الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
حقائق ضرورية في الكون لابدّ من أن يعرفها الإنسان:
أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس الثالث والأربعين من دروس العقيدة.
أنهينا في الدروس السابقة الإيمان بالله، والملائكة، والكتاب، والنبيين، وبقي علينا الإيمان باليوم الآخر، والشيء الذي يُلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى حينما يذكر أركان الإيمان في القرآن كثيراً ما يقرِن الإيمان بالله إلى الإيمان باليوم الآخر، وكأن الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر متلازمان، بل ربما كان الإيمان باليوم الآخر من ألزم ما يلزم للإيمان بالله عز وجل، فلذلك لن نستطيع الحديث عن الإيمان باليوم الآخر قبل عدة مقدمات أساسية ضرورية جداً، فالتمهيد للإيمان باليوم الآخر يقتضي بعض الحقائق التي يجب أن توضع بين يدي المستمعين.
فبادئ ذي بدء، الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، من هذا الخلق ما هو جماد، قال تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾
الأرض جماد فيها معادن، فيها أشباه معادن، فيها جبال، فيها سهول، فيها صحارى، فيها بحار، هناك في السماء الكواكب، والنجوم، والمجرات، والكازارات، والكويكبات، هذا كله من نوع الجماد، وهناك الحيوان، له طبيعة خاصة، وهناك النبات، وهناك الملائكة، وهناك الجن، وهناك الإنس، فالمخلوقات متنوعة، لابد أنّ للإنسان خصائص يتميز بها عن بقية المخلوقات، مِن أبرز خصائصه أن نوع الإنس والجن يتمتعون بحرية الاختيار، بينما المخلوقات الأخرى لا تملِك هذه الحرية، الإنس والجن يتمتعون بقوة إدراكية، الله سبحانه وتعالى زَوّدنا بالعقل، العقل قوة إدراكية تَعرف به الخير من الشر، والحق من الباطل، والصالح من الطالح، وما هو نافع وما هو ضار، وما هو جيد وما هو سيئ، وما هو قريب وما هو بعيد، لولا هذه القوة الإدراكية لما امتاز الإنسان عن الحيوان، ضع لحماً أمام حيوان، ثم ضع لحم خنزير أمامه، هل يملك هذا الحيوان قدرة أو قوة إدراكية على التمييز بينهما؟ الإنسان يملك، فالإنسان بادئ ذي بدء يملك حرية الاختيار، هذا شيء قاطع.
هل يُعقل أن يُكلَّف الإنسان أن يُؤمر أو يُنهى وهو لا يملك حرية الاختيار؟ شيء لا يمكن أن يكون، الإنسان فيما يظهر يملك شيئاً ثالثاً وهو القدرة الظاهرة على تنفيذ بعض الأفعال التي يريدها، لو تعمّقنا في التوحيد الفعل بيد الله، لكن فيما يبدو لنا أول وهلة الإنسان يملك قوة ظاهرة على تنفيذ ما يريد، أراد أن يسير يسير، أراد أن يقوم يقوم، هذا فيما يبدو.
الشيء الرابع أن الإنسان مفطور فطرة عالية، فطرة كاملة على حبّ الخير، على حبّ العدل، على حبّ الرحمة، على حبّ الإحسان، أن يكون الإنسان رحيماً شيء، وأن يكون مفطوراً على حبّ الرحمة شيء آخر، أن تحب الرحمة هذا شيء فطري غير كسبي، أما أن تكون رحيماً هذا شيء كسبي بعد أن تتعرف إلى الله عزّ وجل، وأن تستقيم على أمره، وأن تعمل صالحاً، وأن تُقبل عليه، عندئذٍ يصطبغ قلبك بالرحمة، هذه الرحمة أن تكون رحيماً شيء كسبي، أما أن تحب الرحمة شيء فطري، لذلك القرآن الكريم ميّز بين الفطرة وبين الصبغة، فقال سبحانه:
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)﴾
هذه بلا كسب، وأما الصبغة قال تعالى:
﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)﴾
2- لماذا أعطى الله الإنسان العقل وحرية الإرادة والاختيار؟
على كلّ الإنسان يتميز بقوة بحرية الإرادة، أي حرية الاختيار، والقوة الإدراكية العقل، ويتميز بالفطرة الكاملة، وفيما يبدو له أول وهلة يتميز بأنه يملك أن يحقق ما يريد، لماذا خُلِقَ الإنسان على هذه الشاكلة؟ هذه ميزات تفتقر إليها أكثر المخلوقات، لماذا خُلِقَ الإنسان على هذه الشاكلة؟ قد يبدو هذا من أن الله عز وجل حينما عَرَض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وحينما أَبيْنَ أن يَحملنَها لأنهنَّ أشفقن منها، وحملها الإنسان، هذه هي الأمانة، أي التكليف، أي كأن الله عزّ وجل عَرَضَ على مخلوقاته حينما خلقهم، عَرَض عليهم مرتبة عالية جداً من الإدراك، ومن السعادة، ومن الخلود في هذه السعادة، لكن هذه المرتبة العالية جداً لها ثمن، والثمن حمْلُ الأمانة، فإنْ نجح الإنسان، وحقَّق هذه المهمة، وحمل الأمانة، ونجح في حملِها، استحق مرتبة لا يدانيه بها مخلوق في الكون، لذلك قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)﴾
أي خير ما برأ الله سبحانه وتعالى، فإن لم يُحقِّق هذه المهمة، ولم ينجح في حَمْلِ الأمانة كانَ أشقى مخلوق خَلَقَه الله عزّ وجل، لا يوجد حالة وسط، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)﴾
إما أنه خير البرية، وإما أنه شر البرية، لأن الإنسان قَبِلَ حَمل الأمانة، وقَبِلَ التكليف، وقَبِلَ أن يكون حُرّاً في اختياره، وقَبِل أن يُزَوّد بشهوات يُعِنَّه على تحمل الأمانة، وعلى السمو بنفسه إلى الله عز وجل، لأنه قَبِلَ التكليف، أو قَبِل الأمانة، أو بالتفصيل قَبِل أن يُزوَّد بعقل إدراكي، وأن يُزوَّد بحرية اختيار، وأن يُزوّد بفطرة عالية، وأن يُزوَّد بقدرة ظاهرة على تحقيق ما يريد، وأن يُزوّد بما يُعينه على تحمّل الأمانة، لأنه قَبِلَ، الله سبحانه وتعالى رفَعَه فوق كل الخلق، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾
لأنه قَبِلَ حَمْلَ الأمانة سَخَّر الله له ما في السماوات والأرض، قال تعالى:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾
سخّر لكم ما في الأرض جميعاً، أنواع المعادن، أنواع الفلزات، أنواع المخلوقات، كل أنواع الأطيار، كل أنواع الأسماك، كل أنواع النباتات، هذا كله، البحار، البحيرات، الجبال، الوديان، السهول، الأغوار، التلال، الأشجار، كل شيء خلقه الله في الأرض مُسخَّر لك أيها الإنسان، لماذا؟ لأنك قَبِلتَ حَمْلَ الأمانة فقط، كل ما في السماوات مسخّر لك أيها الإنسان، لماذا؟ لأنك قَبِلتَ حَمْلَ الأمانة، فالمُسَخّر له أعلى شأناً، وأعلى مرتبة من المُسخَّر من أجله، فالكون مُسخَّر من أجل الإنسان، والإنسان مُسخَّر له الكون من أجله، ، إذاً هو أعلى مرتبة.
3- لماذا خلق الله الإنسان؟
مرحلة ثانية؛ لماذا خَلَق الله الإنسان؟ لماذا خلَق الخلْق؟ ليُسعِدهم، ولماذا عرض عليهم الأمانة؟ ليحملهم على أن يرقَوا إلى أعلى درجة، لذلك إذا نجح الإنسان في حملِ الأمانة بلغ مرتبة لا يُدانيه بها مخلوق على وجه الأرض، ولا تحت الأرض، ولا فوق الأرض، رُكِّب الملك من عقل بلا شهوة، ورُكِّب الحيوان من شهوة بلا عقل، ورُكِّب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان.
بشكل ملخص خَلَق اللهُ الخلقَ ليسعدهم، وَعَرَض عليهم مرتبة من السعادة لا تدانيها مرتبة، لكن لهذه المرتبة ثمن، الثمن حمْلُ الأمانة، فإنْ نجح بحملها كان فوق الخلق، وإن أخفق في حملها كان أشقى الخلق، بعد أنْ حَمَلَ الإنسانُ الأمانةَ زوّده بالعقل المُدرِك، وبالشهوة المحركة، وبالفطرة السليمة، وزوّده أيضاً بحرية الاختيار، وزوّده بكل ما يحتاج مِن أجل أن ينجح في حمل الأمانة، كأن الله عزّ وجل أرسله إلى الدنيا ليمتحنه بهذه الخصائص التي يتميز بها، من هنا تأتي بعض الآيات الكريمة كقوله تعالى:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾
من هنا يأتي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾
أُسمِعكم بعض الآيات:
﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)﴾
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)﴾
4- لماذا ابتُلي الإنسان في الدنيا؟
انتقلنا مِن علّة الخلق، ومن تصنيف الخلق، ومن الأمانة إلى أن الإنسان في هذه الدنيا مبتلى، وربما كان الابتلاءُ سببَ استحقاقه دخولَ الجنة، والابتلاء أيضاً سبب استحقاقه دخول النار، نحن في هذه الدنيا مُبتَلون، بمعنى ممتحنون، نُمتحن بالمال، نُمتحن بالصحة، نُمتحن بالقوة، نُمتحن بالفقر، نُمتحن بالمرض، نُمتحن بالزوجة، نُمتحن بالأولاد، نُمتحن بالعلو في الأرض، نُمتحن بقلة الشأن في الأرض، كل شيء يصيبنا نُمتحن به، مِن هنا قال الله عزّ وجل:
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)﴾
لا، ليس هذا إكراماً، الإكرام لا ينقطع، الإكرام لا ينتهي بالموت، الموت انقطاع كل شيء، أَيَلِيقُ بحضرة الله عزّ وجل أن يعطيك المال لفترة مؤقتة فإذا جاء ملَكُ الموت تركتَ كلَّ شيء دفعةً واحدة؟ هذا ليس إكرامًا، إنما هو ابتلاء، قال تعالى:
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)﴾
ليس هذا عطاءً وإكراماً، وليس هذا حرماناً وإهانةً، كلاهما ابتلاء، امتحان:
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾
القضية قضية ابتلاء:
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)﴾
دع في تفكيرك أيها الأخ الكريم أنك وُجِدتَ على هذه الأرض، وَأَتَيْتَ إلى هذه الدنيا من أجل أن تُبتَلى، والابتلاء من أجل أن تدخل الجنة باستحقاق، والابتلاء من أجل أن يدخُلَ أهلُ النارِ النار باستحقاق، قال الله:
﴿ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)﴾
لأننا لا نستطيع أن نؤمن باليوم الآخر قبل أن نعرف طبيعة الحياة الدنيا، نحن في دار ابتلاء، نحن في دار امتحان، إنّ هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، منزل ترح لا منزل فرح، مَن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عِوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.
أتمنى أن أكون قد مُكّنت من توضيح هذه الفكرة، نحن هنا في دار ابتلاء، في دار امتحان، في دار تكليف، في دار حمْلِ الأمانة، في دار فحص، أمّا إذا انقلبنا إلى الآخرة فنحن في دار تشريف، دار نعيم مقيم، دار مُتعة أبدية، دار سعادة خالدة، لذلك الأحمق هو الذي يستعجل طيبات الآخرة في الدنيا، قال الله:
﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)﴾
يستعجلها، يستهلكها فإذا جاء الموت انقلب إلى عذاب أبدي.
الآن خُلِقنا للسعادة وعُرِضت علينا أعلى مرتبة في السعادة بثمن وهو حمل الأمانة، المخلوقات جميعاً استنكفوا، وأشفقوا، وخافوا، وتهيبوا، والإنسان والجن قَبِلا حمل الأمانة، وحمل الأمانة اقتضى أن يُزوّدوا بالاختيار، أن يُزوّدوا بالشهوة لتكون محركاً لهم، أن يُزوّدوا بعقل يُدرك، أن يُزوّدوا بفطرة كاملة، وأن يُزوّدوا بكل شيء يُعِينهم على تحقيق هدفهم في الحياة.
ما دمنا قد ابتُلينا بحمل الأمانة ماذا يقتضي حملُ الأمانة؟ مادام الله عز وجل قد زوّدنا بقوة إدراكية، هذه القوة الإدراكية تقتضي أن نعرف الله عزّ وجل، لذلك من يستخدم هذه القوة الإدراكية بعض العلماء قالوا: إن أعظم ما في الكون هو الفكر البشري، ما دام الله عزّ وجل قد زوَّدنا بهذه القوة الإدراكية، هذا التزويد يقتضي أن نعرف الله بها، فإذا سُخِّرت هذه القدرة من أجل الدنيا، من أجل الشر، من أجل الإيقاع بين الناس، من أجل الحِيَل، والختل، من أجل كسب الرزق الحرام، من أجل ترويج الباطل، من أجل إفساد الناس، من أجل الإيقاع بينهم، كان الذي فعل هذا قد خسر خسارة لا حدود لها.
ولأن الله عزّ وجل زوّدنا بحرية الاختيار، وبالقدرة الظاهرة على تنفيذ بعض الأفعال، لذلك يقتضي هذا التزويد أن نَعبُد الله عز وجل، القوة الإدراكية تقتضي أن نعرفه، والقدرة الظاهرة على تحقيق ما نختار تقتضي أن نعبُده، لذلك الدين كله أن تعرفه أولاً وأن تعبده ثانياً، الدين كله، قال تعالى:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
أن تعرفه: ﴿فَاعْبُدُونِ﴾ وأن تعبده، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾
لأن الله عزّ وجل خلَقَنا على فطرة كاملة، تُقَدَّر الإحسان، تُقدِّر العفو، تُقدِّر الرحمة، تُقدِّر العدالة، تقتضي هذه الفطرة أن نشكره على نعمه، وأن نحبه، لذلك في الصلاة تقول:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)﴾
أيها الإخوة الأكارم؛ تقتضي طبيعة الإنسان أن نعرفه، وأن نعبده، وأن نُحبه ونشكره، فطرتنا التي بُنِيت على تقدير الإحسان تقتضي أن نحبه وأن نشكره، وقدرتنا الظاهرة مع حرية الاختيار تقتضي أن نعبده، وقوتنا الإدراكية تقتضي أن نعرفه، فأنت يجب أن تعرفه وأن تعبده وأن تحبه، هذا هو الامتحان، هذه هي الأسئلة، فالذي نجح في تحقيق هذه البنود نجح في الحياة وبعد الممات، ونجح إلى الأبد.
ثمرة عمل الإنسان في الدارين هي النية فإما أن يسعد بها أو يشقى بها:
اليوم قلت كلمة معَ بعض الإخوة، قلت: هذا الذي أمر بإلقاء قنبلة على هيروشيما، وأمات في ثماني ثوان ثلاثمئة ألف إنسان، وعطّل الحياة، وعقّم التربة من الإنبات، وترك مئات الألوف من المشوَّهين، وفيما أعلم إلى سنوات عدة كان لايزال هناك بعض المشوهين من المُعَمّرين، هذا شرّ كبير أن تكون سبباً في هلاك عشرات الألوف، بل مئات الألوف، هذا العمل الشرير أعظم منه الذي فعله، لأن هذا العمل انتهى، الذي مات ماتَ، والمشوَّه مات، والأرض بعد ذلك أنبتت، لكن هذا الذي عمِل هذا العمل واجه عمله إلى الأبد، لذلك شَقِي به إلى الأبد، لذلك قيل: فاعل الشر شرٌّ مِن الشّر، هل هناك في الأرض ما هو أشرّ من الشر؟ نعم، فاعل الشر، وهل هناك في الأرض ما هو خير من الخير؟ نعم، فاعل الخير، لو أنك أنقذتَ إنساناً من الغرق هذا الإنسان بقي سليماً، لابد من يوم يموت، فهذا العمل الطيب انتهى، لكنك تواجه الله عزّ وجل بهذه النية الطيبة في إنقاذ الآخرين، هذه النية تَسعَد بها إلى الأبد.
إذاً أنت خُلِقت في الدنيا لتُبتلى، العمل إن كان خيراً، وإن كان شريراً ينتهي بالموت، وينتهي بانتهاء الحياة، لكن الذي يبقى هذه النية الطيبة، وهذه الإرادة الخيّرة، أو هذه النية الخبيثة، أو هذه الإرادة الشريرة، بهذه تَسعد بها إلى الأبد، وبهذه تشقى بها إلى الأبد.
إذاً نعيد ونكرر؛ العقل يقتضي معرفة الله، وحرية الاختيار مع القدرة الظاهرة، أقول: الظاهرة، لأنك لو تعمقت في علم التوحيد لا تجد فعلاً إلا لله، والقدرة الظاهرة على تحقيق ما نريد تقتضي عبادة الله عز وجل، والفطرة السليمة التي فُطرنا عليها تقتضي أن نشكره وأن نحبه، فكل إنسان ليس على خط معرفة الله، وليس على خط عبادته وليس على خط محبته وشكره، فهو ضال مُضلّ:
﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)﴾
أين أنت أيها الأخ الكريم؟ هل أنت في طريق معرفته؟ أي هل أنت تحضر مجالس العلم من أجل أن تعرف كتابه وأحكامه وأسماءه الحسنى وصفاتِه الفضلى؟ مِن أجل أن تعرف تشريعه، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وما أعدَّ لعباده المؤمنين مِن نعيم مقيم، وما أعدَّ للعصاة المجرمين من عذاب أليم.
هل أنت في طريق المعرفة؟ هل تؤْثر ساعة لذة على مجلس علم؟ هل تأتي إلى مجلس العلم لتعرف الله عزّ وجل لا لشيء آخر؟ تأتي لهذا المجلس لا تبتغي إلا معرفة الله عز وجل، هل أنت في طريق عبادته؟ هل تضبط جوارحك؟ بصرك؟ سمعك؟ لسانك؟ قوتك؟ يدك؟ رجلك؟ تفكيرك؟ هل تُعامِل الناس كما أمر الله عزّ وجل؟ هل تبيع وفق الشريعة الصحيحة؟ هل تشتري وفق الشريعة؟ وفق أمر الله عز وجل؟ هل أنت في طريق معرفته؟ وهل أنت في طريق عبادته؟ هل تؤدي العبادات أداءً صحيحاً؟ لا تبتغي سمعة ولا رياءً ولا جاهاً ولا قوة ولا استعلاء، وهل أنت في طريق حمده وشكره؟ هل تحبه؟ هل الله عز وجل أَحَبُّ إليك من كل شيء؟ قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾
الحكمة من وضع الإنسان في ظروف صعبة أحياناً:
شيء آخر؛ مادام الإنسان قد خُلِق ليُمتحن، ليُبتلى، لأن الابتلاء هو الطريق الوحيد لتستحق به دخول الجنة، أو ليستحق به المُعْرِض دخول النار، فالابتلاء هو ثمن الجنة، والابتلاء ثمن النار، لذلك الفتنة تعني الابتلاء أيضاً، من هنا اقتضت حكمة الله عز وجل أن يضع الإنسان في الظروف الملائمة، أي أصحاب النبي عليهم رضوان الله عليه الصلاة والسلام وعليهم رضوان الله امتُحنوا امتحانات شتى كان من أبرزها امتحان الخندق.
معهم رسول الله، نبي عظيم، ورسول كريم، يُوحَى إليه عن طريق جبريل عليه السلام، والقرآن يُنزّل عليه بين ظهرانيهم، والآيات تترا، جاءهم كفار قريش، ومشركو العرب، وتحزَّبوا أمامهم وتجمعوا بأعداد كبيرة لإنهاء الإسلام، وَنَقَضَ اليهودُ عهدهم، وأُحكِمت الحلقةُ حولهم، وصار الإسلام على وشك التدمير الكلي، الله عز وجل قال: إن المؤمنين كُثُر، بعضهم إيمانه قوي، بعضهم إيمانه ضعيف، فصاحب الإيمان القوي لم يتزلزل، ولم يتأثر، ولم يضطرب، ولم يختل، ولم يضعف، ولم يخنع، ولم يَهِنْ، ولم يحزن، قال تعالى:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾
أمّا ضِعاف المؤمنين فقالوا:
﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)﴾
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)﴾
انتهى الأمر، أي لا يمكن أيها الأخ الكريم لا يمكن إلا أن تُبتلى في هذه الدنيا، تُبتلى بالزوجة، هل تؤْثِر رضاها على رضاء الله؟ هل تتساهل معها ولو كان ذلك على حساب دينك؟ هل تنسى أمك كلياً؟ الزوجة تُبتلى بها، ليس معنى ذلك أنها هي بلوى، لا، هي إنعام من الله، هي تكريم، لكن ابتلاء وليس بلوى، تُبتلى بها، هل تترك مجالس العلم بعد الزواج؟ كم مِن شاب متحمس مندفع بعد الزواج يتغيب عن مجالس العلم؟! يؤثر مجالس الزوجة على مجالس العلم، هذا ابتلاء، قد يكون الإنسان فقيراً، فهو مستقيم على أمر الله، يأتيه المال الوفير إذا به يتقاعس، يريد المُتع الرخيصة، يريد أن ينحرف أخلاقياً، يريد أن يزور بعض بلدان العالم ليعطي نفسه ما تشتهي، يقول لك: أنا معي مال، ويجب أن أستمتع به، الله عز وجل امتحنه بالمال وسقط، تُمتحن بالفقر، هل تصبرُ أم تكفر؟ تُمتحن بالمرض، هل تلجّ أم تقول لابد من حكمة وراء هذا المرض؟ فالنتيجة أنك مُبتلى، وأنا معكم مُبتلى، وما مِن مخلوق على وجه الأرض إلا وهو مبتلى، والابتلاء سُنة الحياة، ﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ الابتلاء ثمن الجنة، والابتلاء ثمن النار، أبداً.
فلذلك خَلَقَ الله عزّ وجل في الإنسان الشهوة، فالشهوة إما أن تكون قوة محركة تنقله إلى آفاق السعادة، وإما أن تكون الشهوة قوة مدمرة كهذا الوقود السائل، إما أن يُحرِّك المحرّك، تأخذك السيارة إلى حيث تشتهي، وإما أن يُحرق السيارة، والوقود هو هو، إذا أُحسِن استعماله وسار في أماكنه الصحيحة نقلك من مكان إلى مكان، وإذا خرج عن خط سيره وصُبّ فوق السيارة وجاءته شرارة أحرقها، هكذا الشهوة، الشهوة قوة محركة، اللهُ عزّ وجل خَلَقَ الملائكة التي تُلهِمك الخير، وخلق الشياطين التي تُوسوس بالشر، هناك توازن، خَلَقَ الخير، وخلق الشر، والشر والخير بيد الله عزّ وجل مِن أجل أن تُمتحن، من أجل أن تُبتلى، طبعاً هذا الموضوع كله تمهيد لليوم الآخر، لأن هنا الابتلاء وهناك الجزاء.
من لوازم الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر:
افعلوا ما شئتم، هكذا قال الله عز وجل:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)﴾
أنتم مبتلون، الحساب في الآخرة، اليوم عمل ولا جزاء، وغداّ جزاء ولا عمل، لذلك أكثر الآيات الذين آمنوا بالله وباليوم الآخر، من لوازم الإيمان بالله الإيمانُ باليوم الآخر.
لهذا كان في الحياة خير وشر، وحقّ وباطل، ولذة وألم، وسرور وحزن، وغنى وفقر، وصحة ومرض، وعلو وانخفاض، وشهرة وخمول، وإقبال وإدبار، قال تعالى:
﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)﴾
الصحة يقابلها مرض، الفراغ يقابله شغل، القلق يقابله طمأنينة، السرور يقابله حزن، الغنى يقابله فقر، الصحة يقابلها مرض، الخير يقابله شر، اللذة يقابلها ألم، لهذا وُضِع الإنسانُ في أكمل الشروط، وأنجحِ الشروط من أجل أن يُبتلى، وأن يظهر على حقيقته، ليستحق الجنة، أو ليستحق النار، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
قال سبحانه:
﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)﴾
هذه الآخرة، راقب نفسك، دخلت للبيت مُبتلى، الأكل غير جاهز، أتصبر؟ أتكون حليماً أم تكون إنساناً شرساً؟ قد يوجّه لك إنسان كلمة نابية أتصبر؟ أتحلم؟ أم تردّ له الصاع صاعين؟ معك مبلغ من المال أتعطيه للمحتاجين أم تنفقه على شهوتك؟ أنت ممتحن، راقب نفسك في عملك ممتحن، يأتيك الشاري يقول لك: انصحني، أتُؤثِر اللهَ ورسوله وتنصحه بالبضاعة الرائجة أم تنصحه بالبضاعة الكاسدة وتسقط من عين الله عز وجل؟ يأتيك الموكّل، أتقول له: هذه الدعوى لا أمل منها أبداً؟ لا تُتعب نفسك؟ إن كل القوانين في جانب خصمك؟ أم تقول له: لا، أنا آخذ لك حكماً ضد خصمك لكن هذه الدعوى تكلفك كذا وكذا؟ أنت مُمتحن، بالمحاماة مُمتحن، وبالطب مُمتحن، يأتيك المريض، وتعلم علم اليقين أنّ هذا المريض شفاؤه على يد فلان، المختص في هذا المرض، أما أنت فلا تعرف دقائق هذا المرض، أتقول له: اذهب إلى الطبيب فلان وتُفوّت عليك ما يدفعه لك من مال؟ الصيدلي إذا انتهى مفعول هذا الدواء أتحكّ التاريخَ وتبيعه كما لو كان فعّالاً؟ تُمتحن، يأتي القصاب طفل صغير أتستغل جهله تعطيه أسوأ ما عندك من اللحم؟ أنت ممتحن بكل ثانية، بكل لحظة، بكل دقيقة، ممتحن في بيتك، ممتحن في غرفتك الخاصة، ممتحن مع أهلك، أتعصي الله؟ ممتحن مع أولادك، ممتحن مع جيرانك، ممتحن في كل حركة من حركاتك، وكل سكنة من سكناتك.
الدنيا دار ابتلاء والآخرة دار جزاء:
إن شاء الله نتابع هذا الموضوع في الدرس القادم، هناك مجموعة دروس تمهيدية لنصل من خلالها إلى ضرورة الإيمان باليوم الآخر، فالإيمان باليوم الآخر يُغيّر حياة الإنسان رأساً على عقب، إذا آمنت أن كل شيء تفعله تُحَاسب عنه مهما دق انضبط الإنسان، أي لا يستطيع الإنسان أن يُغيّر سلوكه تغبيراً جذرياً إلا إذا آمن باليوم الآخر، لا يستطيع الإنسان أن يتجه بكليته إلى الله عز وجل إلا إذا نقل اهتمامه كله من الدنيا إلى الآخرة، لذلك قيل: إن أسعد الناس فيها أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها، إذا عرفت الآخرة وآثرت الآخرة جاءتك الدنيا والآخرة، فإذا لم تعرف الآخرة وآثرت الدنيا خسرت الدنيا والآخرة، قضية مصيرية، أي أخطر موضوع، إذا عرفت أنك خُلِقت في دنيا محدودة قصيرة منقطعة، إنما هي ابتلاء، وأن الجزاء يوم القيامة سعدت في الدنيا والآخرة، فإذا غفلت عن هذه الحقيقة وظننت أن الدنيا هي كل شيء:
﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)﴾
حينما تعرف حقيقة الأمر، لذلك قال الله عزّ وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)﴾
أرجو الله عز وجل أن أكون قد وفقت إلى توضيح معنى الابتلاء، ما من مخلوق من مخلوقات الأرض الإنسان بالذات إلا وهو مبتلى، بكل شيء، في كل موقف، وفي كل وقت، وفي كل زمان، وفي كل مكان، تسافر تبتلى، تتساهل في تطبيق الشرع؟ ربما كنت تنتمي إلى جماعة دينية مؤمنة أنت في الطريق تغض بصرك، فإذا سافرت إلى بلاد أخرى أتنظر إلى الحرام؟ هذا ابتلاء، السفر كان ابتلاء إما أن تنجح وإما أن ترسب حتى في السفر.
الملف مدقق