الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الأول من سورة المرسلات.
﴿ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)﴾
الواو واو القسم، وكما كنت أقول لكم دائماً: القسم في القرآن الكريم يعني لفت نظر الإنسان لعظمة هذا المُقسم به، فهذه المرسلات قال علماء التفسير: إنها الرياح.
وقال بعض العلماء: إنها الملائكة التي تُرْسَل إلى الأنبياء فَتُلْقي عليهم الوحي.
وقال بعضهم: المُرسلات هؤلاء الذين أرسلهم الله عزَّ وجل لتبليغ رسالته للناس.
أما كلمة عُرفاً أي التتابع، الرياح تتتابع، والملائكة تتتابع، والأنبياء يتتابعون، العُرف كَعُرْف الفرس، كيف أن هذه الأشعار يتلو بعضها بعضاً على شكل خط مستمر، كذلك هذه الرياح التي يرسلها الله عزَّ وجل تسوق السحاب، والسحاب يصنع المطر، والمطر تصنع الحياة، والحياة قِوامُ حياة الإنسان والحيوان.
قسم الله عز وجل بالمرسلات:
الله عزَّ وجل يُقسم بالمرسلات، أي حياة الإنسان متوقِّفة على هذه الرياح، الرياح كيف تتحرَّك؟ الرياح هي الهواء، والهواء له درجة حرارة معيَّنة، الهواء إذا سَخَن يتمدد، وإذا برد يَنْكَمِش، الأرض فيها أماكن حارَّة كخط الاستواء وأماكن باردة كالقُطبين، الهواء بالأماكن الباردة ضَغْطَه مرتفع أي منكمش، والهواء في الأماكن الحارة ضغطه منخفض أي متمدد، إذا كان هناك فرق في الضغط بين منطقتين الكتلة التي أشد ضغطاً تتحرك نحو الأقل ضغطاً، صار هناك مُنْفَرَج، فَسِرُّ حركة الرياح وجود مناطق باردة ومناطق حارة.
بل إنَّ هذه الصحارى التي قد لا ننتبه إلى دورها في الحياة هي منطقة حارَّة، المنطقة الحارة بسبب حرِّها الهواء فوقها ضغطه مرتفع، أي متخلخل.
مرةً في أحد رحلات الحج شعرت أن إقلاع الطائرة في دمشق أسرع من إقلاعها من جدة، فسألت خبيراً فقال لي: الهواء في دمشق أكثر برودةً إذاً هو أكثر تماسُكاً إذاً هو يحمل الطائرة، أما الهواء في جدة والحرارة تسع وأربعون أكثر تخلخلاً، وأكثر تمدداً، وأضعف من أن يحمل الطائرة، تشعر وأنت هناك أن إقلاع الطائرة يحتاج إلى أمدٍ طويل كي ترتفع عن سطح الأرض، بينما هي في دمشق تحتاج إلى وقتٍ أقل، معنى ذلك الهواء إما أنَّه مخلخل، ضغطه مرتفع، أو أنه منكمش، ضغطه عالٍ، من وجود كتلتي هواء أحدها ذات ضغطٍ مرتفع والثانية ذات ضغطٍ منخفض تتمُّ هذه الحركة، مع سكون الهواء الشديد لو دَفَّأْتَ غرفةً وأبقيت بقية الغرف باردة، وجئت بشمعة وضعتها على طرف الباب تجد أن هناك تيَّار هواء نشأ من تفاوت الحرارة في الغرفتين.
تحرك الهواء من نعم الله العظمى:
على كل أن يتحرك الهواء هذه من نعم الله العظمى، لأن الهواء هو الذي يسوق السحاب، والسحاب فيه المطر، والمطر فيه الحياة، والحياة قِوام النبات، والنبات غذاء الحيوان والإنسان.
لذلك ربنا عزَّ وجل حينما أقسم بالمرسلات عرفاً إن شئت عددتها الرياح التي يسوقها الله عزَّ وجل لتُثيرَ سحاباً فيكون السحاب حياةً، أو عددتها ملائكةً لتُحْيي القلوب.
لك جسمٌ يحتاج إلى طعام وشراب، ولك نفسٌ تحتاج إلى الهُدى، فإذا قلنا: والمرسلات هم الملائكة، هم الذين يأتون بالوحي إلى الأنبياء فيكون الوحي سبب سعادة الإنسان وسلامته، إنها تعليمات الصانع، إنها خطاب السماء إلى الأرض.
طبعاً الله عزَّ وجل يخاطب أهل الأرض من خلال الوحي، ومن خلال الأنبياء، وأحياناً يخاطبهم من خلال أفعاله، أفعاله خطابٌ من نوعٍ آخر، الإنسان أحياناً يتعلَّم بالكلمة و أحياناً يتعلَّم بالموقف.
مرةً صُنعت باخرة، في عام ألفٍ وتسعمئة واثني عشر تُعدُّ أضخم باخرةٍ في الأرض في ذلك الحين، وقد قال الذين صنعوها: إن القدر لا يستطيع إغراقها، لأنها صُنِعت من جدارين اثنين، وبين الجُدُر جُدُر عرضانِيَّة، ولها أبوابٌ محكمة، فلو أنها خُرِقَت من جانب هناك جانبٌ داخلي يمنع تسرب الماء إليها، طبعاً فيها من البذخ وفيها ما في الأرض وقتها من فرش غال ومن كسوة رائعة جداً، وقد كانت في أوَّل رحلةٍ لها من بريطانيا إلى بوسطن وعليها نخبةٌ من أثرياء أوروبا، وقد قدَّر الخبراء أن ثمن حِلِي نسائهم بالمليارات، وفي أول رحلةٍ لها اصطدمت بجبلٍ ثلْجي في عرض الأطلسي فانشقت شَطْرَين وغرقت، فقال أحد القساوسة: إن غرق هذه الباخرة دَرْسٌ من السماء إلى الأرض.
هناك آلاف الدروس يتلَقَّاها البشر من خلال أفعال الله عزَّ وجل، وهناك خطابٌ من الله لأنبيائه وبالتالي لبني البشر من خلال الوحي.
1 ـ المعنى الأول: الرياح التي تحيي الأرض:
على كل: ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً﴾ إنها الرياح التي تُحْيي الأرض بعد موتها، تسوق السحاب، والسحاب ينقلب إلى مطر، والمطر تُحْيا به الأرض بعد موتها.
2 ـ المعنى الثاني: الملائكة يأتون بالوحي:
المعنى الثاني: هؤلاء الملائكة يأتون بالوحي، وهذا الوحي فيه التشريع، وفيه المنهج، وفيه الدستور، وكل من طَبَّق هذا التشريع سَعِد في الدنيا والآخرة، إما أنها سبب حياة الأجسام أو سبب حياة النفوس.
معنى عرفاً في قوله تعالى ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً﴾:
أما ﴿عُرْفاً﴾ تتابع الرسل.
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)﴾
يوجد رُسُل، يوجد أنبياء، يوجد أولياء، يوجد دُعاة، هؤلاء جميعاً موزَّعون في الأرض توزيعاً تسلسلياً، توزيعاً متتابعاً، توزيعاً جغرافياً، وتوزيعاً زمنياً، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( عن أبي هريرة: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها. ))
التجديد قي الدين مزلق خطر:
الآن هناك من يقول بالتجديد، والتجديد أيها الأخوة مَزْلَقٌ خطير، ولُغْمٌ كبير، وفِرْيَة الإسلام بريءٌ منها، كل من توهَّم أن التجديد أن تضيف على الإسلام شيئاً أو أن تحذف منه شيئاً، قطع اليد لا يتناسب مع هذا العصر لابدَّ من رادعٍ آخر، أما قوله تعالى:
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)﴾
قرآن مع التفصيل، مع التحديد، لا ينبغي أن نقطع اليد، قطع اليد لا يتناسب مع الحضارة الحديثة، هذا تكذيبٌ بالقرآن، وهل مشكلات الإنسان في كل مكان سببها أكل أموال الناس بالباطل؟! وهل من رادعٍ أقوى من أن تُقْطَعُ يد السارق لتحقيق قُدسية الملكية؟!
يدٌ بخمس مئين عسجدٍ وديت ما بالها قطعت في ربع دينار؟
فقال الإمام الشافعي:
عِزُّ الأمانة أغلاها وأرخصها ذُلُّ الخيانة فافهم حكمة الباري
لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت.
التجديد بالمعنى الدقيق الذي لا ينبغي أن نزيد عليه ولا كلمة، إزالة ما عَلِقَ بالإسلام مما ليس منه فقط.
بناءٌ أصله من الحجر الأبيض فصار الحجر أسود اللون من دخان السيارات، ومن الغبار، ومن عوارض الرياح، فإذا أزلنا عنه هذه الطبقة السوداء التي شوَّهت جماله فهذا هو التجديد، ولا يُقْبَل في الإسلام تجديدٌ آخر، أن تُزيل ما علق فيه مما ليس منه، أما أن نضيف أحكاماً، أو أن نحذف أحكاماً، أن نقول: هذا الحكم لا يتناسب مع هذا العصر، من هي الجهة التي شرَّعت؟ إنه الله عزَّ وجل.
﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾
﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)﴾
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)﴾
التجديد أن نعود إلى أصل النبع:
إذاً التجديد وقد وصلنا إليه كفرع من فروع هذه الآية هو إزالة ما علق بالإسلام مما ليس منه، أي التجديد أن تعود إلى الينابيع، ينبوع بردى عذبٌ صافٍ كالزلال، أما مَصَبُّه مياهٌ سوداء لكثرة ما أُضيف على هذا النهر من مصبَّات، ومن روافد، ومن مياهٍ مالحة صارت مياهه سوداء، فالتجديد أن تعود إلى أصل النبع، أصل النبع هذا القرآن وما صَحَّ من حديث رسول الله، هذا هو أصل الإسلام، فإذا عُدنا إلى الكتاب والسنة فقد عُدنا إلى ينابيع الإسلام، ولن نفلح إلا إذا كنا على ما كان عليه رسول الله وأصحابه، الفرقة الناجية ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فعرفاً الشيء المتتابع، فالرياح تتابع، والملائكة تتابع رسالاتها، والأنبياء يتتابعون.
﴿ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)﴾
هذه الرياح تشتد، وإن اشتدت بين أن تكون نسيماً عليلاً ثم تكون ريحاً ثم رياحاً ثم عواصف ثم زَعازِع ثم أعاصير، والأعاصير لا تُبقي ولا تذر، أحياناً تسمع أن إعصاراً في أمريكا كانت الخسائر من بعده ثلاثين ملياراً، الإعصار تقول: هنا كانت مدينة، هنا كانت بلدة، البيت، وأثاث البيت، وما حوله، وما قبله، وما بعده لا تجده في مكانه.
بالمناسبة الرياح لها سرعات، من عشرين كيلو متر في الساعة إلى ثلاثين إلى أربعين إلى مئة، مئة وخمسة وعشرون الرياح تؤذي، أما هناك رياح سرعتها ثمانمئة كيلو متر في الساعة، تصوَّر أن الأرض إذا كانت تدور وطبقة الهواء ثابتة لا يبقى عليها شيء لأن سرعة دوران الأرض ألف وستمئة كيلو متر بالساعة، لو الهواء ثابت والأرض تدور ينشأ من حركة الأرض وثبات الهواء رياح سرعتها ألف وستمئة كيلو متر بالساعة.
إذا كان الهواء راكداً، وركبت أنت سيارةً مسرعةً، ومددت يدك من النافذة تشعر أن هناك تيار هوائي مُخيف، الهواء راكد أنت المتحرك، لابد من حركة أحدهما أنت أو الهواء، فلو أن الهواء ثابت والأرض تدور ما بقي على سطح الأرض من شيء.
لذلك قال بعض العلماء:
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)﴾
يا سبحان الله ألا ينبغي أن تكون الآية: قل سيروا على الأرض؟ ما معنى قول الله عزَّ وجل: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أي نحفر سرداباً؟ ندخل في الأنفاق؟ ندخل في القنوات التي تحت الأرض؟ ندخل في التعبير الحديث بالبنية التحتية؟ لا، ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ لأن الهواء جزءٌ من الأرض، فإذا سرت على سطح الأرض فأنت تسير في الأرض، من نِعَم الله العظمى أن الهواء يدور مع الأرض، ولو لم يكن كذلك لدُمِّر ما على سطح الأرض.
شيءٌ آخر؛ يُدَمِّر ما على سطح الأرض، لأن الأرض ترفع سرعتها عندما تصل إلى القطر الأصغر بينها وبين الشمس، المسار إهليلجي، بيضوي، والشكل البيضوي له قطران؛ قطرٌ أصغر وقطرٌ أكبر، فالأصغر لعلَّ الأرض تنجذب إلى الشمس، الأرض ترفع سرعتها لينشأ عن هذه السرعة الجديدة قوةٌ نابذة تكافئ القوة الجاذبة، الشيء الدقيق هو أن هذا التسارع بطيء، ترفع سرعتها شيئاً فشيئاً، هذا من لطف الله عزَّ وجل، لو أنها رفعت سرعتها فجأةً لانهدم كلُّ ما عليها.
من لطف الله بعباده أن تسارع الأرض وتباطؤها بطيء:
ضع عشر علب من الكرتون في صندوق سيارة، سيارة شحن، وأقلع بسرعة، كل هذه العُلب تقع، أو أوقفها بسرعة كلها تقع، من لطف الله عزَّ وجل أن ازدياد سرعة الأرض في دورتها حول الشمس ازديادٌ بطيء، هذا اسمه في الرياضيات: تسارع بطيء، تسارع الأرض بطيء، وتباطؤها بطيء، وهذا من لطف الله عزَّ وجل، والآية الكريمة:
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)﴾
قد يقول قائل: هنا كانت مدينة اسمها باريس، هنا كانت مدينة اسمها واشنطن، ﴿فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً﴾ لو أن هذه السرعة ارتفعت فجأةً أو انخفضت فجأةً لانهدم كلُّ ما على الأرض.
انتشار الخير عن طريق السحاب:
إذاً:
﴿ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3)﴾
قال علماء التفسير: هذه الرياح بما تسوق من سحاب تَنْشُرُ الخير، امشِ في أيَّام الربيع ترى الأرض قد اكتست بحلةٍ خضراء، والأشجار اكتست بحلةٍ بيضاء، والأزهار من كل لونٍ وشكل، والأرض قطعةٌ من الجمال، بسبب مياه الأمطار، وكلَّما ازداد المطر ازداد العشب نمواً، فلذلك هذا الجمال، وهذا النبات، وهذه الأزهار، وهذه المروج الخضراء، وهذه الأشجار المَكْسوَّة بكل ما فيها بسبب مياه الأمطار، ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً﴾ ينتشر الخير.
سمعت مرة من أحد إخواننا الكرام أن محصول القمح في سورية ثلاثة ملايين طن، استهلاك القُطْرِ كله مليون طن، ثلاثة أمثال حاجتنا، ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً﴾ في المنطقة الشمالية الشرقية هذه أراض خَصْبَة جداً بمياه الأمطار، كلها أراض بعلية، أي هذا المحصول الإستراتيجي الضخم الأساسي في حياتنا، القمح المعوَّل عليه في العالم، الأرض بعلية.
إذاً: هذه الأمطار تنشر الخيرات، أنتم قد لا تصدقون قد يُدفع للمزارعين عشرات ألوف الملايين ثمن القمح، عشرة مليارات أحياناً ثمن القمح الذي تشتريه الدولة من الفلاحين، ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً﴾ خير كثير، سمعت أن حوران وحدها كانت تُطْعِمُ سوريا في عهد الرومان قمحاً، وكانت تعداد هذا البلد كما قرأت حوالي خمسة وخمسين مليون، خمسة وخمسون مليوناً يأكلون من محافظةٍ واحدة، وحوران كما تعلمون تُسْقى بمياه الأمطار أي بعلاً، إذاً هذا معنى: ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً﴾ مياه الأمطار تُنْبِتُ الزرع.
أحياناً يُقال لك: استوردنا ببضعة مليارات علفاً للحيوانات، وإذا كان موسم البادية طيِّباً لا نستورد شيئاً، إذا موسم العلف هناك نبات رعوي، النبات الرعوي إذا كان نامياً والسنة خصبة لا نستورد شيئاً، وأحياناً نستورد كي نطعم مواشينا بعدَّة مليارات ثمن علف، ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً﴾ أنت لا تعرف ما معنى الموسم طيِّب، موسم البادية طيِّب، أسعار الجُبن والسمن تنزل إلى الربع، هذه السنة يوجد خير كثير إن شاء الله، أسعار السمن البلدي إلى الربع، والجبن كذلك.
ازدياد الخير بإمطار السماء:
﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً﴾ مرةً كنت أجلس في مكان فسمعت رجلين يتحادثان قال له: بعنا السنة بشكل كبير، ما الذي باعوه؟ قِماش مُطَرَّز لمناسبات الزواج في الشمال الشرقي من سوريا، قال له: ولمَ؟ ما السبب؟ قال له: كان موسم الأمطار جيِّداً، معمل التطريز يبيع بحجم فلكي لأن موسم الأمطار هناك جيد، هذا الرزق، الرزق من السماء، فإذا السماء أمطرت الأرض أنبتت والناس في خير، لذلك لما قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)﴾
قال العلماء: شرح هذه الآية وفرةُ المواد ورُخص الأسعار، أحياناً الذي يضمنون الفواكه في أي مكان يُقَدِّرون أنهم سيبيعون هذا الكيلو بخمسين ليرة، أحياناً يأتي موسم طيب يُباع الكيلو بخمس ليرات أو عشر ليرات، يخسرون، فكلما ازداد الخير أصبح السعر معتدلاً، هذا معنى: ﴿وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً﴾ فهذه السحُب التي تُمْطِر في أماكن جافَّة تكون هذه الأرض اهتزت ورَبَتْ.
تفرق السحاب عن طريق الرياح:
﴿ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4)﴾
نعود إلى الملائكة الذين يأتون بالوحي، وهذا الوحي تُفَرِّقُ أنت به بين الحق والباطل، الخنزير حرام ولحم الضأن حلال، الخمر حرام واللبن حلال، من خلال التشريع، فمن خلال التشريع الذي كان عن طريق الملائكة، من خلال الوحي الذي كان عن طريق الملائكة، فهذا التشريع يُفَرِّق بين الحق والباطل، وإذا فهمنا أن هذه المرسلات هي الرياح فالرياح تفرِّق السحاب.
أحياناً في مطلع هذا العام نزل في دمشق في قسمها الشرقي فقط ثلاثون ميليمتراً، وفي قسمها الغربي لم ينزل ولا قطرة واحدة، أحياناً يأتي هذا المُنْخَفَض يُمطر في مكان ولا يُمْطِر في مكان، هذا معنى: ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً﴾ أي الرياح تُسَيِّر السحب إلى مكان وتبعدها عن مكان، تُسَيِّرها إلى مكان وتُبْعِدها عن مكان، إذا فهمنا المرسلات هي الرياح: ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً﴾ هذه السحب تأتي بحكمة الله وعلمه وقدرته لأناسٍ ويحرم منها أُناس.
ثبات مجموع الأمطار في العالم:
لكن الشيء الذي لا يصدق أو لابدَّ من أن يصدَّق أن علماء الجغرافيا الطبيعية اكتشفوا حقيقةً خطيرة، هي أن مجموع التهْطال السنوي في الأرض لا يتغير أبداً، اجمع الأمطار في خمس قارات لا تزيد ولا تنقص، أحياناً تصاب أوروبا بالجفاف والشرق الأوسط بأمطار غزيرة جداً، أحياناً تصاب إفريقيا بالجفاف وأستراليا بأمطار غزيرة جداً، إلا أن المجموع ثابت، هذه الحقيقة جاءت بعد دراسات ومقاييس.
في قطرنا الحبيب كم مركز قياس أمطار؟ مئات، بالنشرات الرسمية التي تُوزَّع يوجد مئات مراكز لقياس الأمطار، مئات بل بضع مئات، وفي أي مكان بالعالم يوجد مراكز لقياس الأمطار، بعد وضع هذه المقاييس الدقيقة والحسابات الدقيقة تبيَّن أن مجموع التهْطَال في العالم لا يزيد ولا ينقص، أما يختلف توزيعه من بلدٍ إلى آخر، كيف عرف النبي هذه الحقيقة؟ قال:
(( عنِ ابنِ مسعودٍ قال: ليس عامٌ إلا الذي بعدَه شرٌّ منه، لا أقولُ عامٌ أمطرُ من عامٍ، ولا عامٌ أخصبُ من عامٍ، ولا أميرٌ خيرٌ من أميرٍ، ولكن ذهابُ خيارِكم وعلمائِكم ثم يحدُثُ قومٌ يَقيسونَ الأمورَ برأيهِم فيُهدَمُ الإسلامُ ويُثلَمُ. ))
[ مسروق بن الأجدع الشوكاني : الفتح الرباني: خلاصة حكم المحدث : إسناده ورجاله ثقات ]
هذه جاءته عن طريق الوحي لا عن طريق المُدارسة، عن طريق المدارسة مستحيل، بعد دراسات وأقمار صناعية ومقاييس أمطار وأجهزة كمبيوتر، بعد كل هذه الوسائل اكتشف الإنسان أن مجموع الأمطار في العالم لا يزيد ولا ينقص، أما أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام قبل ألفٍ وخمسمئة عام: ((ما عامٌ بأمطر من عام)) هذا من وحي السماء، وهذا من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام.
الأمطار تنطق باسم الرزاق:
﴿ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)﴾
إن أردتها رياحاً نظام الأمطار كأنَّه ينطق بوحدانية الله، نظام تَهْطَال الأمطار ينطق باسم الرازق، أنت حينما تسمع في الأخبار أن منخفضاً جوياً متمركزاً فوق قبرص باتجاه القطر، إن كنت موحداً ينبغي أن تعلم علم اليقين أن هذا المُنْخفض هو رزق الله ساقه لبني البشر، وأن الله هو الرزَّاق ذو القوة المتين، أما إذا كنت بعيداً عن التوحيد لا تزيد تصوُّراتُك عن أن منخفضاً جوياً يتجه نحو بلدنا الطيِّب، أما الحقيقة هو تجسيدٌ لاسم الرزَّاق.
في بلادٍ قاحلة، في بلادٍ جافة كالخليج مثلاً، في بلدة قبل عامين رأس الخيمة نزل فيها أمطار في ليلة واحدة حوالي مئتين وعشرين ميليمتر، بليلة واحدة، أي أمطار بلدة دمشق طوال الموسم في ليلة واحدة، نحن هنا في بلدنا في بعض الليالي ينزل خمسون ميليمتراً، ستون ميليمتراً، مرة نزل تسعون ميليمتراً في ليلة واحدة، فالله عزَّ وجل إذا أعطى أدهش، وهؤلاء الذي يقولون: هناك حرب مياه، كنا بحرب البترول فإذا نحن بحرب القمح، والآن الشيء المطروح في العالم الحروب الآن حروب مياه، وكأن الله سبحانه وتعالى ليس عنده احتياطي من الأمطار، فلذلك هناك جفاف وهناك حرب مياه.
تقنين الله للأمطار تقنين تأديب لا عجز:
حينما كنت في الحج في هذا العام من فضل الله عزّ وجل طالعت صحيفة تصدر في المدينة المنورة فإذا بخبرٍ لفت نظري ذكرته في خطبة، هذا الخبر يقول: هناك مِرْصَد يعمل بالأشعة تحت الحمراء، مرصد في أوروبا عملاق، اكتشف وجود سحابة يمكن أن تملأ محيطات الأرض لو جففناها ستين مرة في يوم واحد، سحابةٌ واحدة في الفضاء الخارجي يمكن أن تملأ محيطات الأرض ستين مرة في اليوم بالمياه العَذْبَة، فإذا كان التقنين من قِبل الله فهو تقنين تأديبٍ لا تقنين عجزٍ: ﴿فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً* فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً﴾ .
أحياناً تقف أمام صنعة متقنة جداً، هذه الصنعة المتقنة كأنها تنطق تقول: انظر من صنعني، انظر إلى ذوق من صنعني، انظر إلى إحكامِ من صنعني، انظر إلى علمِ من صنعني، انظر إلى جمالِ من صنعني، الشيء ينطق، هذا يسميه العلماء: لسان الحال، هناك لسان المقال ولسان الحال، فالشيء الذي تراه من صنع الله عزّ وجل فيه إتقان مدهش.
لذلك نظام الرياح، ونظام السحاب، ونظام الأمطار: ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً﴾ تُلْقي علينا الذكر، أنت حينما تأكل تفاحةً إذا كان عندك شفافية عالية جداً كأنَّها تقول لك: انظر من خلقني؟ من جعلني بهذا الحجم اللطيف؟ وهذا اللون الزاهي؟ وهذا الطعم الحلو؟ وهذه الرائحة العطرة؟ وهذا القِوام الذي يتناسب مع أسنانك؟ لو أن التفَّاحة كالصخر كيف تأكلها؟ لو أنها مُرّةٌ كيف تأكلها؟ لو أنها تفتقر إلى الغذاء كيف تأكلها؟ لو أنها بعيدة جداً كيف تَقْطِفُها؟ في متناول يدك، فالإنسان الذي عنده شفافية كان عليه الصلاة والسلام يُسَلِّم على حجرٍ بمكة، مرَّة سلَّم على أُحد، مرة نخلة كان يخطب عليها فلما تركها إلى منبر حنَّت إليه فكان يضع يده عليها إكراماً لها.
مرَّة دخل بستاناً فإذا فيه جمل فلما رأى النبي حنَّ، بكى، فأمسك ذفريه ومسحهُما وقال: من رب هذا الجمل؟ جاؤوا بفتىً أنصاري، قال:
(( عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: أردفني رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحداً من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفا أو حائش نخل، قال: فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت فقال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول اللهِ، فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه. ))
فالإنسان إذا كان عنده شفافية، رأى الأمطار ينهمر، هذه رحمة الله، أحياناً الفلاح يبكي بكاء الفرح لأنه زرع خمسة طن من القمح، وقد دفع ثمناً باهظاً للطن الواحد، فإذا لم يكن هناك مطر خسر، الأمطار تُنبت القمح يبكي من فَرَحه، رأى فضل الله عليه، والإنسان المؤمن لا يرى النعمة فقط، يرى المُنعِم، يوجد شيء أمامك، توجد نعمة، يوجد كأس ماء، المؤمن يرى الذي أنزل الماء من السماء وجعله عذباً فراتاً.
المؤمن يرى المنعم لا النعمة:
لِتر المياه المُحلَّى في المملكة العربية السعودية يكلِّف اثني عشر ريالاً، أي مئة وخمسون ليرة سوري، يوجد محطات تحلية اللتر الواحد أغلى من البنزين، اللتر الواحد من المياه المُحلاَّة من مياه البحر يكلِّف اثني عشر ريالاً، أي مئة وخمسون ليرة، فأنت تفتح الصنبور في دمشق وأنت في البيت على ماء عذب فُرات بارد، شيء لا يُقدر بثمن إطلاقاً، فالمؤمن لا يرى النعمة، يرى المُنعِم، أما الكافر فيرى النعمة، وهذا هو الفرق بين الكافر والمؤمن.
الآن أهل الغرب مع النعَم أما المؤمنون إن شاء الله مع المُنْعِم، يرون المُنعِم، لذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أنه كانت تعظُم عنده النعمة مهما دَقَّت.
نعم الله على الإنسان عديدة منها:
إذا الإنسان أفرغ مثانته فإن هذا شيء ثمين جداً لا يُقدر بثمن، لو توقَّفت الكُليتان لأصبحت الحياة جحيماً، تبحث من يعطيك كُليَتَهُ لا تجد، كل أسبوع مرَّتان غسل كُليتين، انتظار ثماني ساعات ودفع آلاف مؤلَّفة، وتثقيب الجسم كل أسبوع مرتان في جهة، والتصفية ليست تامَّة، يتبقى بالمئة عشرون من البولة في الدم، وهذه النسبة في الدم تسبب تَوَتُّر عصبي شديد، ردود فعل قاسية جداً لأنه يوجد بول، يوجد حمض البول في الجسم لأن التنقية غير كاملة، أي لو توقفت الكليتان لأصبحت حياة الإنسان جحيماً لا يُطاق، فالنبي عليه الصلاة والسلام إذا أفرغ مثانته يقول: الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني و أبقى لي ما ينفعني.
2 ـ السمع والبصر والفؤاد:
المؤمن دائماً يعيش برحمة الله، إذا شرب كأس الماء، إذا تناول صحنَ طعام، هناك من يأخذ السيروم، ممنوع من الأكل، إذا تكلَّم هناك من استُؤصِلَت حنجرته، أي النعَم التي تتمتع بها لا تُعَد ولا تُحصى، نعمة البصر، نعمة السمع، نعمة التوازن، يوجد إنسان تضايق من هرةٍ فأمسكها وألقاها من سبعة طوابق فنزلت مَيِّتة فوراً فقد توازنه، لا يمشي إلا مع اثنين، جهاز التوازن لا يُقَدَّر بثمن، السمع، البصر، يقول لك: يوجد عنده عمى ألوان، ممنوع من أن يقود سيارة لأنه يرى الأخضر أحمر، والأحمر أخضر، مرض عمى الألوان يصيب الإنسان، يوجد مرض ارتخاء الجفون لا ترى إلا إذا فتحت جفنك بيدك، تتركها فتنزل لوحدها، يوجد أمراض لا تُعَد ولا تُحصى.
يوجد مرض مركز تنبيه الرئتين الآلي يتعطل، ينام يموت، يجب أن يتنفس تنفساً صناعياً، يوجد تنفس آلي وتنفس صناعي، أنت عندما تُحرِّك عضلات الصدر يصبح التنفس صناعياً، أي يدوي، والإنسان عندما ينام هناك تنفس آلي، يوجد مركز بالبصلة السيسائية، مركز تنبيه الرئتين النوبي، هذا المركز يتعطَّل، فالإنسان إذا نام يموت، لا يمكن أن ينام، بعد جهد جهيد اُخترع دواء في أمريكا يجب أن تأخذه كل ساعة، فرجل من أبناء دمشق كان طبيباً رحمه الله تعالى أُصيب بهذا المرض، فكان يتناول حبة من الدواء الساعة الحادية عشرة، وحبة الساعة الثانية عشرة، وحبة الساعة الواحدة، والساعة الثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، إلى الساعة التاسعة، فكان يضع أربعة منبهات لأنه لو نام يموت على الفور، أربعة منبِّهات حتى يستيقظ ويأخذ حبة، هذا دواء حديث جداً ونادر ومفقود تأخذه كل ساعة وإلا أول غَفْلَة يموت الإنسان، له ابن كان مسافراً فرجع من السفر، سهر مع ابنه من شدة فرحه المنبهات الأربع لم يستيقظ عليها، وجدوه مَيِّتاً في الصباح، نعمة أنه يوجد عندك تنفس آلي هل تعرف هذه النعمة؟
نعمة عمل القلب الآلي هل تعرف هذه النعمة؟ لو أن الله أناط القلب بك أين اليوم؟ والله اليوم عندنا نبض القلب، لا تقدر أن تنام، لو أناط الهضم بيدك، الهضم أراحك منه، نبض القلب أراحك منه، التنفُّس أراحك منه، وإلا حياة الإنسان جحيم لا يُطاق، هذا معنى: ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً﴾ ..
صنعة الله المتقنة سبب الذكر:
هذه الصنعة المتقنة تُلقي عليك الذكر، وإن أردت هؤلاء المُرسلات هم الملائكة هؤلاء يوحون إلى الأنبياء؛ الذكر الحكيم، القرآن الكريم، والتشريع، والحلال والحرام، وافعل ولا تفعل، وأخبار السابقين، وأخبار اللاحقين، ومشاهد يوم القيامة، والوعد والوعيد، والإنذار والبِشارة، وكل شيء، فإن أردتها ملائكةً: ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً﴾ الوحي، وإن أردتها رياحاً فإن هذه الصنعة المحكمة تنطق بوحدانية الله، وتنطق برحمته، وتنطق بعلمه وبحكمته.
﴿ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)﴾
أي الله عزّ وجل حينما ينذر يُعْذَر، قد أعذر من أنْذَر، ﴿فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً﴾ .
﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)﴾
الله عزّ وجل أَعْذَرَ لأنه أَنْذَر، وأنزل هذا الوحي ليكون للعالمين نذيراً.
﴿عُذْراً أَوْ نُذْراً﴾ والرحيم يُنْذِر فإذا أَنْذَر أُعْذِر، القسم: ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً* فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً* وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً* فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً* فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً* عُذْراً أَوْ نُذْراً﴾ جواب القسم ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ والله الذي لا إله إلا هو لا تجد في المئة مسلم من يُدخل الآخرة في حساباته اليومية، وإلا كيف يتوازن الإنسان مع نفسه حينما يأكل أموال الناس بالباطل، كيف؟ لا يمكن أن يؤمن باليوم الآخر، ويأكل أموال الناس بالباطل، لا يمكن أن يؤمن باليوم الآخر وأن يعتدي على أعراض الناس، لا يمكن أن يؤمن باليوم الآخر وأن يأخذ ما ليس له، مستحيل، لذلك الله عزّ وجل أقسم: ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً﴾ بالرياح التي هي سبب الحياة على وجه الأرض، أو بالملائكة التي تحيي القلوب بالوحي الذي تُنْزِلُهُ على الأنبياء: ﴿فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً*وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً* فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً* فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً* إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ .
الأعمال الصالحة ثمن الجنة:
ما بين غَمْضَة عينٍ وانتباهتها يغيِّر الله من حالٍ إلى حال
كل واحد منا يسمع: والله فلان توفي رحمة الله عليه، كان شخصاً صار خبراً، صار كلمة، صار نعوة في الجريدة، نعوة على الجدران، انتهى وجوده، انتهت هيمنته، انتهت إمْكاناته، انتهت ثروته، كله انتهى، ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ قيل: بادروا بالأعمال الصالحة فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟ لو أن الإنسان أدار ظهره للحق ولم يعبأ به ماذا ينتظره؟ قيل: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا-فقراً مفاجئ-أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ.
إذا الإنسان أرد الدنيا ؛ أراد مالها، أراد شهواتها، أراد زينتها، وأدار ظهره للحق، الأيام كلُّها تمضي على وتيرةٍ واحدة؟ مستحيل، كل يوم يستيقظ صحيح البدن إلى أبد الآبدين؟ مستحيل، إذا انتهى أجله قبل أن ينتهي أجله تأتي عِلَّةٌ في أحد أعضائه، إنسان يموت من قلبه، إنسان يموت من نمو خلاياه، إنسان يموت من دماغه، يقول لك: خثرة في الدماغ، إنسان يموت بحادث، إنسان يموت بسكتة قلبية، فعندما ينتهي الأجل تأتي علة تستفحل تتفاقم تُنهي الإنسان، ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ﴾ لذلك قيل: ماذا ينتظر أحدكم من الدنيا إلا المؤمن ينتظر كل خير، ينتظر كل إكرام، ينتظر كل توفيق، ينتظر كل نصر، ينتظر مَعِيَّة الله، لذلك الدعاء اللطيف: اللهمَّ اجعل نعم الدنيا متصلة بنعم الآخرة، الإنسان المؤمن المستقيم الله عزَّ وجل يحييه حياةً طيبة، ويميته في أحسن حال، رجل محسن كبير في رمضان وفي السابع والعشرين من رمضان في ليلة القدر وهو يقرأ القرآن توفَّاه الله عزَّ وجل، وإنسان يموت في مرحاض أحياناً، يموت وهو يصلح الصحن الفضائي، يموت هناك على السطح، فالإنسان بحسب حياته تُلَخَّص حياته في موته.
الموت للكفار مصيبة كبيرة:
سمعت قصة ولا أعرف مدى صحتها ولا تحققت منها: أدخلوا ميتاً إلى أحد المساجد ليُصلى عليه، وقف الإمام ليصلي عليه فرعف، أحضروا إمام ثانٍ فرعف، الثالث وقع، فأخذوه ولم يصلوا عليه، هذا عمل نادر، لأن ثلاثة أئمة لم يتمكَّنوا من أن يصلوا عليه ففتحوا عليه فرأوا وجْهَهُ وجه كلب، فسألوا أهله، كان يأتي إلى البيت في ساعة متأخرة من الليل من خمَّارة فإذا سمع المؤذن قال: أسكتوا هذا الكلب، فأماته الله وقد مسخه كلباً، فالموت شيء خطير، مغادرة نهائية، ﴿عُذْراً أَوْ نُذْراً * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ هذا الموت لا يخاف منه المؤمن: << وا كربتاه يا أبت، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه>> .
أما الموت للكافر فهو مصيبة ما بعدها مصيبة، سيفقد كل شيء في ثانية واحدة، فالمؤمن يدخل الموت في حساباته اليومية قبل أن يقول كلمة لعلها غيبة، قبل أن يقول كلمة لعلَّها بُهتان، لعلها كذب، لعلها سُخْرية، لعلها تؤذي أخي، قبل أن ينظر لعلها امرأةٌ لا تَحِلّ له، قبل أن ينتقد لعل في هذا الانتقاد كسراً لخاطر هذا الإنسان، البيت صغير، كيف البيت يسعك؟ يسعه وهو راضٍ به، قبل أن تُصَغِّر الناس في نظرك، قبل أن تنتقدهم، قبل أن تزعجهم، قبل أن تُحَمِّر وجوههم فكر، الله عزّ وجل كبير وسينتقم: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ .
محاسبة الإنسان الشديدة يوم القيامة:
هذا يوم القيامة يوجد تسوية حسابات.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)﴾
(( عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبي بَكْرٍ : حديث الكسوف وقد تقدم، وفي هذه الرواية: قَالَتْ: قَالَ: «قَدْ دَنَتْ مِنِّي الْجَنَّةُ حَتَّى لَوِ اجْتَرَأْتُ عَلَيْهَا لَجِئْتُكُمْ بِقِطَافٍ مِنْ قِطَافِهَا، وَدَنَتْ مِنِّي النَّارُ حَتَّى قُلْتُ: أَيْ رَبِّ، وَأَنَا مَعَهُمْ؟ فَإِذَا امْرَأَةٌ -حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ-تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ قُلْتُ: «مَا شَأْنُ هَذِهِ؟» قَالُوا: حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، لا أَطْعَمَتْهَا وَلا أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ -قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ خَشِيشِ، أَوْ خَشَاشِ الأَرْضِ». ))
هرة تكفي لدخول النار.
(( عن أبي هريرة: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ. ))
﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)﴾
هذه إن شاء الله نتابعها في الدرس القادم.
الملف مدقق