الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السابع والستين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، والمنزلة اليوم استئناف التوحيد، في الدرس الماضي كانت المنزلة استئناف التوبة، واليوم استئناف التوحيد، قد نفهم من هذا العنوان أن التوحيد مراتب لا تنتهي، فكلما بلغت مرتبة ينبغي أن تطمح إلى مرتبة أعلى، الإنسان حينما يَجْمد في الدين يُصاب بمرض اسمه: السأم، إذا قام إلى الصلاة قام كسلاناً، هذه الفكرة قال: أنا أعرفها، وهذه سمعتها، السبب أنه بقي في مكانه ثابتاً ، أما لو طوَّر نفسه، طمح إلى مرتبة أعلى، كلُّ مرتبة هي مرتبة فوقها مرتبة، فلذلك هذا الذي دفع مؤلِّف كتاب مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين إلى إدراج هاتين المنزلتين: استئناف التوبة، واستئناف التوحيد.
أيها الإخوة؛ التوحيد أولُ دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالكُ إلى الله تعالى.
الخطوة الأولى، الحركة الأولى، الدرس الأول، الكتاب الأول، السنة الأولى، أول حركة تخطو بها إلى طريق الله عز وجل أن توحده، الأدلة؛ قال تعالى:
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)﴾
توحيد، وقال هودٌ لقومه:
﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)﴾
وقال صالح لقومه:
﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)﴾
وقال شعيب لقومه:
﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
أول خطوة، أول درس، أول يوم بالعام الدراسي.
استنباط العلماء من الحديث التالي مبدأ الأولويات:
التوحيد أيها الإخوة؛ مفتاح دعوة الرسل، لهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لسيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه:
(( عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْيَمَنِ قَالَ: إِنَّكَ تَقْدمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوق كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ. ))
وذكر الحديث إلى آخره، بين معترضتين؛ وإن كان هذا خروجاً عن خطِّ الدرس، العلماء استنبطوا من هذا الحديث مبدأ الأولويات؛ إن شهدوا أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أدوا الصلوات أخبرهم أن الله فرض عليهم الصيام، أي ليس من المعقول أن تدخل بيتاً فترى فيه صورة، تقول لصاحب البيت وهو لا يصلي أساساً: هذه الصورة حرام، هناك تسلسل، إذا آمن بالله ادعُه إلى أن يصلي، صلى ادعُه إلى غضّ بصره، ادعه إلى تحرير دخله، فالإنسان قد يتلبَّس بآلاف المعاصي، ينبغي أن تبدأ بتعريفه بالله، بعدئذ تنتقل إلى المنهج فِقرة فِقرة، أما إذا كان أصلُ العقيدة مهزوزاً عنده، إذا كان إيمانه بالله متضعضعاً، فما قيمة أن تذكر له تفاصيل الشريعة؟
الخطأ الذي يرتكبه بعض الدعاة إلى الله:
بعض الإخوة الكرام؛ سامحهم الله بنية طيِّبة قد يجد صديقه وهو لا يصلي، بيده خاتم ذهب، يقول له: هذا حرام، هو فعلاً حرام،
(( عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: حُرِّمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي وَأُحِلَّ لإِنَاثِهِمْ. ))
طبيعي، ولكن هذا بند من بنود الشرع، يجب أن تُعرِّفه بصاحب الشرع، يجب أن تُعرِّفه بالآمر، أن تُعرِّفه بالله، بعدئذ هو يسألك عن أدقِّ دقائق الشريعة، والقاعدة التي أذكرها كثيراً: إن عرَّفته بالآمر قبل الأمر تفانى في طاعة الآمر، أما إن عرَّفته بالأمر ولم تُعرِّفه بالآمر تفنن في التفلُّت من هذا الأمر، وقال عليه الصلاة و السلام
(( عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ، حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلا بِحَقِّ الإِسْلامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ. ))
ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلَّف أن يشهد أنه لا إله إلا الله.
التوحيد آخر مرحلة يجب أن يخرج بها الإنسان من الدنيا:
شي آخر؛ درسنا استئناف التوحيد، إذاً كما أن التوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، فإنه آخر ما يخرج به من الدنيا، أول خطوة وآخر خطوة، قبل الموت، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ. ))
أول مرحلة: لا إله إلا الله، آخر مرحلة: لا إله إلا الله، فهو أول واجب وآخر واجب.
الإيمان بالله خالقاً قديماً قدر مشترك بين كل الملل والنِّحل وليس هذا هو التوحيد:
الآن يوجد موضوع دقيق جداً أرجو الله أن يُمكنني أن أوضحه لكم، قال بعض العلماء: مجرد تنزيه الله عن الحدث لا يدل على التوحيد، ما معنى الحدث؟ الشيء الحادث الذي سبقه عدم، وينتهي إلى عدم، فما سوى الله حدث، الله عز وجل كان الله ولم يكن معه شيء، فهذا الكون سبقه عدم، فالكون كلُّه حادث، أي سبقه عدم، وسينتهي إلى عدم:
﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)﴾
إلى آخر الآيات.
الفرق الصارخ بين خالق الكون وبين الكون أن الله قديم، ليس له بداية، هو الأول ولا شيء قبله، وهو الآخر ولا شيء بعده، أزليٌّ أبدي، فالله عز وجل قديم، ما سواه حادث، فإذا أنت قلت: الله قديم، أي هو الذي خلق العالم، هل وحَّدته؟ لا، مجرد تنزيه الله عن الحدث أنت آمنت أنه قديم، هو الذي خلق الكون، هذا التنزيه لا يدلُّ على التوحيد، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كُتبه، وينجو به العبدُ من النار، ويدخل به الجنة، ويخرج من الشرك، فإنه مشترك أن تؤمن أن الله قديم وليس حادثاً، هذا الإيمان مشترك بين جميع الفِرق، كلُّ من أقرَّ بوجود الخالق سبحانه أقرَّ به، عُبَّاد الأصنام، المجوس، أهل الكتاب، المشركون كلُّهم يُنزِّهون الله عن الحدث، يؤمنون أن الله قديم، هو خالق الكون، يثبتون قِدَمه، حتى إن أعظم الطوائف على الإطلاق شركاً وكفراً وإلحاداً إنهم يقولون: هو الله عز وجل صاحب الوجود المطلق، هو قديم لم يزل، مُنزَّه عن الحدث، ولم تزل المحدثاتُ تكتسي من وجوده وتقوم بمدده، أي أيَّة فئة، أيّة فرقة، أيَّة طائفة، أيُّ دين، أيُّ جنس، أيَّة ملة في الأرض تؤمن أن لهذا الكون خالقاً عظيماً خَلَقه، هو قديم، والكون حديث، ليس هذا هو التوحيد، حتى الفلاسفة هم أبعد الخلق عن الشرائع يُثبتون واجب الوجود قديماً وممكن الوجود، هذه عبارة فلسفية، واجب الوجود وممكن الوجود، حتى عُبَّاد الأصنام الذين يعبدون معه آلهةً أخرى يقولون:
﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)﴾
فالإيمان بالله خالقاً قديماً، كان ولم يكن معه شيء، هذا قدر مشترك بين كل الملل و النِّحل، وليس هذا هو التوحيد.
التوحيد هو إفراد القديم عن المُحدَث:
سُئل أحدُ كبار العلماء عن التوحيد، فقال: إفراد القديم عن المُحدَث، أي الآن الله عز وجل لا يكمن أن يَحِلَّ بإنسان كائناً من كان، فإذا حلَّ القديم بالمُحدَث، اختلطت الأوراقُ وفسدت العقيدة، ليس هناك ما يُسمَّى بوحدة الوجود.
أيها الأخوة؛ فِرق قديمة تتوهَّم أن الله سبحانه وتعالى يَحِلُّ في الصورة الجميلة المُستحسنة، وفرقة تزعم أن الله سبحانه وتعالى يَحِلُّ في الكُمَّل من الناس، هؤلاء الذين تجرَّدت نفوسهم عن الشهوات، واتَّصفوا بالفضائل، وتنزَّهوا عن الرذائل، وهناك من يزعم أن الله حلَّ في بعض الأنبياء، فهذا كلام مرفوض رفضاً قاطعاً، نحن يمكن أن نرى وحدة في الكون، أن نرى لهذا الكون خالقاً واحداً، ربًّا واحداً، مُسيِّراً واحداً، هناك وحدة وهناك تنوُّع، فبرأي بعض العلماء أن تبعِد القديم عن الحدث، القديم لا يَحِلُّ في المُحدث، العبد عبدٌ والربُّ ربٌّ، فكل من يزعم، هناك كلمات قالها بعضُهم لا أصل لها في الدين، سبحاني ما أعظم ذاتي! أن الله حلَّ به فقال: سبحاني ما أعظم ذاتي! هذا كلام مرفوض.
الموقف الذي ينبغي أن نتخذه إذا قرأنا كلاماً لا يتفق مع الكتاب والسنة في كتب السابقين:
1- هذا الكلام لم يقله هذا العالم وقد دُسَّ عليه:
على كلٍّ؛ نحن لا نتَّهم أحداً، ولكن أمامنا كلام مرفوض، كلام سأقوله لكم، لكنه دقيق: إذا قرأت في كتاب لبعض العلماء السابقين كلاماً لا يتَّفق لا مع الكتاب ولا مع السنة، فما الموقف الذي ينبغي أن تقفه؟ أنت كباحث، كإنسان موضوعي، طالب علم، قرأت في كتاب قديم لبعض العلماء الكبار أو بعض الصوفيين كلاماً مرفوضاً من خلال الكتاب والسنة، ماذا تقول؟ أنا أقول لكم: هناك أربعة احتمالات؛ أول احتمـال: أن هذا الكلام ما قاله هذا العالم، وقد دُسَّ عليه، وإن شئتم هناك بحوث كثيرة حول ما دُسَّ على كبار علماء المسلمين، دسُّوا تحت وسادة الإمام أحمد بن حنبل عقائد زائغة، دسُّوا على بعض العارفين بالله كلمات فيها زندقة، ما قالوها أبداً، فأول موقف لعل هذا الإنسان العالم الجليل الذي عرف اللهَ، لا يمكن أن يقول هذا الكلام، هذا احتمال، وهناك دليل ورد في كتاب الشعراني أن أحدهم اطَّلع على بعض كتب الشيخ محيي الدين-رحمه الله تعالى-فرأى فيه كلاماً لا يُقبل إطلاقاً، فذهب إلى بيت الله الحرام، والتقى بعالم جليل من علماء مكة-هكذا قرأت أنا، سأنقل لكم ما قرأت-قال: فدخل هذا العالم إلى غرفته، وأطلعني على كتاب الفتوحات بخطّ يد الشيخ محيي الدين، فلم يجد فيه شيئاً مما أسند إليه، الكتاب بخطّ الشيخ محيي الدين، إذًا: هناك احتمال أن هذا الكلام ما قاله هذا العالم.
2- قاله ولكن لم يقصد المعنى الذي فهمته أنت منه:
الاحتمال الثاني: قاله ولكن لم يقصد المعنى الذي فهمته أنت منه، على كلٍّ ينبغي أن نراعي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نقل العلم،
(( عن عامر بن واثلة أبو الطفيل: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ ))
فالذي يُخاطب الناس بما لا يفهمون خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كُتبُ بعض الصوفيين الذين شطحوا محرَّمٌ أن تُقرأ، لما فيها من مغالطات، وما فيها من شطحات، فالاحتمال الثاني أنه قال هذا الكلام وخالف سنة رسول الله، لكن لم يقصد المعنى الذي فهمته أنت، بعضهم يقول: كان يقف على كـنز من الذهب فقال: معبودُكم تحت قدمي، أي هذا الذهب الذي تعبدونه أنتم من دون الله تحت قدمي، هذا كلام لكن لا ينبغي أن يُقال، قد يُفهم فهماً آخر، هذا مخالف للسنة، مرة ثانية: ((حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟)) .
3- قاله ثم تراجع عنه بعد حين:
هناك احتمال ثالث، أنه قاله ثم تراجع عنه بعد حين، لكن بعضهم علَّق تعليقاً رائعاً على كتاب فيه نزعة اعتزالية، تفسير، فقال: المؤلِّف تاب في أواخر حياته، فقال: ولكن كشَّافه لم يتُب، رجل أصدر فتوى بضغوط معيَّنة، أرضى بها من هم أكبر منه، وهو على فراش الموت رفع يديه هكذا، وقال: يا ربي أنا بريء من كل فتوى أفتيتها في المصارف، هذا تُبت إلى الله فيما بينك وبينه، لكن الفتوى طُبِعت وعُمِل بها، هناك إنسان أفتى فتوى، باليوم التالي دخل إلى المصارف ثلاثة وثمانون ملياراً في بلد عربي على هذه الفتوى، فإذا تاب هذا العالم بينه وبين الله قبل أن يموت، لكن فتواه مسجَّلة ومطبوعة وقد عُمل بها، فالاحتمال الثالث أنه قال هذا الكلام ثم راجع نفسه فرأى نفسه مخطئاً فتراجع.
4- قاله وأخطأ ولم يتراجع:
الاحتمال الرابع أنه قاله وأخطأ ولم يتراجع، ونقول: أخطأ، لأن كل إنسان يُؤخذ منه ويُردُّ عليه إلا صاحب هذه القبة الخضراء، أبداً، ما جاءنا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فعلى العين والرأس، وما جاءنا عن صحابته فعلى العين والرأس، وما جاءنا عن التابعين فعلى العين والرأس، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خيرُ النَّاسِ قَرْني ثمَّ الَّذينَ يلونَهم ثمَّ الَّذينَ يلونَهم، ثمَّ يجيءُ قومٌ تسبِقُ شَهادتُهم أيمانَهم وأيمانُهم شَهادتَهم. ))
[ صحيح البخاري ]
فقد شـهد النبيُّ عليه الصلاة والسلام بالخيرية للقرون الثلاث،
(( عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تسمعون ويُسمع منكم ويسمع من يسمع منكم. ))
فالاحتمال الرابع أنه أخطأ، ونقول له بملء فمنا: لقد أخطأت، نحن عندنا القرآن وعندنا السنة.
(( عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي. ))
أنت مع نص قرآني ليس لك إلا أن تفهم النص، لأنه قطعيُّ الثبوت، مع نص نبويٍّ ينبغي أن تتحقَّق من صحَّته، لأن كلام النبي عليه الصلاة والسلام الذي وصلنا بعضه قطعيُّ الثبوت وبعضه ظنيُّ الثبوت، مع النص النبوي لك عملان؛ أن تتحقق من صحته أولاً، ثم أن تفهمه ثانياً، مع أيِّ نص آخر غير نص النبي عليه الصلاة والسلام لك ثلاثة أعمال: أن تتحقق من صحة نسبة هذا النص إلى صاحبه، ثم أن تفهمه وفق ما أراد صاحبه، ثم أن تقيسه بالكتاب والسنة، فإن وافقه فعلى العين والرأس، وإن خالفه لا نقبله، هذا منهج البحث في الإسلام.
التوحيد أيها الإخوة؛ إفراد القديم عن المُحدَث، الربُّ ربٌّ والعبد عبدٌ، تداخل لا يوجد، أن الله حلَّ بفلان، مستحيل، ليس في ديننا هذا الاعتقاد أبداً، فقال: هذا الإفراد في الاعتقاد والخبر هو نوعان؛ إثباتُ مباينة الربِّ تعالى لمخلوقاته، وعلوه فوق سبع سماواته، كما نطقت به الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها، وكما أخبرت به جميعُ الرسل من أوَّلهم إلى آخرهم، أي ليس كمثله شيء، أيُّ شيء خطَر ببالك فاللهُ بخلاف ذلك، لا يشبهه أحد.
الشيء الثاني: إفراده سبحانه بصفات كماله، وإثباتها على وجه التفصيل كما أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسله، منزَّهةً عن التعطيل والتحريف والتكييف والتمثيل والتشبيه، واللهُ عزَّ وجل له صفات وله أسماء.
أيها الإخوة الكرام؛ أن يتمايز عندك القديمُ والحديثُ، ما سوى اللهِ مُحدَث، الله وحده قديم ، ولا يوجد أيُّ تداخل بين ذات الله وبين مخلوقاته، لكن هناك وحدة الشُّهود، إنك تتعرَّف إلى الله عز وجل من خلال خلقه، أما أن يَحِلَّ الله في خلقه فهذه وحدة الوجود مرفوضة، يجب أن نعتقد مكانها بوحدة الشهود.
الشيء الثاني: أن تُفرِد القديم عن المُحدَث بالعبادة، أي يجب أن تُحبّ الله وحده، وأن تخاف منه وحده، وأن ترجوه وحده، وأن تُعظِّمه وحده، وأن تتوب إليه وحده، وأن تستعين به وحده، وأن تبتغي له الوسيلة وحده، هذا الإفراد به بُعث الرسلُ، وبه أُنزلت الكتبُ، وشُرِّعت الشرائع، ولأجل ذلك خُلقت السماوات والأرض والجنة والنار، وقام سوقُ الثواب والعقاب، فتفريد القديم عن الحديث، أو عن المُحدَث في ذاته، وصفاته، وأفعاله، وفي إرادته وحده، ومحبّته وحده، والخوف منه ورجائه، والتوكل عليه، والاستعانة به، والحلف به، والنذر له، والتوبة إليه، والسجود له، والتعظيم والإجلال، وتوابع ذلك، أي الله خلق الكون، لكنه هو فعَّال، بيده كل شيء، هو المعطي، هو المانع، هو الخافض، هو الرافع، هو المعزُّ، هو المذلُّ، هو المُقرِّب، هو المُبعِّد، هو المغني، هو المفقِر، هو الذي يمنح الأمن، هو الذي ينزع الأمن من قلب الإنسان، حينما تعلم أن الأمر كله بيده تتَّجه إليه وحده.
ومثل بسيط جداً؛ ينبغي أن تسافر إلى بلد، هذا البلد له ظروف خاصة، ففيه محصور إعطاء التأشيرة بيد أعلى إنسان في إدارة الهجرة والجوازات، المدير العام، فإذا أنت بلغك أن التأشيرة لا يعطيها إلا المدير العام، هل يمكن أن تقف أمام شرطي وتتضعضع أمامه وترجوه أن يوافق لك على السفر؟ معناه أنك مجنون، ما دام الأمر بيد واحد، فالعقل يقتضي أن تتَّجه لهذا الواحد، وأن تُعرض عن كل هؤلاء، يوجد مئة موظف، لا يستطيع واحد منهم أن يمنحك هذه التأشيرة، إلا المدير العام، لذلك لا ترجو إلا أعلى إنساناً بهذه الدائرة، تدخل عليه، تقف أمامه، تُقدِّم له الطلب، تُقدِّم له المبرِّرات، له وحده، أما أن ترجو إنساناً لا يملك من أمرك شيئاً؟!
يُروى أن أحد كبار العلماء كان بالحرم، ودخل أحد الخلفاء الكبار، فلما التقى به أراد أن يُكرِّمه، قال: سلني حاجتك؟ قال له: والله إني أستحي أن أسأل غير الله في بيت الله، التقى به خارج الحرم، قال له: سلني حاجتك؟ قال له: واللهِ ما سألتها من يملكها أفأسألها من لا يملكها؟ قال له: ما حاجتك؟ قال له: أدخلني الجنة وأنقذني من النار، قال له: هذه ليست بيدي، قال له: إذاً ليس لي عندك حاجة؛ أي أفرد الله بالرجاء والطلب والدعاء والتوكل.
العلل التي يقع فيها الإنسان:
1-العلة الأولى: ترك الأخذ بالأسباب استغناء بالتوكل:
بقي موضوع دقيق جداً؛ كيف نوفِّق بين التوحيد وبين التوكُّل؟
أولاً: الإنسان حينما يترك الأخذ بالأسباب استغناءً بالتوكل، لماذا أذهب إلى الطبيب، إذا الله كتب لي عمراً لن أموت لو لم أعالج، إذا الله لم يكتب لي عمراً سأموت ولو لم أعالج، هذا كلام مضحك، إذًا أمتنع عن أن آخذ بالأسباب، هذا الكلام غير صحيح، أن تأخذ بالأسباب لا يتناقض هذا مع التوحيد أبداً، تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وتتوكَّل على الله وكأنها ليست بشيء، أنت في طريق؛ عن يمينه وادٍ سحيق وعن يساره واد سحيق، إن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها فقد أشركت، وإن لم تأخذ بها فقد عصيت، تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، وتتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، هذه واحدة.
2-العلة الثانية: أن يتوكل على الله في حظوظه وشهواته:
العلة الثانية: أن يتوكل على الله في حظوظه وشهواته دون حقوق ربه، يتوكل على الله في حصول المال، أو الزوجة، أو الرياسة، أما التوكل في نُصرة دين الله، وإعلاء كلمته، وإظهار سنة رسوله، وجهاد أعدائه، فليس فيه عِلة، فلذلك لا تختار أن تتوكل على الأشياء التي تنفعك، والأشياء التي هي من حق الله عز وجل تقول: لا أستطيع، كما أنك تتوكل على الله في حظوظك ينبغي أن تتوكل على الله في حقوق ربك.
3- العلة الثالثة: أن يرى توكله منه ويغيب بذلك عن مطالعة المنَّة:
العلة الثالثة: أن يرى توكله منه، ويغيب بذلك عن مطالعة المِنَّة وشهود الفضل، أحياناً الإنسان يعزو الشيء لذاته، وقع في الشرك، هذا التوكل، أو هذا الأخذ بالأسباب على أنها منك، وعلى أنها من قدرتك، قال تعالى:
﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)﴾
إذا الله أراد أن يعطيك يعطيك سبب العطاء، فحتى السبب بفضل الله ومِنّته، إنسان طلب أن يأخذ شهادة عليا، الله تعالى يفتَّح له ذهنه، يقوِّي له ذاكرته، يجعله على قدرة عالية بالفهم، اللهُ أعطاك الأسـباب، فإذا توهَّمت أن هذه الأسباب من عندك فقد أشركت، قال تعالى:
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)﴾
أي لن تستطيع أن تكون إماماً إلا إذا كنت موحِّداً، أيُّ نوع من أنواع الشرك يُلغي إمامتك، أنت إمام، والدعوة كلها توحيد، فإذا لم تكن موحِّدا كما أراد الله لن تستطيع أن تكون إماماً للناس، سيدنا إبراهيم حينما خاطبه الله عزَّ وجل:
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)﴾
وقال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ .
استئناف التوحيد من أدقِّ موضوعات الدين:
أيها الإخوة؛ لهذا الدرس تتمة نتابعه إن شاء الله في درس قادم، واستئناف التوحيد من أدقِّ موضوعات الدين، بل هو الدين كله، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد. والآية التي أذكرها كثيراً، قال تعالى:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾
وأحد أكبر أسباب عذاب الناس الشرك الخفي، الشرك الجلي غير موجود، لكن يوجد شرك خفي، حينما تعتمد على غير الله، وحينما ترجو غير الله، وحينما تخاف من غير الله، وحينما تُعلِّق الأمل على غير الله، فقد أشركت شركاً خفيًّا، قال تعالى:
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)﴾
نعوذ بالله من الشرك الخفي، وكلما ارتقى الإنسان ارتقى توحيده، وكلما ارتقى توحيدُه زاد إخلاصُه، وكلما زاد إخلاصه ثُمِّن عملُه، ارتقى التوحيد صار معه إخلاص، مع الإخلاص ثُمِّن عمله، فكان من سعداء الدنيا والآخرة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق