- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله، ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي، ولا اعتصامي، ولا توكلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أنواع الظلم :
1 ـ ظلم الإنسان لربه :
أيها الأخوة الكرام، موضوع هذه الخطبة الظلم ظلمات يوم القيامة ، وهو أنواع ثلاثة : النوع الأول: ظلم الإنسان لربه، وذلك بأن يكفر بالله تعالى، وفي القرآن الكريم:
﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ ﴾
ويكون بإنكار وجوده أو بالشرك في عبادته وذلك بصرف بعض عبادته لغيره سبحانه وتعالى، قال عز وجل:
﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾
هذا النوع الأول.
2 ـ ظلم الإنسان نفسه :
أما النوع الثاني فظلم الإنسان نفسه، وذلك باتباع الشهوات، وترك الواجبات، واقتراف الذنوب والسيئات، قال عز وجل:
﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
3 ـ ظلم الإنسان لغيره من عباد الله ومن مخلوقاته :
النوع الثالث:ظلم الإنسان لغيره من عباد الله ومخلوقاته ، وذلك بأكل أموال الناس بالباطل ، وظلمهم بالضرب والشتم والتعدي والاستطالة على الضعفاء ، والظلم يقع غالباً بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار. ويقع في رأس الظلم سفك دم إنسان بريء ... بغير حق ، يقول أحد العلماء : ما من قطرة دم تراق في الأرض من آدم إلى يوم القيامة إلا ويتحملها إنسان يوم الحساب يوم يقوم الناس لرب العالمين ، إلا دم المقتول بحد فيتحمل الله دمه .
أيها الأخوة الكرام، يقول أحد العلماء: "ما من قطرة دم تراق في الأرض من آدم إلى يوم القيامة إلا ويتحملها إنسان يوم القيامة". لذلك ورد أن المسلم يظل بخير ما لم يسفك دماً، وهذا كلام موجه لكل الأطراف من دون استثناء.
الشرك هو السبب الأول للظلم :
أيها الأخوة الكرام، والشرك في أوسع معانيه هو السبب الأول للظلم ، فحينما يتوهم الإنسان أنه قوي وأنه بإمكانه أن يوقع الأذى بالآخرين أو أن يسفك دماءهم ، من دون أن يحاسب ، ثم يفاجأ ـ بعد فوات الأوان ـ أنه ضعيف ، وأنه فقد في لحظة واحدة كل أسباب قوته ، وأنه في قبضة الله ، وأنه لن يترك سدىً ؛ يدرك أعمق الإدراك معنى قوله تعالى :
﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ﴾
ويدرك أيضاً أعمق الإدراك معنى قوله تعالى:
﴿ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾
وحينما تغيب عن المرء حقيقة التوحيد الذي هو أصل الدين، ومن أبرز مسلمات التوحيد أن كل شيء وقع أراده الله، لكن أريد أن أؤكد لكم معنى أراده أي سمح بوقوعه، وقد يكون هذا الذي وقع والذي سمح الله بوقوعه، أو الذي أراد الله وقوعه لم يأمر بوقوعه، ولم يرض عن وقوعه ولكن اقتضت حكمته أن يقع لحكمة بالغة بالغة عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها، لأنه لا يليق بمقام الألوهية أن يقع في ملكه ما لا يريد، كالأب الطبيب تماماً الذي يسمح بإجراء عمل جراحي لابنه الحبيب، وكان يتمنى ألا يحتاج ابنه لهذا العمل الجراحي، معنى أراد أي سمح فقط لم يأمر ولم يرضَ ولكن هذا من مقتضيات حكمة الله عز وجل.
قال تعالى:
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين﴾
وأن الذي وقع لو لم يقع لكان عدم وقوعه نقصاً في حكمة الله، قال تعالى:
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
والمقولة التي هي أصل في العقيدة : أن كل شيء وقع أراده الله ، وكل شيء أراده الله وقع ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق ؛ والفهم التوحيدي للظلم الذي يقع على عباد الله .... يلغي الشعور بالحقد ، ويلغي الشعور بالقهر ؛ لكنه لا يلغي مطلقاً ، وجوب دفع الظلم بالطرق التي شرعها الله ... والدليل على ذلك حادث الإفك الذي اتهمت فيه السيدة عائشة بأثمن ما تملكه المرأة المؤمنة ، فقال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ َ ﴾
والفهم التوحيدي للظلم لا يلغي مسؤولية الظالم ، ولا يلغي مشروعية مقاومة الظلم ، ولا يلغي معاقبة الظالم ، قال تعالى :
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ *وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ُ ﴾
ولكن الفهم التوحيدي للظلم يلغي مرارة الشعور بالقهر ، ويلغي الحقد المدمر ، ويلغي الانتقام العشوائي ، لأن الإيمان قيد الفتك ، ولا يفتك مؤمن ، لأن قوله تعالى :
﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ٌ ﴾
هذا الفهم التوحيدي للظلم يمنع الثأر العشوائي ، ويدفع إلى المطالبة بالحق الذي شرعة الله له في محكم كتابه :
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ*وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ*وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ*إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ*وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾
الفهم التوحيدي للظلم يلغي مرارة الشعور بالقهر :
أيها الأخوة الكرام، الفهم التوحيدي للظلم يلغي مرارة الشعور بالقهر، يلغي الحقد المدمر، يلغي الانتقام العشوائي، وأن الإيمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن، ولأن قوله تعالى:
﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى*وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى*أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
ينبغي ألا تُحمّل إنساناً بريئاً ذنب إنسان مذنب:
﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
وهذه الآية أصل في التفاعل مع الأحداث:
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى*وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى*ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى*وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى*وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى*وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴾
هذا الفهم التوحيدي للظلم يمنع الثأئر العشوائي ويدفع إلى المطالبة بالحق الذي شرعه الله في محكم كتابه:
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ*وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾
الله عز وجل عليم بكل شيء :
ولو سأل سائل، أليس الله يعلم بما يجري؟ فالجواب بلى، سؤال آخر أليس الله يقدر على أن يمنع القوي من إيقاع الأذى بالضعيف؟ فالجواب بلى، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4)سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ(5)وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ(6)يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾
السؤال الثالث: وهل يعقل أن الله عز وجل لا يعنيه ما يجري؟ الجواب مستحيل وألف ألف مستحيل، قال تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ْهِ﴾
القوي المعتدي لا يستطيع أن يتفلت من عقاب الله عز وجل :
سؤال آخر: والقوي هل يستطيع أن يعمل عملاً ما أرداه الله؟ الجواب لا وألف لا، وأما قوله تعالى:
﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ﴾
معنى سبقوا أي أن القوي لا يستطيع أن يفعل شيئاً ما أراده الله، معنى سبقوا أيضاً أن القوي المعتدي لا يستطيع أن يتفلت من عقاب الله، ومعنى ذلك أن خطة الله استوعبت خطة القوي، ووظفها للخير المطلق، والشر المطلق وهو الشر للشر لا وجود له في الكون لأنه يتناقض مع وجود الله، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
لم يقل بيدك الخير والشر ، بل قال بيدك الخير ، ومعنى ذلك أن إيتاء الملك خير ، ونزعه خير لكل الأطراف . والمعنى أن القوي الظالم لا يمكن أن يفعل شيئاً ما أراده الله ، ولا أن يتفلت من عقاب الله ، ولكن الله جل جلاله يطمئن الضعيف المظلوم بقوله تعالى :
﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ*َ ﴾
والإمام الحسن البصري وهو من كبار التابعين يرى أن ظلم القوي نوع من ابتلاء الله لعباده، وأن هذا الابتلاء لا يدفع بالسيوف وحدها إنما يدفع بالتوبة والإنابة أولاً، ثم بإعداد القوة المتاحة ثانياً كما فعل صلاح الدين الأيوبي، حينما أزال المنكرات أولاً، وبعدها واجه جيوش الفرنجة، وانتصر عليهم، وهذا درس بليغ في مواجهة العدو الإسرائيلي، وغيره من الأعداء وما أكثرهم، وقوله تعالى:
﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾
وقوله تعالى:
﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾
فالإنسان خلق ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره، ولو خلق قوياً لاستغنى بقوته وشقي باستغنائه.
التصورات الخاطئة التي يقع بها الإنسان تتناقض مع مسلمات إيمانه :
أيها الأخوة الأحباب، ينطلق الإنسان مرة ثانية إلى إيقاع الظلم بأخيه الإنسان حينما يتصور مخطئاً أن جهةً لن تحاسبه، وأنه لن يدفع ثمن ظلمه غالياً، وأن القوي الظالم هو الفائز، وأن الضعيف المظلوم هو الخاسر، هذا التصور يوقع الإنسان في حالة نفسية خطيرة يخشى معه ألا يموت مؤمناً، يموت على غير الإيمان، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾
وقال أيضاً:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾
أيها الأخوة الكرام، هذا التصور يتناقض مع مسلمات الإيمان بل يتناقض مع وجود الله.
من قال على الله ما لا يعلم فقد أوقع الناس في طريق مسدود :
قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
لقد جعل القرآن الكريم ( أن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) فوق الفواحش ، والآثام ، والبغي في الأرض ، لأن القنوت من رحمة الله ، واليأس من النصر ، يوقع الإنسان في طريق مسدود ، وفي قنوط من رحمة الله ، ويأس من نصره : وهذا كفر بأسمائه الحسنى ، وصفاته الفضلى ، لذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((حسن الظن بالله من حسن العبادة))
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجل: أنصره إذا كان مظلوماً أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإنّ ذلك نصره))
العصبية :
هناك موضوع آخر متصل بالظلم، موضوع العصبية لقد عرف النبي عليه الصلاة والسلام العصبية حينما سئل عنها فقال:
((أن تعين قومك على الظلم ))
ثم نفى النبي عليه الصلاة والسلام أشد النفي أن يكون من دعا إلى عصبية، أو قاتل على عصبية، أو قتل على عصبية نفى انتماءه إلى المسلمين، وهذه العبارة في الحديث النبوي من أشد أنواع الوعيد في منهج النبي عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام:
((ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية ))
وفي حديث آخر : فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((يَجِيءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ , فَيَقُولُ : يَا رَبِّ, هَذَا قَتَلَنِي. فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: لِمَ قَتَلْتَهُ؟ ...فَيَقُولُ : لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِفُلَانٍ . فَيَقُولُ : إِنَّهَا لَيْسَتْ لِفُلَانٍ. فَيَبُوءُ بِإِثْمِهِ))
قال:
((أَمِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ قَالَ لَا وَلَكِنْ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ ))
وفي حديث آخر : فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((لا ، ولكن العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم ))
تحريم الظلم بكل أنواعه :
أيها الأخوة الكرام، والإسلام من خلال الكتاب والسنة يحرم أشد التحريم الظلم بكل أنواعه، ومستوياته، ومسبباته، ونتائجه:
((عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ))
أيها الأخوة الكرام، لقد توعد النبي عليه الصلاة والسلام أمته من بعده أن تقع في الظلم فقال:
((اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ))
وفي حديث آخر عن النبي عليه الصلاة والسلام:
(( إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ - أي الحرص على تملك القوة، ومع القوة المال، ومع المال الشهوة- وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ دَعَا مَنْ قَبْلَكُمْ فَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ وَسَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَقَطَّعُوا أَرْحَامَهُمْ ))
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا وَبِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَبِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ أَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ رَجُلٌ آخَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ قَالَ أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ ربك))
تطابق منهج الله عز وجل مع فطرة الإنسان :
والحقيقة الصارخة أن منهج الله عز وجل ينطبق أتم التطابق مع فطرة الإنسان، قال تعالى:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
فالله جلّ جلاله حينما وصف هذه الأمة بالخيرية بيّن علة هذه الخيرية، وهي أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر قال تعالى:
﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾
والمعروف سمي كذلك لأن الفطر السليمة تعرفه بداهة، سمي المنكر منكراً لأن الفطر السليمة أيضاً تعرفه بداهة، وهذا ما حدا بالعلماء أن يسموا الدين الإسلامي دين الفطرة، لأن الحق ما جاء به النقل الصحيح، وقبله العقل الصريح، وارتاحت إليه الفطرة السليمة، وأكده الواقع الموضوعي، فأمتنا الإسلامية إن لم تأمر بالمعروف وإن لم تنهَ عن المنكر فقدت خيريتها، وحينما تفقد خيريتها تصبح أمة كأي أمة خلقها الله لا شأن لها عند الله، أي هان أمر الله عليها فهانت على الله، والله تعالى ردّ على الذين قالوا:
﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾
فردّ عليهم وقال:
﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾
الحديث التالي يوضح أن دين الإسلام هو دين الفطرة :
أيها الأخوة الكرام، الذي يؤكد أن دين الإسلام دين الفطرة هو أن النبي حينما سأله أحد أصحابه:
((بأبي أنت وأمي يا رسول الله أفتنا عن أمر نأخذه عنك من بعدك؟ قال : لتعنك نفسيك فقال: كيف لي بذلك فقال: تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وأن أفتاك المفتون فقلت: وكيف لي بعلم ذلك؟ قال : تضع يدك على فؤادك فإن القلب يسكن للجلال ولا يسكن للحرام وأن الورع المسلم يدع الصغير مخافة أن يقع في الكبير قلت : بأبي أنت وأمي ما العصبية؟ قال: الذي يعين قومه على الظلم قلت: فمن الحريص؟ قال: الذي يطلب المكسبة من غير حلها قلت: فمن الورع؟ قال: الذي يقف عند الشبهة قلت: فمن المؤمن؟ قال: من أمنه الناس على أموالهم ودمائهم قلت: فمن المسلم؟ قال : من سلم الناس من لسانه ويده قلت: فأي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حكم عند إمام جائر ))
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.
* * *
الخطبة الثانية:
الحمد لله، ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي، ولا اعتصامي، ولا توكلي إلا على الله.
الظلم ثلاثة: ظلم لا يغفره الله وظلم يغفره الله وظلم لا يترك الله منه شيئًا :
أيها الأخوة الكرام، لقد صنف النبي عليه الصلاة والسلام الظلم في أنواع ثلاثة:
((الظلم ثلاثة: ظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يترك الله منه شيئًا؛ فأما الظلم الذي لا يغفره الله هو الشرك، وقال: { إِنَّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ...))
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾
((... وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فهو بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضًا حتى يدين لبعضهم من بعض))
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( يُغْفَرُ للشهيد كلُّ ذَنْب إلا الدَّيْنَ ))
أيها الأخوة آخر فكرة في هذه الخطبة، هل تصدقون أن النبي وصف المجتمع الإسلامي من بعده في آخر الزمان بالمجتمع الكافر حينما يضرب بعضهم رقاب بعض، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ))
عوداً على بدء، يظل المسلم بخير ما لم يسفك دماً.
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.