الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ملخص فكرة أحكام حدود المسؤولية في الدرس الماضي:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس التاسع والأربعين من دروس العقيدة.
لا زلنا في موضوعات تمهيدية للإيمان باليوم الآخر، وقد بيّنتُ في الدرس الماضي أن:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ، صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ. ))
وأنّ هذا الحديث يُستَنبَط منه أن الإنسان يُحاسَب لا على عمله فحسب، بل على آثار عمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر،
(( فعَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: منْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، لا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا. ))
هناك آية تؤكد هذا المعنى:
﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)﴾
أي مسؤول، هنا نصيب وهنا كفالة، وشتان بين النصيب والكفالة، في معرِض الربح النصيب، وفي معرض الغُرم الكفالة.
1- لا يستفيد الإنسان من أعمال الآخرين الصالحة إلا إذا كان له يد فيها:
الحكم الثاني أن كل إنسان مسؤول عن كسبه، فلا يتحمل أوزار الآخرين:
﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)﴾
إلا إذا كان له تسبُّب فيها، كالإغواء، والإضلال، وإهمال الواجب، وإهمال النصيحة، وإهمال الإرشاد، أو أن يكون الإنسان مُطاعاً في قومه فلا ينصحهم، يقلدوه في ضلالة، ويتبعوه في معصية، هذا كله يُحاسب عليه الإنسان لا على أنه ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ لأنه سبب في هذه المعصية، أي إن كان هناك انقطاع كلي بينك وبين هذه المعصية لا تُحاسب عنها ولو اقترفها أقرب الناس إليك، أما إذا كان هناك تسبُّب في هذه المعصية لك شأن كبير وأنت مُطاع في أسرتك، ورأيت معصية فلم تُنبه عليها، لم تأمر بالمعروف، لم تنه عن المنكر، فالإضلال والإغواء وإهمال الواجب وإهمال النصيحة وإهمال الإرشاد، أو أن تكون ذا كلمة مسموعة وترى المُنكر فلا تُحَذر منه عندئذ تنتقل الآثام التي ارتكبت إلى المُسبب.
شيء آخر؛ لا يستفيد الإنسان من أعمال الآخرين الصالحة، كما أن الأخطاء لا يتحملها ما دام ليس سبباً في فعلها، كذلك أعمال الآخرين الصالحة لا يأخذ منها شيئاً لقوله تعالى:
﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)﴾
فالسعي كل إنسان له سعيه الخاص، وعمله الخاص، ومكانته الخاصة، إلا أنك إذا كنت السبب في هذه الأعمال الطيبة عندئذٍ لك الأجر كالتربية على الفضيلة، هؤلاء الذين ربيتهم كل أعمالهم في صحيفتك، والأدق من ذلك كل الأعمال التي قاموا بها بسبب توجيهك إيّاهم لك مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وكتعليم أمور الدين، وكالأمر بالمعروف، وكالنهي عن المنكر، وأن يكون الرجل مطاعاً في قومه فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويكون لهم قدوة صالحة، عندئذ أعمال الأتباع في صحيفة المتبوع.
أدلة الكتاب والسنة بشأن الحِكْم السابق:
نستخلص من هذه الفقرة أو من هذا الحكم الثاني أنه ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ كل إنسان مسؤول عن كسبه إلا في حالتين؛ إذا كنت سبباً في الأعمال السيئة للآخرين فعليك وزرٌ مثل ما عليهم، وإن كان لك سبب في الأعمال الصالحة للآخرين فلك أجر على هذه الأعمال مثل ما لهم أجر، الآن الدليل، الدليل النقلي وهو القرآن الكريم، بسم الله الرحمن الرحيم:
﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)﴾
كان العرب في الجاهلية إذا مَرّ من عن شمالهم طير يتشاءمون، وإن مرّ من عن يمينهم طير يستبشرون، تشاؤمهم واستبشارهم لا أساس له من الصحة، ربنا سبحانه وتعالى ردّ عليهم فقال:
﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)﴾
هذا الكتاب، كتاب الأعمال، أي كل صغيرة، وكل كبيرة، كل هذا مسجل في صحيفة أعمالك، يوم القيامة تبرز هذه الصحيفة، في بعض الآيات:
والمفسرون فسروا كلمة مرقوم في بابين من باب الرَّقْمِ، وهو النقش، ومن باب الرَّقَم، أي الكتاب مُرقَّم لا تنزع منه صفحة، مُرقَّم ومختوم، ومن باب الرَّقْم أن كل عمل مع صورته، الأعمال بيان بها مع صور لها، قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)﴾
﴿تَزِرُ﴾ أي تحمِلُ، وَزَرَ يَزِرُ ومن الوِزر، الوازرة: الحاملة، الوزر: الحِمل، أي لا تحمل نفسٌ حِمْل نفس أخرى، كل إنسان يحمل عمله: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ هذه الآية أصلٌ في أن كل إنسان مسؤول عن كسبه، أي الأب لا يُحاسَب عن ابنه إذا قدّم له النصيحة الكاملة، واعتنى به عناية فائقة، وبعد ذلك أصرّ على طريق غير مستقيم، والابن لا يُحاسَب عن أبيه إذا استنفذ نصحه، والزوج لا يُحاسَب عن زوجته إذا نصحها إلى أقصى حد، والزوجة لا تُحاسَب عن زوجها، كل إنسان يُحاسب عن عمله، الآية الثانية في سورة النجم: ﴿أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى* وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ ليس للإنسان إلا ما سعى، أي ليس لك في الآخرة إلا العمل الذي كنت قد عملته في الدنيا، شيء آخر لا يوجد.
الآية الثالثة:
﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)﴾
الآية الرابعة:
﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)﴾
هذه الآية مطلقة،
﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً﴾ من هنا قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. ))
لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم.
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ، ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))
[ صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]
آية خامسة تؤكد هذه الحقيقة:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)﴾
آية سادسة:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)﴾
الآن نحن في الدنيا، إذا تورط إنسان وخالف القوانين، وحُجِزت حريته، أصبح رهين عمله السيئ، أو رهين مخالفته، هذا في الدنيا فكيف في الآخرة؟ لهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام للأقربين من عشيرته: ((عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا-اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)) تعقيباً على هذا الحكم الثاني قيل: الذنب شؤم على غير صاحبه، كيف شؤم؟ الآن قلنا: الإنسان مسؤول عن كسبه فقط، وأكدنا في آيات كثيرة أنه: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ فكيف يُقال: الذنب شؤم على غير صاحبه؟ فصّل؛ قال: إن ذَكَرَهُ فقد اغتابه، وإن رضّي به فقد شاركه في الإثم، وإن عيّره ابتُلي به، فليحذر أحدنا إن رأى أخاً له قد وقع في ذنب فليحذر أن يُشهِّر به، يكون قد وقع في الغيبة، وليحذر أن يرضى عن هذا العمل، يكون قد وقع في إثم المشاركة، وليحذر أن يعيره، عندئذ يُعاقب الذي يُعيِّر أخاه بذنب أن يُبتلى به.
2- الإنسان مسؤول عن آثار كسبه الإرادي الخيّر:
الحكم الثالث؛ الإنسان مسؤول عن آثار كسبه الإرادي ومحاسب عليه، مثلاً له ثواب الصدقة الجارية، ولو بعد موته، هذه الآثار، لأن استمرار الاستفادة منها في أبواب الخير من آثار كسبه، له ثواب العلم النافع الذي يقوم ببثه ونشره، أو التأليف فيه، فما ينجم عنه من نفع ولو بعد موته إلا كان له منه أجر، لأن استمرار الانتفاع به كان لكسبه تأثير فيه، كذلك كل من ساهم بنشر هذا العلم النافع فله عند الله أجر، وفضل الله واسع، لا يُنقِص أحد من أجر الآخر شيئاً مهما كَثُر المساهمون.
أنت كإنسان تعطي على صنع باب ألف ليرة، ألفين، أما تدفع مئة مليون على صُنع باب واحد؟ هذا مستحيل، ربنا عز وجل العمل الصالح من دلّ عليه؟ من ساهم فيه؟ من عاون؟ كل من له علاقة بهذا العمل ينال مثل أجر الأول، هذا من باب كرم الله عز وجل.
وينفعه أي وينفع الإنسان بفضل الله دعوة ولده الصالح، هذا الابن حينما يقول: ربي اغفر لي ولوالدي، الواحد يكون صار شاباً، وتزوج، وعنده أولاد، أي لولا تربية أبيه وأمه حينما كان صغيراً، العناية الطبية والصحية والاجتماعية، والتربية، وضعه في المدارس، وتحمّل نفقاته، وتطبيبه إذا مرض، وهذا الحرص، وهذا القلق، إلى أن صار إنساناً سوياً، هذا إذا قال في صلاته:
﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)﴾
﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)﴾
يأتي الأب من الأجر بسبب هذا الدعاء بقدر ما لهذا الابن من فضل، لذلك تربية الأولاد عمل عظيم كبير، لا يزهد بها أحد، وينفعه بعد موته دعوة ولده الصالح له، لأن صلاح الولد في الغالب ثمرةٌ من ثمرات تربية أبيه له، وذلك من آثار كسبه، إلا في حالة واحدة، إذا كان الأب يريد لابنه طريق الشر، طريق البعد عن الدين، يمنعه من الدين، يغريه بالدنيا، بالانغماس في ملذاتها، والابن منصرف إلى الدين، هذا العمل الطيب للابن ليس في صحيفة الأب، لأن الأب ما أراد ذلك بل أراد عكس ذلك.
ولـه أجر كل من اهتدى بهديه من أتباعه، أو أتباع أتباعه، أو أتباع أتباع أتباعه، إلى يوم القيامة، هذا شيء عظيم،((يا علي لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس)) .
(( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، فَقَالَ أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَ بَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ: انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لأنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجلا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ " ))
((خير لك من الدنيا وما فيها)) هذا كلام له أبعاد، مِن الدنيا وما فيها، تصور أن رجلاً يملك كل الشركات في العالم، وكل الأراضي، وكل الأبنية، وكل المشاريع، وكل المستشفيات، وكل المشاريع الناجحة، كل أرباحها له، لو أنه مَلَكَها، ووافته المنية تركها بلا شيء، أما إذا كنت مُساهماً في هداية إنسان، فهذا الإنسان إذا سَعِد في الآخرة إلى الأبد أنت كنت السبب، لذلك ((يا علي لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها)) .
3- الإنسان مسؤول عن آثار كسبه الإرادي السيئ:
بالمقابل الحكم الثالث تحمُّل تبِعة العمل كما يتحمل تبِعة السيئة الجارية ولو بعد موته، لأن استمرارها قد كان لكسبه أثر فيه، يتحمل تبِعة العلم الضار، أقنع الطلاب أن الإنسان أصله قرد، وهذه قصة آدم وحواء كلها خرافات، يأتي هذا الشاب يقرأ القرآن:
﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)﴾
يقول له: هذا كله خلط، تعلمنا أن الإنسان أصله قرد، إذا الواحد هو الحقيقة صار قرداً، ليس كان إنما صار، حينما ترك الله عزّ وجل، وانغمس في الدنيا، مسخه الله قرداً، أي صار حيواناً، الإنسان من دون قِيَم حيوان، يتحمل الإنسان تبِعة العلم الضار الذي يبثه وينشره في الناس ولو بعد موته، لأن كسبه في حياته كان له أثر في استمرار الضلالة فيه، بث فكرة غلطاً، نظرية فاسدة، قضية من أجل مصلحة طارئة مادية تُعَلِّم الناس طريق الشر، تُقنعهم بالانحراف، من أجل تغطية نفسك، من أجل تبرير عملك تأتي بحكم فقهي مزوّر وتقنع الناس فيه، فحينما تبث علماً ضاراً، أو ضلالة، أو جهلاً، أو انحرافاً، كل من عمِل بهذا التوجيه إلى يوم القيامة يجب أن تتحمل وزره.
أو إذا استفتي الإنسان فأفتى فتيا لا يبتغي بها وجه الله، يبتغى بها وجه زيد أو عُبيد، كل مَن عمل بهذه الفتوى سوف يتحمل الذي أفتى بهذا الوزر، لذلك هناك من يُفتي فيجعل من رقبته جسراً إلى النار، والإنسان إذا كان لا يعرف فليقل لا أعرف، نصف العلم لا أدري، وكلما كنت جباناً في الفُتيا كنت أقرب إلى الله عزّ وجل،
(( عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ.))
[ السيوطي:الجامع الصغير: مرسل ]
تريّث، لست متأكداً اسأل، طالع، قل له: أمهلني، لأن الفتيا مشكلة هو يفعل هذا اعتماداً على فتياك.
الآن ويتحمل من أوزار ولده الذي أساء تربيته، ودفعه إلى سلوك سبيل الشر كما يتحمل من أوزار كل مَن تأثر بإضلاله مِن أتباعه، أو أتباع أتباعه، أو أتباعِ أتباع أتباعه إلى يوم القيامة، الذين كان له كسبٌ في توجيههم وجهة الضلالة والشر.
أدلة الكتاب والسنة على أن الإنسان مسؤول عن آثار عمله الإرادي:
الآن الأدلة، هذا الحكم الثالث، يقول الله عزّ وجل:
﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)﴾
الآية واضحة كالشمس، دليل آخر:
﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)﴾
دليل ثالث يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)﴾
فالله تبارك وتعالى يكتب ما قدّم الناس من أعمال الخير وأعمال الشر ليُحاسبهم عليها، ويكتب أيضاً آثار أعمالهم ولو ظهرت الآثار بعد انتهاء آجالهم في حياتهم الدنيا، إذا اخترع شخص اختراعاً، كل مفسدة تحققت على وجه الأرض إلى يوم القيامة سوف يتحمل إثمها ووزرها، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دليل خامس أرسل كتاباً إلى هرقل ملك الروم:
(( عن أبي سفيان بن حرب بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من مُحمَّدٍ عبدِ اللهِ ورسولِه إلى هِرَقلَ عَظيمِ الرُّومِ ، سلامٌ علَى من اتَّبعَ الهُدى، أمَّا بعدُ، فإنِّي أدعوكَ بدِعايةِ الإسلامِ، أَسلِمْ تَسلَمْ؛ يُؤْتِكَ اللهُ أجرَك مرَّتينِ ؛ فإن تولَّيْتَ فإنَّ عليكَ إثمَ الأريسيِّينَ ويَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلى قولِهِ اشْهَدُوْا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. ))
[ صحيح الأدب المفرد: خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
لماذا مرتان؟ هذا جزاء القدوة، مرة لأنه أسلم، وأنه حينما أسلمَ أسلم أتباعه، فالذين لهم مكانة اجتماعية؛ الأب، المعلم، مدير المدرسة، كل إنسان له مكانة اجتماعية، له مركز قيادي، صاحب محل عنده ثمانية موظفين، إذا صلى الظهر أمامهم شجعهم على الصلاة، إذا غضّ بصره عن امرأة دخلت المحل شجعهم على طاعة الله، فكل إنسان له مكانة بين عشرة من الناس، إذا استقام على أمر الله له الأجر مرتين، مرة لأنه استقام، ومرة لأنه شجَّعَ الآخرين على الاستقامة، قال له: ((أَسلِمْ تَسلَمْ؛ يُؤْتِكَ اللهُ أجرَك مرَّتينِ؛ فإن تولَّيْتَ فإنَّ عليكَ إثمَ الأريسيِّينَ)) أي أتباعك، أتباعك إثمهم جميعاً في رقبتك إن لم تُسلم، إذاً القانون الثالث، الحكم الثالث: الإنسان مسؤول عن آثار كسبه المادي.
الحكم الثاني : كل إنسان مسؤول عن كسبه، ولا يتحمل وزر الآخرين.
الحكم الأول: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ذكرناها.
4- الإنسان مسؤول عن خواطره إذا أراد العزم والقصد أما غير ذلك فلا:
الآن إلى الحكم الرابع والأخير، إنّ الخواطر التي تخطر على فكر الإنسان دون أن تتحول بإرادته إلى عزم وتصميم لا تدخل في باب المسؤولية والمحاسبة، فإن تحولت بالإرادة إلى عزم وتصميم دخلت في باب المسؤولية والمحاسبة، ويُسمى هذا الخاطر عندئذٍ هماً، الهم يعني التصميم، العمل القلبي الذي يسبِق العمل المادي، فالإنسان خواطره غير محاسب عليها، لكن أقول لكم هذه الملاحظة: لو أن الإنسان أعطى لخواطره العنان، يُخشى أن تتحول هذه الخواطر إلى أعمال، لو أن واحداً تخيل المعصية، وسبح بها، إذا لم يقف عند حدّ ربما انقلبت هذه الخواطر إلى أعمال، فلذلك المؤمن لا يسمح لنفسه أن يسبح في خواطر لا تُرضي الله عزّ وجل، مبدئياً الإنسان لا يُحاسب إلا على أعماله المادية، لكن نخشى أن يسترسل الإنسان في هذه الخواطر فتنقلب إلى أعمال مادية، فالأفضل والأولى أن الإنسان كلما خطر في باله شيء لا يُرضي الله عزّ وجل أن يبتعد عنه، أو أن يقطع هذه الخواطر.
آخر فقرة في هذا الباب؛ وقد تفضّل الله علينا فجعل الهمّ بفعل الحسنة حسنةً يُثاب عليها الإنسان، ولو لم يعملها، أي شاهدت إنساناً واقفاً في الطريق، فأنت وقفت له من أجل أن توصله إلى بيته، قال لك: شكراً، والله أنا أنتظر إنساناً هنا، هناك موعد مع شخص بعد ربع ساعة، شكراً، أنت هممت أن توصله إلى البيت وبيته بعيد، هممت بهذه الحسنة فلم تفعلها كُتبت لك عند الله حسنة، هذا من كرم الله عز وجل، وقد تَفَضّل الله علينا فجعل الهمّ بفعل الحسنة حسنةً يُثاب عليها الإنسان، أي والدتك تحتاج لدواء الساعة الواحدة، عندهم في البيت أقراص دواء لكنها ضائعة، أنت نويت أن ترتدي الثياب، وأن تذهب إلى طرف المدينة لشراء هذا الدواء، وأنت ترتدي الثياب قالت لك أمك: وجدت الدواء، ما ذهبت، كأنك ذهبت والأجر الذي سيُكتب لك من ذهابك كُتِب لك لأنك هممت لهذه الحسنة، وهذا يقع كثيراً، وعلى هذا فقِس آلاف الحوادث، الآن فإن عملها، هذه فهمناها؛ إن لم يعملها كُتبت له حسنة، فإن عملها كُتبت له عشر حسنات، مرّ معنا في الدرس الماضي أقل جزاء على العمل الصالح عشرة أمثال، وأعلى جزاء على العمل السيئ مثل واحد، أقله عشرة:
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)﴾
سبعمئة إلى سبعة آلاف.
﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)﴾
لا يوجد حدّ، لا يوجد سقف، أما أقل حدّ عشرة أمثال، لكنك إذا هممت بالحسنة لك أجر، فإذا فعلتها لك عشرة أمثال هذا الأجر، ومِن فضل الله علينا جعل الهمّ بفعل السيئة، والتصميم عليها سيئة، شخص نوى أن يؤذي إنساناً بمحض إرادته، فإن لم يفعلها بإرادته، فكّر، شعر أن هناك إلهاً يُحاسب، والله عز وجل قد يعاقبه على هذا العمل، فانتهى نهياً ذاتياً، قال: فإنْ لم يفعلها بإرادته تحولت السيئة فصارت حسنة، إذا همَّ إنسان بسيئة، ليس ولم يفعلها لأنه لم يقدر، هذا موضوع ثان، لم يفعلها بإرادته، أردت أن توقع الأذى بفلان فلم تجده في البيت، أردت أن تفعل ذلك فلم تتمكن، الإثم حاصل، لكنك إذا انتهيت نهياً ذاتياً عن القيام بعمل سيئ، هذا النهي الذاتي يجعل هذه السيئة حسنة عند الله عزّ وجل، فإن فعلها بإرادته، همّ بسيئة وفعلها كُتبت له سيئة فقط من دون مضاعفة.
إذا كان همّ بسيئة ولم يفعلها كُتِبت حسنة، فعلها كُتبت سيئة، همّ بحسنة وما فعلها كُتبت حسنة، فعلها كُتبت عشر حسنات.
وبهذا تنتهي الموضوعات التمهيدية لموضوع الإيمان باليوم الآخر، الذي هو أحد أركان الإيمان، ويليه في الترتيب والإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
الملف مدقق