الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
من أسماء الله الحسنى المؤمن:
أيها الإخوة الكرام؛ مع اسم جديد من أسماء الله الحسنى، والاسم اليوم المؤمن، وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم في موضع واحد في الآية الكريمة:
﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)﴾

كلمة مؤمن اشتقاقاً اسم فاعل مِن آمَن، يؤمن، مؤمن، أما الثلاثي: أمِن، يأمن، آمن، الدليل، ماذا تعني بالضبط كلمة مؤمن؟ تعني كلمة مؤمن المُصدِّق، آمن أي صدّق، وتعني كلمة مؤمن الذي يُنفذ الأمر بحذافيره، صدّق الآمر فائتمر، صدق الآمر في أمره فائتمر، من أوجَه معاني كلمة مؤمن، والدليل قوله تعالى:
﴿ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)﴾
أي ما أنت بمصدق
﴿لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ ، المؤمن المُصدِّق، والمؤمن المنفّذ، والدليل الحديث الشريف في البخاري:
(( عن عبد الله بن عباس: قَدِم وفْدُ عبدِ القَيسِ علَى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقالَ: مرحبًا بالوفدِ، ليسَ بالخزَايا ولا النَّادِمينَ ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ بينَنا وبينَكَ المشرِكينَ، وإنَّا لا نَصلُ إليكَ إلَّا في أشهرِ الحرمِ، فحدِّثنا بأمرٍ إن عمِلنا بِهِ دخلنا الجنَّةَ، ونَدعو بِهِ مَن وراءَنا ، قالَ : آمرُكُم بثلاثٍ، وأنهاكُم عن أربعٍ، آمرُكُم: بالإيمانِ باللَّهِ، وَهَل تَدرونَ ما الإيمانُ باللَّهِ؟ ، قالوا: اللَّهُ ورسولُهُ أعلَمُ، قالَ: شَهادةُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وأن تُعطوا منَ المغانِمِ الخُمُسَ، أنهاكُم عَن أربعٍ: عمَّا يُنبَذُ في الدُّبَّاءِ، والنَّقيرِ، والحنتَمِ، والمزفَّتِ. ))
وصوم رمضان، إذاً أيها الإخوة؛ طبعاً المعاني كثيرة، لكن أوجَه معنى لكلمة مؤمن أنه صدق وأطاع، صدق عقيدة، وأطاع عملاً، منطلق نظري صدق أن هذا الأمر حق، وتطبيق عملي، نفذ هذا الأمر.
لكن في القرآن الكريم ملمح دقيق في قوله تعالى:
﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)﴾
فمن لوازم السماع عند الله التطبيق: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ .
شاهد آخر:
﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)﴾
علامة صحة السماع الحركة، التطبيق: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ ، ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ .
قانون هام؛ إدراك انفعال سلوك:
للتوضيح، لو أنك قلت لواحد من الناس: على كتفك عقرب، بقي هادئاً، والتفت نحوك، وابتسم، وقال لك: أشكرك على هذه الملاحظة، وأسأل الله أن يُمَكّنني أن أكافئك عليها، هل سمع ما قلت له؟

ما سمع إطلاقاً، لو سمع ما قلت له لقفز، وصرخ، وخلع معطفه، فلذلك بعض العلماء يرى أن علاقتك بالمحيط وفق هذا القانون؛ إدراك، انفعال، سلوك، فإن سمعت كلاماً ولم تدرك فحواه لا تنفعل، وإن لم تنفعل لا تتحرك، هناك قانون دقيق جداً، أوضح مثل؛ تمشي في بستان رأيت ثعباناً، علامة صحة إدراكك انفعالك الشديد، والخوف، والصراخ، ثعبان، علامة صحة إدراكك انفعالك، وعلامة صحة انفعالك إما أن تقتله، وإما أن تهرب منه، أي انفعال بلا حركة انفعال كاذب، وإدراك بلا انفعال إدراك كاذب، تدرك تنفعل تتحرك.
الآن إذا أدرك أحدنا حقيقة يوم القيامة، وأن كل عمل تعمله سوف تحاسب عليه، لا يمكن إلا أن تطيع الله، لكن هناك ضعف بالإدراك، يلزمه ضعف انفعال، يلزمه ضعف تطبيق: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ ، ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ .
التكذيب العملي أخطر من التكذيب بالقول:
أيها الإخوة؛ مثل آخر: زرت طبيباً، وعالجك، كتب لك وصفة، لك أن تقول له: شكراً لك على هذا الاهتمام، وأنا مُعجب بعلمك، وأرجو الله أن يُمكّنني أن أكافئك على هذا الاهتمام، دقق، لمجرد أنك لم تشترِ الدواء فأنت كذّبت علمه عملياً، المجاملات ليس لها قيمة، إن لم تشترِ الدواء، وإن لم تستعمل الدواء وفق تعليماته الدقيقة فأنت مُشكك في علمه.
لذلك أخطر شيء في حياة المسلمين لا التكذيب النظري، أبداً، لا تجد في العالم الإسلامي مسلماً واحداً يقول لك: ليس هناك آخرة، لكن هناك التكذيب العملي، تلاحظ كسب الإنسان، كسب ماله، إنفاق ماله، بيته، عمله، علاقاته، حله، ترحاله، سفره، أفراحه، أتراحه، لا يلتزم بها بمنهج الله، ولأنه لا يلتزم فهو مكذب عملياً بالآخرة.
الإيمان بالآخرة إن صح ينبغي أن تنعكس مقاييسك مئة وثمانين درجة، إن لم تنعكس مقاييسك مئة وثمانين درجة فالإيمان بالآخرة غير صحيح، إيمان شكلي، إيمان تصديقي، تصديق غير تحقيق.
فلذلك أيها الإخوة؛ أخطر شيء في حياة المسلمين التكذيب العملي، على اللسان لن تقال كلمة خلاف القرآن، الآخرة حق، الجنة حق، النار حق، لكن الكسب حرام، والبضاعة محرمة، والعلاقة ربوية، والاختلاط محرم، فكيف يستسيغ الإنسان أن يرتكب كل هذه المعاصي وهو يقول: هناك حساب وهناك جنة وهناك نار؟ لذلك أخطر شيء في حياة المسلمين لا أن يكذبوا بألسنتهم اليوم الآخر، بل أن يكذبوا بأفعالهم اليوم الآخر.
أيها الإخوة؛ ما إن تستقر حقيقة الإيمان في نفس المؤمن إلا وتُعبر عن ذاتها بحركة، المؤمن حركي، إيمان سكوني غير صحيح، مؤمن لا يقدم، ولا يؤخر، ولا يفعل، ولا يلتزم، ولا يَصِل، ما لم تصل لله، وتقطع لله، وترضى لله، وتغضب لله، وتعطي لله، وتمنع لله، ما لم يجدك الله في مكان أمرك أن تكون فيه، ما لم يفتقدك في مكان نهاك الله عنه، ما لم تتحرك، ما لم تعطِ، ما لم تلتزم، ما لم تطبق، ما لم تجعل من حركتك وفق منهج الله، فالإيمان غير صحيح، وهذا يسمى بالتكذيب العملي.
لذلك كلمة مؤمن أي مؤمن صدّق ما جاء به القرآن الكريم، وطبق أوامر القرآن الكريم، وصدّق ما جاء به النبي الكريم، وطبق سنة النبي الكريم، الإيمان تصديق وتطبيق، الإيمان اعتقاد وسلوك، الإيمان ما أقرّه اللسان، وصدقه العمل، وآمن به القلب، هذا عن معنى كلمة مؤمن، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن تتحقق فينا معاني كلمة مؤمن، الإيمان مرتبة عالية جداً.
كيف الإنسان إذا قيل له: دكتور؟ حقيقة معه ابتدائية، وإعدادية، وثانوية، وليسانس، دبلوم عام، دبلوم خاص، ماجستير، دكتوراه، حرف الدال قبل اسمه يعني كل هذا، كلمة مؤمن أعلى مرتبة يبلغها مؤمن، أي آمن بما جاء به وحي السماء، وطبق ما جاء به وحي السماء،

أما الإيمان بلا تطبيق تكذيب عملي، الإيمان بلا تطبيق تكذيب لكن ليس تكذيباً لفظياً، بل هو تكذيب عملي، هذا عن معنى كلمة مؤمن، ولكن كيف نفهم أن الله مؤمن؟ كيف نفهم أن المؤمن اسم من أسماء الله الحسنى؟
أولاً: من معاني كلمة مؤمن حينما تُنسَب لله عز وجل، وحينما تكون اسماً من أسماء الله الحسنى أنه أمَّن الناس ألا يُظلَم أحد من خلقه، والإنسان لا يطمئن إلا إذا وحّد، أنت حينما ترى أن الأمر بيد الله وحده، وأنه:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
وأنه:
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾
وأنه:
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾
وما شاءَ اللهُ كانَ، وما لم يشأْ لم يكن، و:
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾
ما لم تر أن يد الله تعمل وحدها، ما لم تر أن الله بيده كل شيء، ما لم تر أن الله هو الفعّال، هو المعطي وحده، هو المانع، هو الرافع، هو الخافض، هو المُعز، هو المُذل، ما لم توحد لن تستطيع أن تطمئن إلى وعود الله، ولن تخاف من إنذاراته، لذلك المؤمن أمَّن الناس ألا يُظلم أحد من خلقه في ملكه، الدليل، دقق:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)﴾
آية ثانية:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)﴾
في نواة التمرة خيط بين فلقتي النواة، هذا الخيط هو الفتيل ما قيمته؟ ما قيمة مليون من هذا الخيط؟ بلا ثمن، ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ قال تعالى:
﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾
النواة لها رأس مؤنف كرأس الدبوس، هذا الرأس ما حجمه؟ ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ ، ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ ، ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ .
﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)﴾

القطمير غشاء يُغلف النواة.
﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)﴾
﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾
(( عن أبي الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا.))
الآن دقق: ((فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ)) ، لا تتهم الأقدار، لا تقل: لا حظ لي، لا تقل: أضربها يميناً تأتي شمالاً، لا تقال: قلَب لي الدهرُ ظهر المجن، لا تقل: القدر يسخر مني، كله كلام شيطاني: ((فمن وَجَدَ خيراً فليَحْمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ)) .
أيها الإخوة؛ الله عز وجل صفاته مطلقة، معنى مطلقة أي إذا كان هناك عصفور في ملك الله من آدم إلى يوم القيامة يُظْلَم هذا الظلم يتناقض مع اسم العدل، الله عز وجل مطلق، الإنسان نسبي، قاض قد يحكم ألف حكم، عشرة أحكام غير صحيحة، يسمى عادلاً عند الناس، الخطأ محتمل عند الإنسان، أما عند الله غير محتمل: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ ولا ﴿قِطْمِيرٍ﴾ ولا ﴿نَقِيراً﴾ و: ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ ولا ﴿مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ .
﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)﴾
هذه آية دقيقة جداً، هذه الصيغة أيها الإخوة، تنفي أكثر من عشرة أفعال، سمّاها علماء اللغة نفي الشأن، لو سألت إنساناً لا سمح الله: هل أنت سارق؟ إن كان من عِلية القوم، وقال لك: لا، هذه إجابة غير صحيحة، يقول لك: ما كان لي أن أسرق، أي مستحيل أن أفكر، أو أن أدعم، أو أن أرضى، أو أن أفعل، عدَّ علماء اللغة عشرة أفعال تُنفى بهذه الصيغة، الله عز وجل قال: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ مستحيل.
أيها الإخوة؛ الله عز وجل صفاته مطلقة، لا تحتمل أي خطأ، لكن قد يقول قائل: وهذه الحروب؟ وهذه الاجتياحات؟ وهذا الفقر؟ وهذه المجاعات؟ وهذا الزلزال؟ وهذا الفيضان؟ وهذا البركان؟ كيف نفسر ذلك؟ الجواب: لا يمكن أن تستطيع إثبات عدل الله بعقلك، إلا بحالة مستحيلة، أن يكون لك علم كعلم الله، ولكن تستطيع أن تؤمن أشدّ الإيمان بعدل الله المطلق حينما تصدق ما جاء به القرآن: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ ، ولا ﴿فَتِيلاً﴾ ، ولا ﴿قِطْمِير﴾ ، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ ، و: ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ ، ﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا﴾ هذا خبر عن الله، فإن شككت في هذه الآيات أعِد إيمانك بالقرآن، قف وراجع حساباتك، لن تستطيع أن تؤمن بعدل الله بعقلك وحده، لأن عقلك محدود المهمة، أما إذا كان عندك علم الله عز وجل وهذا مستحيل يمكن.
الله عز وجل غني عن تعذيبنا:
أيها الإخوة؛ الله عز وجل غني عن تعذيبنا، وغني عن ظلمنا.
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾
لكن إن صدقت خبر الله أنه لا يظلم هذا هو الإيمان، أي مثلاً قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)﴾
بربكم هل شاهدتم هذه الحادثة؟ من شاهدها؟ ماذا قال علماء التفسير؟ قال: ينبغي أن تأخذ إخبار الله وكأنك رأيته بعينك، الحد الأدنى بالإيمان أن تأخذ خبر الله وكأنك رأيته بعينك، وأن تأخذ وعيد الله وكأنه وقع.
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)﴾

معناها ما أتى،
﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ قال تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)﴾
إلى آخر الآية، ﴿قَالَ﴾ فعل ماضٍ، لم يقل بعد، يجب أن تأخذ إخبار الله وكأنه وقع، ويجب أن تأخذ أيضاً إخبار الله وكأنك تراه بعينك، فالمؤمن الذي آمن أن هذا القرآن كلام الله، وعشرات الآيات تنفي أدق أنواع الظلم: لا ﴿فَتِيلاً﴾ ، ولا ﴿نَقِيراً﴾ ، ولا ﴿قِطْمِيرٍ﴾ ، و ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ ، ولا: ﴿حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ هذا هو الإيمان بالقرآن، أما أن تملك علماً كعلم الله مستحيل.
الدنيا أمام الآخرة لا شيء:
شيء آخر؛ هذه الدنيا أمام الآخرة لا شيء، تصور الرقم واحد في دمشق وأصفاراً لا أقول إلى حلب، إلى الشمس، واحد أمامها مئة وستة وخمسون مليون كيلومتر أصفاراً، ليس كل كيلو متر صفراً، كل ميلمتر صفر، واحد في دمشق، وأصفار إلى الشمس، وكل ميلي صفر، كم هذا الرقم؟ أول ثلاثة أصفار ألف، ثلاثة أُخر مليون، ثلاثة ثالثة ألف مليون، ثلاثة رابعة مليون مَليون، الآن كل ميلي صفر لمئة وستة وخمسين مليون كيلو متر للشمس، هذا الرقم ضعه صورة، ومخرجه لا نهاية، قيمته صفر، فالدنيا لو عشت مئة وثلاثين عاماً، ملكت مئة مليار دولار، مليار مِليار، مليون مليار مِليار، وعندك بكل مدينة قصر، مهما فعلت الدنيا أمام الآخرة صفر، فإذا وعد الله عز وجل المظلوم بالجنة، لكن لا يوجد ظلم: ﴿لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ البطولة أن تربح الآخرة، البطولة أن تضحك آخراً، لا أن تضحك أولاً، الموت يُنهي كل شيء، لا يليق بعطاء الله العظيم أن يكون في الدنيا فقط، الموت يُنهي قوة القوي، يُنهي ضعف الضعيف، يُنهي غنى الغني، يُنهي فقر الفقير، يُنهي وسامة الوسيم، يُنهي دمامة الدميم، يُنهي صحة الصحيح، يُنهي مرض المريض، يُنهي كل شيء، لا يليق بعطائه أن يكون في الدنيا فقط، فإذا شخص الله عز وجل ادّخر له العطاء في الآخرة فحينما يرى عطاء الله بعد الموت يذوب محبة لله.
الشر المطلق لا وجود له في الكون:
أيها الإخوة؛ لا يمكن أن تثبِت عدل الله بعقلك، إلا أن تُصدّق خبر الله في القرآن، أو -وهذا شيء مستحيل-أن يكون لك علم كعلم الله، بالنهاية الشر المطلق لا وجود له في الكون، لكن هناك شر نسبي موظف للخير المطلق، والظلم المطلق لا وجود له في الكون، لكن هناك ظلم ظاهري، يندرج تحت بند التربية، الدليل دقق:
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)﴾
من أعان ظالماً سلطه الله عليه، من أعان ظالماً كان أول ضحاياه، هناك ظلم ظاهري، أما حقيقي لا يوجد، ولو دققت كما أقول لك: هناك ظلم ظاهري صارخ، لكن هذا الظلم موظف لتربية النفوس.
المؤمن هو مَن يجير المظلوم:
أيها الإخوة الكرام؛ والمؤمن هو الذي يجير المظلوم من الظالم، يروون قصة رمزية أن ملِكاً في القديم توعد شيخ النجارين بوعيد لا يحتمل، طلب منه مئة كيس نشارة خلال ساعات،

يعمل سنة سنتين لا يخرج معه كيس نشارة، فأيقن هذا الشيخ شيخ النجارين مثل نقيب الآن، أيقن هذا الشيخ أنه مقتول لا محالة، فودّع أولاده، ودّع زوجته، كتب وصيته، أنهى كل شيء، بعد الفجر جاء أتباع الملك ليأخذوه إن لم يؤدِ هذا العدد، فهو قال له: جاهز، قال له: مات الملك تعال اصنع لنا تابوتاً، أحياناً يُجير الله المظلوم من الظالم، هذا معنى اسم مؤمن، الدليل:
﴿ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)﴾
من الذي يجير؟ هذا الذي هدم سبعين ألف بيت بغزة، هذه السنة الثالثة ما مات، والله يمد بعمره، الله عز وجل إذا أخذَ أخْذ عزيز مقتدر، إذا أخذ الظالم لم يُفلته.
﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)﴾
حاجة الإنسان إلى اسم المؤمن:
أيها الإخوة الكرام؛ اسم المؤمن اسم دقيق جداً، لكنه يتصل أشدّ اتصال بحياة الإنسان، هو المؤمن الذي يُؤَمّنك، علاقتك معي يا عبدي: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ لو أنه أسلمك إلى غيره كيف يأمرك أن تعبده؟ مستحيل! قال لك: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ حياتك بيده، والرزق بيده، والأقوياء بيده، والضعفاء بيده، ومن فوقك بيده، ومن تحتك بيده، وزوجتك بيده، وأولادك بيده، وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ ويا رب ماذا فقَد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟ ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحبّ إليك من كل شيء.
نحن في أمسّ الحاجة إلى هذا الاسم، الناصر الذي يُجيرنا من الظالم، نحن في أمسّ الحاجة إلى أن نطمئن إلى وعد الله، الله عز وجل أنشأ لنا حقاً عليه إن عبدناه المكافأة ألا يُعذبنا.
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق