وضع داكن
03-12-2024
Logo
على هدى - الحلقة : 06 - الدنيا مزرعة الآخرة - دورة الحق والباطل.
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

الدنيا دار التواء لا دار استواء :

 أيها الأخوة الكرام، مع لقاء إيماني جديد، الحقيقة أن الدنيا والآخرة، الدنيا دار عمل وابتلاء، والآخرة دار جزاء، فحينما نفهم حقيقة الحياة الدنيا نتعامل معها بحالة طيبة، لذلك ورد في بعض خطب النبي صلى الله عليه وسلم:

(( إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء....))

[ كنز العمال عن ابن عمر ]

 أي لا تصفو لإنسان، يوجد مال لا يوجد أولاد، يوجد أولاد لا يوجد مال، يوجد مال وأولاد الزوجة غير صالحة، لحكمة بالغة بالغة لأن الله خلقنا للآخرة، خلقنا لجنة عرضها السموات والأرض، لذلك شاءت حكمته أن يجعل الدنيا عبوراً وليست استقراراً.
 بل إن الدنيا بكل ما فيها لا يمكن أن تمد الإنسان بسعادة مستمرة، بل تمده بلذائذ متناقصة، والفرق كبير جداً بين السعادة واللذة، اللذة حسية، واللذة تحتاج إلى مال وصحة ووقت، ولحكمة أرادها الله الإنسان في رحلته في الحياة في كل مرحلة ينقصه أحد هذه المقومات الثلاثة؛ بالبداية يوجد صحة ووقت ولا يوجد مال، بمنتصف الحياة أسس مشروعاً، والمشروع نجح، فيوجد مال وصحة لكن لا وجد وقت، على رأس المشروع طوال الوقت، تقاعد سلم أولاده المعمل، أصبح هناك وقت ومال ولا يوجد صحة.
 لحكمة بالغة شاءت الإرادة أن الحياة ليست دار استواء بل دار التواء، ومنزل ترح لا منزل فرح.
 الآن دققوا:

((.. فمن عرفها لم يفرح لرخاء .. ))

[ من كنز العمال عن ابن عمر ]

 لأنه مؤقت :

((..ولم يفرح لشقاء..))

 لأنه مؤقت طبعاً تعليق مني على النص:

(( ... جعلها الله دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي))

[ من كنز العمال عن ابن عمر ]

 هذا الفهم الدقيق للحياة الدنيا تسعد به بأي حالة.

 

العمل الصالح علة وجود الإنسان في الدنيا :

 لذلك الله عز وجل ذكر السكينة في القرآن، والسكينة حالة لا أملك قدرة على تفسيرها بقدر ما هي واسعة، السكينة راحة نفسية، السكينة رضا عن الله عز وجل، السكينة تفاؤل، سعادة، حكمة، لذلك قالوا بالسكينة تسعد ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء، لذلك ورد: إن الله يعطي كل شيء - الصحة والمال والقوة والجمال- للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين.
 المؤمن يملك سكينة لا يملكها غيره إطلاقاً، ويسعد بها ولو فقد كل شيء، ويشقى بفقدها ولو ملك كل شيء.
 أيها الأخوة؛ فهذه الدنيا جعلها الله ممراً وليست مقراً، جعلها الله مكاناً وزماناً لدفع ثمن الآخرة، لذلك علة وجودنا في الدنيا العمل الصالح، والدليل الإنسان إذا قارب الموت يقول:

﴿ رَبِّ ارجِعونِ*لَعَلّي أَعمَلُ صالِحًا فيما تَرَكتُ ﴾

[سورة المؤمنون: ٩٩-١٠٠]

 معنى ذلك أن علة وجودك في الدنيا بعد الإيمان بالله العمل الصالح، بل إن حجمك عند الله بحجم عملك الصالح.

 

الوعد الحسن من الله يمتص كل متاعب الحياة :

 لذلك جاءت حكمة الله أن تكون الدنيا دار ابتلاء وعمل، والآخرة دار جزاء وأمل، الأمل بالآخرة والإيمان بالآخرة يقيم توازناً، أي إيمان الإنسان بالآخرة يمتص معظم حالات الدنيا.
 مرة في جلسة فيها عدد كبير من الأشخاص الكرام، قال لي شخص لا أذكر الذي أراده من هذا الكلام أما أذكر كلامه بالضبط، قال لي: تقول: المؤمن سعيد، لا، ليس سعيداً، مثله مثل الناس، أي بشكل غير لبق، قلت له: ما السبب؟ قال لي: إذا كان هناك موجة حر يتحملها كغيره، إذا كان هناك غلاء أسعار تجري عليه كما تجري على غيره، أي لا يوجد لديه أية ميزة، خطر ببالي مثل؛ قلت له: إنسان فقير جداً، عنده ثمانية أولاد، دخله لا يكفيه خمسة أيام، وبيته بالأجرة، وعليه دعوى إخلاء، هذا الإنسان له عم غني جداً يملك خمسمئة مليون، وليس عنده أولاد، وهو وريثه الوحيد، فإذا بعمه يموت بحادث فجائي، بثانية واحدة انتقل لهذا الفقير خمسمئة مليون، لكن إجراءات الإرث والبيع والشراء ونقل الملكية تحتاج إلى عام، لماذا هذا الفقير طوال هذا العام أسعد إنسان؟ لم يأكل لقمة زائدة، ولم يشتر معطفاً، لكنه ملك خمسمئة مليون، دقق في قوله تعالى:

﴿أَفَمَن وَعَدناهُ وَعدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقيهِ كَمَن مَتَّعناهُ مَتاعَ الحَياةِ الدُّنيا ﴾

[سورة القصص: ٦١]

 أي الوعد الحسن من الله يمتص كل متاعب الحياة، لذلك لنا أستاذ في الجامعة عالم نفس كبير، قال لنا: المشكلة النفسية بالعالم الغربي كبيرة جداً، معظم الناس يعانون من مرضين، أما هذه المشكلة تكاد تختفي بالعالم الإسلامي، فسرها بالإيمان، أن المؤمن يؤمن بالآخرة، فالذي فاتك بالدنيا الله عز وجل يعوضه عليك بالآخرة.
 فالإيمان بالآخرة يحدث توازناً، الإيمان بالآخرة يسوي الحسابات كلها، والإيمان بالآخرة اقترن بالإيمان بالله في معظم آيات القرآن الكريم، أي يوجد إيمان بالملائكة والكتب والقضاء والقدر أما الركنان الأساسيان اللذان اقترنا في القرآن فهما الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر.
 الإيمان بالله من أجل ألا تعصيه، والإيمان باليوم الآخر من أجل ألا تؤذي مخلوقاً، الإيمان بالله يمنعك أن تعصيه، والإيمان باليوم الآخر يمنعك أن تؤذي مخلوقاً، فهذا الإيمان بالله واليوم الآخر شيء أساسي في حياتنا، والإنسان ينطلق أحياناً من تصور، فإذا صح التصور صح السلوك، لذلك الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء.

 

عظمة هذا الدين أنه دين فردي و جماعي :

 الآن عندنا شيء اسمه دورة الحق والباطل، أحياناً يكون أهل الحق أقوياء، هذه نحن ما رأيناها سمعنا عنها في التاريخ، لما كان الصحابة بأوج قوتهم، ويوم فتحوا البلاد، ودان لهم العباد، لهذا الحالة رائعة جداً أن يكون المؤمنون أقوياء، ويوجد حالات أخرى المؤمنون ضعفاء، فنحن لحكمة أرادها الله جاء دورنا وأهل الباطل أقوياء، وأهل الحق ضعفاء، لكن هذا لا يعني أن تعطل النتائج، النتائج موجودة، أي المؤمن له معاملة خاصة، هذه العبارة ألح عليها، أنت مؤمن لك معاملة خاصة، أي الأمة إذا طبقت منهج الله انتصرت على أعدائها، فإن لم تطبق منهج الله وجاء مؤمن واحد طبق منهج الله يقطف معظم ثمار الإيمان وحده، والدليل:

﴿ وَكَذلِكَ نُنجِي المُؤمِنينَ﴾

[سورة الأنبياء: ٨٨]

 أي هذا الدين عظمته أنه دين جماعي وفردي، دين جماعي لو أن الأمة طبقته انتصرت، و دين فردي لو أن المسلم وحده بين مليار وثمانمئة مليون مسلم طبقه وحده لقطف معظم ثماره الفردية لا الجماعية طبعاً.

 

دورة الحق و الباطل :

 فلذلك أيها الأخوة؛ الحق له دورة، دورة الحق والباطل أطول من عمر الإنسان، للتقريب رمضان يأتي في الصيف كل ست و ثلاثين سنة، إذا إنسان عاش سبع عشرة سنة لا يعيشه إلا مرة واحدة، إذا أدركه في الصيف لن يدركه مرة ثانية، فنقول: دورة رمضان مع الصيف والشتاء ست و ثلاثون سنة، فكل إنسان عاش أقل من ست و ثلاثين لا يستطيع أن يدرك هذه الدورة الثانية.
 لذلك الحق والباطل لهما دورة، أحياناً الباطل قوي جداً، وأحياناً الحق قوي جداً، فإذا كان الحق قوياً ظهر النفاق، وإذا كان الحق ضعيفاً ظهر في الدنيا الاعتصام بالله عز وجل، وهذا أجر كبير، لذلك: يأتي على أمتي زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، قالوا: يا رسول الله أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل،
 كثير أي مليار وثمانمئة مليون، وليست كلمتهم هي العليا، وليس أمرهم بيدهم، وللطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل:

((...... وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ))

[ أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ]

 فالإنسان إذا أحب الدنيا وآثرها على كل شيء يضعف المسلمون بشكل أو بآخر.

 

الدين توقيفي من عند الله :

 ملاحظة دقيقة جداً؛ هذا الدين الذي أكرمنا الله به هو دين من عند الله، توقيفي من عند الله لا يمكن أن يضاف عليه، إذا قلنا إضافة أي اتهمناه بالنقص، ولا يمكن أن يحذف منه، وإذا حذفنا منه اتهمناه بالزيادة، دين توقيفي، كماله من عند الله:

﴿ اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتي ﴾

[سورة المائدة: ٣]

 والعلماء قالوا: الكمال نوعي والإتمام عددي، أي عدد القضايا التي عالجها الدين تام عدداً، طريقة المعالجة كاملة نوعاً،

﴿ اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دينَكُم ﴾

 الإكمال نوعي،

﴿ وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتي ﴾

 والإتمام عددي، فجميع القضايا التي عالجها الدين تامة عدداً والمعالجة كاملة نوعاً، دين من عند الله، فلذلك هذا الدين لا يضاف عليه، ولا يحذف منه.
 لذلك الذي نراه في القرآن حق مطلق، والذي نراه في السنة الصحيحة أضفت الصحيحة القرآن ثابت قطعاً لكن نختلف في تأويله، أما السنة فظنية الثبوت، ظنية الدلالة، فقد يكون هناك حديث موضوع أو لا أصل له، فلا بد من أن ننتبه لهذه النقطة.

 

دورة الحق والباطل أطول من عمر الإنسان :

 لذلك دورة الحق والباطل أطول من عمر الإنسان، لذلك قد تأتي مشكلة يعاني منها المسلمون في مرحلة معينة، وقد تزول بعد مئتي عام، أي الإنسان قد عاش في مرحلة صعبة، أو فيها انتصار، لذلك أيها الأخوة قد تنقضي الدنيا وهناك قصص لم تنته، مظلوم لم يأخذ ظلامته في الدنيا يأخذها في الآخرة، ورد في بعض الآثار النبوية أن المقتول يسوق قاتله يوم القيامة يقول: يا رب هذا قتلني فسله لم قتلني؟ يقول الله له: لم قتلته؟ يقول: من أجل عز فلان، فالإنسان إذا سفك الدماء من أجل دنيا غيره هو أحمق الحمقاء، من هو الأحمق؟ الذي يبيع آخرته بدنياه، أما الذي يبيع آخرته بدنيا غيره فهذا أشدّ حمقاً، لذلك هناك مظلوم لم يأخذ ظلامته، وظالم لم يلق مصيره، النبي الكريم سيد الخلق وحبيب الحق يقول الله له مطمئناً:

﴿وَإِمّا نُرِيَنَّكَ بَعضَ الَّذي نَعِدُهُم أَو نَتَوَفَّيَنَّكَ ﴾

[سورة يونس: ٤٦]

 إذا كان النبي وهو سيد الخلق وحبيب الحق أحياناً لم يتح له أن يرى مصير الطغاة، لذلك ورد في قوله تعالى:

﴿وَإِن مِنكُم إِلّا وارِدُها ﴾

[سورة مريم: ٧١]

 والهاء تعود على جهنم، والآية تحير، إن النفي يعني ما منكم واحد إلا وسوف يرد النار، لا يوجد استثناء للمؤمنين، لكن العلماء قالوا: ورود النار شيء ودخولها شيء آخر.
 أحياناً بلد ينشئ سجناً حضارياً، فيأتي ضيف كبير من دولة عظمى يأخذونه لهذا السجن، كي يرى التقدم الحضاري في هذا البلد، فهذا الضيف الكبير الذي جاء من بلد بعيد وأخذ ليرى هذا السجن هل يعد سجيناً؟ هذا زائر، فدخول النار غير ورودها، قال تعالى:

﴿وَإِن مِنكُم إِلّا وارِدُها ﴾

[سورة مريم: ٧١]

 لماذا؟ لأن أسماء الله الحسنى كل هذه الأسماء محققة في الدنيا، إلا اسم العدل محقق جزئياً.

 

معاقبة بعض المسيئين ردعاً للباقين و مكافأة بعض المحسنين تشجيعاً للباقين :

 قد تجد طاغية ينتهي به المقام إلى القتل، وقد تجد طاغية أكبر منه ومات وشيع بأبهى جنازة، فأنت يجب أن تعتقد يقيناً أن الدنيا دار عمل وابتلاء، وليست دار جزاء، فقد لا يتاح لنا في الدنيا أن نرى مصير الطغاة جميعاً، قد نرى مصير واحد منهم أو أكثر، أما الطغاة قد يموتون ويحتفل الناس بتشييعهم احتفالاً كبيراً، بدرجة غير معقولة.
 لذلك أيها الأخوة قد نجد ظالماً لم يلق مصيره، قد نجد قاتلاً لم تكتشف جريمته، قد نجد خائناً لم تظهر للناس خيانته، إنها سنة الله في الحياة، إن هذه الدنيا ليست دار جزاء بل دار عمل وابتلاء، والآخر دار جزاء، لكن الآن رحمة الله بنا ماذا تعني؟ أن يعاقب بعض المسيئين ردعا للباقين في الدنيا، وأن يكافئ بعض المحسنين تشجيعاً لبقية الناس.
 قد نرى إنساناً أساء فعاقبه الله، وقد نرى إنساناً أحسن فكافأه الله، لكن لا يعني هذا أن كل محسن يثاب، وأن كل سيئ يعاقب، هذه الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور