- العقيدة الإسلامية
- /
- ٠2العقيدة الطحاوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أفعال الله مُعَلَّلَةٌ بِمَصالِح خَلْقِه :
أيها الأخوة المؤمنون، وصلنا في العقيدة الطحاوِيَّة إلى قول المؤلِّف رحمه الله: "خالق بلا حاجة ورازق بلا مؤونة"، الآن الآية الكريمة:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
ماذا تُعرِبون هذه اللام؟ لام التَّعليل، ولام التَّعليل مقبولة في حَقِّ الإنسان، ولكنَّها لا تَصِحُّ في حقِّ الله جلَّ جلاله، لماذا؟ فبعضهم يقول: إنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الخَلْق لِهَدَف أن يعْبدوه، الإنسان حينما يرْسُم أمامه هدفاً ويسْعى إليه؛ فماذا يعني ذلك؟ يعني أنَّهُ ضعيف، وتوصَّل إلى هذا الهدف بِوَسيلة، لماذا تدْرس؟ كي تتعَلَّم، ولماذا تَحْفِرُ البئر؟ كي تستخرج الماء، ولماذا تزْرع الحبَّ؟ كي تُنْبِتَ الغذاء، فالإنسان حينما يكون له هدف، وهو قاصِر عن أن يَصِل إليه، فيستعين بِأداة، بِمُجَرَّد أن يكون لك هَدَف بعيدٌ عنك، وبعيد أن تصل إليه رأساً، فأنتَ مُحْتاجٌ لِوَسيلة، فلو أنَّني أردتُ الذهاب إلى حلب، لَلَزِمَني ذلك إلى سيارة فَحَلَب بعيدة عنِّي، ولا أستطيع أن أصل إليها إلا أنْ أرْكَبَ السيارة، فلامُ التعليل، والأهداف والوسائل، كلها تَصِحُّ في حقِّ الإنسان ولكِنَّها لا تَصِحُّ في حقّ الله تعالى، فلامُ التعليل في هذه الآية خَرَجَت عن معناها، فليس معناها أنَّ الله سبحانه وتعالى له هَدَف، ووصَلَ إليه بِوَسيلة؛ لا، بل هو خَلَقَ الخَلْق كلهم، وعليهم أن يعبدوه، لذلك خالق بلا حاجة، والعِلَّة الغائِيَّة لا تليق بالله تعالى، ويجب أن نَنْفي عن الله تعالى العِلَّة الغائِيَّة، وهي أن نقول: إنَّ هناك غاية، والله تعالى وَصَل إليها بِوَسيلة، هذا شأْنُ البشَر، وشأْن الضِّعاف، أما الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له: كُن فيَكُون فلا يحْتاج إلى وسائل، ولا إلى أهداف، فلا الأهداف تليق به، ولا الوسائل تليق به، إلا أنَّ بعضهم يفْهَم جَهْلاً أو خطأً أنَّنا إذا نَفَيْنا عن الله تعالى العِلَّة الغائِيَّة معنى ذلك أنَّ أفعال الله تعالى لا غايةَ منها! لكن الصواب أنّ أفعال الله مُعَلَّلَةٌ بِمَصالِح خَلْقِه.
الدِّين فيه ثلاث كُلِّيات جانب فِكْري وجانب سُلوكي وجانب جمالي :
قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ*مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ*إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾
أنا خلقتهم، فإذا عبدوني سَعِدوا، وهذه اللام ليْسَت لله عز وجل، ولَيْسَت تَعْليلاً لِخَلْق الله، بل هي عِلَّةُ سعادتهم، إن عَبَدوه سَعِدوا، فهل هناك لامٌ أخرى خَرَجَت عن مَدْلولها في القرآن؟ نعم، هي لام المآل، قال تعالى:
﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾
لا يُعْقَل لِمَن كان له عَقْل أن يلْتَقِطَ غُلاماً لِيَكون له عَدُوّاً، لكنَّ هذا الغُلام آل أمرُه لِيَكون عَدُوّاً، فهذه لَيْسَت لامَ التَّعْليل، ولكنها لامُ المآل، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
كلُّكم يعْلم أنَّ الدِّين فيه ثلاث كُلِّيات؛ جانب فِكْري، وجانب سُلوكي، وجانب جمالي، الجانب السُّلوكي لا يكون إلا بالجانب الفِكْري، والجانب الجمالي لا يكون إلا بالجانب السُّلوكي، فالله تعالى قال:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
الله سبحانه وتعالى خالقٌ بلا حاجة :
قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ*مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ*إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾
الحديث القُدْسي الذي ورَدَ عن الإمام مُسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:
((يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلَا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ))
فالله سبحانه وتعالى خالقٌ بلا حاجة.
الله تعالى حينما يَصِفُ ذاته بأسْمائِه أو صِفاته الفُضْلى يأتي بها غالباً مَثْنى مثْنى :
لكنّ الناس فقَرَاء إلى الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾
مَن يُفَكِّر في كلمة الغَنِيّ الحميد؟ الإنسان أحْياناً تَظْهَرُ موَدَّته ولُطْفُه وأدَبُه ونُعومَتُه إذا كان مُحْتاجاً لإنسان، فإذا اسْتَغْنى عنه تَظْهر فظاظته وكِبْرُه واسْتِعْلاؤُه، فالذي ليس له أصْل إيماني؛ هذا لُطْفُ الضَّعْف، وأحْياناً الغِنى من لوازِمِه الفظاظة، والغِلْظة، والاسْتِعْلاء، والعُنْجُهِيَّة، وهذا شأنُ البَشَر، لكنّ الله سبحانه وتعالى حينما يَصِفُ ذاته بأسْمائِه، أو صِفاته الفُضْلى يأتي بِها في الأَعَمِّ الأغلب مَثْنى مثْنى، وهناك علاقة رائِعة بين الاسْمَيْن، فالله تعالى قال:
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾
هو غَنِيٌّ عنكم، ومع أنَّهُ غَنِيٌّ عنكم لا يُعامِلُكم إلا مُعامَلَةً تَحْمَدونه عليها، هذه الآية تُشْبِهُ قوله تعالى:
﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
وقوله تعالى:
﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾
الله سبحانه وتعالى رازق بلا مؤونة :
هناك مُلاحظة ذكرتها لكم سابِقاً: أنَّ بعض أسْماء الله الحُسْنى لا يجوز أن تُلْفظَ فُرادى، فلا يجوز أن تقول: الله ضارّ، إنَّما تقول: الضارّ النافع، الخافض الرافع، والمُعطي المانع، والمُعِزّ المُذِلّ، فهو تعالى يخفض لِيَرْفع، ويمنَعُ لِيُعْطي، ويُذِلّ لِيُعِزّ، ويضُرّ لِيَنْفَع، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾
وقال تعالى:
﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
ومن حديث أبي ذرّ رضي الله عنه الذي رواه مُسْلم:
((يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ))
فالله تعالى خلق بلا حاجة، ورزَقَ بلا مؤونة، والمؤونة تعني الثِّقَل والكُلْفَة، أحْياناً الإنسان يُعْطي أهله، لكن بعد عَمَلٍ مُضْنٍ، وتَعَبٍ شديد، وبعد أن يسْتنفذ كُلَّ طاقته، أما الله تعالى ولله الأسماء الحُسنى خالقٌ بلا حاجة، ورازق بلا مؤونة.
الموت صِفَةٌ وُجودِيَّة خِلافاً للفلاسفة ومن وافقَهُم :
قال المؤلِّف رحمه الله: "مُمَيِّت بلا مَخافة، وباعِثٌ بلا مَشَقَّة، فالموت صِفَةٌ وُجودِيَّة خلافاً للفلاسفة ومَن وافقهم ".
الآن دَخَلنا في موضوع دقيق، وهو الفَرْق في أن تعْتَقِد عقيدَةً مُسْتَوْحاة من كِتاب الله عز وجل، وبين أن تعْتَقِد عقيدَةً مُسْتَوْحاة من نَظَرِيَّة الفلاسِفَة، ماذا قال الفلاسِفَة: المَوْتُ شيء عَدَمي، حينما تنقَطِعُ الحياة يكون الموت، والموتُ شيء لا وُجود له وهو شيء سِلْبي، ونَفْيُ الحياة يَجْعَلُ الكائِن ميِّتاً، لكنَّ الله عز وجل قال:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾
بحسب أحْدَث النَّظريَّات تبيَّن أنّ في الإنسان عوامِل المَوْت، لكنَّها ضعيفة، فإذا قَوِيَت عوامِل الموت على عوامِل الحياة مات الإنسان، هذه العوامِل يبْدأ عملها في العَقْد الرابع أو الخامِس، وتتنامى إلى أن تتغَلَّب على عوامل الحياة، فَيَمُوت الإنسان، إذاً هناك شيء مَخْلوق في الإنسان، وهو عوامل الموت، قال تعالى:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾
لذلك فالموت صِفَةٌ وُجودِيَّة خِلافاً للفلاسفة ومن وافقَهُم، قال تعالى:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾
ما مِن إنسان في الدنيا إلا والموت يُقْلِقُه :
العَدَم لا يوصَفُ بِكَوْنِه مَخْلوقاً، وفي الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ ثُمَّ قَرَأَ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ ـ وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا ـ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ))
ما مِن إنسان في الدنيا إلا والموت يُقْلِقُه، ولو كان في بَحْبوحة وعِزّ، وكلَّما لاحَ الموت جعل سعادَتَهُ شَقاءً، لذلك فإنّ الموت الذي يلوح للناس في الدنيا يُذْهِبُ عنهم سعادتهم؛ يُجَسَّد هذا الموت بِكَبْشٍ أملح، ويُذْبَحُ بين الجنَّة والنار، ونحن المسلمون دائِماً يجب أن نعْتَقِد أنَّ الله سبحانه وتعالى حينما يقول شيئاً في كتابه الكريم، أو حينما يقول النبي عليه الصلاة والسلام كلاماً فرُبَّما مُعْطَيات العَصْر لا تسْمَحُ لِفَهْم هذا النصّ، وإلى حين كان يُظَنّ بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الْآخَرِ دَاءً))
كان الناس يظنون أن هذا الحديث موضوع، حتى إنّ بعض عُلماء الدِّين وإلى فَتْرة قريبة كانوا يَفِرُّون من هذا الحديث، ويُرَجِّحون أنَّه ليس صحيحاً، ثُمَّ أثْبَتَ العِلْم أنّ في أحد جناحَي الذباب داء، وفي الآخر دواء، فأنت إن لم تَسْتَوْعِب حديثاً، ولم يتوَضَّح في ذِهْنك، وكان العِلْم قاصِراً على أن يُثْبِتَه، فإيمانُك بالله يجب أن يدعوك إلى التَّسليم، لأنَّ الأمْر إذا كان واضِحاً جداً، وكانت نتائِجُه لديك واضِحَة كذلك، وأنت فَعَلْتَهُ، ويغْلِبُ على فِعْلِك اتِّباعُ صالِحِك، أما حينما يَضْعُفُ إدْراكك عن إدْراك حِكْمَتِه، وتُبادِر إلى تنفيذِه، فإنَّ هذا الأمْر يُقَوِّي جانب العُبودِيَّة فيك.
هناك أوامر في الدِّين المَقْصود منها امتِحان عُبودِيَّتك لله عز وجل ومدى إيمانك :
ضَرَبْتُ لكم مَثَلاً مرَّة، وهو أب أولاده على المائدة، فإذا أعْطى الأب أمْراً لأحد أوْلاده؛ أنْ نَظِّف أسنانك، فهذا لِصالِحِه، وكذا لا تتأخَّر عن المدْرسة، واكتب وظائِفَك، فالابن يتلقى من أبيه عشرات الأوامر، كُلُّها واضِحة، فالابن الذَكِّي الذي يُبادِر في تطبيق أوامر أبيه البَيِّنَة حِكْمَتُها ونَفْعُها، فلا يُسَمَّى هذا خُضوعاً للأب، أما حينما يتلقَّى الابن أمراً غير معقول فهو في حالة جوعٍ شديد، والطعام على المائدة ساخِن، ويقول الأب لابنه: لا تأكل! فإذا أطاع الابن كان دليلاً على تَرْبِيَتِه، فأَحْياناً هناك أمْرٌ تَعَبُّدي، وأعظم أمْر تَعَبُّدي في كتاب الله أن يقول الله عز وجل لأحدِ الأنبياء الكِرام: اِذْبَح ابنك، شيء غير مَعْقول، وغير مَقبول، فَدَائِماً الأمْر فيه عُنْصران: مَضْمون الأمْر، والآمِر، فأحْياناً تكون العِلَّة في تطبيق الأمْر مَضْمونَ الأمْر نفْسِه، فإذا كان هناك إنسان عظيم في مَرْكبَة، وأمامه حُفْرة لا يراها، وأدار المُحَرِّك، وهو في طريقه إلى الحُفْرة، لو أنَّ طِفْلاً صغيراً نبَّهَهُ يسْتجيب! هل نقول: إنَّ هذا الإنسان العظيم يَعْبُد هذا الطِّفْل الصغير؟ الأمر واضِح، والنَّصيحة جَلِيَّة، إلا أنَّهُ متى يتَّضِحُ جانب العُبودِيَّة في الإنسان؟ حينما لا يتَّضِح له الأمر! ففي الحديث عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ:
((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ))
فالله تعالى أمرك بالصِّدْق، وأمرَكَ بأداء الحُقوق، وغضِّ البَصَر؛ كُلُّ هذه الأمور تُريح النفس، فإذا قال لك: لا تأكل، ولا تشرب الخمر، كان واضِحاً، فإذا قال لك: لا تأكل الخنزير كان أوْضَح، فالأمر إذ غابَتْ عنك حِكْمته، والأمر إذا كان شعائِرِياً، وليس واقِعِياً، فالصلاة، والصوم، والحج؛ من طواف، وسعْي، ووُقوف بعرفة، وقد قدِمْتَ من طرف الدنيا، ودَفَعْتَ آلاف الدراهم لِتَقِفَ بين يدي الله، فهذه أوامِر تَعَبُّدِيَّة نبْحث عن حكمتها، إلا أنَّه أحْياناً يغلب على الأمْر أنّ آمِرَهُ عظيم، يكفي، ولذلك قال بعض العلماء: عِلَّةُ أيّ أمْرٍ أنَّهُ أمْر، ألا يكفي أنَّه أمْر الله عز وجل، نحن مع فَهْم الحِكْمة، ومع التمْحيص، ومع التعليل من أجل أن ندْعُوَ إلى الله عز وجل، ولأن تكون الدَّعْوة مَعْقولة فهذا كُلّ شيء لا غُبار عليه، لكن حينما تُعَلِّق تنفيذ الأمْرِ على فهْم حِكْمتِه فأنت لا تعبد الله أبداً، لذلك هناك أوامر في الدِّين المَقْصود منها امتِحان عُبودِيَّتك لله عز وجل، إذْ هناك أوامر المقصود منها إظهار مدى إيمانك بالله تعالى، ومدى تَسْليمك له.
الله تعالى يسوق للإنسان الأقْدار لِيَمْتَحِن ثِقَتَه به واسْتِسْلامه وعُبودِيَّتَه له :
قد يتلقى إنسانٌ من آخر مئة نصيحة، وكل نصيحة أكثر فائِدَةً من أُختها، ثمَّ ينصحُهُ نصيحَةً غير مَعْقولة، ماذا يفعل هذا الإنسان؟ يقيس على ما مضى، فأنت وطِّن نفْسَك أنَّك تطالعك أحياناً حالات غير واضِحَة، هناك أمْرٌ أوْضَح من ذلك؛ فلو أنَّ إنساناً جلسَ على كرسي علاج الأسنان، وأقْنَعه الطبيب أنَّ قَلْع الضِّرْس مُؤلِم جداً، وأنَّهُ لا بدّ من مُخَدِّر، والإبرة فيها ألَم طفيف، فالأمْر واضِح جداً، وما دام كذلك فلا يُقال لِلمريض إلاّ اصْبِر، لأنَّ هذا لِصالِحِه، لكن إذا قال لك الله تعالى:
﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾
معنى ذلك أنُّ هناك أمْراً ليس واضِحاً عندك، فلذلك يُمْتَحَنُ الإنسان أحْياناً بِقَضاءٍ من الله تعالى وقَدَرٍ لا يرى حِكْمَتَهُ؛ مُسْتَقيمٌ وجاءَتْهُ مصيبة، ويُنْفِقُ مالهُ ليلَ نهار، وجاءَتْهُ ضائِقَة مالِيَة، كان بارّاً لِوالدِه، ووجَدَ من ابنه بعض المُشاكَسَة، فأنت عُرْضةٌ لابتلاء الله عز وجل، إذْ سبحانه وتعالى قد يسوق لك الأقْدار لِيَمْتَحِن ثِقَتَكَ به، واسْتِسْلامك له، وعُبودِيَّتَك له جلَّ جلاله. لذلك قال سيّدنا سَعْدُ: ثلاثة أنا فيهِنَّ رجل، وفيما سِواهنّ أنا واحِدٌ من الناس: ما سَمِعْتُ حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسَلَّم إلا عَلِمْتُ أنَّهُ حقٌّ من الله تعالى، فَمَثَلاً حَبَّة البرَكة، أو الحَبَّة السَّوْداء تُقَدَّم لإنسان عاش في الصَّحْراء، والمُعْطَيات العِلْمِيَّة ضعيفة جداً، ويقال له: فيها الشِّفاء، كيف؟! الكلام كبير جداً، والمَضْمون صغير، حَبَّة سَوْداء فيها شِفاء، نعَم، فقبْل سَنَتَيْن أو ثلاث سنوات عُقِد مؤتمر بالقاهِرَة، هذا المؤتمر من أجل الحَبَّة السِّوْداء، وكان من نتائِج هذا المؤتمر أنّ الحَبَّة السوداء تُقوِّي جِهاز المناعة في الإنسان، وتَقْوِيَةُ جِهاز المناعة شِفاء من كُلِّ مَرَض، فَنَتَائِجُ هذا المؤتمر تتناسَب مع هذا الحديث الشريف.
كُلَّما ازْداد إيمانُكَ بالله تَشْعُر أنَّ الذي يَقُولُهُ النبي وَحْيٌ يوحى :
هناك آلاف الأحاديث فَمَثَلاً عِلْمُ المُسْتَحاَثَّات في الجزيرة العَرَبِيَّة يُؤَكِّد أنّ تحت الرُّبْع الخالي حضارة، ومُدُن مَغْمورة بالرِّمال، وبساتين، وجنَّات، وقُصور، وبُيوت، فكيف يقول عليه الصلاة والسلام:
((لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً))
معنى ذلك أنَّها كانت، ومعنى ذلك أنَّها سَتَعود، ومعنى ذلك أنَّ خُطوط المَطَر تنتَقِل، والمُلاحظ بهذه السنوات الخمْس الأخيرة أنَّ نِسَب الأمطار بالشَّرْق أكثر من الغَرْب، وصار هناك قَحْط وجفاف مُمِيت بِشَمال أوروبا، فلَعَلَّ النبي عليه الصلاة والسلام أعْلَمَهُ أنّ هذه البِلاد كانت جنَّاتٍ وانْهاراً، وسَتَعود في نِهاية الدَّوَران للزمن جنَّاتٍ وأنهاراً، فأنت كُلَّما ازْداد إيمانُكَ بالله عز وجل تَشْعُر أنَّ الذي يَقُولُهُ النبي عليه الصلاة والسلام وَحْيٌ يوحى، ولا علاقة لكلامِه بِمُعْطَيات العَصْر، وقد تكون كُلّ مُعْطيات العَصْر العِلْمِيَّة لا تَكْفي لِتَوْجيه مُعطَيات النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: وهو وإن كان عَرَضاً، فالله تعالى يَقْلِبُهُ عَيْناً، ما معنى عَيْن وعَرَض؟ العَرَض صِفَة طارِئة فَيُمْكِنُني أن أضَعَ مادةً في هذا الماء، الذي لهُ وَزْنٌ، وحَجْم، وخصائص، فالماءُ عَيْنٌ، ولكن لو وَضَعْتُ في هذا الماء لوْناً أحْمرَ، فصار لوْنُ الماء أحْمر، فاللَّوْن عَرَض، والطاوِلَة عَيْن، ولكن هذا اللَّوْن الذي اِكْتَسَبَتْهُ عَرَض، وكذا اللَّون عرض، أما الشُّعاع عَيْن فقد يكون أحْمر، أو أصفرَ، فالمَوْتُ عَرَض في رأي عُلماء الفلاسفة، وإن كان عَرَضاً فالله تعالى قَلَبَهُ عَيْناً، هكذا قالوا! وأصْبَحَ شيئاً يُخْلَق، وواللهِ الذي لا إله إلا هو هذا المعنى في نَفْسي قديم، حول المرَض لا الموت، فأشْعُر أنّ الإنسان يُصاب بالمرَض إلى أن يَظُنّ، أو يتأكَّد أنَّهُ انتهى؛ فمِن أين تأتي الصِّحَة بعد ذلك؟ تَشْعُر وكانَّ الصِحَّة شيء خُلِق فيه، وكانت هناك عِلَلٌ كثيرة، فالله تعالى كما خلق المرَض يَخْلُقُ الصِّحة، قال تعالى:
﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ*وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ*وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾
فالشِّفاء شيءٌ يُخْلَق، ولِذلك فهذا المعنى يدْفَعُ اليأس عن كُلِّ الناس.
الله سبحانه وتعالى يقلبُ الأعْراض إلى أعْيان يوم القِيامة :
كَما أنَّ الله تعالى خَلَق المَرَض فإنَّه يخْلُقُ الشِّفاء، وكما أنَّ الله تعالى خلَقَ الحياة يخْلق الموت قال تعالى:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾
وقد ورد في العمل الصالِح حديثٌ عن براء بن عازب وهو حديث صحيح أنَّه يأتي صاحِبَه في صورة الشاب الحَسَن، والعَمَل القبيح يأتي في صورة الرجل القبيح، وقد ورَدَ في الحديث عن فضْل القرآن أنَّه يأتي على صورة الشاب الشاحِب اللَّون، أي قِراءَة القارئ، وورَدَ في الأعمال أنَّها توضَعُ في الميزان، والأعْيان هي التي تَقْبلُ الوزْن دون الأعراض، فحينما يوزَنُ الشيء الذي هو عَرَض معنى ذلك أنَّ الله تعالى قَلَبهُ إلى عَيْن، ولِحِكْمةٍ بالغة فهذه الأشياء المَعْنَوِيَّة التي هي أعْراض في الدنيا يجْعَلُها الله عز وجل يوم القِيامة أعْياناً؛ أحْياناً يُعَلِّق الإنسان في بيتِه شهادة، ما معنى هذه الشهادة؟ عِبارة عن وثيقة تُثْبِتُ عِلْمهُ، ففعلُ اللهِ عز وجل أبلغُ من شهادة حينما يريدُ أن يُبَيِّن لِكُلِّ واحِدٍ من خلْقِهِ ماذا عَمِل! فقد يأتي العَمَل مُجَسَّداً، فَمُلَخَّصُ هذه الموضوع أنَّ الله سبحانه وتعالى يقلبُ الأعْراض إلى أعْيان يوم القِيامة، وهو على كُلِّ شيء قدير، وأنا أذكر لكم هذا وهو من باب التقريب، أنَّ بعض الإحْصاءات يَضَعون مُجَسَّداتٍ بيانِيَّةً، ومُكَعَبَّات مُتَفاوِتَةً في الارْتِفاع، فَيُمْكِنُ للفِكْرة أن تُصْبِحُ مُجَسَّدةً بِحَقيقَة. فالفِكْرة ملخصة: أنّ الشيء غير المادِّي يُصْبِحُ يوم القِيامة مادِيّاً، وفي الصحيح أنّ أعْمال العِباد تصْعَدُ إلى السماء، وسيأتي الكلام عن البعْث والنُّشور إن شاء الله تعالى.
الفرق بين كلام الله تعالى وبين كلام البشر وضوحه ودقته :
قال المُصَنِّف: ورد في القرآن مجازات بلاغية؛ منها ما يكون إيجازاً مُخلاًّ، فقد ورد في الحديث عن فضْل القرآن، فالأوَّل من هذه المجازات إيجازٌ مُخِلّ، لأنَّنا توَهَّمْنا خلاف المنطوق، فالله تعالى قال:
﴿ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ﴾
فلو أنَّ الله تعالى قال: فلا صدَّق وصلى، كان معنى الكلام أنَّهُ لم يُصَلِّ، فَلِمَ أضاف هذه (لا) الزائِدَة؟ دَفْعاً لِتَوَهُّمِ أنَّهُ صلَّى، معنى ذلكم أنّ البلاغة أن تقول كلاماً إذا أرَدْتَ منه معنى مُحَدَّداً ينبغي ألاّ يُفْهَمَ على معنى آخر، فهذا سيِّدنا عمر مرَّ على قَوْمٍ يُشْعِلون ناراً، فقال: السلام عليكم يا أهل الضَّوْء! ولم يقُلْ السلام عليكم يا أهل النار! لأنَّهُ لو قال: السلام عليكم يا أهل النار! قد تُفْهَم عبارته أنَّهم من أصْحاب النار، فلو أنَّ أحداً قال لأحدٍ: كيف حالك وهل أنت مُعافىً؟ فأجاب: لا عافاك الله، كان المعنى دعاء عليه، ماذا ينبغي أن يقول؟ لا، وعافاك الله؛ بِإضافة الواو، فـ (لا) إجابة عن السؤال، والجملة التي بعدها دُعاء له، والإنسان كُلَّما ارْتَقَى بِلُغَتِه يخْتار العِبارة المناسِبَة، التي لا يُمْكِن أن تُفْهَمَ فَهْمَيْن، والفرق بين كلام الله تعالى وبين كلام البشر وضوحه ودقته؛ فأحْياناً يكون في ذِهْن الإنسان معنى مُحَدَّد، ولِضَعْف اللُّغَة، وعدم بلاغته الراقِيَة يستعْمل عِبارة تحْتَمِل عِدَّة معانٍ، وهو يريدُ معنىً واحِداً، وهنا نقول:
هذه العِبارة تحْتاج إلى شرْح، وعلينا أنْ نرْجِع إلى قائِلِها لنفهم ماذا يُريد بِهذه العِبارة، أما الله تعالى إذا ذَكَر عِبارة احْتِمالِيَّة فالإله له شأن خاص، وهو يريد كُلَّ المعاني التي تحْتَمِلُها هذه العِبارة، لذلك سَمَحَ لنا أن نجْتَهِد، وقد أوْرَدَ لنا ربُّنا عز وجل نُصوصاً، وذكرَ في القرآن آيات ظَنِيَّة المعنى، فأصْبح أحد خلاف العلماء في وِجْهات نَظَرِهم أنَّ أصْل النصّ ظَنِّي الدلالة، والله عز وجل كلامه كامل، لكنه جاء ظنِّي الدلالة، فَمَعنى ذلك أنَّه تعالى أراد لنا أن نفْهَمَ هذا النصّ على معانٍ عِدَّة، وسَمَحَ لنا أن نجْتهِد، والخصائص التي يرْقى بها الإنسان إلى أعلى درجات التكريم أنّه سمح له أن يجْتهِد، وسمَحَ له أن يُبْدِع، وسَمَح له أن يكون فرْداً مميزاً، وسَمَح له أن يكون حُرّاً، وسمَحَ له أن يكون مُريداً، هذا مِن تكريم الله للإنسان، وجعله فرْداً لا مثيل له، والعلماء في زماننا اكْتَشَفوا أنّ في الكون اثنين ونصْف مليار زُمْرة نسيجِيَّة، أي أنَّهُ يوجَد في العالم شخص واحدٌ فقط يُشْبِهُ زُمْرتَكَ النَّسيجِيَّة، وأنا أتَوَقَّع أنْ يُكْتشف بعد حين أنَّ زُمْرة الإنسان النَّسيجِيَّة كَبَصْمة الإصبع لا تتكَرَّر، وما الذي يجْعل الإنسان فرْداً لا مثيل له؟ قال: قُزَحِيَّةُ العَيْن، والآن هناك أُصول إلكترونِيَّة مَبْنِيَّة على قُزَحِيَّة العَيْن، تَضَع عَيْنَيْك على القِفْل، فَيُفْتَحُ الباب، وكذا رائِحَةُ الجِلْد، ونَبْرَةُ الصَّوْت، وبلازْما الدَّم؛ كُلّ هذه ينفرِدُ بها المرءُ عن كل الناس.