- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠31برنامج الإيمان هو الخلق - قناة سوريا الفضائية
تقديم وترحيب :
أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم الإيمان هو الخلق .
كنا قد توقفنا مع أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين .
ملخص لثلاث حلقات سابقة :
ومن خلال هذه الآطرة : " الإيمان هو الخلق " ، توقفنا في الحلقة الماضية عند خطبة سينا جعفر بن أبي طالب ، وأود أن ألخص بكلمتين ما دار في ثلاث حلقات ، تحدثنا أستاذنا عن تعريف هام للأخلاق ، الانضباط والعطاء ، والعبادة يجب أن تؤتي أوكلها وثمارها وأهدافها ، وإلا ذهب الله بها هباء منثورا ، كما جاء في حديث النبي عليه الصلاة والسلام .
إن الأخلاق تهدي إلى البر ، وتهدي إلى الإحسان ، وتهدي إلى كل تعامل طيب وتهدي إلى كل ما يربط أبناء المجتمع ، وما يقرب أبناء المجتمع من بعضهم بعضا ، وما يجعل من المجتمع نسيجاً واحداً ، لكي يكون في لوحة جميلة متسقة ، هذه اللوحة اعتراها ظلمٌ وحيف ، أثّر على اللوحة بكاملها ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ))
(( إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ))
أعود إلى أن الله عز وجل كرم النبي بوسام تفرد به :
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
نعود إلى ما فسرت :
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ
ونعود إلى قول السيدة خديجة في بداية الوحي ، عندما وصفت أخلاقه بالفطرة ، عرفت أن الله لن يخزيه طالما أنه على هذا الملتقى الخلقي العالي .
نتوقف عندما أمر صحابته بالهجرة إلى الحبشة ، بعد أن اشتد الظلم عليهم في مكة ، قال لهم : اذهبوا إلى النجاشي ، فهذا الرجل لا يظلم عنده أحد ، وسوف يبسط الأمانة عليكم ، ثم جاء قريشًا الخبرُ ، وعلِموا ، فأرسلوا وفداً لتعكير الصفو ، وإفساد هذه الهجرة ، ولكي يسلمهم جعفراً ومن مع جعفر من الذين هاجروا إلى الحبشة ، وقف جعفر بعد أن تملك يبدو لي في ذلك الوقت عمر بن العاص الذي خطب أمام النجاشي تملّك قلبه ، فوقف سيدنا جعفر ليقول ، وليشهد للنبي ، نعود إلى هذه المحطة الهامة ، والتي كما قلت في الحلقة القادمة : لخص فيها جعفر الدين .
الدكتور :
قواعد مهمة : إذا أردت معرفة الإسلام فارجع إلى ينابيعه الصافية :
1 – إذا أردتَ معرفة حقيقة الإسلام فارجع إلى ينابيعه الصافية :
ولكن أنا أريد أن أوضح للإخوة المشاهدين أنك إذا أردت أن تعرف حقيقة هذا الدين ، يجب أن تعود إلى ينابيعه الصافية ، انظر إلى نهر بردى مثلاً في ينبوعه ، إنه ماء عذبٍ صافٍ زلال ، لو ذهبت قريبًا من مصبه لرأيت ماءً أسود اللون .
فنحن إذا أردنا أن نعرف حقيقة الدين ينبغي أن نعود إلى ينبوعه الصافي ، إلى الكتاب والسنة ، وإلى السيرة .
2 – معنى التجديد في الدين : نزعُ ما علق به مما ليس منه :
هناك نقطة مهمة جداً ، من أدق التعريفات التجديد في الدين أن ننزع عن الدين كل ما علق به مما ليس منه ، هذا هو التجديد ، ذلك لأن الدين توقيفي ، الدين دين الله عز وجل كمال الله المطلق .
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً
والصفوة دائماً من المفكرين يفرقون بين الإسلام والمسلمين ، وبين الدين والمتدينين ، وبين أصل الفكرة وسوء تطبيقها .
أركان الأخلاق :
نريد أن نعود الآن إلى ينابيع الدين الصافية ، فهذا صحابي كبير ، وهو يقف موقف الحديث عن حقيقة هذا الدين أمام ملِك ، فقال :
(( أَيُّهَا الْمَلِكُ ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ))
أستاذ علاء ، هذه أركان الأخلاق ، يعني هذا الإنسان المؤمن الأخلاقي إن حدثك فهو صادق ، وإن عاملك فهو أمين ، وإن استثيرت شهوته فهو عفيف ، وإن حدثك فهو صادق ، إن عاملك فهو أمين ، إن استثيرت شهوته فهو عفيف ، الآن تتوج هذه كلها بنسب عظيم ،
(( نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ ))
خالق السماوات والأرض ، لا إلى إله من تمر لما جاعت من تعبده أكلت ربها ، لا إلى إله يبول الثعلبان على رأسه ، فقد ضل من بالت عليه الثعاليب .
فهذا الذي يعبد خشباً ، أو حجراً ، أو شمساً ، أو قمراً ، ونسي خالق السماوات والأرض هو في ضلال مبين .
إذاً :
(( فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ ))
الكون كله ينطق بوجود الله وكماله ، ووحدانيته ،
(( وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ ))
الآن المنهج :
(( وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ))
هذه قيم أخلاقية ، منهج أخلاقي ، منهج انضباط منهج عطاء ، منهج إحسان ، لذلك نشير إلى حديث رسول الله الصحيح :
(( بني الإسلام على خمس ))
هناك أعمدة ، وهناك إسلام ، فكأن الإسلام منظومة هذه القيم الأخلاقية ، لكنها يجب أن تبني على إقامة صحيحة ، على حوامل ، أنا أحياناً أكون أخلاقياً لهدف أرضي دنيوي محض آني طارئ ، فإذا استثيرت مكانتي ، أو ضُربت مصلحتي انقلب الإنسان إلى وحش كاسر ، هذه الأخلاق لا تعنينا في هذا البرنامج ، نريد الأخلاق التي نتجت عن اتصال بالله ،
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ ﴾
(( إن محاسن الأخلاق مخزونة عند الله تعالى ، فإذا أحب الله عبدا منحه خلقا حسنا ))
أخلاق المسلم لا تتأثر بالطوارئ :
الأخلاق العبادية الناتجة عن إحكام اتصال بالله هذه أصيلة ، وثابتة ، ولا تتبدل ولا تتغير ، ولا تتأثر بالظروف الطارئة ، والمستجدات ، والشبهات ، والشهوات ، هذه فوق كل ذلك ، هذه الأخلاق التي ندعو إليها في هذا البرنامج إن شاء الله ، لا أخلاق الأذكياء أخلاق المصالح ، أخلاق المساومات ، أخلاق ركوب الأمواج ، أخلاق استرضاء الناس ، هذه كلها أخلاق ساقطة عند الله ، قد تجد لها من يقدرها من بين البشر ، لكنها عند الله ساقطة .
المذيع :
وهي غير مقبولة .
دكتور لو أتينا إلى قوله تعالى :
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى
البشر بين تقسيمات الأرض وتقسيم الإسلام :
الدكتور :
أستاذ علاء ، أقول لك بصدق وبتجرد : إن الناس على اختلاف مللهم ، ونحلهم وأديانهم ، وأعراقهم ، وأنسابهم ، وطوائفهم ، وانتماءاتهم ، وكل ما يخطر في بالك من تقسيمات من صنع البشر ، دول الشمال ، دول الجنوب ، أبناء الريف ، أبناء المدن ، العرق الأبيض ، العرق الملون الأنكوسكسوني ، السامي ، الآري ، هذه تقسيمات جملة وتفصيلاً ليس لها وجود في منهج ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( كلكم بنو آدم وآدم من تراب ))
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
هؤلاء الناس يتمايزون بقيم ترجّح بعض الناس على بعض ، هذه لم يعتمدها القرآن أبداً ، فماذا اعتمد القرآن ؟ تقسيم خالق السماوات والأرض للبشر ورد في هذه الآية التي ذكرتها .
نماذج البشر :
البشر على كل اختلاف تقسيمات الأرض لا يزيدون على نموذجين :
النموذج الأول :
الأول : صدَّق أنه مخلوق للجنة ، وأنه في الدنيا من أجل أن يدفع ثمنها والجنة :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى :
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))
والإيمان بالجنة وباليوم الآخر جزء كبير وأساسي من عقيدة المسلم ، وما من ركنين من أركان الإيمان تلازما في القرآن كركن الإيمان بالله واليوم الآخر ، فهذا الإنسان حينما يؤمن أنه مخلوق للجنة ، هذا الإيمان يبنى عليه أنه يتقي أن يعصي الله ، ويبنى عليه أنه يعطي ،
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾
الترتيب معكوس ، صدق بالحسنى ، وقد قال الله عز وجل :
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ
الحسنى هي الجنة ، هذا الإنسان صدق بالحسنى ، بنى على تصديقه العميق أنه يتقي أن يعصي الله ، وبنى على هذا التصديق أن حياته بنيت على العطاء ،
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾
بعد قليل أشير إلى النتيجة ، أو إلى رده له .
النموذج الثاني :
الآن النموذج الثاني : كفر بالجنة وآمن بالدنيا ، لم يعبأ بما بعد الموت ، هذه الدنيا محط رحاله ، ومنتهى آماله ، من كان غنياً فهو في جنة ، ومن كان قوياً فهو في جنة ، وهذه الدنيا فلا شيء سواها .
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى
لأنه كذب بالحسنى استغنى عن طاعة الله ، وبنى حياته على الأخذ .
أستاذ علاء ، النملة عندها جهازان ، جهاز مص ، وجهاز ضخ ، فإذا التقت نملة شبعى بنملة جائعة تعطيها من عصارة هضمها عن طريق جهاز الضخ ، فالنملة تأخذ وتعطي ، بينما الذي كفر بالآخرة ، وآمن بالدنيا يبني حياته على الأخذ فقط ، يأخذ ولا يعطي ، أما المؤمن الذي بنى حياته على الإيمان باليوم الآخر فيعطي ولا يأخذ ، أو يأخذ ويعطي ، لكن في النهاية يمكن أن نتلمس في بني البشر شيئين كبيرين نبيًّا وقويًّا .
البشر تَبَع لنبيّ أو قويّ :
تاريخ البشرية شهد أقوياء كثر ، فالنبي أعطى ولم يأخذ ، القوي أخذ ولم يعطِ ، النبي ملك القلوب ، والقوي ملك الرقاب ، النبي عاش للناس ، والقوي عاش الناس له ، النبي يمدح في غيبته ، ولو بعد ألف عام ، والقوي يمدح في حضرته فقط ، أعطى ولم يأخذ ، أخذ ولم يعطِ ، ملك القلوب ، ملك الرقاب ، عاش للناس ، عاش الناس له ، يمدح في غيبته ، ذاك يمدح في حضرته ، والناس جميعاً على امتداد العصور والأزمان أتباع لنبي أو قوي .
فالذي يستخدم كماله ، وعلمه ، وأدبه ، وعفته ، وعطاءه ، وكرمه ، واستقامته ليؤثر في الآخرين هذا من أتباع الأنبياء ، والذي استخدم سلطته ، أو حتى الشرطي استخدم دفتر الضبط كسلاح يملكه ، هذا من أتباع الأقوياء ، فالبطولة أن تكون من أتباع الأنبياء ، وأن تملك القلوب ، وأن تعطي ولا تأخذ ، وأن تمدح في غيبتك .
هذه الآية رائعة جداً ، هذا تصنيف خالق البشر للبشر :
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾
تعليق :
هذا الذي أيقن أنه مخلوق للجنة فاتقى أن يعصي الله ، وبنى حياته على العطاء ، رد الإله له أنه ييسره للجنة ، يعطيه أسبابها ، يعطيه الإيمان ، يعطيه الصحة يعطيه القوة ، يعطيه المال ، كي تكون وسائل لدخول الجنة ، إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك ، فأعظم عطاء إلهي أن تسير إلى الجنة ، وأكبر عقاب إلهي أن تسير لغير ما خلقت له ،
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾
لا ينفع مال يوم القيامة :
حينما استغنى عن طاعة الله ، وحينما بنى حياته على الأخذ طبعاً جمع أموالاً طائلة قال تعالى له :
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى
الإنسان في ثانية واحدة يصبح خبراً بعد أن كان رجلاً ، قال تعالى :
وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلــى القبور جنازة فــاعلم بأنك بعدها محمول
***
فهذه الآية هي تصنيف من قِبل خالق السماوات والأرض لبني البشر ، ولن تجد إنساناً ثالثاً .
المذيع :
هل هناك غير هذا التصنيف ، لأن هذا التصنيف يصنف البشر مثل ما تفضلت إلى أقوام ، أري ، وسامي ، وملون ، وخلاسي ، وزنجي ، ونورمندي .
تقسيمات الأرض سبب الفرقة والشتات :
الدكتور :
ما أنزل الله بها من سلطان ، عنعنات جاهلية ، سبب فرقتنا ، وسبب ضعفنا ، وسبب تخلفنا ، وسبب حروبنا .
قرأت إحصائية قبل أيام أن ما يصيب الإنسان في الأرض الآن في اليوم من ثمن أسلحة فتاكة تقريباً خمسة آلاف ليرة باليوم ، لو وزعنا كلفة التسليح في الأرض على أهل الأرض نصيب كل واحد خمسة آلاف في اليوم ، لدمار البشر ، ولإفقار البشر ، الإنسان مع تقدمه التقني الآن هو في الحضيض أخلاقياً ، هو في الحضيض اجتماعياً ، هو في الحضيض إنسانياً ، يقول عليه الصلاة والسلام عن آخر الزمان :
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( سِتٌّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ مَوْتِي ، وَفَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَمَوْتٌ يَأْخُذُ فِي النَّاسِ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ ، وَفِتْنَةٌ يَدْخُلُ حَرْبُهَا بَيْتَ كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَأَنْ يُعْطَى الرَّجُلُ أَلْفَ دِينَارٍ فَيَتَسَخَّطَهَا ، وَأَنْ تَغْدِرَ الرُّومُ فَيَسِيرُونَ فِي ثَمَانِينَ بَنْدًا تَحْتَ كُلِّ بَنْدٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا ))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ ))
الآن نشاهد كل يوم آلاف الضحايا ، وما ارتكبوا ذنباً ، قال تعالى :
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ
أُشهد الله أن ما من قطرة دم تهرق ظلماً إلا ويتحملها إنسان يوم القيامة ، كائناً من كان .
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ
المذيع :
لذلك نعود أستاذنا إلى التقسيم الذي جاء في الآية الكريمة :
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾
إذاً : التقسيم ثنائي لا ثالث له ، على مستوى البشرية .
الدليل على تقسيم القرآن للبشر :
الدكتور :
الدليل الآخر :
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ
يا محمد :
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ
فهما خطان لا ثالث لهما ، إما أن تستجيب لوحي السماء ، ولمنهج خالق الأرض والسماء ، وإما أن تستجيب لهوى نفسك ، وشهوتك ، ومصالحك .
المذيع :
الآن الأستاذ الدكتور راتب من المعلوم أن الإنسان هو المخلوق الأول ، وهو المكرم وهو المكلف ، الله عز وجل يقول:
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
و يقول الله عز وجل في كتابه العزيز :
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً
نحن نقف عند هذا المخلوق الذي كُرم ، لماذا كُرم ؟ والذي كُلف ، لماذا كُلف ؟
الإنسان بين التكريم والتكليف :
الدكتور :
أولاً : يجب أن نبدأ بالآية التي مطلعها :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾
ـ يعني السماوات والأرض ـ
﴿ وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾
إن الإنسان قال : أنا لها ، تصدى لها ، وقبِل حملها ، فلما قبِل بحملها قال الله له :
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً
ما الأمانة ؟
أستاذ علاء ، لأن الإنسان قبِل حملَ الأمانة فصار المخلوق الأول ، لو سألتني : ما الأمانة ؟ في أدق التعريفات والتفسيرات أنها نفسه التي بين جنبيه ، أطلقت يده في نفسه .
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا
فالذي يُعرّف نفسه بربها ، ويحملها على طاعته ، ويحملها على التقرب إليه بالعمل الصالح هذا زكى نفسه فاستحق الجنة ، وهو ثمن الجنة .
الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي قَبِل حمْلَ الأمانة :
في القرآن آيات ثلاث لا تزيد على ذلك :
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى
نال الفلاح ، فالنجاح كل النجاح ، والذكاء كل الذكاء ، والتفوق كل التفوق ، والعقل كل العقل في أن تزكي نفسك ، لهذا أنا أقول : ما كل ذكي بعاقل ، قد تجد إنسانا يحمل اختصاصا نادرا جداً ، وفي أعلى مستوى من الذكاء ، لكنه يعصي الله ، فهو ذكي غير عاقل .
إن النبي عليه الصلاة والسلام رأى مجنوناً في الطريق ، فسأل أصحابه سؤال العارف : من هذا ؟ قالوا : هذا مجنون ، قال : لا ، إنه مبتلى ، المجنون من عصى الله .
ما كل ذكي بعاقل ، الذكاء موضعي ، وجزئي ، قد تحمل أعلى شهادة مثلاً في الفيزياء النووية ، وقد تحمل أعلى شهادة في الفَلَك ، إن لم تعرف من الذي خلقك ، وماذا بعد الموت ؟ وأين كنت قبل أن تحيا في الدنيا ؟ ولماذا جاء الله بك إلى الدنيا ؟ وما هو سبب سلامتك وسعادتك ؟ فأنت لست بعاقل ، ما كل ذكي بعاقل ، فلذلك أنا حينما أُعرّف الناس بخالق الأرض والسماوات أدفعهم إلى سعادة الدنيا والآخرة .
فهذه النقطة الأولى ، الإنسان هو المخلوق الأول ، لأنه قَبِل حمل الأمانة ، فلو أن أبا عنده عشرة أولاد ، قال : كلكم له عندي بيت ، ومصروف شهري ، أما الذي يقبل أن يذهب إلى بلد بعيد ليأتي بدكتوراه أعطيه نصف معملي ، فأحدهم قال : أنا أذهب ، هل يعد هذا الابن الطموح ظلوماً جهولا ؟ لا ، بالعكس هو يعد عالماً منصفاً لنفسه ، عرف قيمتها أما إذا ذهب إلى هناك ، ولم يدرس ، وتبع المعاصي والآثام ، يعد ظلموماً جهولاً ، فالآية فيها ملمح دقيق :
﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾
حينما قَبِل حمل الأمانة هل هو ظلوم جهول ، لا والله ، هو طموح ، أراد أن يكون فوق الملائكة .
سيدنا علي يقول : << رُكِّب الملَك من عقل بلا شهوة ، وركِّب الحيوان من شهوة بلا عقل ، وركِّب الإنسان من كليهما ، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة >> .
فالذي تصدى لحمل الأمانة ، وقبِل حمل الأمانة كأنه في الآية استفهاما ،
﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾
لا ليس
﴿ ظَلُومًا ﴾
ولا
﴿ جَهُولًا ﴾
وفي بالآية إقرار إن ذهب إلى هناك ولم يدرس ، وتبع المعاصي والآثام
﴿ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾
لأنه ما عرف قدره .
أستاذ علاء ، أنا أحياناً أرفض شيئاً لأنني أحتقره إلا إذا رفضت الدين فأنا أحتقر نفسي .
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ
الإنسان هو المخلوق الأول ، ولأنه كان مخلوقاً أول كرمه الله .
أنواع تسخير الكون :
الآن هناك فكرة مهمة جداً : كرمه بأن :
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ
تسخير التعريف وردُّ فعْل العبد نحوه :
الآن المُسخر له أكرم من المسخر ، بديهية ، الله عز وجل سخر الكون تسخيرين ، تسخير تعريف وتكريم ، لما قال النبي :
(( هِلالٌ خَيْرٍ وَرُشْد ))
أي أن هذا الهلال يرشدني إلى الله ، وفضلاً عن ذلك أنتفع به .
فالآن رد فعل التعريف أن تؤمن .
تسخير التكريم وردُّ فعْل العبد نحوه :
وردّ فعل التكريم أن تشكر ، فإذا آمنت ، وشكرت فقد حققت الهدف من وجودك ، عندئذٍ تتوقف المعالجة ، قال تعالى :
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ
حينما تؤمن ، وتشكر حققت الهدف من وجودك ، لماذا العذاب ؟ لماذا القهر ؟ لماذا القلق ؟ لماذا الخوف ؟
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
لذلك سأل النبي الكريم مرة بعض أصحابه : عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ : عُفَيْرٌ ، فَقَالَ :
(( يَا مُعَاذُ ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ ، قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ ؟ قَالَ : لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا ))
لذلك الذين قالوا :
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ
بماذا رد الله عليهم ؟
قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ
وإذا توهم المسلمون اليوم أنهم أمة سيدنا محمد يأتي الرد الإلهي :
﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ﴾
بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ
لذلك استنبط الإمام الشافعي أن الله لا يعذب أحبابه أبداً ، ولو أنه قبِل دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه لما عذبهم .
المذيع :
ونريد أن نبين قضية للمشاهد حتى لا تختلط عليه الأمور ، كما نقول : الإنسان المخلوق الأول في الرتب ، وليس في الوجود على الأرض ، هناك من سبقه من الكائنات وإنما رتبة ومكانة علية .
الإنسان المخلوق الأول رتبة وليس وجودا :
الدكتور :
يوضح هذا الإمام علي : فإذا سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، يؤكد هذا يقول الله عز وجل :
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ
إطلاقاً .
والطرف الآخر :
أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ
الآية الثانية تحتاج إلى لقاء مطول ، كلفه أن يعبده ، والحديث في اللقاء القادم عن العبادة .
خاتمة وتوديع :
المذيع :
عن العبادة نفسح لها المجال الواسع ، ولا يسعني إلا أن أشكرك دكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، وأشكر السادة المشاهدين على المتابعة ، ونعدكم إن شاء الله في الأسبوع القادم أن نكمل هذا المبحث العلمي الإيماني ، وأن نضع لوناً آخر في لوحة الإيمان هو الخلق .
شكراً جزيلاً وإلى اللقاء .