- الخطب
- /
- ٠3الخطب الإذاعية
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي إليه مصائر الخلق، وعَواقبُ الأمر، نحمده على عظيم امتنانه، ونيّل برهانه، ونوال فضله وإحسانه، حمداً يكون لحقّه قضاءً، ولشكره أداءً، وإلى ثوابه مقرباً، ولحسن مزيده موجباً.
ونستعين به استعانة راجٍ لفضله مؤمّل لنفعه، معترف له بالطَوْل، مذعنٍ له بالعمل والقول.
وأشهد أن لا إله إلا الله، كل شيء قائم به، وخاشعٌ له، غِنى كلِ فقير، وعِزُ كلِ ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزَع كل ملهوف، من تكلم سمع نطقه، ومن سكت علم سره، ومن عاش تكفَّل رزقه، ومن مات فإليه منقلبه.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، نبيٌ كانت الرحمة مهجته، والعدل شريعته، والحب فطرته، والسمو حرفته، ومشكلات الناس عبادته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، طبِ القلوب ودوائها، وعافية الأجسام وشفائها، ونور الأبصار وضيائها، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الهداة المهديين، الغر الميامين، أمناء دعوته وقادةِ ألويته، وارض عنا، وعنهم يا رب العالمين.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.
العبادات:
1 ـ كيف بك لو أدّيت العبادات على الوجه المراد؟
أيها الإخوة المؤمنون في كل مكان، قبل أيام ودعنا شهر رمضان، شهر التوبة والغفران، والإحسان والقرآن، والقرب والرحمة، والزلفى والتقوى، لقد شرع الصيام لتقوية إرادة الإنسان على طاعة ربه، ولتنمية الإخلاص في قلبه ولتمتين الصلة بخالقه، ولترسيخ معاني العبودية له.
فلو أديت العبادات، ومنها الصيام، على النحو الذي أراده الله عز وجل، لجعلت من المؤمن شخصية فذة، إليها تنجذب النفوس، وبها تتعلق الأبصار، ومن نورها تهتدي القلوب.
ولو أديت العبادات على النحو الذي أراده الله عز وجل لجعلت من المؤمن رجلاً نيّر الذهن والقلب معاً، حاد البصر والبصيرة جميعاً، تتعانق فكرته وعاطفته، فلا تدري أيهما أسبق، صدق أدبه أم حسن معرفته، ولا تدري أيهما أروع؟ خصوبة نفسه الجياشة، أم فطانة عقله اللماح..
ولو أديت العبادات على النحو الذي أراده الله، لجعلت المؤمن ذا أفق واسع، ونظر حديد، ومحاكمة سليمة، ولجعلته منغمساً في سعادة لا تقوى متع الأرض الحسية أن تصرفه عنها، ولجعلته ذا أخلاق أصيلة، لا تستطيع سبائك الذهب اللامعة، ولا الضغوط المانعة أن تقوضها.
فالمؤمن الحق، كما أراده الله أن يكون كالجبل رسوخاً، وكالصخر صلابةً، وكالشمس ضياءً، وكالبركان تدفقاً، وكالبحر عمقاً، وكالسماء صفاءً، وكالربيع نضارة، وكالماء عذوبة، وكالعذراء حياءً، وكالطفل وداعةً.
2 ـ الصيام من أجل الانتصار على الشهوة :
لقد كان الصيام من أجل انتصار الإنسان على نفسه، كي يقودها نحو سعادتها الأبدية .. فقد رُكِّب المَلَكُ من عقل بلا شهوة، ورُكّب الحيوانُ من شهوة بلا عقل، وركب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن طغت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان.
3 ـ لا تلتزم بهذا في رمضان فقط:
فليست البطولـة أن ننتصر على النفس في رمضان، ثم ننخذل أمامها بقية العام، ولكن البطولة أن نحافظ على هذا النصر على طول الدوران، وتقلبات الزمان والمكان..
وليست البطولة أن نضبط ألسنتنا في رمضان فننزهها عن الغيبة والنميمة، وقول الزور، ثم نطلقها بعد رمضان إلى حيث الكذب والبهتان، ولكن البطولة أن تستقيم منا الألسنة، وأن تصلح فينا القلوب ما دامت الأرواح في الأبدان..
وليست البطولة أن نغض أبصارنا عن محـارم الله، وأن نضبط شهواتنا غير المشروعة في رمضان، ثم نعود إلى ما كنا عليه بعد رمضان.. إنا إذاً كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، ولكن البطولة أن تصوم جوارحنا عن كل معصية في رمضان وبعد رمضان، فلا تفطر حتى تلقى الواحد الديان.
ليست البطولة أن نتحرى الحلال في رمضان خوفاً أن يردّ علينا صيامنا، ثم نتهاون في تحريه بعد رمضان، على أنه عادة من عوائدنا، ونمط شائع في سلوكنا، ولكن البطولة أن يكون الورع مبدأً ثابتاً وسلوكاً مستمراً.
وليست البطولــة أن نبتعد عن المجالس التي لا ترضي الله إكراماً لشهر رمضان، ثم نعود إليها، وكأن الله ليس لنا بالمرصاد في بقية الشهور والأعوام.
وليست البطولة أن نراقب الله في أداء واجباتنا وأعمالنــــا ما دمنا صائمين، فإذا ودعنا شهر الصيام آثرنا حظوظ أنفسنا على أمانة أعمالنا وواجباتنا.
إنّ مثل هذا الإنسان لم يفقه حقيقة الصيام، ولا جوهر الإسلام، إنه كالناقة عقلها أهلها، ثم أطلقوها، فلا تدري لِمَ عقلت، ولا لمَ أطلقت، وهو لا يدري لِمَ صام، ولا لِمَ أفطر.
التوبة:
1 ـ ليست التوبة مقصورة على شهر رمضان:
ومع أن شهر رمضان شهر التوبة والغفران، لكن هذا لا يعني أن التوبة مقصورة عليه محصورة فيه، بل إن أبواب التوبة مفتحة على مصاريعها في كل أشهر العام.
كيف لا والله سبحانه يقول:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
2 ـ الله تعالى يدعو إلى التوبة:
إنه جل وعلا يدعو المسرفين إلى التوبة فكيف بالمقتصدين؟ كيف لا والحق جل وعلا يقول في كتابه العزيز:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
والتوبة النصوح كما قال بعض العلماء: « الندم بالقلب، والاستغفار باللسان والإقلاع عن الذنب ».
كيف لا وفي الحديث القدسي عن أنس بن مالك عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى:
(( يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك، ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ))
إنه شرط واحد: ألا تشرك به.
3 ـ الله يفرح بتوبة العبد:
كيف لا والله أفرح بتوبة التائب من الظمآن الوارد، ومن العقيم الوالد، ومن الضال والواجد:
(( فمن تاب إلى الله توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه وجوارحه وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه ))
كيف لا والحق جل وعلا يقول في الحديث القدسي الذي رواه البيهقي عن أبي الدرداء:
(( أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهــم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب ))
كيف لا وإذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن أيتها الخلائق هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله.
4 ـ التوبة علم وحال وفعل:
والتوبة: علم وحال وفعل.. فهي علم لأنها معرفة ضرر الذنوب، وكيف أنها حجاب بين العبد وبين المحبوب، وهذا العلم يولد حالة نفسية هي الشعور بالندم، على ما اقترف من الذنوب، وعلى ما فات من الخيرات، وهذه الحالة من الندم تولد إرادة وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال وبالماضي، وبالاستقبال.
فالتائب يترك الذنب الذي كان متلبساً به في الحال، والتائب يعزم بقلبه على ألا يعود إليه في الاستقبال، والتائب يسعى لإصلاح ما كان في الماضي، وقد لخص النبي صلى الله عليه وسلم هذه المراحل الثلاث بالندم، فقال فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك:
(( الندم توبة ))
حيث لا يخلو الندم من علم أوجبه، ومن عمل أثمره.
5 ـ صغائر الذنوب تعظم بالإصرار والمواظبة:
وقد بين الإمام الغزالي رحمه الله ما تعظم به صغائر الذنوب، فأدرج منها الإصرار والمواظبة، إذ لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، ومنها استصغار الذنب، فالذنب كلما استعظمه العبد في نفسه صغر عند الله، وكلما استصغره العبد في نفسه كبر عند الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري:
(( إن المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه، يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره ))
ومنها أن يظهر العبد الذنب، ويتهاون بستر الله عليه، وحلمه عنه، وإمهاله إياه، وقد قيل: « لا تنظر إلى صغر الذنب، بل انظر على من اجترأت.. ».
6 ـ العمل الصالح قوام الحياة:
ومع أن رمضان شهر العمل الصالح والقربات، لكن هذا لا يعني أن فرص العمل الصالح قاصرة عليه ، بل إن أبواب الخير مفتحة في كل الشهور، ومسالك القرب نافذة في كل الأوقات..
فالعمل الصالح قوام حياة النفس، كما أن الطعام والشراب قوام حياة الجسد، والفقر في حقيقته، فقر العمل الصالح، والغنى في جوهره وفرة العمل الصالح، والإمام علي كرم الله وجهه يقول: « الغنى والفقر بعد العرض على الله ».
وإذا صح أن المعاصي والمخالفات عقبات كأْداء على الطريق إلى الله، وأن التوبة النصوح إزالة لهذه العقبات، حيث يصبح الطريق إلى الله سالكاً وآمناً، فإنه يصح أيضاً أن العمل الصالح تحركٌ، وتقدمٌ على هذا الطريق.. قال تعالى:
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾
7 ـ العمل الصالح هو المظهر العملي للإيمان:
والعمل الصالح هو المظهر العملي للإيمان، بل هو المشعر به المؤكد لوجوده الدال على صحته، لهذا قرن العمل الصالح بالإيمان في أكثر من مائة آية في كتاب الله، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ﴾
8 ـ مكانة المؤمن عند الله بحجم عمله الصالح:
بل إن مكانة المؤمن عند الله، يحددها حجم عمله الصالح.. قال تعالى:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾
فإذا أردت أن تعرف مقامك، فانظر فيما استعملك..
بل إن تحريك مقام الإنسان عند الله ورفع مستواه، لا يتم إلا بالعمل الصالح.. قال تعالى:
﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾
9 ـ العمل الصالح لابد له من إخلاص ومتابعة:
ولا يكون العمل الصالح صالحاً إلا إذا كان صالحاً للعرض على الله، والحق جل وعلا لا يتقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، فقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى:
(( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، ومن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه ))
فالدرهم الذي يُنفق في إخلاص خير من ألف درهم يُنفق في رياء، وقد وصف الله تعالى، إخلاص المؤمنين فقال:
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ﴾
ولا يكون العمل صالحاً إلا إذا سَلِمَ من التخليط، وهو أن يخلط المرء عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فقد روى الديلمي، في مسند الفردوس أن النبي عليه صلوات الله وسلامه قال:
(( ركعتان من رجل ورع أفضل من ألف ركعة من مخلط ))
وقيل: من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله.
10 ـ ربما كان العمل الصالح مقدماً على العبادة لأنه ثمرتها:
وربما كان العمل الصالح مقدماً على العبادة لأنه ثمرتها، ودليل صحتها، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:
(( لأن أُعين أخي المؤمن على حاجته، أحبُّ إليَ من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام ))
فالخلق عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله..
وقد كان ابن عباس رضي الله عنه معتكفاً في مسجد النبي الشريف، فخرج من المسجد ليمشي في حاجة أخ له، فقيل له : أنسيت أنك معتكف؟ قال: لا، ولكني سمعت صاحب هذا القبر، والعهد به قريب، فدمعت عيناه، يقول:
(( من مشى في حاجة أخيه، وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين ))
وقد رُويَ أن زيد الخير رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما علامة الله فيمن يريد؟ وما علامته فيمن لا يريد؟ فقال: « كيف أصبحت يا زيد؟ ». قال: أصبحت أحب الخير وأهله، وإن قدرت عليه بادرت إليه، وإن فاتني حزنت عليه، وحننت إليه، فقال: « هذه علامة الله فيمن يريد.. ».
فيجب ألا يمنعنا من اصطناع المعروف للناس جحودهم وإساءتهم، فقد روى مالك عن ابن عمر عن علي رضي الله عنه، أن الني صلى الله عليه وسلم قال:
(( اصنع المعروف إلى من هو أهله، وإلى غير أهله ، فإن أصبت أهله، أصبت أهله، وإن لم تصب أهله، كنت أنت أهله ))
11ـ من أفضل الأعمال الصالحة مجاهدة العدو:
أيها الإخوة المؤمنون في دنيا العروبة والإسلام، حينما تسلب أرض شعب، وتُنهب ثرواته، وتنتهك حرماته، وتداس كرامته، وتقهر إرادته، وتفسد عقائده، وتفّرغ قيمه، ويُزوِّر تاريخه، ويحمل على الفساد والإفساد، وتمارس عليه ألوان التجهيل، والتجويع، والتعذيب على يد أعدائه، أعداء الله، أعداء الحق، وأعداء الخير، وأعداء الحياة، فعندئذ لا يكون من عمل صالح أعظم عند الله تعالى من مجاهدة هذا العدو الغاصب والضرب على يده لتكون كلمة الله هي العليا، قال الإمام علي كرم الله وجهه: « إن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة وجُنّته الوثيقة، فمن تركه رغبةً عنه، ألبسه الله ثوب الذل، وشملةَ البلاءِ، ودُيِّثَ بالصغار والقماءة ».
أيها الإخوة المؤمنون، من هنا كانت انتفاضة أهلنا في الأراضي المحتلة، تأكيداً لمعاني الجهاد والاستشهاد، وتجسيداً لقيم التضحية والفداء، وترسيخاً لفضائل البذل والعطاء، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾
اللهم علمنا بما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً.
الخطبة الثانية:
التوبة والعمل الصالح أساس الصحة النفسية:
إن الحديث عن التوبة، وعن العمل الصالح بعد رمضان يقودنا إلى الحقائق التالية:
لقد فُطر الإنسان فطرةً عالية، وكيف لا تكون عالية، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، فإذا حاد الإنسان عن مبادئ فطرته، وخرق حدود إنسانيته بالإثم والعدوان اختل توازنه النفسي، وأحس بكآبــة مدمره لصحته النفسية، وهذا ما يسمى عند علماء النفس بالتوتر النفسي، الذي هو سبب رئيسي لكثير من الأمراض التي تصيب العضوية، كتسرع ضربات القلب واضطرابها، وتضيُّق الشرايين الاختلاجي، وارتفاع ضغط الدم ذي المنشأ العصبي، الذي هو في حقيقته ارتفاع لضغط الدم، وتقرحات الجهاز الهضمي، وأمراض الحساسية، وأمراض الأعصاب، والشلل العضوي ذي المنشأ النفسي.
حينما يصطلح الإنسان مع الله فيتوب من ذنوبه، ويستقيم على أمر ربه، ويعمل الصالحات تقرباً إليه عندئذ يشعر بأنه قد أزيح عن صدره كابوس ضاغط، كأنه جبل جاثم، وأن ظلمات بعضها فوق بعض قد تبددت من أمامه، وأن مشاعر الكآبة والضيق قد اختفت إلى غير رجعة، وعندئذ يشعر أن في قلبه من الطمأنينة والسعادة ما لو وُزعت على أهل بلد لأسعدتهم جميعاً، وعندها تتأثر العضوية بهذه الصحة النفسية، تأثراً إيجابياً، فتزول أعراض أكثر الأمراض العضوية ذات المنشأ النفسي.
فالتوبة والعمل الصالح، أساس الصحة النفسية، والصحة النفسية أساس صحة الجسد، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:
(( استقيموا ولن تحصوا ))
وقد وضح الإمام المناوي في شرح هذا الحديث أنه: « إذا استقمتم فلن تحصوا الخيرات التي تجنونها من الاستقامة ».