الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
السنن أو القوانين الإلهية في القرآن الكريم:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس والأربعين من دروس العقيدة.
لا زلنا في موضوع كبير، أحد أركان الإيمان الخمسة وهو الإيمان باليوم الآخر، وقد تحدثنا كمقدمة لهذا الموضوع كيف أن الإنسان قَبِل حَمْل الأمانة ليصل بهذه الأمانة إلى أعلى درجة من درجات السعادة الأبدية، وأنه بحملِ الأمانة لابدّ من أن يُبتلى، وأنّ الابتلاء ثمن الجنة، وفي الدرس الماضي والذي قبله أمضيناهما في الحديث عن الابتلاء، وكيف أن الابتلاء سنة الله الكبرى في الدنيا، وأن الإنسان لن يستحق دخول الجنة إلا إذا نجح في هذا الابتلاء، واليوم إلى بعض السنن الثابتة التي سنّها الله عزّ وجل.
في القرآن الكريم تأتي كلمة السّنّة:
﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)﴾
﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)﴾
كلمة السنة بالمعنى الحديث القانون، والقانون بالتعريف الدقيق هو العلاقة الثابتة بين شيئين، فإذا تحدثنا عن السنن المطّرِدة أو المطّرَدة -كلاهما صحيح-التي سنّها الله عزّ وجل فمِنْ قَبِيل الحديث عن القوانين الثابتة التي قنَّنها الله عزّ وجل، من هذه السنن الثابتة، أو من هذه القوانين الثابتة قانون الجزاء الرباني، هناك جزاء، أي اعمل ما شئتَ، افعل ما بدا لك، كل شيء له ثمن، الإحسان له جزاء، والإساءة لها جزاء، وبرّ الوالدين له جزاء، وعقوقهما له جزاء، والرحمة بالزوجة لها جزاء، والقسوة عليها لها جزاء، والصدق مع الناس له جزاء، وخيانتهم له جزاء، أيُّ عمـلٍ فكري، أو قلبي، أو كلامي، أو فعلي، صغيرٍ أو كبير، فردي أو جماعي، خاص أو عام، معروف أو مجهول، ظاهر أو خفي، أيّ عمل يفعله الإنسان لابد من أنْ يلقى جزاءه، متى؟ بعد قليل، مبدئياً في الدنيا والآخرة، أي كل موقف تَقِفه، كل كلمة تقولها، كل عمل تعمله، كل تفكير تُفكر فيه، أي شيء تفعله، لابد من أن تلقى نتيجته، لذلك مِنَ الغباء والسذاجة والحمق أنْ تظنَّ أو أن تتَوَهَّم أنَّك إذا فعل السيئات ستنجو من عقاب رب الأرض والسماوات، اعمل ما شئت، إنّ لكل حسنة ثواباً، وإنّ لكل سيئة عقاباً، والديّان موجود، والبرّ لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تُدان.
الابتلاء كما قلنا يستتبع الجزاء، ما معنى أنْ تُجري الجامعة امتحاناً وتنفق عليه مئات الألوف وتجمع من أجله مئات المراقبين وتُجهِد نفسها في طبع الأسئلة وفي اختيارها بحيث تغطي المنهاج كله، وأن تجمع الطلاب في شهر أو شهرين في قاعات بساعات عديدة يكتبون؟ لو أنّ هذه الجامعة جمعت هذه الأوراق، وأحرقتها، وانتهى الأمر، هل يُعقل أن تفعل جامعة ذلك؟ ما دام هناك امتحان فلابد من نجاحٍ أو رسوب، ولابد مع النجاح مِن ارتقاء إلى صفّ أعلى، ولابد مع الرسوب مِن تضييعِ عام بأكمله، ولا بد مع النجاح في الصف الأخير من تعيين في وظيفة مرموقة، أيُعقل أن يكون ابتلاء بلا جزاء؟ من لوازم الابتلاء الجزاء، أمضينا الدرسين السابقين في الحديث عن الابتلاء، وفي اليوم نتحدث عن الجزاء، فكل عمل له جزاء، فهنيئاً لمَن عرف ربه، وعرف الواحد الديان، وتعامل معه فأخلص له، وأحسنَ لعباده، أي أنت حينما تخاف الله عزّ وجل، ولاَ تَغش مسلماً، أيٌعقل أن يأتي رجل ليبثّ في قلبك الرعب؟ لا والله، إن خفتَه فلن يُخيفك من أحد، وإن لم تخفه فسوف تخاف من أحقر الناس، وسوف ترتعد فرائصك من أتفه الناس، إما أن تخافه، وإما أن تخاف من عبدٍ لا يخافه.
هذا الابتلاء لم يكن إذا كان أمام الإنسان طريق واحدة، أي كيف نقول: نمتحن الإنسان؟ كيف نبتليه إذا كان أمامه طريق واحد؟ لابد من طريقين، لذلك كان طريق الخير والشر، طريق الحق والباطل، طريق الإحسان والإساءة، طريق الإخلاص والخيانة، طريق الصدق والكذب، طريق الشهوة والعقل، طريق المبدأ والمصلحة، طريق القيم والحاجات، أبداً، لأن هناك ابتلاء لابد من طرق عديدة كي تُبتلى باختيار أكملها أو باختيار أسوئها، من لوازم الابتلاء تعدُّد الطرق، الاختيار ماذا يتْبَعه؟ لو أننا خيرنا إنساناً قلنا له: أعطيناك حرية الاختيار، لكن ليس أمامك إلا هذا الطريق ذو الاتجاه الإجباري، أين الاختيار؟ انتهى الاختيار، أما إذا كان هناك طريقان لك أن تختار أحدهما.
فمن لوازم الابتلاء أن يكون هناك طريق للخير وللشر، وللحق والباطل، والإحسان والإساءة، وهذا الابتلاء الذي لابد من طرق عديدة كي يتحقق وجوده، لابد من أن يَتْبَعه جزاء محقق، الجزاء كما قلنا قبل قليل وكما سنفسر بعد قليل بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة، ولكن اعمل ما شئت كما تدين تدان، ربنا عزّ وجل في آية مُحكمة واضحة يقول جلّ وعلا:
﴿ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)﴾
هذه لام التعليل، بل هي لام العلة، علّة خَلْقِنا، وعلّة خَلْقِنا مرة ثانية، وعلّة الدنيا والآخرة أنّ الله عزّ وجل قال: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ .
2- قانون الجزاء أثر من آثار العدل:
الحقيقـة من أسماء الله الحق، وقد يقول أحدنا: يقول الحق جلّ وعلا، الحق اسم من أسماء الله، ولا يتحقق الحقُّ إلا بالعدل، بل إنّ الجزاءَ أثرٌ من آثار العدل، الذي هو وجه مِن وجوه الحق، الحق يقتضي العدل، مِن العدل ألا يكون المسلم كالمجرم، قال تعالى:
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)﴾
هذا استفهـام إنكاري، أيْ أيٌعقل أن يكون هذا المسلم المستقيم، الورِع، الطاهر، العفيف، النقي، البريء، العفو، الرحيم، اللطيف، أَيُعقل أن يكون هذا المسلم كالمجرم في معاملته؟ إن كان كذلك فأين اسم الله العدل؟ فأين اسم الله الحق؟ تحقيقاً للحق، وتحقيقاً للعدل، لا يمكن أن يكون المسلم كالمجرم، وهذه آية كريمة.
أدلة من الكتاب والسنة على عدل الله في معاملته مع المؤمن والكافر:
في سورة القلم:
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)﴾
ما الذي يحمل الناس على المعصية؟ توهّم وضلال مِن أن الكافر إذا حصّل مالاً وفيراً من طرق غير مشروعة فهو ذكي، وهو حصيف، وقد تمتع بالدنيا كما يشتهي، وينسى هذا الكافر أن الله عزّ وجل لن يعامله كما يعامل المسلم: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ .
آية أخرى:
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)﴾
الأعمى لا يستوي مع البصير، قال تعالى:
﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾
﴿ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)﴾
آية ثالثة وهي قوله تعالى:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
محياهم في الدنيا، أي حياة المؤمن بدءاً من صحته، مروراً بزواجه، انتهاءً بأولاده، مع عمله، مع مكانته، مع سُمعته، مع راحة باله، مع طمأنينته، مع استقراره، مع طِيب نفسه، مع سعادته، هذا المؤمن لن يكون كالذي يجترح السيئات، وما يكتنف اجتراح السيئات مِن قلقٍ، وضيق، وضجر، وخوف، وشعور بالقهر، وخنوع، ومصائب تعتور هذا الفاسق، مصيبة في ماله، في ولده، في صحته، في حريته، هذا كله بيَّنه الله عزّ وجل: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ أي إذا حكم الإنسان أن الذي يجترح السيئات سيُعَامل كالذي يعمل الصالحات، إذا حكم هذا الحكم فانطلق من حكمه هذا بفعل السيئات، إن هذا الحكم سيسوءه أيما إساءة، سيُسبب له الشقاء الكبير إن هذا الحكم بالذات.
آية رابعة:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
أي نرجو الله عز وجل أن نكون ممن وُعِدوا وعداً حسناً، إذا كان الله خالق السماوات والأرض قد تفضّل ووعد عباده المؤمنين وعداً حسناً، وعدهم بسعادة أبدية، وعدهم بجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وعدهم بحياة أبدية لا تعب، ولا نصب، ولا قلق، ولا ضيق، ولا فقر، ولا مرض، إذا كان الله عزّ وجل تفضّل ووعدنا بهذا الوعد فوعْدُه حق، قال تعالى:
﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)﴾
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ على كل الآيات التي تكون موازنةً بين المؤمنين وغير المؤمنين كثيرة جداً، في السجدة:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
﴿ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)﴾
آيات كثيرة، في مواضع كثيرة جداً مِن القرآن، في أكثر مِن مئة موضع في كتاب الله يُجرِي اللهُ موازنة بين أهل الإيمان، وحياتهم في الدنيا، ومُنقلبهم في الآخرة، وبين أهل الكفر والعصيان، وكيف أن حياتهم سلسلة مِن المتاعب، والمصائب، وخيبة الأمل.
الآن من السنن الثابتة، القانون الأول قانون الجزاء الرباني وإعلانه، والقانون الثاني هو أن الجزاء أثر من آثار قصص العدل الإلهي،
(( مِن الأحاديث القدسية ما ثبتَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا -دققوا في نهاية الحديث-فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))
ذلك أن عطائي كلام وأخذي كلام.
3- قانون الجزاء الرباني بين الفضل والعدل:
الآن القانون الثالث قانون الجزاء الرباني بين الفضل والعدل، هذا القانون دقيق جداً، هو أن الإنسان إذا استقام على أمر الله، وفَعَل الصالحات يتفضل الله عليه بالجنة، لكن الجنة ليست لازمةً لاستقامته، وعمله الصالح، أي استقامته وعمله الصالح لا يستدعيان ذاتياً دخول الجنة، أي الطالب الذي يَعدِه أبوه بشراء دراجة ثمينة إذا نجح، نجاح الطالب فقط لا يستلزم ذاتياً اقتناء الدراجة، لو أن الطالب توجّه إلى بائع الدراجات وأعطاه الجلاء هل يعطيه دراجة؟ لابدّ مِن دفع الثمن، الجلاء الذي ينبِئ أن هذا الطالب قد نجح نجاحاً متفوقاً لا يعني أنه يستحق بالضرورة دراجة، إلا أن الأب قد تفضّل بهذا الوعد وأنجز وعده، فالمكافأة على النجاح مكافأة من باب الفضل المحض، وليست من باب الحق.
لو أنّ طالباً ليس له أب، أو أبوه كان فقيراً، وحقّق نجاحاً متفوقاً، لا أحد يشتَرِي له دراجة، النجاح وحده لا يستدعي اقتناء الدراجة، لكن فضل الأب على ابنه بوعده بشراء دراجة عند النجاح، فلذلك الجنة ندخلها برحمة الله، ونقتسمها بأعمالنا، فكرة دقيقة جداً، هناك مَن ضلّ فيها، هناك مَن قال: الجنة برحمة الله لا بالعمل، فَتَرَك العمل، فحُرِم مِن الجنة، الجنة برحمة الله، معنى برحمة الله أنك إذا أمضيتَ كل حياتك باستقامة، وعبادة، وصلاة، وصيام، وحج، وزكاة، وورع، وإحسان، وتضحية، وإيثار، وجهاد، هل هذه الأعمال كلها من دون فضل الله عز وجل تُمَكّنك ذاتياً من دخول الجنة؟ لا، الجنة مِن فضلِ الله عزّ وجل، فالعطاء الإلهي فضلٌ، لكن العقاب الإلهي عدلٌ، شتان بين الفكرتين.
الجنة محض فضل وليست استحقاقاً دليل ذلك الكتاب والسنة:
سأتابع توضيح الفكرة، إذاً النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لا وَلا أَنَا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَلا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ. ))
آيات كثيرة جداً:
هذا شيءٌ طيب، إلا أن آيات كثيرة، تقول: دخول الجنة بما كنتم تعملون، قال الله:
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)﴾
ويقول تعالى:
﴿ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)﴾
التوفيق بين الآيات وبين الحديث يحتاج إلى دقة بالغة، الإنسان إذا عمل عملاً صالحاً استحق فَضْلَ الله بعمله الصالح، باستقامته، وورعه، وانضباطه، وأدائه عباداته إذا فعل ذلك يستحق الفضل الإلهي، أمّا أن تكون الجنة حقاً لازماً له يُطالب بها هذا غير صحيح، ليس له أن يطالب بالجنة، ولكن الله عزّ وجل وعُده حقٌّ، وَعَدَ المؤمنين بالجنة، إذاً الجنة أو الفضل إنما هو محض تكرُّم من الله عز وجل، وليس حقاً ثابتاً لك أن تطالب به.
فعبادة المخلوق وطاعته لله عزّ وجل حقٌّ واجب عليه تجاه ربه، لأنه مسبوق بنعم الله الكثيرة التي تستوجب الشكر، ولو أن المخلوق ظلّ حياته كلها في أعلى مرتبة من مراتب العبادة، والطاعة، والاستقامة، لكان ذلك منه تأدية لبعض ما يجب عليه نحو ربه مِن شكر على نِعَم لا يستطيع إحصائها، أي كل استقامتك، وكل ورعك، وكل عبادتك، وكل أعمالك الصالحة لا تعدل شكراً لنعم قليلة أنعمها الله عليك من خلال نِعَم كثيرة، إذاً دخول الجنة ليس استحقاقاً ولكنه تفُضّل من الله عز وجل، لأن أعمالك كلها تغطية لما سبق من فضله، من نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ونعمة الإرشاد.
يُستخلص من هذا أن الجزاء بالمثوبة على ما نفعل من خير إنما هو فضلٌ مِن الله نستحقه بكريمِ وعْدِه، وليس لنا فيه حقّ ذاتي.
جهنم حقّ وكل من يدخلها يستوجب العقاب والاستحقاق دليل ذلك الكتاب:
الحقيقة الثانية على خلاف هذه الحقيقة، وحيث كان الإيمان بالله، وطاعته حقاً واجباً على المكلَّفين، كان الجحود والعصيان مستوجباً الجزاء بالعقوبة ضمن قانون العدل الإلهي، شخص سرق مالَ الآخرين، هنا يجب العقابُ عليه تحقيقاً للعدل الإلهي، هذا الذي طلّق زوجته مِن دون سبب مبرِّر فشردت على الله عزّ وجل وانحرفت وكان هو السبب، وهذا الذي أساء إلى جيرانه فاعتدى عليهم، وعلى أموالهم من دون سبب مبرِّر، كان هذا عدواناً يستحق الجزاء بحسب قانون العدل الإلهي، فالجنة ندخلها تفضُّلاً، وأهل النار يدخلون النار استحقاقاً وعقاباً، لأنه يوجد حقوق، أولُ هذه الحقوق حقُّ الله عزّ وجل، وحقُّ الأنبياء، وحقُّ العباد، وحقّ الذين تعاملتَ معهم، فجهنم بالعدل، والجنة بالفضل، هاتان الحقيقتان يجب أن تكونا ماثلتين أمام كل مؤمن، مما يؤكِّد هاتين الحقيقة قولُه تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)﴾
آية أُخرى توضِّح هذه الحقيقة، وهي قوله تعالى:
﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)﴾
السيئة تُصيبك استحقاقاً، وأما الحسنة فتأخذها تفضُّلاً، لو كان العمل الصالح يقتضي بذاته الجزاء لقال الله عز وجل: وما أصابك من حسنة فمن نفسك، لا، العمل الصالح جزاؤه فضل من الله عز وجل، ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ إلا أن الفضل نوعان؛ إما أن يكون الفضل بالإكرام وإما أن يكون الفضل بالعفو، لذلك:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)﴾
وفي درس قادم إن شاء الله تعالى نُتابع الحديث عن هذه القوانين التي قنّنها الله عزّ وجل، أو عن هذه السنن الني سنّها الله عزّ وجل، وننتقل بعد ذلك إلى صُلب الإيمان باليوم الآخر.
الملف مدقق