- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (042)سورة الشورى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
دعوة الله عز وجل لعباده أن يطيعوه ويستجيبوا له:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الآية السابعة والأربعين من سورة الشورى، ومع الدرس الخامس عشر من هذه السورة، الآية الكريمة وهي قوله تعالى:
﴿ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ ملجأ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ(47)﴾
هذه الآية تأتي بعد آية وردت قبل في أسبوع سابق وهي قوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)﴾
أيها الأخوة؛
الإيمان حياة القلوب:
الله سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى يقول:
﴿
فالإنسان قبل أن يؤمن ميِّت، أما إذا عرف الله سبحانه وتعالى أصبح حياً، الإيمان حياة القلوب، هذا الجسد يحتاج إلى طعامٍ وشراب حتى يحيا، أو حتى يستمرَّ في حياته، لكن النفس البشريَّة تحتاج إلى الإيمان حتى تحيا، فصدِّقوني أن كل إنسانٍ غفل عن ربه في حكم الميِّت، قال:
من عاش لمآربه الدنيوية إنسان ميت ولو كان على قيد الحياة:
يجب أن نفهم أيها الأخوة أن للقلب حياةً، وأن للجسد حياةً، والجسد قد نفحصه بمعايير طبيَّة فإذا هو في أعلى درجات نشاطه، ولكن لو فحصنا قلب الإنسان -قلب نفسه- فقد نراه ميِّتاً، وربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿
ميِّت، هذا الذي يعيش لحظته، يعيش لمآربه الدنيويَّة، لا يعرف ربَّه، لا يأتمر بأمره، لا ينتهي بنهيه، لا يسعى للآخرة هذا ميِّت، بل إن بعض الأجانب الذين قالوا: كل إنسانٍ لا يرى في هذا الكون قوّةً هي أقوى ما تكون، عليمةً هي أعلم تكون، حكيمةً هي أحكم ما تكون، هو إنسانٌ حيّ ولكنَّه ميّت، قال هذا الكلام أعلم علماء الفيزياء، ينبغي أن نفرِّق بين حياة الجسد وحياة القلب:
﴿
أمراض الجسد تنتهي عند الموت وأمراض النفس تبدأ بعد الموت:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
معافى من الأمراض، أمراض الجسد أيها الأخوة تنتهي عند الموت، لكن أمراض النفس تبدأ بعد الموت، ويستمرُّ عذاب الإنسان بأمراضه النفسيَّة إلى أبد الآبدين، لكن أمراض الجسد مهما تكن وبيلةً تنتهي عند الموت، يقول لك: مات واستراح، لكن الكافر يبدأ عذابه بعد الموت، الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، فالإنسان حينما لا يستجيب لله عزَّ وجل يموت قلبه، وإذا مات قلبه ضلّ عقله، وشقيت نفسه، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
من لم يتبع هدى الله عزَّ وجل ضلَّ عقله وشقيت نفسه.
من اتبع رضوان الله سعد في الدنيا والآخرة:
والإنسان أيها الأخوة؛ قد ينطلق من منطلق نفسي، ما منَّا واحدٌ إلا ويحب نفسه؛ يحب وجوده، وسلامة وجوده، وكمال وجوده، واستمرار وجوده، انطلاقاً من حبه لنفسه عليه أن يستجيب لله عزَّ وجل، الإنسان يحب استمرار الوجود، الإنسان يحب أن يعمَّر مئة سنة، ما من إنسان إلا ويشتهي ذلك، لكن ما الذي يجعلك تسعد إلى أبد الآبدين؟ أن تستجيب لله عزَّ وجل، لكن لو أراد الإنسان الدنيا وحدها هو يقامر، لأن كل آماله متعلِّقة بضربات قلبه، فلو وقف القلب فجأةً انتهى كل شيء، وتحوَّل عنه كل شيء، وخسر كل شيء، خسر الدنيا وخسر الآخرة، لذلك لا يرتاح الإنسان ولا تطمئن نفسه إلا إذا شعر أنه إذا توفَّاه الله فله عند الله جنَّة، فله عند الله سعادة، قال تعالى:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
من ابتعد عن الله عز وجل شعر بقلق يأكل قلبه:
في أعماق الإنسان البعيد عن الله قلق، شعور بالخوف من المستقبل، تُرى ماذا يخبِّئ له المستقبل؟ يخبئ له مرضاً عضالاً؟ تُرى هل المرض في قلبه؟ في كبده؟ في كليتيه؟ في الخلايا ورم غير طبيعي؟ تُرى هل ينتظره حادث؟ هل يا تُرى شيخوخة ثم يُردُّ إلى أرذل العمر؟ هذا القلق المخيف الذي يأكل قلوب العباد سببه البعد عن الله عزَّ وجل.
الآن يوجد أمراض متفشِّية في العالم من أبرزها مرض الكآبة، يقول لك: نوبات كآبة، لأن خطُّه البياني نازل وليس صاعداً، كلَّما تقدَّمت به السن ضعفت إمكانيَّته في الاستمتاع بالحياة، يكون في أوج عطائه، تقاعد، أصبح على الهامش، الكلام لأولاده، قال:
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
كان ابنك عندك فصرت عنده، فهذا الخط البياني حينما ينزل المؤمن العاقل الأريب الموفَّق هو الذي يسعى ليكون خطه البياني صاعداً باستمرار، فإذا عرفت الله عزَّ وجل فخطُّك البياني صاعد، وإذا تقدَّمت بك السن فلك شيخوخةٌ متألِّقة؛ فيها العطاء، فيها الوقار، فيها الحب، فيها القوَّة، النبي عليه الصلاة والسلام من أدعيَّته:
(( عن عبد الله بن عمر: اللهمَّ اقسِمْ لنا من خَشيتِك ما يحولُ بيننا وبين معاصِيك, ومن طاعتك، وما تُبَلِّغُنا به جنَّتَك, ومن اليقينِ ما يُهوِّنُ علينا مُصيباتِ الدُّنيا،
المؤمن متفائل لا ينتظر من الله إلا الخير:
المؤمن متفائل، المؤمن لا ينتظر من الله إلا الخير، إلا السعادة، إلا السلامة، ولكن بشرط أن تستجيب له، أن تعقد صلحاً معه، أن تعود إليه، أن تنيب إليه، أن تأتمر بأمره، أن تنتهي عمَّا عنه نهاك، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ معناها دعوة الله عزَّ وجل، يدعوك لحياة القلب، فإذا أصبح قلبك حياً عشت به سعيداً في الدنيا وبعد الموت، لا يوجد شيء يلفت نظر قارئ السيرة أكثر من أن أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم ما منهم واحدٌ إلا وكان يعيش أسعد لحظات حياته عند مفارقة الدنيا، ولو سألت الآن طبيباً يعمل في أمراض عضالة يقول لك: حينما يشعر المريض بأنه قد أُصيب بهذا المرض تنهار أعصابه، يصبح كالأطفال، لأنه سينتقل من كل شيء إلى لا شيء، أما المؤمن فسينتقل من شيء إلى كل شيء.
شعور العبد أن الله يحبٌّه شعور لا يقدَّر بثمن:
النبي عليه الصلاة والسلام صوَّر انتقال المؤمن من الدنيا إلى الدار الآخرة فقيل كما ينتقل الجنين من رحم أمِّه إلى سعة الدنيا، كان الجنينُ يعيش في سبعمئة وخمسين سنتيمتراً مكعَّباً في الرحم فانطلق إلى الدنيا، والمؤمن كذلك ينتقل بالموت من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، فنحن نسعى إلى الراحة النفسيَّة، الراحة النفسيَّة لا تكون إلا بمعرفة الله، أي يوجد فراغ، والله أقول لكم هذا الكلام: لا يملؤه لا المال، ولا الجاه، ولا السلطان، ولا الصحَّة، ولا الذكاء، ولا العلو في الأرض، لا يملؤه إلا أن تعرف الله، وأن تكون متبعاً لأمره، شعور العبد أن الله يحبٌّه شعور لا يقدَّر بثمن، شعور العبد أنه في ظل الله، في رحمة الله، الله يدافع عنه.
المؤمن كل جهده في الدنيا يتجه إلى حُسن العلاقة بالله:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)﴾
هذا الشعور بالانتماء إلى خالق الأكوان، شعور بالانتماء إلى رب العالمين، شعور أنك في ظلّ الله، أن الله لا يتخلَّى عنك، أن الله يحبُّك، أنك كما قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
هذا الشعور لا يقدَّر بثمن، وإذا شئتم عليه دليلاً؛ الإنسان أحياناً يعقد صلة مع إنسان قوي أو ذي شأن في المجتمع، فالأرض عندئذٍ لا تسعه، أي إذا كان معه صورة مع شخص مهم يضعها في صدر بيته، ويُطْلِع عليها الزوَّار تأكيداً لهذه العلاقة، لكن المؤمن علاقته الطيِّبة بربِّه، المؤمن ربَّاني، أي أن كل جهده في الدنيا يتجه إلى حُسن العلاقة بالله، والقضيَّة سهلة جداً، كل هؤلاء الذين تقع عينك عليهم هم عباد الله، فإذا أكرمت واحداً منهم فكأنَّك أكرمت ربَّك، إذا نصحت الناس يرضى الله عنك، إذا كنت لهم وفياً يرضى الله عنك، إذا خدمتهم يرضى الله عنك، إذا صدقتهم يرضى الله عنك.
على كل إنسان أن يصطلح مع نفسه:
الإنسان إذا صدق مع عباد الله قاطبةً دون تعيين، كان صادقاً، كان مخلصاً، كان أميناً، كان خيِّراً، كان معطاءً، الخلق كلُّهم عيال الله وأحبُّهم إلى الله أنفعهم لعياله، أما آن الأوان أن يصطلح الإنسان مع نفسه؟ أن يدخل معها في سلام؟ لأن الفطرة عالية، فعندما ينحرف الإنسان هناك عذاب داخلي، هناك غليان داخلي، هناك وخز، هناك تأنيب، هناك تضييق، يقول لك: متضايق، الأرض كلُّها لا تسعني، أكاد أنفجر، لماذا تنفجر؟ إنك آكل، شارب، نائم، تملك كل شيء، لماذا الضيق؟ هذا ضيق البُعد عن الله، أو ضيق العذاب النفسي، ضيق تعذيب الفطرة لذاتها.
يوم الدين لا يستطيع أحدٌ أن يردَّه:
لذلك ربنا عزَّ وجل يقول:
يوم القيامة هو اليوم الحاسم عند كل إنسان:
هذا اليوم الحاسم، هذا اليوم الذي تُسأل فيه عن مالك من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟ تُسأل عن شبابك فيم ضيَّعته؟ تسأل عن عمرك فيم أفنيته؟ تسأل عن علمك ماذا عملت به؟ هذا اليوم:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)﴾
تحاسب فيه على الابتسامة، على الإعطاء، على الأخذ، على الكلمة، على النظرة.
﴿
هذا اليوم لا مردَّ له.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فهذا أمر تهديد:
(( عن سهل بن سعد أنه جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد
والله هذا الحديث الشريف يكفي العباد:
على كل إنسان أن يستجيب لله قبل فوات الأوان:
كلام خالق الكون بين أيدينا، يقول: يا عبادي استجيبوا قبل فوات الأوان، قبل أن يأتي يومٌ لا بيعٌ فيه ولا شراء، قبل أن يأتي يومٌ
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ
قبل أن يأتي يومٌ تقول:
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ
من رحمة ربنا عزَّ وجل أن هذه المواقف الحاسمة أخبرنا ربنا عنها قبل فوات الأوان، هذه المواقف التي لابدَّ أن تقع أُخْبِرْنَا عنها قبل أن تقع.
خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت فقط:
إذاً:
إخواننا الكرام؛ أنت لك خيار، خيارك مع أشياء كثيرة خيار قبول أو رفض، أتشتري هذا البيت؟ تقول: لا، أتسافر لهذه الجهة؟ تقول: نعم أسافر، خيارك مع أشياء كثيرة خيار قبول أو رفض، إلا أن خيارك مع الإيمان خيار وقت فقط، أي لابدَّ من أن تؤمن، لكن الخيار إما الآن أو بعد فوات الأوان، أي لا ينجو من هذا الخيار ولا فرعون، قال:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ
من لم يؤمن الآن فلابدَّ من أن يؤمن بعد فوات الأوان:
هذه النقطة دقيقة جداً ويجب أن تبعث الإنسان إلى مزيد من الطاعة إلى الله، خيارك خيار وقت، إن لم تؤمن الآن فلابدَّ من أن تؤمن بعد فوات الأوان،
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾
قالت السيدة عائشة: يا رسول الله أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة؟ قال: نعم يا أمَّ المؤمنين إلا في أربعة مواضع: عند الصراط، وعند الميزان، وإذا الصحف نُشِرَت، وفيما سوى ذلك قد تقع عين الأم على ابنها تقول له: يا ولدي جعلت لك بطني وعاءً، وحِجري وطاءً، وصدري سقاءً فهل من حسنةٍ يعود عليَّ خيرها اليوم؟ يقول: ليتني أستطيع ذلك يا أمَّاه إنما أشكو مما أنتِ منه تشكين، التركيز على هذا اليوم،
العاقل من هيأ لله جواباً عن كل عمل قبل أن يلقاه:
إخواننا الكرام؛ قبل أن تقول كلمة، قبل أن تُعطي، قبل أن تأخذ، قبل أن تغضب، قبل أن تبتسم، قبل أن تصل، قبل أن تقطع، قبل أن تُسافر، قبل أن تؤسِّس هذا المشروع هيِّئ الجواب لله، لماذا فعلت هذا يا عبدي؟ هل معك حجَّة؟ هل معك دليل؟ هل هناك آية تجيز عملك؟ المؤمن العاقل دائماً عنده هاجس واحد: ماذا أقول لربي يوم القيامة؟
دخلت زوجة عمر بن عبد العزيز عليه فرأته يبكي قالت له: مالك تبكي؟ قال لها:
يجب عليك ولو كنت في أية وظيفة ظلمت إنساناً، اعتديت عليه، ألبسته تهمة بالباطل، ابتززت ماله، إذا كنت قوياً، وإذا كنت ذكياً بالاحتيال، أوهمته أن معه مرضاً خبيثاً، أوهمته أنه يحتاج إلى تحاليل كثيرة، فالإنسان أحياناً يكسب المال حراماً إما بقوَّته أو بحيلته، إذا قوي بقوَّته ادفع، وإذا لم يكن قوياً فبحيلته، فقبل أن تأخذ المال هل أخذته حلالاً طيِّباً؟ هل أخذته وفق الشرع إن كنت تاجراً؟ هل غششت الناس؟ هل أوهمتهم أن هذه البضاعة من نوع خاص وهي أقل بكثير من ذلك؟
الله عز وجل لا يكلف الإنسان إلا بما أقدره عليه:
فيا أيها الأخوة الكرام؛ هذه آيةٌ حاسمة:
على كل إنسان أن يتلافى أموره الخاطئة من قبل أن يأتي يوم لا مرد له:
فيا أيها الأخوة؛
كلمة ليت لا تنفع الإنسان يوم الحساب:
أستطيع أن أعمل مراجعة دقيقة لدخلي، لإنفاقي، لبيتي، اضبط البيت، لكن يأتي يوم لا يوجد مرد، يقف الإنسان أمام طريق مسدود مهما فعل، لو قال:
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ
لا تنفعه..
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)﴾
﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)﴾
هذا اليوم ليس له مرد، هذا الطريق المسدود لا توصل نفسك إلى هذا اليوم، يوجد بالعمر بقيَّة، يوجد بحبوحة، أنت نشيط الآن.
يوم القيامة ليس بإمكان أي إنسان أن يتهرب منه:
﴿
آيات قرآنيِّة كلها.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
لو كان فيها احتيال ليس فيها تراض، لو كُشف للطرف الآخر أنك احتلت عليه أيرضى عنك؟ لا يرضى، لم يعد هناك بيع عن تراضِ، هذا البيع صار مشبوهاً، فالأمر بيدنا الآن، لكن عند الموت ليس بيد الإنسان، الآن باختيارك أن تهتدي، باختيارك أن تستقيم، أن تصدق، فهذا اليوم الذي لا مردَّ له، ليس هناك إمكان أن تتهرَّب منه، وليس هناك إمكان أن تتهرب منه، وليس هناك إمكان أن تدفعه، وليس هناك إمكان أن تستصدر استثناء خاصاً بك: أن فلاناً يطوى من الحساب، هذا اليوم لا مردَّ له.
عدم وجود أي ملجأ يلجأ إليه الإنسان هرباً من الحساب:
كل إنسان يوم القيامة يحاسب بمفرده:
لأنه:
﴿
في الحياة الدنيا يوجد تجمُّعات، يوجد جماعات، يقول لك: هذا من جماعتي، والله إذا أحد اقترب منه نعمل كذا وكذا، لا يوجد جماعة يوم القيامة، هذا في الدنيا، أحياناً ينتمي الإنسان إلى جماعة فتحميه، قد تحميه على الحق إذا كانت جماعة مؤمنة، وقد تحميه على الحق وعلى الباطل إذا كانت جماعة غير مؤمنة، لكنه ينتمي لجماعة، يوجد من يحميه، يدافع عنه، يتوسط له، وفي الآخرة:
عدم استطاعة الإنسان إنكار ذنوبه يوم القيامة لأن أعماله كلها مسجلة عليه:
لذلك:
حدَّثني شخص قال لي: كنَّا في بلد أجنبي، جاءتني مخالفة بسعر غالٍ كثيراً، فأنا على عادتي اعترضت أن هذا غير معقول، أنا ما كنت في هذا المكان في هذه الساعة، فذهب لكي يحتج على المخالفة ذات الرقم العالي فقابلوه بأعصاب باردة، قال له: انتظر، دخل وعاد بالصورة صورة المركبة وهي تخالف، والساعة والتاريخ، فخجل، لكن الآن تضاعفت المخالفة لأنك لم تصدِّقنا، فجعلوه يدفعها مرة أخرى فالصورة مسكتة.
أن تقول: أنا لم أرتكب هذا الذنب، تُعرض أعمال الإنسان على الإنسان متحرِّكة، ملوَّنة، بأحجامها الحقيقيَّة، لا تستطيع أن تنكر الذنوب التي اقترفتها، ولا أحد يستنكر ما يحل بك.
من عدَّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت:
كلُّكم يسمع من حين لآخر موت فلان وموت فلان، اسألوا أقرباءه، ليس هناك إنسان يموت إلا ويتفاجأ بموته، في مخيلته أشياء لعشرين سنة، أو خمس عشرة، أو ثماني عشرة.
أنا مرة رويت لكم قصَّة لا أنساها: جلست مع إنسان في التعليم قال لي: أريد أن أستقيل وأذهب إعارة لبلد شمالي إفريقيا، بلد عربي، هناك العمل مريح جداً والمعاش ثلاثة أمثال، وأنا أستمع له، قال لي: سأقضي أول صيفيَّة في فرنسا، والثانية في إنكلترا، والثالثة في إسبانيا، والرابعة في إيطاليا، سأقضي الصيفيَّة بأكملها أتملَّى معالم هذا البلد، ريفه، متاحفه، عادات أهله، تقاليده، لا أحب هذه الزيارة المستعجلة، شيء جميل، قال لي: ثم أرجع بعد خمس سنوات أقدِّم استقالة وأتقاعد، شيءٌ جميل، قال لي: أفتح محلاً تجارياً، أحضر تحفاً، لا أريد هذه الأشياء التي لها انتهاء مدَّة وعطبها سريع، تحف، يكون أولادي قد كبروا فأضعهم في هذا المحل، وأنا أسمع له، وضيَّفني كأساً من الشاي، وخرجت من عنده، وذهبت إلى بيتي، عندي بعد الظهر ساعات ليلاً، وأنا أعود إلى البيت مشياً رأيت نعوته على الجدران، والله في اليوم نفسه وليس غداً ثاني يوم، قال:
على كل إنسان أن يستعد للقاء الله عز وجل:
هذا اليوم الذي لا مردَّ له متى؟ لو كان بعد سنة جيِّد لابأس، ولكنك لا تعرف متى، يا ترى فجأةً؟ يا ترى خثرة في الدماغ فجأةً؟ يقول لك: سكتة قلبيَّة، شخص ينتظر أن يأخذ مئة وعشرين مليوناً ميراثه من شخص ثري، هذه حصَّته من الميراث، وهو يعمل ليلاً ونهاراً، هو يغسل وجهه وقع ميِّتاً، ولم يقبض قرشاً واحداً، فالحياة ملأى بهذه القصص؛ بيت لا يُسكن، معه شهادة عُليا لا يستخدمها، يكتب كتابه لا يتزوَّج، هذا اليوم متى؟ لا نعرف، من منا يضمن أن يعيش بعد ساعة؟ أبداً، فما دام اليوم الذي لا مرد له نهاية الحياة هذا اليوم ليس بيدي، إذاً عليَّ أن أكون مستعدَّاً دائماً للقاء الله عزَّ وجل.
كل إنسان مخير وما على الرسول الكريم إلا التبليغ:
قال:
﴿
الإنسان مخيَّر، أنت يا محمَد عليك أن تبلِّغ..
﴿ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ
﴿
أنت عليك أن تبلِّغ
من آثر دنياه على آخرته إنسان تافه شارد عن الحق:
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ
أي لا تفرح بالدنيا لأنها سريعة الزوال وشيكة الانتقال، من عرفها لم يفرح لرخاء، لأنها مؤقَّت، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عُقبى.
ثقة المؤمن بالله عز وجل ثقة كبيرة:
(( عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلا الْمُؤْمِنُ. ))
فالتماسك مع المصاب له أمل بالله عزَّ وجل، واثق، بأن يفرجها الله عليه، وهذا الأمل أنا مرة حدَّثني أخ قال لي: ذهبت لأجري عملية في القلب في بلد أجنبي، وكنت أنتظر إجراء العمليَّة دخلت ممرِّضة تحمل دكتوراه نسَّقت الأزهار، وسألتني دون أن تلتفت إلي: ما عمليَّتك؟ قلت لها: العملية الفلانيَّة، من طبيبك؟ قال لها: فلان، وهو من أشهر أطبَّاء بريطانيا، قالت له: غير معقول هل قَبِل؟ قال لها: نعم قبل، قالت له: غير معقول هذا من الصعب أن يقبل، قلت لها: قَبِل وأنا جئت على موعد، قالت: هذا عمل مئة ألف عمليَّة ولا واحدة خابت معه، تكلمت بهذا الكلام فارتاح له، بعدما دفع الفاتورة فإذا فيها مكتوب: ألفا جنيه رفع للمعنويات، المؤمن لا يحتاج لأن يدفع ألفين لرفع المعنويات، معنوياته عالية سلفاً، لا حاجة لمن يرفع له معنوياته، واثق بربِّه، هم أدركوا أن الإنسان عندما يكون عنده معنويات عالية يشفى سريعاً، العضويَّة تعينه على الشفاء، المؤمن وحده عنده معنويات عالية، له ثقة بالله عزَّ وجل، أكبر ثقته أن الله لا يتخلَّى عنه، وأن الله لا يسلمه، وأن الله لا يقدِّر له إلا الخير..
﴿
هذه المعنويات العالية لا تجدها ولا بمئة مليون، أن تشعر أن خالق الكون يحبَّك، لا يتخلَّى عنك، هو أقوى الأقوياء، وكل خصومك بيده..
المؤمن غال على الله عزَّ وجل ولن يضيعه أبداً:
﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾
ألفان مقابل أنها قالت له: كيف قَبِل غير معقول، قال لها: معقول، أنا جئت على موعد، قالت له: عمل كذا عمليَّة ولا واحدة أخطأ فيها، ارتاح، عندما وثق من الطبيب وارتاح أن العملية ناجحة سلفاً، هذه العضويَّة المتفائلة تعين على شفاء ذاتها، هكذا القاعدة الطبيَّة. أما المؤمن وهو في أشد الحالات تجده واثقاً من الله عزَّ وجل، الله لا يضيعني، لن يتخلَّى الله عني، النبي عليه الصلاة والسلام مرِض فأعطي دواء ذات الجنب، فغضب غضباً شديداً، وقال:
استنبطوا من هذه الواقعة أن المؤمن غال على الله عزَّ وجل، الله عز وجل يؤدِّبه، هناك أمور كبيرة جداً من الصعب أن يسوقها الله عزَّ وجل للمؤمن، يرحمه، لا يفضحه، دائماً يسبل عليه ستره، في غيبته، كان سيدنا علي إذا سافر يقول:
من عرف ربه واستقام على أمره ألقى في قلبه السكينة والأمن:
هذه راحة النفس لا تقدَّر بثمن، إذا عرف الإنسان الله عزَّ وجل واستقام على أمره يلقي الله في قلبه السكينة، فتجد في قلب المؤمن سكينة لو وزِّعت على أهل بلدٍ لكفتهم، واثق من الله عزَّ وجل، لن يضيِّعه، ولن يخذله، ولن يسلمه، ولن يجعل لكافرٍ عليه سلطاناً، أنت خائف من الله في البيع والشراء هل يخيفك من إنسان ترجف أمامه هكذا؟ حاشا لله، إذا كنت خائفاً منه لا يخيفك من أحدٍ آخر، أما إذا لم تخف منه، تستغل ثقة الناس فيك، تقتنص أموالهم بالباطل، وتغشَّهم، يأتيك شخص لا تقيم له وزناً يجعلك تضطرب، كثير من الأشخاص دخل عندهم موظف ليحاسبهم عن السعر وما السعر، فسقطوا أرضاً وإسعاف إلى العناية المشدَّدة رأساً، ما تحمَّلوا، أنت تخاف من الله فيما بينك وبين العباد فالله لن يخيفك من عبدٍ مثلك؟ لا والله حاشا لله، من هاب الله هابه كل شيء،
الإنسان مخير في الدنيا لا مسير:
المؤمن متماسك، والله يلقي في قلبه الثبات، يلقي في قلبه الأمن.
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا
فالإنسان مخيَّر
الله سبحانه وتعالى يملك كل شيء خلقاً وتصرُّفاً ومصيراً:
﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا
سابقاً قلت لكم كلمة أن الله يملك السماوات والأرض هذه أوسع أنواع المُلكيَّة، مُلكيَّة خَلْق، مٌلكية تصرُّف، ملكية مصير، ونحن كبشر أحياناً نملك التصرُّف ولا نملك المصير، أو نملك المصير ولا نملك حق الانتفاع، بيت مؤجِّره بسعر رخيص، وقد تملك الانتفاع والرقبة ولكن لا تملك المصير، قد ينظَّم هذا المكان فيعطونك عشر قيمة بيتك، إذاً الإنسان ملكيَّته محدودة، لكن الله سبحانه وتعالى يملك كل شيء خلقاً وتصرُّفاً ومصيراً.
تكريماً للبنات قدَّم الله عز وجل الإناث على الذكور في الآية التالية:
﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
الله عزَّ وجل قدَّم الإناث على الذكور تقديم تكريم، لأن العرب كانوا يكرهون البنات في جاهليَّتهم.
﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)﴾
لذلك ربنا عزَّ وجل تكريماً للبنات قدَّم الإناث على الذكور، لكن جعل الإناث نكرةً
تعريف الذكور في هذه الآية تعريف تشريف:
﴿ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
فالعقيم من الله، والذي عنده خمس بخمسة، أو ثلاث باثنين، أو اثنتين بثلاثة، أو واحدة بواحد من الله، والذي عنده ست بنات من الله، والذي عنده ثمانية ذكور من الله،
الله عز وجل جعل صفوة خلقه بأحوال متفاوتة تغطي كل البشر:
سيدنا لوط آتاه الله الإناث وحدهن، سيدنا إبراهيم آتاه الله الذكور، سيدنا محمَّد آتاه الله الذكور والإناث، سيدنا يحيى جعله الله عقيماً، هؤلاء الأنبياء صفوة الخلق، واحد آتاه الله ذُكراناً، وواحد آتاه إناثاً، وواحد جعله عقيماً، وواحد آتاه ذكوراً وإناثاً، كل واحد منا كيفما كان وضعه يوجد نبي عظيم يشبهه، وهناك نبي ابنه سيئ كابن سيدنا نوح، هناك نبي والده كان كافراً، ممكن، هناك نبي زوجته كافرة، هناك نبي كان قوياً، هناك نبي كان ضعيفاً، هناك نبي كان غنياً، هناك نبي كان فقيراً، والذي كان فقيراً فله أسوة بالنبي عليه الصلاة والسلام، كان راعي غنم، أي هذه الدنيا لا قيمة لها، فالله جعل صفوة خلقه بأحوال متفاوتة تغطي كل البشر، لو أن امرأة تُكلِّم في شرفها وهي بريئةٌ براءةً حقيقيَّة فلها في السيدة عائشة أسوة حسنة، زوجة النبي عليه الصلاة والسلام تكلَّم الناس عنها كلاماً لا يرضي، لكن الله برَّأها، فكيفما تحرَّكت هناك نبيّ أو صحابي أو تابعيٌ يُغَطِّي هذه الحالة.
كل ما جاء من عند الله عز وجل وحي لا يملك النبي استقدامه ولا دفعه:
﴿ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا
الآن ظاهرة الوحي ختم الله بها هذه السورة، أي هذا الذي جاء عن الله عزَّ وجل هو وحي، ليس معناها أنه شيء تراءى للنبي، عندما كان يأتيه الوحي كانت الناقة تبرك لثقله، كان النبي عليه الصلاة والسلام يتفصَّد عرقاً، مرَّةً كانت رُكبة النبي فوق ركبة ابن عبَّاس كادت تَنْحَطِم، أي الوحي شيء ثقيل جداً يأتي، الوحي شيء لا يملك النبي استقدامه ولا دفعه، فلمَّا تحدَّث الناس عن عائشة رضي الله عنها تأخَّر الوحي شهراً، ماذا يفعل النبي؟ الوحي تأخَّر، إلى أن جاء الوحي ببراءتها لحكمةٍ بالغة.
أنواع الوحي:
1 ـ إما أن يأتي الوحي على شكل إلهام:
إذاً:
﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ(51)﴾
أي إما أن يأتي الوحي على شكل إلهام، كما قال عليه الصلاة والسلام: عن جابر بن عبد الله:
(( أيها الناسُ اتقوا اللهَ ، وأَجمِلوا في الطَّلَبِ،
هذا وحي على شكل إلهام.
2 ـ أو إيحاء عن طريق التكليم:
أو إيحاء عن طريق التكليم كما كلَّم الله موسى من وراء حجاب.
3 ـ أو عن طريق سيدنا جبريل:
أو أن يأتي سيدنا جبريل فيوحي للنبي ما يريد الله أن يوصله إليه.
عدم استطاعة أي إنسان أن يرى الله في الدنيا:
﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ
إذاً حتى دما كلَّم الله سيدنا موسى كلَّمه من وراء حجاب.
لا طريق نأخذ منه الحق إلا عن طريق الأنبياء:
الاتجاه الآخر في الآية أن الله عزَّ وجل:
اختار الله تعالى الأنبياء لتبليغ رسالته لأنهم معصومون وقِمَمٌ في معرفة الله وطاعته:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)﴾
الأنبياء معصومون، هم قِمَمٌ في محبة الله، قِمَمٌ في معرفة الله، وقمم في طاعته، وقمم في الإخلاص له، لذلك اصطفاهم وجعلهم أنبياءه ورسله، أوحى إليهم، وأيَّدهم بالمعجزات، وأمرهم بالتبليغ، وعصمهم عن الخطأ، إذاً لا طريق نأخذ منه الحق إلا عن طريق الأنبياء، أما أي شخص آخر مهما كان عظيماً، مهما كان عبقرياً، مهما كان ذكياً، مهما كان مُطَّلعاً، أديباً كبيراً، مصلحاً اجتماعياً يخطئ ويصيب، نأخذ ما يعجبنا وندع ما لا يعجبنا.
دور العلماء دور التبيين فقط:
هناك نقطة مهمَّة جداً، إذا اعتقدت أن هناك جهة أخرى يمكن أن تستقي منها المعرفة، والمَنهج، والحقائق دخلنا في متاهات لا تنتهي، نحن لا نعتقد إلا أن الحق من عند الله، عن طريق الأنبياء، مهمة العلماء التبيين فقط، العالِم الحقيقي عبارة عن لوح بلور شفَّاف، يشفُّ عن دعوة الأنبياء، لا شيء من عنده إطلاقاً، كما قال سيدنا الصديق: "إنما أنا متبع ولست بمبتدع"، أي إنسان مهما علا شأنه في الحياة لا يمكن أن يأتي بجديد..
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ
انتهى الأمر، فدور العلماء دور التبيين، ولا يجوز لإنسان أن يقول لك شيئاً من دون دليل، من هو حتَّى يقول لك: هذا من عندي؟ من أنت؟ ما جاءنا عن صاحب هذه القبَّة الخضراء فعلى العين والرأس، وما جاءنا عن غيره فنحن رجال وهم رجال، كل رجلٍ يؤخذ منه ويُردُّ عليه إلا صاحب هذه القبَّة الخضراء، لأنه معصوم.
أمانة الأنبياء أمانة التبليغ وأمانة العلماء أمانة التبيين:
قال لك:
﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ
انتهى الأمر، قال لك:
﴿
هو يأمرك وينهاك، وتقتدي بسيرته، ونأخذ عنه جميعاً، والعلماء كلُّهم عالةٌ على رسول الله يأخذون منه، ويوضِّحون للناس سُنَّته، وانتهى دورهم، أما هل يستطيع عالم أن يقول لك: خذ هذا من عندي؟ لا يوجد، العلماء دورهم دور النقل والتبيين، والأنبياء دورهم دور تلقِّي الوحي والتبليغ، أمانة الأنبياء أمانة تبليغ، أمانة العلماء أمانة تبيين.
﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
هذا هو الوحي، ليس هناك حق من غير طريق الوحي، هناك دجاجلة، هناك مضللون، هناك أصحاب أهواء، هناك أصحاب مصالح، هناك دجَّالون، هناك منحرفون، هناك أفَّاكون، لا نأخذ الحق إلا من الله عن طريق الوحي، وعن طريق فهم الأنبياء لهذا الوحي.
نحن عندنا أصلان كتاب الله وسنة رسوله، ما إن تمسَّكنا بهما فلن نضلَّ بعدها أبداً، ولا يمكن أن يستمر الدين كما بدأ إلا بهذه الطريقة، ألا نضيف عليه شيئاً وألا نحذف منه شيئاً.
حياة قلب الإنسان لا تكون إلا بهذا الدين العظيم:
آخر آية:
﴿
كلمة:
عدم معرفة النبي الكريم تفاصيل الدعوة إلى الله حتى جاءه أمر الله تعالى:
قدوم الوحي بتفاصيل الشريعة والطريقة في الدعوة إلى الله:
جاءك الأمر: افعل كذا، ادع كذا، خاطِب الناس بهذه الطريقة..
﴿
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
أي جاء الوحي بتفاصيل الشريعة وبتفاصيل الطريقة في الدعوة إلى الله.
الدعوة إلى الله تعالى مآلها صراطٌ مستقيم:
﴿
نور.
تصوَّر إنساناً ماشياً في طريق فيه ظلام دامس، بهذا الطريق حفر، هناك أكمات، هناك صخور، هناك منزلقات، هناك وحوش، هناك حشرات قاتلة، لو أن معك مصباحاً منيراً، هذا المصباح المنير يقيك الوقوع في الحفرة، والارتطام بالصخرة، يقيك أن تلدغك الحشرة، كل هذه الأخطار تتلافاها بهذا النور.
من سار إلى الله تعالى وصل إلى طريق الجنة:
الصلاة نور كما قيل، المؤمن مستنير يرى الحق حقاً والباطل باطلاً، قال:
﴿ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)﴾
أي أنت يا محمَّد تهدي إليَّ، كل دعوتك مآلها إليَّ، وأنتم أيها المؤمنون حينما تتلقون هذا الوحي بالفهم للقرآن والتطبيق أنتم تسيرون في الطريق إلى الله، بالتعبير الدارج: هل تعرف مع من أنت ماشٍ؟ أنت تمشي بطريق يوصل إلى الجنَّة.
(( عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :مَنْ سَلَكَ طَريقا يَبْتَغي فيه عِلْما سَهَّل الله له طريقا إلى الجنة، وإنَّ الملائكةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتها لطالب العلم رضًا بما يَصنَع، وإنَ العالم لَيَسْتَغْفِرُ له مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض حتى الحيتَانُ في الماء، وفضْلُ العالم على العَابِدِ كَفَضْلِ القمر على سائِرِ الكواكب، وإنَّ العلماء وَرَثَة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يَوَرِّثُوا دينارا ولا دِرْهَماً وإنما وَرَّثُوا العلم، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بحَظٍّ وَافِرٍ.))
والحمد لله رب العالمين