا ينصب عقلاً، فموضوع العادة نحن كل حياتنا اليومية أحكامها مأخوذة من العادة، فممكن، غير ممكن، واجب، مستحيل، هذه بحكم العادة، ولكنك إذا تلوت كتاب الله وقرأت قوله تعالى:
﴿ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)﴾
و: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ .
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)﴾
يا سارية، الجَبلَ الجبلَ، هذه كلها أشياء ممكنة عقلاً، ولكنها في حُكم العادة المألوفة مستحيلة.
الغاية من الدرس الوصول إلى هذه الأسئلة:
1- ما هو الهدف من خلق الإنسان؟
إن شاء الله في درس قادم ننتقل إلى موضوع آخر هو أن في حياة كل منا أسئلة كبرى مُلحة جداً، الإنسان حيال هذه الأسئلة إما أن يستغني عن الإجابة عنها فيعيش حائراً ضائعاً متردداً قلقاً، وإما أن يبقى حائراً في الإجابة عنها، أن تشغله، وإما أن يعرف الجواب فيسعد بحياته وآخرته.
سؤال؛ لماذا خلقني الله عز وجل؟ هذا أكبر سؤال، لماذا أنت مخلوق؟ تجلس في مجلس علم، تعرف لماذا أنت مخلوق، تجلس مع أناس في سهرة، سبحان الله! الله خلقنا للعذاب، يقول لك أيضاً: سبحان الله! هذا هدف إلهي؟ تُخلق للعذاب فقط؟ يقول: لا أحد مسرور سبحان الله! كل واحد يأتيه همّ يغمره غمراً، لا أحد مرتاح، لا راحة لإنسان، عجيب، هذا السؤال المهم، لماذا أنت موجود؟ هل هناك إنسان يعمل عملاً مهما كان تافهاً بلا غرض؟ بلا هدف؟ أنا حينما أزيح الكأس لي هدف، حينما أقلب الصفحة لي هدف، مهما بدا لكم العمل تافهاً لابد من هدف كبير، وهذا الخالق العظيم هل خلَقَنا بلا هدف؟
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)﴾
هذا السؤال الأول.
2- ما أثمن شيء في هذه الحياة؟
السؤال الثاني؛ ما أهم شيء على وجه الأرض؟ انظر إلى الناس:
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)﴾
لو فرضنا شارعاً مزدحماً في الصباح الساعة الثامنة والنصف، عملت حاجزاً وسألت ألف شخص: أنت إلى أين ذاهبٌ؟ والله ذاهب لأشتري، أنت؟ ذاهب لأفرغ بيتاً، أنت؟ ذاهب أجري معاملة زواج، ، أنت؟ ذاهب لأؤذي فلاناً، أنت؟ ذاهب لشراء أغراض، أنت؟ ذاهب إلى الطبيب، أنت؟ ذهاب لإخراج جواز سفر، أريد أن أسافر، لو سألت ألف إنسان كل شخص يمشي باتجاه، سؤال، ما هو أثمن اتجاه في الحياة؟ تجمع مالاً؟ تعمر بيوت؟ ترفه نفسك؟ تعمل سياحة حول العالم؟ يكون لك مورد ضخم جداً؟ تتزوج أجمل امرأة؟ يكون لك أولاد ثمانية أطباء وثمانية مهندسين، ما هو الهدف من خلق الإنسان؟ ما هو الهدف شيء وما هو أجدى شيء في الحياة سؤال ثان؟
شيء ثالث؛ ماذا بعد الموت؟ كل يوم أربعون حالة وفاة في الشام، يوجد حوالي عشر نعوات والباقي دراويش على المئذنة، يوجد عشر نعوات على الجدران، هذا إلى أين راح؟ تكلمنا اليوم صباحاً في بعض البلاد العربية بلاد النفط، هناك عبارة على الجواز تثير الفزع في النفس، تأشيرة خروج بلا عودة، تعرفون الإنسان حينما يموت يعطوه تأشيرة خروج بلا عودة، ترك البيت وخرج، غرفة نوم، له مكتب خاص في بيته، مكتبة ضخمة، سيارته على الباب، حاجاته الشخصية، خزانته، معه دفتر شيكات، رصيده في البنك، حساباته، مكتبه بالتجارة، أضابير، أين هو الآن؟ تحت التراب، أعطوه تأشيرة خروج بلا عودة.
إذا توصلت إلى معرفة هذه الأسئلة سلكت سبيل السعادة في الدنيا والآخرة:
نحن عندنا ثلاثة أسئلة؛ أول سؤال: لماذا نحن هنا؟ لماذا نحن موجودون على وجه الأرض؟ عبثاً؟ لا، سدى؟ لا، لعب؟ لا، لا عبثاً ولا سدى ولا لعباً، إذا عرفت الهدف الكبير الذي خلقه الله من أجلك فأنت أسعد الناس، هذه واحدة، وإذا عرفت ما هو أثمن شيء في الأرض.
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾
يحسب نفسه أنه منتصر، والله أنا هذه الأرض أخذتها بثلاثين ألفاً، اليوم ثمنها ثلاثة وعشرين مليوناً، ضحكته لآخر وجهه، هل تعتقد أنك منتصر بهذه العملية؟ هل تعتقد أنك رابح؟ ليسَ لكَ إلا ما أكلت، صحن الفاصوليا الظهر ليس لك غيره الذي أكلته في المنزل، ونصف تفاحة، وإذا أثقلت في الطعام عندك ألف ألف شيء متعب في صحتك.
(( فعَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ قَالَ يَقُولُ: ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي قَالَ: وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ. ))
وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية، يستيقظ قبل الشموس ويعود بعد أنصاف الليالي، يذهب وأولاده نائمون ويعود وأولاده نائمون، يقول لك: العمل عبادة، يضفي عليه طابع العبادة، وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطنّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي ، وكنت عندي مذموماً، قال تعالى:
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾
إذا تستطيع أن تعرف لماذا أنت موجود؟ وما هو أثمن شيء في حياتك؟ وماذا بعد الموت؟ انتهت كل مشاكلك، ثلاثة أسئلة، لماذا أنت مخلوق؟ وما هو أثمن شيء؟ يقول لك أحدهم: ما استطعت أن آتي، لماذا؟ جاءنا ضيف استحييت منه، عُرِفت قيمة الدرس عندك، قيمة الدرس كله يعادل لا تستحي من ضيف، أما لو أنت تعرف لماذا الله خلقك في الدنيا؟ وهذا المجلس مجلس علم ويسهم في تعريفك بمهمتك بالحياة، تقول له: والله أنا مدعو لعشاء دسم تذهب معي؟ عندنا دعوة على العشاء دسمة، عزيمة فاخرة، خذه معك، ادخل إلى الجامع هذا هو العشاء، إذا جاءك ضيف قبل الدرس اعمل له مزحة أحضره إلى الدرس معك، تكون أنت انتهيت من الإحراج وأحضرته معك إلى الدرس، أما لأتفه سبب تترك الدرس لا يجوز، لماذا أنت هنا؟ وماذا تفعل هنا؟ وماذا بعد هنا؟ هذه أسئلة ثلاث، لماذا أنت هنا؟ وماذا يجب أن تفعل هنا؟ وماذا بعد هنا؟ إذا تمكّنت من أن تعلم إجابة هذه الأسئلة فقد سعدت في الدنيا والآخرة.
الملف مدقق