- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (016)سورة النحل
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس العاشر من سورة النحل، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(37) ﴾
وكنا قد فسرنا في الدرس الماضي قوله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(36) ﴾
مصادر الحقيقة والمعرفة :
نقف عند هذه الآية التي مررنا عليها سريعاً في الدرس الماضي:
المصدر الأول : الكون :
المصدر الأول الكون: قال تعالى:
﴿
﴿ فَلْيَنْظُرْ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا(26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا(28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا(29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا(30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا(31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ(32) ﴾
﴿ فَلْيَنظُرْ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ(7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ(8) ﴾
﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20) ﴾
الله -سبحانه وتعالى- يدعونا في آيات كثيرة إلى النظر في الكون، فالكون قرآن صامت، فإذا أردت أن تعرف الحقيقة فابحث عنها من خلال آيات الله التي بثّها في السماوات والأرض.
وفي كل شيء له آية تـدل على أنه واحد
***
هذا طريق، وهذا مصدر، أحد مصادر الحقيقة الكون، لأن الكون كما قلت في درس سابق: تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، أو مظهرٌ لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، فإذا تأمّلت في آيات الكون انتقلت منها إلى أسماء الله وإلى صفاته، فعرفته، فإذا عرفته عبدته، وإذا عبدته سَعِدْت بقربه، هذا هو المصدر الأول.
لذلك سيدنا إبراهيم -عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- نظر في الكون:
﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ(88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ(89) ﴾
﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ(76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(78) ﴾
ثم انتقل من آيات الكون إلى فاطر الكون، فقال:
﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ(79) ﴾
فمن شاء أن يعرف الله -سبحانه وتعالى- فــ:
في كل شيء له آية تـدل على أنه واحد
***
وظيفة المخلوقات وعلاقتها بالإنسان :
كل شيء خلقه الله -سبحانه وتعالى- إنما له وظيفتان، الوظيفة الأولى والرئيسة: أن يعرفك بذاته سبحانه وتعالى، والوظيفة الثانية : ما يقدم لك من خدمات، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ : هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا، وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا ))
خير نعرف به عدد السنين والحساب، ورَشَد يرشدنا إلى ربنا.
فكأس الماء آيةٌ على رحمته، الهواء الذي نستنشقه، الحواس الخمس، الأعضاء، الأجهزة، أنواع النباتات، أنواع الأطيار، أنواع الأسماك، الجبال، الوديان، السهول الصحارى، البحار، الأنهار، كل شيء يدل عليه، بما هو كبير، وبما هو صغير.
المصدر الثاني : الكتاب العزيز :
أما المصدر الثاني للحقيقة فهذا الكتاب الذي بين أيدينا:
﴿
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1) ﴾
إذا قرأت القرآن الكريم تعرفت إلى الله رب العالمين، فمن تدبّر آياته، قرأها وفهمها، وتدبّرها، وعرف أبعادها، وطبّقها، كان كتاب الله مصدرًا ثانياً للمعرفة.
المصدر الثالث : الحوادث في الكون : فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا
وأما المصدر الثالث لمعرفة الله سبحانه وتعالى فهو الحوادث التي تجري: الكون مصدر، والقرآن مصدر، والحوادث التي تجري مصدر ثالث، فربنا -سبحانه وتعالى- يقول:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21) ﴾
تستطيع أن توازن بين حياة المؤمن وحياة غير المؤمن، لا بد من أن يكون هناك بَينٌ شاسع، ومفارقة حادة، بين حياة فيها طمأنينة واستقرار، فيها سعي نحو معرفة الله -عز وجل-، حياة مُقدسة، حياة عفيفة، حياة نظيفة، حياة سامية، حياة عُلويّة، وبين حياة إنسان شهواني يبحث عن مصالحه بأيّ ثمن، ومن أيّ طريق، يدوس من أجل مصالحه كلَّ القيم، ما مصير هذا؟ وما مصير ذاك؟ لا شك أن هناك بَيناً شاسعاً.
﴿
دقق في حياة المؤمن، ألا تراها طيبة؟ ألا تراه سعيداً في بيته وعمله وعلاقاته، وطموحاته؟ إنه في الأفق الأعلى، والناس في الوحول، انظر إلى حياة أهل الدنيا، خصوماتٌ، مشاحناتٌ، شهواتٌ، تجاوزاتٌ، تعدياتٌ، بَغيٌ، ظلمٌ، تحلّلٌ، مشاكسةٌ، سوء ائتمانٍ، قسوةٌ، هذا حال أهل الكفر، وهذا حال أهل الإيمان، لو نظرت إلى الذي يأكل مالاً حراماً ما مصيره، لا بد من أن يدمر ماله، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ ))
قال الله تعالى:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276) ﴾
دقق في كسب المال وحده، هذا الذي كسب مالاً حلالاً، دقق في حياته، كيف أن الله -سبحانه وتعالى- يبارك له في صحته، وفي أهله، وفي أولاده، وفي تجارته، وفي كَسْبه، وفي أعماله كلها، وانظر هذا الذي كسبَ مالاً حراماً، كيف أن هذا المال سيذهب، وسيُذهِب معه صاحبه، كيف أن حياة الذي يكسب المال الحرام مصحوبة بالمصائب والأخطار، بالإفلاس أحياناً، بالأمراض، ربنا -عز وجل- قال لنا:
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11) ﴾
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ـ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا
هذه الفاء حرف عطف، يفيد الترتيب على التعقيب، بينما ثم حرف عطف يفيد الترتيب على التراخي، والآيتان في كتاب الله، كل آية تعني شيئاً، فلو أن إنساناً طغى وبغى، و أكل مالاً حراماً، وبنى مجده على أنقاض الآخرين، وبنى حياته على موتهم، وبنى أَمْنه على خوفهم، بنى غناه على فقرهم، بنى سعادته على شقائهم، هذا الذي يسلك هذا الطريق انظر كيف تكون عاقبته، ربنا -عز وجل- قال:
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا
العاقبة للمتقين، العبرة في خريف العمر، العبرة في هذا العمر كيف ينتهي؟ ينتهي إلى دمار، ينتهي بفضيحة كبيرة، ينتهي بمصيبة أسرية، كيف ينتهي هذا العمر؟ هذا المال الذي كسبه الإنسان بالحرام كيف أودى بصاحبه؟
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197) ﴾
قد يُمِدّ الله للكافر، قد يعطيه الصحة، والذكاء، والمال والجمال، ولكنه يسلبه الطمأنينة، والسعادة، والصفاء، والإقبال.
إذاً: الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآية الكريمة يأمرنا أن ننظر، النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:
(( مَرَنِي رَبِّي بِتِسْعٍ: خَشْيَةِ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَكَلِمَةِ الْعَدْلِ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَى، وَالْقَصْدِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَنْ أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي، وَأُعْطِي مَنْ حَرَمَنِي، وَأَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَنِي، وَأَنْ يَكُونَ صَمْتِي فِكْرًا، وَنُطْقِي ذِكْرًا، وَنَظَرِي عِبْرَةً، وَآمُرُ بِالْعُرْفِ " وَقِيلَ : ( بِالْمَعْرُوفِ ) . ))
لا تدع هذه القصص التي تسمعها تمرّ هكذا، فكّر فيها، اعرضها على كتاب الله، ابحث لماذا نُكِبَ هذا الإنسان؟ ما المخالفة التي كان يرتكبها؟ لماذا حفظ الله مال فلان؟ وأتلف مال فلان؟
كلّ ما يحدث في الأرض مصداق لما في الكتاب العزيز :
إذاً: يمكن أن تستنبط الحقيقة من مصدر ثالث، ألا وهو الحوادث، الحوادث وحدها تنبئك بالحقيقة، لذلك ربنا -عز وجل- أحياناً يشهد لنا أن هذا الكلام كلامه، شيءٌ عجيب، الله -سبحانه وتعالى- متى شهد لنا؟ لأن كل ما يحدث في الأرض مِصداقٌ لمَا في هذا الكتاب، هذا الكتاب قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، فأي شيء يحدث في الأرض يصدق ما جاء في هذا الكتاب.
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117) ﴾
﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ
آية أخرى:
﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا(59) ﴾
فلو تتبعت قرية أهلكها الله -عز وجل- لوجدتها ظالمة.
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112) ﴾
التفسير الصحيح للحوادث :
الحقيقة ما يجري في الكون يجري، وما يَقع يقع، ما يقع يعرفه الناس جميعاً، ولكن البطولة في القدرة على التفسير، كل إنسان إذا حصل زلزال في مكان معين تتناقله الأنباء، وتنشره الصحف، وتصوره المجلات، يطّلع عليه الناس جميعاً، فالناس لا فضل لواحد على آخر في تلقّي الخبر، الخبر سهل تلقيه، لكن المؤمن يملك التفسير الصحيح لهذا الخبر، شتان بين أن تتلقّى نبأً، وبين أن تملك القدرة على تفسيره، فالمؤمن يملك القدرة على تفسير ما يجري وَفق آيات الكتاب، وَفق هذه القواعد الثابتة التي وردت في القرآن الكريم:
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65) ﴾
إذاً: هناك التفسير، فإذا عرفت الله -عز وجل-، إذا عرفت ما في كتابه من حقائق، إذا تدبرت آياته، إذا كشفت القواعد الثابتة التي وردت في كتاب الله، عندئذ تملك صحة التفسير، لما قال ربنا -عز وجل-:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) ﴾
هناك علاقة ثابتة بين الحياة الضَّنك والإعراض عن ذكر الله، فحيثما سمعت قصة، أو مشكلة، أو مأساة، أو قضية، وعرفت أن هذا الذي دُمِّرتْ حياته مُعرِضٌ عن ذكر الله، تملك عندئذ التفسير الصحيح ما الذي يقلقك؟ ألّا تملك تفسيراً لما يجري، لكنك إذا ملكت التفسير الصحيح ارتاح قلبك، واطمأنت نفسك، فالمؤمن فضلاً عن أنه عرف الله من خلال الكون، وهذا الباب الأول، ومن خلال الكتاب، وهذا الباب الثاني، ومن خلال ما يجري من حوادث، وهذا الباب الثالث، تتبع.
قال لي أحدهم: ما من شخص عاصرته، وقد كسب مالاً حراماً إلا دمّر الله ماله قبل أن يموت، طبعاً هذا استنباط استنبطه من القصص التي وصلت إلى سمعه، فربنا -عز وجل- يقول:
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
النبي حريص على هداية قومه :
النبي -عليه الصلاة والسلام- حريصٌ حرصاً بالغاً على هداية قومه، والدليل أن الله -سبحانه وتعالى- يصفه بهذه الصفة:
الهدى متعلِّق باختيار العبد :
الجواب: أن هداهم ليس متعلقاً بحرصك، أو عدم حرصك، هُداهم متعلق باختيارهم.
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(56) ﴾
ليس هدى الإنسان متعلقًا بمشيئة النبي -صلى الله عليه وسلم- ، لو أنّ هدى كل إنسان متعلق بمشيئة النبي -عليه الصلاة والسلام- لشاء النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي لهب أن يهتدي، ولكنّ عمه أبا لهب هو الذي أراد أن يبقى ضالاً، لذلك قال الله -عز وجل-:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) ﴾
فالهداية في أصلها عمل طوعي، اختياري، ليست الهداية متعلقة بحرص النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو عدم حرصه، فالله -سبحانه وتعالى- يُثني على نبيه -صلى الله عليه وسلم- في هذه الكلمة، وفي الوقت نفسه يبين له الحقيقة، أن الهدى عمل اختياري.
﴿
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3) ﴾
﴿
الهدى الاختياري والهدى الجزائي :
الهدى عمل اختياري، عمل من اختيار الإنسان، لذلك علماء التوحيد قالوا: هناك هدى ابتدائي، وهناك هدى جزائي، وهناك ضلال ابتدائي، وهناك ضلال جزائي، فالإنسان إذا اختار الهدى قدّر الله له الهدى، فاختياره للهدى الأول هو الهدى الاختياري، والهدى الذي قدره الله له؛ دلّه على أهل الحق، فتّح بصيرته، ألهمه رشده، شرح الله صدره للإسلام، جمعه مع أهل الهدى، هذه كلها من الله -عز وجل-، وهي بناء على اختيار الإنسان، فهناك هدى ابتدائي، أي إن الإنسان اختار الهدى، وهناك هدى جزائي، أي إن الله -سبحانه وتعالى- بعد أن علم منه هذه الإرادة، وهذا الاختيار يسَّرَ له سبل الهدى، ودلّه على أهل الحق، وشرح صدره للدين، فهناك ضلال ابتدائي، وضلال جزائي، فإذا اختار الإنسان طريق الضلال، أو إذا أبى أن يسلك طريق الهدى ضل باختياره.
إنّ الضلال في تعريفه الدقيق: خروج عن طريق الهدى، أو عدم السير في طريق الهدى، إذا أبى أن يسير في طريق الهدى، هذا هو الضلال، عندئذ يستحق الضلال، كما قال الله -عز وجل- في الآية التي قبلها:
موانع الهدى وموجباته :
وذكرت لكم في الدرس الماضي أنَّ ما يقارب مئات الآيات المتعلقة بالهدى، كيف أن الهدى له موجبات، وأن الهدى له موانع، والله -سبحانه وتعالى-:
﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ
سورة المنافقون
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ
﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ
﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ
﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ
ثمانية عشر شيئاً إذا تلبَّس بها الإنسان مُنع من الهدى .
﴿
فربنا -عز وجل- يقول: يا محمد -عليه الصلاة والسلام-:
من اختار الضلال أوكِل إليه :
هذا الذي اختار طريق الضلال، أو هذا الذي أضلّ نفسه عن طريق الحق، صرفها إلى الدنيا، صرفها إلى الشهوات، صرفها إلى جمع الدرهم والدينار، صرفها إلى العلو في الأرض، هذا الذي أضلّ نفسه عن طريق الحق، أو هذا الذي استحقّ الضلال الجزائي بعد أن اختار الضلال الابتدائي، هذا لا يهديه الله بحكم نواميس الكون التي خلقها الله -عز وجل-، الجامعة لها نظام، نظام داخلي، تقول: هذا الطالب رُفِض طلبه استنادًا إلى المادة الثالثة من نظام الجامعة، هذا الطالب رسب في سنته استنادًا إلى المادة الخامسة من نظام الجامعة، فربنا -عز وجل- خلق الكون، وخلق مع خلقِ الكون سنناً، فهذه السنن هي التي تنظم علاقة العباد بربهم، فربنا -عز وجل- يقول:
فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ :
عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ :
(( يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ))
كلام واضح كالشمس
﴿
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38) ﴾
هل أنت مُصدّقٌ ربك أيها الأخ الكريم؟ يقول لك الله -سبحانه وتعالى-: كل ما في الدنيا متاعه قليل إذا قيس بما عند الله رب العالمين .
﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ(60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61) ﴾
يعني كلمة قليل من الذي خلق لك ما في السماوات والأرض، الذي أعدّ لك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ألست مصدقاً ربك بهذا؟
الضالّ يدفع ثمن ضلاله غاليا :
سيارة مندفعة بأقصى سرعتها، وتسير في طريق كلها انعطافات، ومن حول الطريق وديانٌ سحيقة، هل تعرف ما هو الضلال في حق هذا السائق؟ أن يغمض عينيه، أتظن أنه إذا أغمض عينيه يبقى مغمضاً عينيه؟ أو أنه لا بد أن يهوي في وادٍ سحيق ما له من قرار!؟ هذه الحقيقة مهمة جداً، ليس الموضوع أن فلاناً اهتدى، وفلاناً ضلّ، إنك مزوّدٌ بشهوات تدفعك نحو إروائها، إذا كنت على هدى أحسنت السير، وإذا كان الإنسان ضالاً وفي عمىً، فلا بد من أن يقع في الإساءة، لابد من أن يقع في الظلم، لابد من أن يقع في الهَلاك، لابد من أن يكون تدميره في تدبيره، ليس الموضوع أنه ضلال وكفى، ما بعد الضلال، لذلك هذا الذي يُضِل نفسه عن الله -عز وجل-، ويختار طريق الدنيا، وطريق الشهوات، ويتنكر طريق الهدى، اختار الضلال، ليس الأمر كذلك، لابد من أن يدفع ثمن ضلاله غالياً، لذلك جاء قوله تعالى:
﴿
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ
انظرْ كيف أقسموا بالله ثم وصفوه بالعجز !!!
الحقيقة هم أقسموا بالله، أقسموا بعظمة الله -عز وجل-، ثم وصفوه بالعجز عن أن يبعث مَن يموت، مع أن خلق الإنسان مرة ثانية هيّنٌ على الله -عز وجل-.
﴿
بدأَ الخلق فكان مظهراً لأسمائه الحسنى، وسوف يعيد الخلق، ليحقق اسم الحق، لتُجزَى كل نفس بما كسبت، ليأخذ كل ذي حقٍ حقه .
البعث حق لا ريب فيه :
﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ(83) ﴾
هذه الساعة لابد آتية، "الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى منه يوم انقضى بضع منه"، البطولة أن تكون مُهيّئاً لساعة الحساب، البطولة كل البطولة أن تُعِدّ لهذه الساعة عدتها.
عن عبد الله بن المسور أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
(( عن عبد الله بن المسور : أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله، علمني من غرائب العلم قال: " ما فعلت في رأس العلم فتطلب الغرائب؟ " قال: وما رأس العلم؟ قال: "هل عرفت الرب؟ " قال: نعم، قال: " فما صنعت في حقه؟ " قال: ما شاء الله. قال: " عرفت الموت؟ " قال: نعم، قال: " ما أعددت له؟ " قال: ما شاء الله. قال: " انطلق فاحكم هاهنا ثم تعال أعلمك من غرائب العلم " . ))
ماذا أعددت لما بعد الموت حين تلقى ربَّك ؟
هذا سؤال مهم جداً، ما الذي صنعته في حق الله؟ ماذا أعطيت من أجله؟ ماذا منعت من أجله؟ من وادَدْتَ مِن أجله؟ من عاديت من أجله؟ ماذا فعلت؟ ماذا بذلت؟ ماذا ضحيت؟ ماذا عملت من أجل الله -عز وجل-، فقال: ما شاء الله، قال: هل عرفت الموت؟ قال نعم، قال: فماذا أعددت له؟ ماذا أعددت لهذه الحفرة.
لماذا كان الصالحون من أجدادنا يشترون قبورهم في حياتهم، هذا هو المثوى الأخير، هذا هو البيت الأخير، هنا المصير، لا بد من نزول القبر، كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت، سبحان من تفرّد بالبقاء، اقرأ التاريخ الناس جميعاً قد ماتوا .
كل ابن أنثى و إن طالت سلامته يومًا على آلة حدباء محمــول
فإذا حملت إلى القبور جنــازة فاعـلم بأنك بعدها محمـــول
(( كنتُ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عاشِرَ عَشرةٍ، فذكر حديثًا طويلًا، فيه: فقال فتًى: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ المؤمنينَ أفضَلُ: قال: أحسَنُهم خُلُقًا، قال: فأيُّ المؤمِنينَ أكيَسُ؟ فقال: أكثَرُهم للموتِ ذِكرًا وأحسَنُهم له استِعدادًا.))
أيها الإخوة الأكارم .
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل
البطولة أن يأتي ملَك الموت، وأنت مستعد لهذا اللقاء:
(( أتاني جبريل فقال : يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس ))
حوار بين المؤمنين والمكذِّبين بالبعث :
في الجنة يجري حوار طريف ممتع فيه سرور بين المؤمنين، يقول أحد المؤمنين: إنه كان لي قرين، كان لي قرين، أيْ صديق، جار، أعلى، أدنى، قريب، في الدنيا.
﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ(51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ(52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ(53)﴾
هل أنت مصدق هذا الكلام؟ أم تقول: هذا خرافة، هذا غيبيات، هذا طرح غيبي، أنت متعلم مثقف، أتؤمن بهذا الكلام؟
﴿ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ(48) ﴾
ثم يخطر ببال هذا المؤمن أن يطّلع على صديقه.
﴿ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ(55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِي(56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ(58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(59)﴾
كان يدّعي هذا الذي في جهنم أنه لا شيء بعد الموت، ليس هناك إلا الموت، ولا شيء بعد الموت .
﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ(61)﴾
هذا هو الفوز، يقول سيدنا علي رَضِي اللَّه عَنْه:
قاصمة الظهر : وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
لو أنك نظرت إلى أحوال الناس، لا يمكن أن يفعلوا ما يفعلون وهم مؤمنون بأن بعد الحياة حياة، أبداً، هذا الذي يأخذ ما ليس له، هذا الذي يتلذذ بإيذاء الناس، هذا الذي يظلمهم، هذا الذي يظلم أهله، هذا الذي يأخذ مال أخيه، هذا الذي يعتدي على أعراض الناس، لا يمكن أن يفعل ما يفعل وهو يعلم أن بعد الحياة حياة، لكنه يتوقع أن الحياة هي كل شيء، والمال فيها كل شيء، فإذا جاء الموت انتهى كل شيء، والحقيقة أنه بدأ كل شيء.
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) ﴾
﴿ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ(39) ﴾
كل الناس يدّعي أنه على حق، كل فرقة.
﴿ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ
كل جماعة، كل حلْقة، كل جهة، كل أمة، كل حضارة، كل مجتمع، يظن أنه محور العالم، البوذيون يحسبون أنهم على حق، والهندوس يحسبون أنهم على حق، والسيخ يحسبون أنهم على حق، والمسلمون يحسبون أنهم على حق، وغير المسلمين يحسبون أنهم على حق، ولا بد من أن يأتي يوم يبين الله لخلقه كلهم مَن هم على حق، ليتحقق اسم الحق.
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ
تعبٌ من أجل شعارات تذهب أدراج الرياح :
إذاً حينما يعتنق الإنسان فكرة، أو مبدأ، ويسعى طوال حياته لنشر هذا المبدأ، والعمل من أجله، حينما يكتشف يوم القيامة أن هذا المبدأ خاطئ كاذب، بُني على الكذب، فهذه غلطة كبيرة جداً، عندئذ يصعق الإنسان،
(( إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ. ))
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :
(( يا ابن عمر، دينَك دينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذي استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا. ))
فما ظن الإنسان حينما يأتي يوم القيامة ليرى أن كل الذي آمن به في الدنيا باطل في باطل، لذلك:
﴿
زخرف القول، نظريات مُنمَّقةٌ، مرتبةٌ، مُبوَّبةٌ، مطبوعةٌ، مٌزدانةٌ، مبنيّةٌ على باطل، فيوم القيامة، علة يوم القيامة، علة الدار الآخرة:
﴿ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ(39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(40)﴾
العودة سهلة، لو أن إنسانًا مات في طائرة، وأصبح جثته أشلاء، أي ذرات من الرماد، وطارت في الجو، كن فيكون، تعود هذه الذرات إلى بعضها، ليُعاد خلقها يوم القيامة، لو أن الإنسان مات في البحر، أو مات في حريق، الله -سبحانه وتعالى- كن فيكون، يعيده تارة أخرى، وفي المركبة الفضائية (شلنجر) بعد أن أقلعت بسبع دقائق أصبحت كتلة من اللهب، وكان على متنها سبعة رواد، أين هم؟ المركبة كلها لم يعد لها أثر، عثروا على بعض أجزاء من هيكلها في البحر.
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
التصديق باليوم الآخر من أركان الإيمان :
أيها الإخوة، هناك أخ كريم يحضر معنا أحياناً، عضو نشيط في لجنة بناء هذا المسجد، هذا المسجد الذي تنعمون فيه حيث الاتساع والإضاءة والكسوة والأثاث، كان عضواً نشيطاً ساهم في إعادة أرضه لتكون مسجداً بعد أن أُخِذت، وساهم في بنائه، وساهم في ما هو عليه الآن، وقد توفاه الله في الأسبوع الماضي، فوفاءً له أرجو أن يقرأ كلٌّ منكم جزءاً من كتاب الله ويهبه لروحه الطاهرة، هذا العمل يُعدّ وفاء منا لمَن أسهم في بناء هذا المسجد، وكان محبوباً وكان طيّب السمعة، يحب الفقراء والمساكين ويرعاهم، هذا الذي عرفته عنه، رحمه الله وأسكنه الله فسيح جنانه.
يعني إذا قرأ الإنسان جزءاً من القرآن، لا شك أن الأكثرية ربما قرؤوا أكثر من ختمة تقريباً، تُوهَب هذه القراءات إلى روحه لأن قراءة القرآن تصل للميت.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.