- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠22برنامج على هدى - قناة الرسالة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يارب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الإنسان مخير لاختبار عمله :
أيها الأخوة الكرام، مع لقاء جديد من اللقاءات الإيمانية.
أيها الأخوة؛ عنوان هذا اللقاء الطيب:" ولكل أمة أجل" فكما أن لكل إنسان أجل هناك مقولة تشبه هذه المقولة: إنّ لكل أمة أجل.
أيها الأخوة الكرام؛ الإنسان يتحرك هو مخير يستقيم أو لا يستقيم، يحسن أو لا يحسن، ينضبط أو لا ينضبط، يأكل مالاً حراماً أو يأكل مالاً حلالاً، يحرك شهوته وفق منهج الله أو بخلاف منهج الله، هو مخير، أعطاه الله الخيرة ليثمن بهذه الحرية عمله، لولا الحرية لما ثمن العمل، لو أجبر الله عباده على الطاعة لبطل الثواب، لو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، لو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعص مغلوباً، ولم يطع مكرهاً.
الذي حياتك بيده، وسعادتك بيده، وقوتك بيده، وغناك بيده، هذه الجهة العظيمة الجهة الخالقة أنت في قبضتها، كن فيكون، زل فيزول، ومع ذلك ما أراد الله أن تكون العلاقة به علاقة إكراه، قال:
﴿لا إِكراهَ فِي الدّينِ ﴾
ما أراد أن تأتيه قسراً، أراد أن تأتيه مختاراً، أراد أن تأتيه محباً، أراد أن تأتيه طائعاً، لذلك
﴿لا إِكراهَ فِي الدّينِ ﴾
الإله العظيم الذي نحن في قبضته ما أراد أن تكون علاقتنا به علاقة إكراه، أراد أن تكون علاقتنا به علاقة حب، قال:
﴿ يُحِبُّهُم وَيُحِبّونَهُ ﴾
﴿ وَالَّذينَ آمَنوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾
بطولة الإنسان في إنفاق الزمن :
لذلك أنت قد أعطيت الأجل رأس مالك، الوقت رأس مالك، هذا الزمن الذي سمح لك به، أنت زمن، أنت في أدق التعريفات بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منك، لأن أثمن شيء تملكه هو الزمن، البطولة في إنفاق هذا الزمن، إما أن ينفق استهلاكاً كما يفعل معظم الناس، أو أن ينفق استثماراً.
الإنفاق الاستهلاكي للزمن نأكل ونشرب ونسمر ونسهر وننام ونستيقظ ونعمل ونكسب المال ونأكل ونشرب إلى أن يحين الحين هذا استهلاك للزمن.
أما الاستثمار للزمن فأن تفعل في هذا الزمن الذي سينقضي عملاً ينفعك بعد انقضاء الزمن، الإنفاق الأول استهلاكي، الإنفاق الثاني استثماري، فالبطولة أن تعمل عملاً في الزمن الذي سينقضي ينفعك هذا العمل بعد انقضاء الزمن.
بطولة الأمة أن تستثمر أجلها في خدمة الآخرين :
لذلك كما لكل إنسان أجل لكل أمة أجل، تعطى هذه الأمة قوة، إما أن تقف عند حدود الله، أو أن تطغى، وتستكبر، وتستعمر، وتحول ما عند الآخرين إليها، فكما أن لكل فرد أجل لكل أمة أجل، فالبطولة في الفرد أن يستثمر هذا الأجل في طاعة الله، كما أن البطولة في الأمة أن تستثمر هذا الأجل في خدمة الآخرين.
فلذلك حينما تتحكم فئة قليلة بموارد وطن بأكمله، حينما تنهب ثروات هذا الوطن، حينما تداس كرامة أهله، تقهر إرادته، لا بد لهذا الوطن من أن يتحرك ليسترد حقه في الحياة الحرة الكريمة، هذه سنة الحياة، لا يقبل ولا يعقل أن تسمى هذه الحركة لاسترداد الحرية والكرامة إرهاباً، هذا ليس إرهاباً وإنما طلب للحرية.
تحول الإنسان من عبادة ربه إلى عبادة شهواته يؤدي إلى انحطاطه :
أخواننا الكرام؛ الإنسان حينما ينحط كيف ينحط؟ يتحول من عبادة ربه إلى عبادة شهواته:
﴿أَرَأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ﴾
شهوته، تعتمد علاقته بالآخرين لا على الرحمة بل على القوة، لا على التفاهم بل على العنف، عندئذ ينصرف الإنسان عن العناية بنفسه إلى العناية بجسمه، وعن الاهتمام بالمبدأ إلى الاهتمام بالمصلحة، وهذا شأن العالم اليوم، العالم اليوم تحكمه المصالح لا المبادئ، بعض المفكرين قال: أتى على الناس وقت تحكمه المبادئ، ثم أتى على الناس يوم تحكمه الأشخاص، ونحن في يوم ثالث يحكم العالم اليوم المصالح فقط، لا مبادئ ولا قيم ولا خجل ولا حياء ولا حركة وفق منهج الله، الذي يتحكم بالعالم اليوم المصالح فقط، عندئذ هذا المجتمع يتحول إلى غابة، يحس كل واحد فيها أن من حقه افتراس الآخرين، كما أنه من الممكن أن يكون فريسة وضحية لأي واحد منهم، هذا مجتمع الغاب، مجتمع الوحوش، مجتمع المصالح، مجتمع الأشياء.
أيها الأخوة الكرام، قد يكون هؤلاء الذين نكن لهم الاحترام والتبجيل ليسوا أغنياء، ولا أقوياء، ولا يتمتعون بالدهاء والمكر ولا القوة الخارقة، إنما نكن الاحترام لأولئك الذين انتصروا على أنفسهم، للذين آثروا الانتظار، وعد الله عز وجل هؤلاء الذين ضحوا بالعاجل لأجل الآجل، هؤلاء الذين آثروا غيرهم على أنفسهم.
استقامة العالم بالإنسانيّة لا بالعنصريّة :
أيها الأخوة الكرام، لكن حينما يقع الظلم، وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى هذه الحقيقة، فقال صلى الله عليه وسلم: " تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً فيأتي أخي عيسى فيملؤها قسطاً وعدلاً، يوم يسوق المقتول قاتله، يقول: يا رب سله لم قتلني؟ فيقول الله له: لم قتلته؟ فيقول: قتلته من أجل عز فلان، يظل المسلم بخير ما لم يسفك دماً".
لذلك أيها الأخوة؛ هذا المجتمع بتعبير أو بآخر مجتمع عنصري، ما معنى عنصري؟ أي الإنسان إذا توهم أن له ما ليس لغيره، وأن على غيره ما ليس عليه، هذا الإنسان عنصري، نبدأ من الأسرة؛ إذا أراد الزوج أن يسخر من أم زوجته مثلاً، فإذا تكلمت زوجته كلمة عن أمه أقام عليها الدنيا، نقول نحن من خلال هذا المقياس: هذا الزوج عنصري، لأنه رأى لنفسه ما ليس لغيره، ورأى على غيره ما ليس عليه.
أكاد بهذا التعريف للعنصرية أن أقسم العالم اليوم على اختلاف ملله وانتماءاته وأعراقه وأنسابه وطوائفه وتياراته واتجاهاته إلى مجتمع إنساني أو مجتمع عنصري، لماذا من خمس دول إذا دولة منهم قالت: لا، تعطل القرار في مجلس الأمن؟ هذه عنصرية.
أيها الأخوة؛ لا يستقيم هذا العالم إلا بالإنسانية لا العنصرية، ومادام يوجد سلوك عنصري، أو توهم عنصري، أو اعتقاد عنصري، أو تمييز عنصري، الإنسانية في طريق هابط لا طريق صاعد، لذلك العلاج الأول لما يعانيه العالم اليوم من عنصرية نزع فتيل الظلم، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، فعلينا نزع فتيل الظلم حتى يسعد البشر بدنياهم وآخرتهم.
من أراد إنفاذ أمر فليتدبر عاقبته :
أخواننا الكرام؛ بطولة الإنسان إذا أراد أن يفعل شيئاً أن يتفكر بعاقبته، أي معظم الناس يعيشون لحظتهم، وتغيب عنهم نتائج أعمالهم، أبسط مثل؛ أنت حينما تهمل ابنك وهو صغير، ثم تكتشف لا سمح الله ولا قدر بعد فوات الآوان أنه ابتعد عنك، وسلك طريقاً لا يرضيك، أهملته صغيراً، مشى في طريق آخر غير طريقك، فإذا أردت إنفاذ أمر تدبر عاقبته، أي قد يذهب إنسان إلى بلاد الغرب، يراها بلاد جميلة جداُ، رائعة، فيقيم فيها، يتزوج، حينما ينجب الأولاد، هؤلاء الأولاد لهم مبادئ غير مبادئ أبيهم، وقيم أخرى، وسلوك آخر، يعتصر قلب الأم والأب ألماً وحسرة على انحراف أولادهم، أنت حينما أردت أن تقيم عندهم إقامة دائمة لم تفكر في عاقبة الأمر، فإذا أردت إنفاذ أمر تدبر عاقبته.
هم يقدمون حقوق الإنسان على كل شيء في بلادهم، أما في بلاد غيرهم لا حقوق ولا مطالب، لذلك قال بعض الشعراء كلاماً بليغاً:
قتل امرئ في بلدة جريمة لا تغتفر وقتل شعب مسلم مسألة فيها نظر
***
مرة العالم الشرقي أرسل كلبة إلى الفضاء الخارجي، قامت الدنيا ولم تقعد، كيف ضحى بكلبه اسمها فودكا أذكرها تماماً قصة قديمة، أما أن يقتل مئة ألف إنسان ولا تتحرك شعرة في العالم فهذا مجتمع اليوم مجتمع الغاب، مجتمع المصالح، الآية الكريمة:
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾
كل أمة لها أجل، ينتهي أجلها إما أنها استقامت أو انحرفت، إما أنها حملت رسالة لأمم الأرض، أو أنها استغلت واستعمرت ونهبت وسرقت، هذه الآية:
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾
تبعدنا عن اليأس، تبعدنا عن القنوط.
الأمل كله معقود بالله عز وجل :
الحقيقة أن تتالي النكبات في العالم الإسلامي أورثت العالم الإسلامي ثقافة، أنا أسميها: ثقافة اليأس، ثقافة القنوط، ثقافة الإحباط، لكن الله سبحانه وتعالى أنعشنا إنعاشات عديدة، هذه الإنعاشات أراد الله من خلالها أن يبين لنا أن يا عبادي أنا موجود، لا تيئسوا، لا تقنطوا، قلة قليلة انتصرت على رابع جيش في العالم، أو على أول جيش في المنطقة، ولا يملكون إلا أسلحة بسيطة جداً، فهذه جرعة منعشة، بلد علماني كتركيا يحارب الدين إذا هو بلد إسلامي، هذه جرعة أخرى، انهيار النظام العالمي المبني على الربا في العالم الغربي هذه جرعة، أيضاً يوجد جرعات منعشة الله عز وجل يكرمنا بها، لأنه أراد من خلالها أن يقول لنا: لا تيئسوا، لا تقنطوا، أنا موجود، الأمر بيدي، والله عز وجل في أية لحظة قادر على أن يقلب المعادلات كلها، الأمل معقود بالله عز وجل:
﴿وَلا تَهِنوا وَلا تَحزَنوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ﴾
لكن هذا الإيمان أي إيمان؟ الإيمان الذي يحملك على طاعة الله، الإيمان الذي ينتهي بافعل ولا تفعل، الإيمان الذي يدفعك إلى أن تلتزم منهج الله عز وجل.
لذلك أقول هذه الكلمة وحقيقة هي دقيقة: ما من طاغية على وجه الأرض من آدم إلى يوم القيامة إلا ويوظف الله طغيانه لخدمة دينه والمؤمنين، ومن دون أن يشعر، ومن دون أن يريد، وبلا أجر، ولا ثواب، فلذلك الطغاة أحياناً يدفعون الناس إلى باب الله، يدفعونهم إلى التوبة، يدفعونهم إلى الصلح مع الله، فلذلك لا تيئس، ولا تقنط من رحمة الله، رب ضارة نافعة.