- العقيدة الإسلامية
- /
- ٠2العقيدة الطحاوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا، وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً، وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً، وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أسباب الخِلافات الكثيرة بين الفِرَق الإسلامِيَّة :
أيها الأخوة المؤمنون، وَصَلنا في موضوع العقيدة الطحاوِيَّة إلى موضوع بالغ الدِقَّة، وهو سَبب خِلافات كثيرة بين الفِرَق الإسلامِيَّة، مسْألة الصِّفات؛ هل هي عَيْنُ الذات أم زائِدَةٌ على الذات؟ يقول الإمام الطحاوي: وكذلك مسألة الصِّفَة؛ هل هي زائِدَةٌ على الذات أم لا؟ فلفظها مُجْمَل، وكذلك لفظ: زائِدَة على الذات، أو غير زائِدَة على الذات، فإذا قلنا: زائِدَة على الذات، فهذا كلامٌ مُجْمَل، وإذا نَفَيْنا أنَّها زائِدَة على الذات فهذا أيْضاً كلامٌ مُجْمَل، وأحْيانًا الخُطورة في الإجمال، فإذا سُقْنا كلاماً مُجْمَلاً لا بدّ له مِن تَفْصيل، لأنَّكم كما تعلمون البلاغة بين الإيجاز المُخِلّ، والإطْناب المُمِلّ، فأحْياناً الإجمال والإيجاز يُؤَدِّيان إلى الإخلال بالمَعْنى، فقد يُراد بهما ما ليس مقصوداً منهما، وقد يُراد بهما ما جاز مُفارقَتُه له، ففي موضوع العقيدة، وفي موضوع الإلهِيَّات بالذات، وفي موضوع ذات الله تعالى، ولا سيما في موضوع الإلهيَّات، فالإيجاز أحْيانًا يُوقِعُنا في لبْسٍ شديد، فلا بدّ مِن التَّفْصيل، وهذا يحْمِلُني أن أقول لِسائِلٍ: هذا السُّؤال يحتاج إلى سَهْرة وإلى لِقاء مَفْتوح، تُريد أن أُجيبَك عن موضوعٍ دقيقٍ في القَضاء والقَدَر، بكَلِمة بعد خُطْبة الجُمعة؛ فهذا موضوع طَبيعَتُه التَّفْصيل، وضَرْب الأمثِلَة، وتقليب الوُجوه، والتَّعَمُّق، والتَّحليل، وإيراد الوقائِع، والأدِلَّة القرآنِيَّة، والسنَّة النَّبَوِيَّة، والأدِلَّة الفِطْرِيَّة، لذا أنْصَحُكم كَدُعاة أنَّكم غَداً تُسْألون فَبَعْضُ هذه الأسْئِلَة لا يجوز أن تُجيبوا عنها جواباً مُوجَزاً.
البلاغة لَيْسَت في الإيجاز ولا في الإطْناب إنَّما هي مُطابَقَة الكلام لِمُقْتَضى الحال :
هناك معركة في هذه البَلْدة قبل أسابيع عِدَّة؛ خطيب مسْجد قال في خطبة الجمعة: نحتاج إلى فِقْهٍ جديد، وهناك مَن ردَّ عليه رَدًّاً قاسِياً إلى أقْصى درَجَة، وجعلَهُ جاهِلاً زنْديقًا...الخ، ثُمَّ جرى لِقاءٌ، واسْتَمَعْتُ له في شريط، فهذا الذي قال هذا الكلام الموجَز كان يقْصِدُ كلاماً آخر، لكِنَّ الذي يسْمَعُ هذا الكلام يفْهَمُ عَكْسَ ما قال هذا القائِل، فأحْيانًا الإيجاز يوقِعُنا في مشكلة كبيرة جداً، لذا لا تُجِبْ بإيجاز عن سؤالٍ يحْتاج إلى تَفْصيل، وأن تُعالِج موضوعاً، وأنت تسير في الطريق، أو عَقِب درْس، فَهُناك موضوعات خطيرة لا تُعالَج إلا بالتأنِّي، وبِوَقْتٍ مَفْتوح، وذَكَرْتُ هذا الكلام، لأنَّنا إنْ قلنا: الصِّفات عَيْنُ الذات أَلْغَيْنا الصِّفات، وإذا قلنا: إنَّها زائِدَة على الذات، صار المعنى أنَّ الصِّفات شيء، والذات شيء آخر، وهذا كُفْر! لِما فيه مِن التَّعَدّد، فَمِثْل هذا الموضوع يَحْتاج إلى تَفْصيل وشَرْح وإيضاح.
ليس كُلّ إيجاز بليغاً، إذْ هناك إيجازٌ مُخِلّ، وليس كُلّ إطْنابٍ مُخِلاًّ أو مُمِلاً، بل هناك موضوعات تَحْتاج إلى الإطناب، والذي أوتِيَ الحِكْمة يعرف كيف يوجِز، وكيف يُفَصِّل، وفي مَوْضِع التَّفْصيل فالتَّفْصيل أوْلى، وفي موْضِعِ الإيجاز فالإيجاز أَوْلى، ورَحِم الله مَن قال: البلاغة مُطابَقَة الكلام لِمُقْتَضى الحال.
بِرَبِّك لو كَلَّفْتَ طِفْلاً أن يَضَع رسالَةً في البريد، ألا تَشْرَح له كُلَّ شيء، تقول له: أمْسِك الرِّسالة بِيَمينِك، واحْذَر أن تسقط من يَدِك، وإيَّاك أن تقول: طابِع مطلق، وإنَّما طابِع كذا وكذا، وضَع يدك عليه بِشِدَّة في أثناء لصْقِه، واذْهب إلى صندوق البريد، وضَعْها في الفَتْحَة الأُفُقِيَّة، فهذا يُقال لِطِفْلٍ صغير، أما لو كان لك صديق عاقِل وراشِد، فأنت تطلب منه فقط أن يضَعَها في البريد، فالبلاغة لَيْسَت في الإيجاز، ولا في الإطْناب، إنَّما هي مُطابَقَة الكلام لِمُقْتَضى الحال.
أئِمَّة السنَّة لا يُطلقون على صِفات الله وكلامه أنَّه غيره ولا أنَّه ليس غيره :
ففي موضوع العقيدة، وفي موضوع الإلهيَّات، وفي موضوع صِفات الذات، هذا الموضوع لا يجوز أن نوجِز فيه، ولا أن نَخْتَصِر، ولا أن نَمُرّ مُرور الكِرام، فلا بدّ منَ التَّفْصيل، لأنّ (كلمة) لو سُقْناها بِطَريقة غير صحيحة ربَّما فُهِمَ مِنَّا معنى لم نقصده إطلاقاً.
ولِهذا كان أئِمَّة السنَّة ـ رحمهم الله تعالى ـ لا يُطلِقون على صِفات الله وكلامه أنَّه غيره، لا يقولون صِفات الله غير الله، لأنّ هذا شِرْك ولا أنَّه ليس غيره؛ نكون بِهذا أَلْغَيْنا الصّفات، فإذا قلنا: الصِّفات هي عَيْنُ الذَّات معنى ذلك لا توجد صِفات، وإذا قلنا: الصِّفات زائِدَة على الذَات أصْبَحَ هناك تَعَدُّدِيَّة؛ وكِلاهما كفْر، ولهذا كان أئِمَّة السنَّة ـ رحمهم الله تعالى ـ لا يُطلقون على صِفات الله، وكلامه أنَّه غيره، ولا أنَّه ليس غيره، لأنَّ إطْلاق الإثْبات قد يُشْعِر أنَّ ذلك مُبايِنٌ له، فهناك صِفات؛ إيجازاً وإطْلاقاً، فإطْلاق الإثبات بأنَّ للَّه صِفاتٍ يُشْعِرُ أنَّ هذه الصّفات مُبايِنَةٌ له؛ هي غيره، وإطلاق النَّفْي أنَّ ليس له صِفات أو الصِّفات ليسَتْ زائِدَة قد يُشْعِرُ أنَّه هو هو، وأنْ ليس له صِفات، وأنَّ صِفاته عَيْنُ ذاته، إذا كان لفظ (غَيْر) فيه إجْمال، فلا يُطلق إلا مع البيان، والتَّفْصيل، فهذه أوَّل فائِدَة اسْتَفَدْناها في هذا الموضوع الدقيق، أنَّهُ لا يجوز أن تُطْلِق، بل لا بدّ أنْ تُفَسِّر، فإذا أثْبَتَّ الصِّفات فقد يُفْهَمُ التَّبايُن، وإذا نَفَيْتَها فقد يُفْهم الإنكار، وفي التَّعَدُّدِيَّة والإنكار كلامٌ كُفْرٌ، ما أراده الله سبحانه وتعالى.
فإنْ أُريدَ به أنَّ هناك ذاتاً مُجَرَّدَةً قائِمَةً بِنَفْسِها، مُنْفَصِلَة عن الصِّفات الزائِدَة عليها، فهذا غير صحيح! ذات الله شيء، وصِفاته شيء آخر؛ هذا غَلَط! قال: وإن أُريد به أنَّ الصِّفات زائِدَة على الذات التي يُفْهَمُ ِمن معناها غير ما يُفْهم مِن معنى الصِّفة، فهذا حقٌّ، فالله عز وجل له صِفاتٌ زائِدَة عن ذاته مِن دون أن تكون الذات، وصِفاتها شَيْئَين، ولكن ليس في الخارجِ ذاتٌ مُجَرَّدة عن الصِّفات، بل الذات المَوْصوفَة بِصِفات الكمال الثابِتَة لها، ولا تنْفَصِل عنها.
أكبر مَعْصِيَة على الإطلاق أن نقول على الله ما لا نعلم :
قد يقول أحدكم: ما علاقتنا بِهذه المعاني الدقيقة؟ أحْياناً الإنسان إذا وَقَف على المِنْبَر، أو جلَسَ على كُرْسيّ الدَّعْوة، وتكَلَّم كلاماً عن ذات الله عز وجل ليس دقيقًا، وبالِغ في الدِّقَّة، فقد يُتَّهَمُ بالكُفْر، ولا تَنْسَوْا أنَّ أكبر مَعْصِيَة على الإطلاق أن تقولوا على الله ما لا تعلمون؛ هناك فَحْشاء ومُنْكَر، وهناك إثْم، وعُدْوان، ومَعْصِيَةٌ، وشِرْكٌ، ونِفاقٌ، وكُفْر، أما أكبر معْصِيَة أن تقولوا على الله ما لا تعلمون! لذلك يقول الإمام الغزالي عن العَوَام:
((لئِن يرْتَكِبوا الكبائر أهْوَنُ مِن أن يقولوا على الله ما لا يعلمون))
قبل أيَّام جَلَسْتُ مع صديق، والِدُهُ بعيدٌ عن الدِّين بُعْدَ الأرض عن السَّماء، فَهُوَ يأمُره أن يشْربَ الخَمْر، وأن يرتَكِبَ المعاصي والآثام، ويأمرُه بالقِمار، وغير ذلك، فالذي اسْتَفَدْتُهُ مِن هذه الجَلْسَة أنَّه قال لابنِه: أنا يا بُنَيّ قبل أربعين عاماً الْتَقَيْتُ بِشَيْخٍ في هذه البَلْدَة، وقال لي: لا تَطْلُبِ العِلْم فَتُصْبِحَ مَسْؤولاً! هذا الشَّيخ قال هذه الكلمة ومَشَى! فهذه الكَلِمَة أثْمَرَتْ في هذا الإنسان العاصي بأن رَفَضَ العِلْم، وتَحَرَّك وَفْقَ شَهْوَتِه، فرُبَّ كَلِمَة تتكَلَّمُها قد تُسَبِّب إعْراضاً عن الدِّين، رجل محسوب على دينٍ يقول له هذه الكلمة، فإذا بها تتغلغل في قلبه، وتجد لها مكانًا مُتَّسَعاً! أربعون عاماً يرْفض أن يسْمَع خُطْبَةَ الجمعة، ويرْفض أن يُصَلِّي، لا يعرفُ شيئًا بل يعيشُ لِشَهْوَتِه.
((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ))
الله جلّ جلاله لا يُحاسِب الإنسان على حَجْم العَمَل بل على نتائِج العَمَل :
أيها الأخوة الكرام، أضَعُ بين أيديكم هذه الحقيقة، وإن كانت قاسِيَة؛ إنّ الله جلّ جلاله لا يُحاسِبُك على حَجْم العَمَل، بل يُحاسِبُك على نتائِج العَمَل، ذكروا أنَّ مَخْبَرَ تحليل بِدِمَشق؛ إنسانٌ شَكَّ في ابنتِه، والبنتُ بريئة، فأخَذَ جُزْءاً من دَمها لِيُحَلِّلَهُ، ليتبيّن ما إذا كانت حامِلاً أو غير حامِلٍ، لأنَّ مشكلةً وَقَعَت؛ فهذه العَيِّنَة وَقَعَت مِن يَدِ المُوَظَّف فانْكَسَرَتْ، فخاف مِنَ الطبيب صاحب المَخْبَر، فَكَتَبَ: الحَمْل إيجابي، ولم يَدْرِ ما فَعَل، فلمَا جاء الأبُ مساءً قال له الطبيب: مَبْروك، ابنتُك حامِل، فَرَجَعَ الأب لابْنَتِه وذَبَحَها، يا تُرَى كيف يُحاسَب صاحِبُ المَخْبَر؟ والله الذي لا إله إلا هو ليُحاسَبَنَّ على أنَّهُ قاتِل، دَقِّقوا في هذا الكلام: إنّ الله جلّ جلاله لا يُحاسِبُك على حَجْم العَمَل، بل يُحاسِبُك على نتائِج العَمَل، والدليل قوله تعالى:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾
عدم انفصال ذات الله عن صِفاتِه لأنَّهُ ذاتٌ واحِدَة :
قال: فإنْ أُريدَ بِهِ أنَّ هناك ذاتاً مُجَرَّدَةً قائِمَةً بِنَفْسِها مُنْفَصِلَة عن الصِّفات الزائِدَة عليها، فهذا غير صحيح، وإنْ أُريدَ به أنَّ الصِّفات زائِدَة على الذَّات التي يُفْهَمُ من معناها غير معنى الصِّفَة، فهذا حَقٌّ، ولكن ليس في الخارِج ذات مُجَرَّدَةٌ عن الصِّفات، بل الذات المَوْصوفة بِصِفات الكمال الثابِتَة لها لا تنفصِلُ عنها، فلا تنفصِلُ ذات الله عن صِفاتِه، لأنَّهُ ذاتٌ واحِدَة، وكما يقول علماء التَّوحيد: واحِدٌ في ذاته، وواحِدٌ في أسمائِه، وواحِدٌ في أفعاله، وواحِدٌ في صِفاته.
قال: وإنَّما يفرض الذِّهن ذاتاً وصِفَةً، أحيانًا العَقْل البشري يُحاوِل أن يُصَنِّف، فالعَقْل البشري يُحْدِث فواصل بين الأشياء، وهذه الفواصِل بين الأشياء ليْسَت موْجودة، أنت تقرأ أن في التاريخ: العَصْر الأموي، والعَصْر العبَّاسي، وعَصْر الدُّوَل المُتتابِعَة، والعَصْر الحديث، فيا تُرى هل نحن نعيش بجِدار يفصل عَصْراً عن آخر؟ لا، هذا التَّقْسيم يُسَمُّونه مَدْرسة، وهو تقسيم عَقْلاني، أما الحياة فهي مُتَداخِلَة، وأشياء أخرى كثيرة، يقال لك: الصِّفات الفيزيائِيَّة، والصِّفات الكيماوِيَّة، فهذه التقسيمات هي عَقْلِيَّة مُتداخِلَة، فَكذلك الذِّهْن، فقالوا: يفرض الذِّهْن ذاتاً، وصِفَةً، كُلٌّ وَحْدَهُ، ولكن ليس في الخارِج ذاتٌ غير مَوْصوفة، فإنَّ هذا مُحال، وهل هناك ذات ليس لها صِفَة؟ أقول: هذه الطاوِلَة متينة، فهل المتانة غير الطاوِلَة؟! وإذا قلتُ: هذه الطاولَةُ لونها بُنِّي، فهل الطاوِلَة غير اللَّوْن البُنِّي؟! لا، الواقِع أنَّه ما من مَوْجودٍ إلا وَصِفَتُه فيه، أما أن تتَخَيَّل أنَّ الصِّفَة شيء والذات شيء آخر، فهذا فَصْلٌ عَقْلاني وذِهْني مُجَرَّد.
الله سبحانه وتعالى لا يُشْبِهُ خلْقَه وليس كمثله شيء :
قال: ونقول: إنّ الله سبحانه وتعالى لا يُشْبِهُ خلْقَه، وليس كمثله شيء، هذا مَثَل تَوْضيحيّ، ذات الله عز وجل ليْسَت مُنْفَصِلَةً عن صِفَتِه، فإذا قلنا منْفَصِلَةً وَقَعْنا في التَّعَدُّدِيَّة، ومع التَّعَدُّد الشِّرْك، وإذا قلنا: صِفاته عَيْنُ ذاته فقد ألْغَيْنا الصِّفات، ونكون بِهذا أَلْغَيْنا شيئًا ذكَرَهُ القرآن، ولا يَخْفى عليكم أنَّ إنكارَ شيء من كتاب الله تعالى كُفْرٌ، وأنا أقول لكم: إنَّ أكبَر عَقْل بَشَري لا يستطيع أن يعرِفَ شيئاً بسيطاً عن ذات الله عز وجل.
سُؤال بسيط: هل عرَفَ العَقْل البَشَري حُدود الكَوْن؟ لا، ما عرِفَ، فإذا كان العَقْل البشري يعْجز عن إدراك الكون المادِيّ، فَهُوَ أشَدُّ عَجْزاً عن معرِفَة الذات التي خَلَقَت هذا الكون! لكن كما يقول سيِّدنا عليّ رضي الله عنه:
(( أخْذُ القليل خيرٌ مِن تَرْك الكثير))
! إلا أنَّه لا بدّ أن تعْرِف أنَّ موضوع ذات الله عَيْنُ العِلْم به هي عَيْنُ الجَهْل به، وكلَّما قلتَ: لا أعرف، فأنت عالم، وكلَّما قلتَ: أعرِف، معنى ذلك أنت جاهِل.
لو قلتَ لأحدهم: هذا البحر ؛ كم لتراً فيه؟ يقول لك: ثلاثة وتسعون ملياراً وستّة وأربعون وأربعة! هذا يعني أنَّه جاهِل، لكن لو قال لك: لا أعلم ! معنى ذلك أنَّه عالِم، لأنَّ هذا بحْر!
قال: ولو لم يكن إلا صِفَةُ الوُجود، فإنَّها لا تنْفَكّ عن المَوْجود، وإن كان الذِّهْن يفرض ذاتًا ووُجوداً لَتَصَوَّروا هذا وَحْده وذاك وَحْده، ولكن لا ينفكّ أحدهما عن الآخر في الخارج، المَوْجود هو الذَّات، أما الوُجود فَهُوَ صِفَة، فَهُناك مَوْجود ينْفَكُّ عن صِفَة الوُجود، فأقْربُ صِفَة للمَوْجود هي الوُجود، كما قلتُ قبل قليل: نحن عندنا جَوْهَر وعَرَض، فالماء جَوْهَر، أما أنَّه لا لَوْنَ له فهذا عَرَض، لأنَّه يمكن أن يكون له لَوْن، وأما لا طَعْمَ له ولا رائِحَة له، فهذا عرض، لكن هل تستطيع أن تفصِل هذه الصِّفات عن الماء؟! لا، وقد يقول بعضهم: الصِّفَة لا عَيْنُ المَوْصوف ولا غيره! فإذا قلنا: عَيْنُ المَوْصوف أنْكَرْنا الصِّفة، وإذا قلنا: غيره وَقَعْنا في التَّعَدُّدِيَّة والشِّرْك، وهذا له معنى صحيح، وهو أنَّ الصِّفَة لا هي عَيْنُ المَوْصوف ولا غيرُهُ، وهو أنَّ الصِّفَة غير عَيْن ذات المَوْصوف التي يفْرِضُها الذِّهْن مُجَرَّدَةً بل هي غيرها، وليْسَت غير المَوْصوف بل المَوْصوف بِصِفاتِه شيءٌ واحِدٌ غيرُ مُتَعَدِّد؛ هذا هو الكلام الدقيق.
محاسبة الله تعالى على النَّوايا :
احْفَظ التَّعاريف الدقيقة حَرْفِيًّاً عن ذات الله، لأنَّ أيَّ كلام دون دِقَّة يوقِعُكَ في الكُفْر دون أن تشْعُر، وإن كان الله تعالى يُحاسِبُ على النَّوايا، فهذا الذي قال كما ورد في الحديث: يا ربّ أنا ربَّك، وأنت عبدي، لم يكفر، لذا قال أحدُ العلماء كلاماً رائِعاً: ليس كُلُّ مَنْ وَقَعَ في الكُفْر وَقَعَ عليه الكُفْرُ، فأحْياناً يتَكَلَّم الإنسان كلاماً فيه الكُفْر، فَهُوَ ما أراد الكُفْر، ولكن فيه الجَهْل، وفيه تسَرُّع، فَتَراجَعَ عمَّا قال، لذا كما قلنا: ليس كُلُّ مَنْ وَقَعَ في الكُفْر وَقَعَ عليه الكُفْرُ، فإنْ قُلْتَ: أعوذ بالله، فقد عُذْتَ بالذات المُقَدَّسَة المَوْصوفَة بِصِفات الكمال، والمُقَدَّسَة الثابِتَة التي لا تقْبَلُ الاتِّصال بِوَجْهٍ مِن الوُجوه، فهل إن قلتَ أعوذ بِعِزَّة الله أشْرَكْتَ؟ فقَدْ عُذْتَ بِصِفَةٍ من صِفات الله تعالى، ولم أَعُذ بِغَيْر الله، صِفات الله ليس منفَصِلة عن ذات الله سبحانه وتعالى، وهذا المعنى يُفْهَمُ مِن لَفْظ الذَّات؛ ففي أصْلِ معناها لا تُسْتَعْملُ إلا مُضافَةٍ، تقول: ذات وُجود، وذات قُدْرَةٍ، وذات عِزٍّ، إلى غير ذلك من الصِّفات، فَذات كذا أي صاحِبَة كذا، والذَات تأنيث ذا و ذو، فَهذا أصْل معنى الكلمة، فَعُلِمَ أنَّ الذات لا يُتَصَوَّر انفِصال الصِّفة عنها بِوَجْهٍ من الوُجوه، وإن كان الذِّهْن قد يفرضُ ذاتًا مُجَرَّدَةً عن الصِّفة، وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ:
((شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ بِاسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ))
وعن بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ))
ولا يعوذ النبي عليه الصلاة والسلام بِغَيْر الله تعالى، ونحن الآن فَهِمْنا أنَّ هذه الاسْتِعاذة للنبي عليه الصلاة والسلام شيء صحيح وتَوْحيدٌ ولا غبار عليه، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يُمكِن أن يعوذ بِغَيْر الله، وفي بعض أدْعِيَتِه عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي وِتْرِهِ:
((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ))
طول الأَمَل أخْطرُ شيء يُصيب الإنسان :
والرضا صِفَةٌ مِن صِفاتِه، والله تعالى يرْضى ويغْضَب، فعن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي))
أحْياناً يكون الإنسان ماشياً، فإذا به يَقَع، وينفجر من تحته شيء، أو يسقط عليه شيء، فأخٌ تُوُفِّي قبل أسبوعَيْن، وله أصْهار، فأحَدُ أصهاره مُقيمٌ بِحَلَب، فأرْسَلَ زَوْجَتَه كي تحضر التَّعْزِيَة، وبعد أسْبوعَيْن قدِم إلى دمشق لِيَأخذها، فإذا بِحادِث بالطريق جعله في عِداد المَوْتى! شاب في مُقْتَبَل العُمر، هل خَطَر بِبَالِه أنَّه يموت بِهذا السنّ؟! فالإنسان تحت ألْطاف الله عز وجل، وعليه أن يُجَهِّزَ نفْسَهُ، ويقوم بِوَاجِباته، وجميع حُقوقه، وهذه حِكْمةٌ بالغَة، أخْطرُ شيء يُصيب الإنسان هو طول الأَمَل، فقد تُنْسَجُ أكْفان المرء وهو لا يدْري، أعوذ بنور وَجْهك الذي أشْرَقَت له الظلمات.
الاسم تارَةً يدلّ على المُسَمَّى وتارَةً يدلّ على الاسم :
وكذلك قوْلهم الاسم عَيْنُ المُسَمَّى، وغيرهُ، وطالَما غَلِط كثير من الناس في ذلك وَجَهلوا الصَّواب فيه، كيف عَيْنُ المُسَمَّى؟ الاسم يُراد به المُسَمَّى تارَةً، فإذا قلتَ: يا الله ! تُنادي مَن؟ تُنادي ذات الله عز وجل، وإذا قلتَ: سَمِعَ الله لِمَن حَمِده، أو نحوُ ذلك كان المُراد المُسَمَّى نفسه، أما إذا قلتَ: الله تعالى اسمٌ عَرَبِيّ، وكذا الرحمن من أسماء الله تعالى، ونَحْوُ ذلك، فأنت الآن أرَدْتَ بِكَلِمَة (الله) الاسم، وليس المُسَمَّى، فكلمة (الله) أحْيانًا تُريد بها المُسَمَّى، وأحيانًا تريد بها الاسم، فكلمة (الرَّحمن) اسم مُشْتَق من الرَّحْمة، أو مُشْتَقَّة مِن الرَّحِم، فأنت ما أردْت من كلمة (الرحمن) الله، وإنّما اللَّفظ، فالاسم تارَةً يُراد به المُسَمَّى، وتارَةً يُراد به اللَّفْظ بالذَّات، فالاسم هاهنا المُراد لا المُسَمَّى، ولا يقال غيره، لِما في لفْظ الغير من الإجمال، فإن أُريد بالمُغايَرَة أنَّ اللَّفظ غير المعنى فَحَقّ، فإذا قلنا مثَلاً: طالب ؛ طاءٌ ولامٌ وألف وباءٌ ! وهناك إنسان يطْلب العِلْم، طبْعاً كلمة (طالب) غير هذا الإنسان، إذْ هي في الأصْل حُروف، وهي كلمة تَدُلّ على ذات، فالاسم شيء، والمُسَمَّى شيء آخر، لكن في الاسْتِعمال قد تلفظ كلمة طالب، وأنت تعْنيها، وقد تلفِظها وتعْني اللَّفْظ، تقول: طالب، اسم مُشتَق من طلب، فالاسم تارَةً يدلّ على المُسَمَّى، وتارَةً يدلّ على الاسم.
قال: إنْ أُريد أنَّ الله سبحانه وتعالى كان، ولا اسم له، حتى خلق لِنَفْسِه اسْماً، أو حتى سمَّاه خلقه بِأسْماء من صُنْعِهِم، فهذا مِن أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى، إذا قُلْتَ: إنَّ الله تعالى لم يكن له اسم، ولكن هو الذي سَمَّى نفْسَهُ (الله)، أو أنَّ خلقه هم الذين سَمَّوْهُ، فهذا ضلال كبير.