- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (047) سورة محمد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، الآية الثانية من سورة محمَّد صلى الله عليه وسلَّم وهي قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)﴾
أيها الإخوة الكرام، لعلَّلي لا أُبالِغ إن قلتُ: أنَّهُ مِن أعْظم النِّعَم صلاح البال، وفي آية أخرى يقول تعالى:
﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)﴾
رفَعَ صلاحَ البال إلى مُستوى الهُدَى، وصدِّقوني أنَّ صَلاح البال نِعمةٌ يَخْتصُّ بها المؤمن، لأنَّ الله يُعطي الصِّحة والذَّكاء والجمال للكثيرين مِن خِلْقِهِ ولكنَّهُ يُعطي السَّكينة والطُّمأنينة لأصْفِيائِهِ المؤمنين، قال تعالى:
﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4)﴾
وقال تعالى:
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81)﴾
لو أنَّ الله قال: أولئك الأمْنُ لهم، لكان الأمن لهم ولغيرهم أما حينما نقول: لهم الأمْن، فالأمْن لهم وَحْدهم، وهذه نِعمةٌ يَختصُّ بها المؤمن، وأسباب هذه النِّعْمة أنَّهُ مُوَحّد ؛ لأنَّهُ يرى أنَّ الأمْر كلَّهُ بيَدِ الله والله سبحانه وتعالى أسماؤُهُ حُسنى، وصِفاتُهُ فُضْلى، والله غنِيّ قَوِيّ رحيم وعادِل رؤوف، والأفعال كلُّها أفْعاله، والأمْرُ كُلُّه له عائِد، فلو أنَّ شَخْصا ما كان بِدَائِرَة حُكومِيَّة، وكان هناك نِظام صارِم، وكان المدير العام هو أبوهُ، فهل يقْلق ؟ أو يتحرَّج ؟ فالله عز وجل يُحاسِب أدَقَّ الحِساب، قال تعالى:
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)﴾
يُحاسِبُ على الكلمة، وعلى الخُطْوَة، وعلى النَّظْرة، ولكن بالعَدْل، فالله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)﴾
إن أرَدْتَ صلاحَ البال، وهو مِن أعظم النِّعَم، عليك أن تُؤْمِن، وعليك أن تعْمَل صالحًا، فالكُلّ يدَّعي أنَّه مؤمن، هل بإمكان الناس ادِّعاء الدُّكتوراه ؟؟! دون أن يقرأ أو يكتُب أو يلْتَحِ بِمَدْرسة ! فالإيمان درجة عِلْمِيَّة، ودرجة أخلاقِيَّة، وجمالِيَّة، يُقال له: متى آمنْتَ ؟ هل حضَرْتَ مجالِسَ العِلْم ؟ وهل قرأْتَ القرآن ؟ هل قرأْتَ السنَّة والفقْه ؟ وهل قرأتَ السيرة ؟ هل الْتَزَمْتَ جماعة ؟ وهل بذَلْتَ مِن مالِكَ ؟ مِن الصَّباح وحتَّى المساء، وهو في العَمَل، وبالجمعة يذْهب للسيران ! ثمَّ يقول لك: أنا مؤمن، وأحْسَنُ مِنك !! هل يوجَد إنسان يسْتيقِظ فإذا هو دُكتور ؟ وهل يوجد مَن هو غارق بِشَهواتِهِ ويصْبِح أكْبر تاجِر ؟ قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)﴾
سيِّدُنا سَعد بن أبي وقَّاص يقول: ثلاثةٌ أن فيهِنَّ رجل، وفيما سِوى ذلك فأنا واحِدٌ مِن الناس ما صَلَّيْتُ صلاةً وشُغِلَتْ نفسي حتَّى أقْضِيَها، ولا سِرْتُ في جنازة فحدَّثْتُ نفسي بِغَير ما أقول حتَّى أنْصَرِف منها، ولا سَمِعْتُ حديثًا من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إلا علِمْتُ أنَّهُ حقٌّ من الله تعالى، والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينْطِق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحَى، فأيُّ حديثٍ قالهُ النبي صلى الله عليه وسلّم يجب أن تعْلَمَ أنَّه من الله، فالله تعالى أوحاهُ له مَتْلُوًّا، وأوْحى له السنَّة وحيًا غير مَتْلُوًّ، فكَلامُهُ حقّ، سألَهُ أحدُ أصْحابِهِ: أنَكْتُبُ عنك، وأنت غضْبان ؟! فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيَده، لا ينطِق هذا اللِّسان إلا بالحق !
قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)﴾
الهُدَى واحِد، ولا يتعدَّد، والدليل قوله تعالى:
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153)﴾
فَكَما أنَّهُ لا يُمْكِنُ أن نرْسُمَ بين نُقْطَتين إلا مُستقيمًا واحِدًا، يمْكنُ أن نرْسُمَ ألف خطّ مُنْحَني بين هاتين النُقْطَتين، وألف خطّ مُتَعَرِّج، وألف خطّ منْكَسِر، فالحق واحِد قال تعالى:
﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(257)﴾
الظلمات جَمْع، والنور مُفْرد، لذا مَعْركةٌ بين حقَّين لا تكون في الأرض، ومعركةٌ بين حقٍّ وباطِل لا تَدوم، فلا بدَّ من أن تنتهي، ومعركة بين باطِلين لا تنتهي !
الشيء العجيب ؛ أنَّه مهما يكون الماضي ثَقيلاً كفَّر عنهم سيِّئاتهم، قال تعالى:
﴿قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53)﴾
لو بلغَتْ ذنوبُكَ عنان السَّماء ثمَّ جِئتني تائِبًا غفَرْتُها لك، ولا أُبالي، باب التَّوبة مَفتوحٌ على مصارِعِه، إلا أنَّ التوبة مفتوحة قبل أن يأتِيَ مَلَكُ الموت:
وليْسَت التوبة حتَّى إذا جاء أحدهم الموت قال إنِّي تبْتُ الآن
وبالمناسبة ؛ خِيارُكَ مع الإيمان خِيار وَقت، فرعون وأسْلم قبل أن يموت فإمَّا أن تُؤْمِن في الوقت المناسب، وإلا فما قيمة هذا الإيمان لمَّا يأتي بعد فوات الأوان ؟! بِرَبِّكم، لو أنَّ طالبًا رسَبَ في الشَّهادة الثانَوِيَّة، ثمَّ عاد إلى البيت فقرأ الأسئلة، ثمَّ قدَّم طلبًا إلى الوزارة أنِّي قد عُدْتُ إلى البيت، وقرأتُ الأجْوِبَة، وعرفتُها، لذا يُرْجَى إدْراج اسْمي مع الناجحين ! وكذلك الإيمان بعد فوات الأوان لا قيمة له إطلاقًا، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)﴾
معنى حقّ أنَّهُ ثابت، ألف نَظَرِيَّة نُقِضَتْ، وألف فِكرة ثبَتَ فشَلُها، وألف تَرتيب أصْبَحَ مَدعاةً للسُّخْرِيَة، ولكنَّ الحق ثابِت، وهذا الدِّين يستحيل أن تظْهر نَظَرِيَّة تنقض أسسهُ.
قال تعالى:
﴿كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)﴾
صلاح البال لا يُقدّر بِثَمَن، وهو يخْتصُّ به المؤمن دون غيره، قال تعالى:
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾
قد يسأل السائل: ما بالُ الأغنياء ؟ وما بال المُلوك ؟ يقول الله عز وجل:
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾
فقال العالم الذي سئِلَ هذا السؤال: المعيشة الضَّنك للأغنياء والأقوياء ضيقُ القلب، ولو وُزِّع هذا الضِّيق على أهل بلدٍ لقَتَلَهم !
أيُّها الإخوة الكرام، قال تعالى:
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)﴾