أعزَّائي المستمعين إخوتي المؤمنين ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
فصيامُ رمضان عبادة من عبادات الإسلام ، ولا تتَّضح حقيقةُ العبادات إلا إذا رُبِطت بأصول الدين .
لماذا وُجِدتُ ؟ وما مهمَّتي في هذا الوجود ؟ وماذا بعد الموت ؟
سؤالٌ واجب على كل إنسان أن يطرحه على نفسه ، وأن يفكِّر مليّا في الإجابة عنه .
فإن كل جهلٍ مهما عظُمت نتائجُه فقد يُغتفَر إلا أن يجهل الإنسانُ سرَّ وجوده وغاية وجوده ورسالةَ نوعه .
فعليه أن يعرف من أين وإلى أين ولماذا ؟
وأكبرُ عارٍ على هذا المخلوق الأول والمكرَّم الذي أوتيَ العقلَ والإرادة أن يعيش غافلا يأكل ويتمتَّع كما تأكل الأنعام ، لا يدري شيئا عن حقيقة نفسه وطليعة دوره في الحياة ، قال تعالى :
﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)﴾
أي ما عرف قدرها ، وليست قصةُ الإنسان كما يتوهَّم الماديُّون ؛ أرحامٌ تدفع وأرضٌ تبلع ، والإنسانُ بين صَرخة الوضع وأنَّة النزع يعاني ما يعاني ، ولا خلودَ ولا جزاءَ ، يستوي في ذلك من أحسن غاية الإحسان ومن أساء كلَّ الإساءة ، يستوي في ذلك من عاش عمرَه للناس على حساب شهواته ، ومن عاش عمرَه لشهواته على حساب الناس ، يستوي في ذلك من ضحَّى بحياته في سبيل الحقِّ ، ومن اعتدى على حياة الآخرين في سبيل الباطل ، قال تعالى :
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)﴾
و قال تعالى :
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾
و قال تعالى :
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
أيها الإخوة الكرام ؛ لقد خلق اللهُ الإنسانَ ليكون خليفته في الأرض ، قال تعالى :
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)﴾
وأول شيء في هذه الخلافة : أن يعرف ربَّه حقَّ المعرفة ، قال تعالى :
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)﴾
وثاني شيء في هذه الخلافة : أن يعبده حقَّ العبادة ، قال تعالى :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
فالماءُ للأرض ، والأرض للنبات ، والنباتُ للحيوان ، والحيوان للإنسان ، والإنسان لمَن ؟.
الإنسان لله ، لمعرفته ، لعبادته ، لا لعبادة بشرٍ ولا حجر ولا بقر ولا شجر ، ولا شمس ولا قمر .
ابنَ آدم اُطلُبني تجدني ، فإن وجدتَني وجدتَ كلَّ شيء ، وإن فِتُّك فاتك كلُّ شيء ، ويا ربي ماذا وجد من فقدك ، وماذا فقد من وجدك ، وإذا كان اللهُ معك فمن عليك ، وإذا كان الله عليك فمن معك .
إن معرفة الله موجودا وواحدا وكاملا هي نهايةُ العلم ، وإن طاعته والتقرُّبَ إليه هي نهايةُ العمل ، وهاتان الحقيقتان هما فحوى رسالات الأنبياء جميعا ، قال تعالى :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
والعبادةُ هي غاية الخضوع مع غاية الحبِّ ، فمن خضع و لم يحبَّ لا يكون عابدا ، ومن أحبَّ ولم يخضع لا يكون عابدا ، الخضوعُ والحبّ هو ما فُطر عليه الإنسانُ ، قال تعالى :
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾
لذلك نلمَح في العبادة أمرين :
الأول : هو الالتزامُ بما شرعه اللهُ تعالى ، أمرا ونهيا وتحليلا وتحريما ، فليس عبدا لله ولا عابدا له من استكبر عن اتِّباع منهجه والانقياد لشرعه ، وإن أقرَّ بأن الله خالقُه ورازقُه ، وإن دعاه في الكُرُبات واستغاثه في الشدائد ، وأساس الخضوع لله هو الشعورُ الواعي بوجود الله ، ووحدانيته ، وعلمه ، ومحاسبته ، وبأنه وحده يملك النفعَ والضرَّ والخير والشرَّ والحياة والموت ، له الخلقُ والأمر ، وما شاء اللهُ كان ، وما لم يشأ لم يكن ، إليه يرجع الأمرُ كلُّه ، يحكم لا معقب لحكمه ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ، وكلما ازداد ذلك الشعورُ الواعي عمقًا واتِّساعا قوِيَ الاتِّجاهُ إلى الله والاعتمادُ عليه و السعادة بقربه .
والشيء الثاني : أن يصدر هذا الالتزام عن قلب يحبُّ اللهَ تعالى ، فليس في الوجود من هو أجدرُ من الله بأن يُحبَّ فهو صاحبُ الفضل والإحسان ، خلق الإنسانَ ولم يكن شيئا مذكورا ، وخلق له ما في الأرض جميعا ، وأسبغ عليه نعمه ظاهرةً وباطنةً ، خلقه في أحسن تقويم ، وكرَّمه أعظم تكريم ، فضَّله على كثير من العالمين ، ورزقه الطيِّباتِ ، ويسَّر له القرُبات ، واستخلفه في الأرض ، نفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته .
أيها الإخوة الأحباب ؛ الصيامُ عبادة ، ومن لوازم هذه العبادة الخضوع لأمر الله في كلِّ ما أمر وأن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما .
اللهم لأخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة و العلم و من وحول الشهوات إلى جنات القربات واجعلْ صيامَنا وقيامنا خالصا لك .
أيها الإخوة الأحباب ؛ أشكر لكم إصغاءكم و إلى لقاء آخر إن شاء اللهُ تعالى .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته