الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
النصير اسم من أسماء الله الحسنى:
أيها الإخوة الكرام؛ الاسم اليوم النصير، هذا الاسم ورد مُطلقاً النصير، مراداً به العلميّة، ودالاً على كمال الوصفية، وهو صيغة مبالغة، وصيغ المبالغة تعني شيئين؛ تعني مبالغة كمّ،

ومبالغة نوع، أي مهما يكن العدو قوياً فالله نصير، ومهما تكن الموضوعات المتعلقة بالأعداء كثيرة فالله سبحانه وتعالى نصير.
ورود اسم النصير مطلقاً ومقيداً:
نصير مع أقوى عدو، ونصير مع أكثر الأعداء تنوعاً، لذلك هذا الاسم ورد مطلقاً،

وورد مقروناً باسم المولى في آيتين فقط، الآية الأولى:
﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)﴾
﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)﴾
ورد هذا الاسم أيضاً مقيداً في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام،
(( فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ. ))
لكن ما من اسم يحتاجه المسلمون اليوم كهذا الاسم، لكن هذا النصر له قواعد؛ أول حقائق النصر أن النصر من عند الله، وحينما يتوهم المسلمون أن النصر من عند زيد أو عبيد فقد وقعوا في وهمٍ كبير، قال تعالى:
﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)﴾
﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)﴾
إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ ولكن هناك نصر استحقاقي، فالمؤمن حينما يكون على ما ينبغي وينتصر فهذا النصر سماه العلماء: النصر الاستحقاقي، يؤكد هذا المعنى قوله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)﴾
كان أصحاب النبي من الافتقار ومن الاستقامة ومن التوحيد ما استحقوا به نصر الله عز وجل.
النصر الاستحقاقي ثمنه الإيمان والإعداد:
بالمناسبة حينما قال تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾ في هذه الآية معنى ذلك أن هذا النصر من عند الله ولكن له ثمن، ما ثمن النصر؟ الإيمان والإعداد، الإيمان الذي يحملك على طاعة الله، والإعداد المُتاح فقط، الآية الأولى:
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾
كلام خالق الأكوان، وزوال الكون أهون عند الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين.
﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)﴾
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)﴾
الشرط الأول للنصر النصر من عند الله لكن له ثمن، البند الأول في الثمن الإيمان الذي يحمل على طاعة الله، أما الإيمان الذي لا يحمل على طاعة الله لا قيمة له إطلاقاً.
الآن الإعداد:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾

لكن رحمة الله في أنه كلفنا أن نُعِدّ العدة المتاحة، وليست المكافئة، وفرق كبير بين أن نُعِدّ العدة المكافئة، وهذا مستحيل الآن، وبين أن نُعدّ العدة المُتاحة، أنا حينما أؤمن الإيمان الذي يحملني على طاعة الله، وحينما أُعدّ لأعدائي العُدة المتاحة عندئذ أكون قد دفعت ثمن النصر، وما لم يُدفع ثمن النصر فالنصر مستحيل، وهذه الحقيقة المرة التي هي أفضل ألف مرة من الوهم المريح، إذاً النصر من عند الله، وله ثمن، الثمن له بندان؛ الأول الإيمان، الثاني الإعداد.
الآن إذا آمنا ولم نُعد لا ننتصر، وإذا أعددنا ولم نؤمن لا ننتصر، لذلك قالوا: الإيمان والإعداد شرطان كل منهما لازم، لا يُحَقق الثاني إلا إذا كان الأول، أي كل شرط من هذين الشرطين شرط لازم غير كاف، ما لم يتحقق الشرطان معاً لن يكون النصر، وحينما نتعامل مع الله وفق قواعده القرآنية، وفق قوانينه، وفق نواميسه نقطف الثمرة، أما إذا تعاملنا مع الله تعاملاً ضبابياً، مزاجياً، يا رب انصرنا، وما لم ندفع الثمن فلن ننتصر، إذًا النصر من عند الله، وله ثمن، ثمنه الإيمان والإعداد، أي إيمان؟ كلّ يدّعي أنه مؤمن، الإيمان الذي يُترجم إلى استقامة، الإيمان الذي يحملك على طاعة الله، لذلك لماذا لم ينتصر المسلمون في أُحُد؟ لأنهم عصوا، ولو أنهم انتصروا لسقطت طاعة رسول الله، لو أنهم انتصروا في أُحد لسقطت طاعة رسول الله، ولماذا لم ينتصر المسلمون في حُنين؟ طبعاً بأُحُد وقعوا في معصية لرسول الله، أما في حُنَين وقعوا في شرك خفي، فقالوا: لن نهزم مِن قلة، إذًا إما لسبب سلوكي في أُحد، أو لسبب اعتقادي في حنين، يوجد شرك خفي: لن نُغلب من قلة، قال تعالى:
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)﴾
درسان بليغان من معركتي أُحُد وحُنين:
الآن نستنبط من وقعة أحد ووقعة حنين أن هناك درسين بليغين، الأول: حينما تقول: الله، يتولاك الله عز وجل، وحينما تقول: أنا، يتخلى عنك، وهذا الدرس نحتاجه كل يوم، بل كل ساعة، قل: أنا بعلمي، واختصاصي النادر، وخبراتي المتراكمة، ومالي العريض، وجاهي الكبير، يتخلى الله عنك، في حرفتك، في مهنتك، لا تقل: أنا، أنا كلمة مُهلكة، قل: الله، فإذا قلت: الله، في زواجك، في عملك، في حرفتك، حينما تقابل عدواً يتولاك الله، فإذا قلت: أنا، يتخلى عنك، وما أشدّ هذين الدرسين عظة وفهماً لما يجري في العالم.
لذلك حينما نعتدّ بأنفسنا يتخلى الله عنا، ما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته، فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطّعت أسباب السماء بين يديه، كلام دقيق جداً.
فلذلك أيها الإخوة الكرام؛ النصر من عند الله، وله ثمن، وما لم يُدفع الثمن فلن نشُمّ رائحة النصر، وهذه هي الحقيقة المُرة التي هي أفضل ألف مرة من الوهم المريح، فالنصر الأول هو النصر الاستحقاقي، حينما ندفع ثمنه إيماناً مُترجماً إلى التزام، إلى وقوف عند الحلال والحرام، إلى فعل ما ينبغي، إلى تطبيق منهج الله، إلى أن يرانا الله حيث أمرنا، إلى أن يفتقدنا حيث نهانا، والثمن الثاني أن نُعِدّ القوة المتاحة.
التوكل من دون إعداد تواكل:
لذلك التوكل من دون إعداد تواكل، وهو معصية، أن تقول: يا رب توكلت عليك، ولا تفعل شيئاً، سيدنا عمر رأى رجلاً معه جمل أجرب، قال: يا أخا العرب ما تفعل بهذا الجمل؟ فقال: أدعو الله أن يشفيه، قال: هلا جعلت مع الدعاء قطراناً؟
رأى سيدنا عمر أناساً يتكففون الناس في الحج، قال: مِن أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: كذبتم، المتوكل من ألقى حبة في الأرض، ثم توكل على الله، النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( عن عوف بن مالك الأشجعي: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قضَى بينَ رجُلَيْنِ فقالَ المقضيُّ عليهِ لما أدبرَ : حسبيَ اللَّهُ ونعمَ الوَكيلُ. فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ردُّوا عليَّ الرَّجلَ. فقالَ: ما قلتَ؟. قالَ: قلتُ: حسبيَ اللَّهُ ونعمَ الوَكيلُ. فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: إنَّ اللَّهَ يلومُ علَى العجزِ، ولَكِن عليكَ بالكَيسِ، فإذا غلبَكَ أمرٌ فقُلْ: حسبيَ اللَّهُ ونعمَ الوَكيلُ. ))
[ إسناده صحيح، المحدث: أحمد شاكر المصدر: عمدة التفسير ]
هكذا أن نستسلم، ليس بيدنا شيء، انتهينا، هذا كلام الضعفاء، كلام ضعاف الإيمان، كلام الجهلة، الله موجود: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وزوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين، الله موجود، الله فعّال:
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ آيات التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
إذاً: النصر الأول هو النصر الاستحقاقي، حينما يُدفع ثمن النصر، إيمان بالله يحمل على طاعته، وإعداد للقوة المتاحة، وليست المكافئة، الآن هناك نصر آخر سماه العلماء: النصر التفضلي، دليله في القرآن الكريم الآية الكريمة قال تعالى:
﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)﴾
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ في هذه الآية إعجاز، بعد أن اكتُشفت أشعة الليزر أمكن قياس المسافات بدقة متناهية، أمكن قياس المسافة بين الأرض والقمر بدقة متناهية، أمكن قياس المنخفضات والأغوار بدقة متناهية، وبعد أن اكتُشفت هذه الأشعة تبيّن أن أخفض نقطة في الأرض غور فلسطين، والروايات التاريخية تُؤكد أن هذه المعركة التي جرت بين الروم وبين الفرس كانت في غور فلسطين، فقال الله عز وجل:
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ*فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ الروم أهل كتاب، وأهل الكتاب مشركون، ومع ذلك انتصروا، هذا النصر ليس استحقاقياً، ولكنه نصر تفضُّلي، فنحن في أدعيتنا نقول: يا رب، إن لم نكن نستحق النصر الاستحقاقي فانصرنا نصراً تفضُّلياً، النصر التفضلي أي أن المنتصر ليس كما ينبغي، ولكن حكمة الله اقتضت أن ينتصر، لذلك أثبت الله للصحابة الكرام وهم نخبة البشر فرحهم بهذا النصر، أي:
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ*فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ هذا النصر التفضلي، إذا كانت هناك فئة ليست كما ينبغي، وانتصرت على الكفار وأعداء الله، هذا شيء ينبغي أن نفرح له بنصّ هذه الآية، هذا النصر الثاني النصر التفضلي.
لكن هناك نصر ثالث، ما هو؟ النصر المبدئي:
﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)﴾
الآن كلام دقيق، أصحاب الأخدود انتصروا؟ بالمقياس التقليدي لم ينتصروا، أحرقهم الملك، ولكنهم انتصروا نصراً مبدئياً لأنهم ثبتوا على إيمانهم بالله.
وبالمناسبة مسيلمة الكذاب قبض على صحابيين، وقال للأول: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما سمعت شيئاً، فقتله، وقال للثاني: أتشهد أني رسول الله؟ قال: أشهد أنك رسول الله، الآن استمعوا إلى ما قاله النبي الكريم عن هذه الحادثة، قال: أما الأول فأعزّ دين الله فأعزه الله، الذي قُتِل، النبي عليه الصلاة والسلام عدَّه منتصراً، لأنه ثبت على مبدئه، من هذا النوع من النصر ماشطةُ بنت فرعون، جاؤوا بأولادها الخمس، لأنها قالت لما وقع المشط من يدها: يا الله، البنت قالت لها: ألك رب غير أبي؟ قالت: الله ربي ورب أبيك وربك، فحدثت أباها، فجاء بقِدر من النحاس، وجعل فيه زيتاً مغلياً، وجاء بأولادها الخمس، أمسك الأول، قال: ألك رب غيري؟ قالت: الله ربي وربك، فألقى الأول في الزيت المغلي فظهرت عظامه طافية على سطح الزيت، أمسك ولدها الثاني، ألك رب غيري؟ قالت: الله ربي وربك، ألقى الثاني، ألقى الثالث، ألقى الرابع، الخامس رضيع، فلما قال لها: ألك رب غيري؟ فسكتت، أي تضعضعت، ورد هذا في الأحاديث الصحيحة، فأنطق الله ولدها الرضيع، قال: اثبتي يا أمي أنت على حق، وألقاه في الزيت، ثم ألقاها في الزيت، معنى هذا لم تنتصر، هذه انتصرت نصراً مبدئياً، أي ثبتت.

فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام في الإسراء والمعراج شمّ رائحة لم يشُم من قبلها إطلاقاً، قال: يا جبريل، ما هذه الرائحة؟ رائحة طيبة جداً، قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون، فلذلك النصر المبدئي يمكن ألا تنتصر بالمقياس التقليدي، لكنك مُتّ على الإيمان، هذا نصر مبدئي، وفي هذا المعنى تسلية وتطمين لكل مَن قُتِل وهو على حق.
فقال النبي: أما الأول فأعزّ دين الله فأعزه الله، القلق على من؟ على الثاني الذي قال: أشهد أنك رسول الله، يا الله ما أعظم هذا الدين! قال: وأما الثاني فقد قَبِل رُخصة الله، ما كلف الله الإنسان فوق ما يستطيع، لذلك لو أن الماشطة قالت: أنت ربي، لا شيء عليها، ولكن لو أخذ كل المؤمنين بالرُّخص ما بقي هناك بطولات أبداً، ابن حنبل لم يقبل بخلق القرآن، دخل السجن وعُذِب، لذلك الأمة بحاجة لمن يدفع ثمن مبدئه غالياً، لو كل إنسان أخذ بالرُّخص لم يعد بالأرض بطولات إطلاقاً.
لذلك هناك نصر مبدئي؛ أن يموت الإنسان وقد أعلن مبدأه صراحة، ولم يساوم عليه، لكن مرة كنت في بلد إسلامي، تركيا، وذكرت هذه القصة، قلت: أما الأول–فقط للتقريب-أعطي مئة ألف دولار، أما الثاني أعطي مئة ألف ليرة تركية، أي يوجد أجر لكن ليس كالأول، الأول ضحى بحياته من أجل مبدئه، كل شيء بثمن، كل شيء له حساب عند الله عز وجل.
أيها الإخوة الكرام؛ درس بدر وحنين، تقول: الله، يتولاك، تقول: أنا، يتخلى عنك، وهذا الدرس نحتاجه كل يوم، وفي كل ساعة، وفي بيوتنا، وفي أعمالنا، وفي حرفنا، وفي مواجهتنا لمن نخافهم، قل: الله، يتولاك الله.
قصص القرآن قوانين سارية في كل زمان ومكان:
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)﴾
لا يوجد أمل، فرعون من ورائهم، والبحر من أمامهم، فرعون بطغيانه وجبروته وحقده ولؤمه وقوته وراءهم، والبحر أمامهم.
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)﴾
لذلك أحياناً الله عز وجل يقلِب القصص القرآنية إلى قوانين، سيدنا يونس وهو في بطن الحوت:
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
إذًا أول نصر استحقاقي، الثاني تفضُّلي، الثالث مبدئي، فالإنسان لا يعدم أن ينتصر نصراً مبدئياً، هذا بإمكانه.
لا للإحباط وسوءِ الظن بالله:
شيء آخر:
﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)﴾

عنده وهم خاطئ أن الله لا ينصره، وأحياناً يقع الإنسان في سلسلة إحباطات يتوهم أن الله لن ينصره، أي يسيء الظن بالله.
﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) ﴾
[ سورة الفتح ]
وأقول لكم بكل صراحة: إن بعض المسلمين وقعوا في الإحباط الآن واليأس، ولذلك الله عز وجل هناك امتحانان صعبان؛ الامتحان الأول يُقوِّي الكافر، يُقوِّي الكافر، يُقوِّي الكافر حتى يقول ضعاف الإيمان: أين الله؟ وأحيانا يُظهِر الله آياته حتى يقول الكافر: لا إله إلا الله، نحن الآن في الامتحان الأول، صعب جداً، الطرف الآخر قوي، ومتغطرس، ومستكبر، ويفعل ما يقول، ويدمر كما يتوهم، فبعض المؤمنين ضعُفوا:
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾
إذاً النصر التفضلي والنصر المبدئي والنصر الاستحقاقي، وموضوع بدر وحُنين، تقول: الله، يتولاك، تقول: أنا، يتخلى عنك.
الموضوع الثاني: أُحُد وحُنين، أُحد كان هناك معصية سلوكية، حُنين كان هناك شرك خفي، الصحابة الكرام وفيهم رسول الله ولم ينتصروا؛ لأنهم قالوا: لن نُغلب من قِلة، هذه بعض موضوعات النصر، لأن الله عز وجل هو النصير، ولا نصير سواه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)﴾
أي تدفعوا ثمن النصر، إيمان يحمل على طاعته وإعداد للقوة المتاحة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق