وضع داكن
18-05-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 034 - التوبة - 1 منزلة التوبة وأحكامها
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

أحكام التوبة:


أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس الرابع والثلاثين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاكَ نعبد وإيّاكَ نستعين، ولا زِلنا في منزلة التوبة.
بدأنا هذه المنزلة بأنواع الذنوب والمعاصي، بدءاً من أن تقولَ على اللهِ ما لا تعلم، إلى الشِّركِ والنِّفاقِ والكُفرِ والفسوق، إلى الإثمِ والعدوان، إلى الفحشاءِ والمُنكر، إلى الكبائر، إلى الصغائر، وفي هذا الدرس نتحدّثُ عن أحكامٍ مُهمةٍ جداً من أحكام التوبة.
الحُكمُ الأول: هوَ أنَّ المبادرةَ إلى التوبة من الذنبِ فرضٌ على الفور، هذه فكرة مهمة، المبادرةَ إلى التوبة فرضٌ على الفور، فمن وقعَ في ذنبٍ، وتابَ منهُ بعدَ حين، عليهِ أن يتوبَ من ذنبين، ما هما؟ الذنبُ الذي اقتضى التوبة، وتأخير التوبة، لأنَّ المبادرةَ إلى التوبةِ من الذنبِ فرضٌ على الفور، إذاً لو أنَّ الإنسانَ اقترفَ ذنباً، ولم يَتُب منهُ فوراً، بل تابَ منهُ بعدَ حين عليهِ أن يتوبَ مرتين، أن يتوبَ من هذا الذنب، وأن يتوبَ من تأخير التوبة، لماذا؟ لأنكَ إذا وقعتَ في الذنب، وبقيتَ عليهِ فترةً ما لعلّه أصبح الذنبُ من عوائدِكَ، لعلكَ قَبِلتهُ، لعلك اعتدتَ عليه، لعلكَ اجترأتَ على الله، لعلهُ مع التكرار أصبحَ شيئاً بسيطاً عِندكَ، فالخطورةُ ليسَ في وقوعِكَ في الذنب، بل الخطورةُ في أن تستمرَ في الذنب، فلذلك من استمرَ في ذنبهِ فعليهِ أن يتوبَ من الذنبِ، ومن تأخير التوبة.
لذلك من وقعَ في ذنبٍ ولم يتُب منهُ فوراً عليهِ أن يتوبَ توبةً عامّةً، هُناكَ توبةٌ خاصّة من هذا الذنب بالذّات، وهُناكَ توبةَ عامّة، فلعلَّ التوبةَ العامة تمحو ذنبَ تأخير التوبة، كانَ عليه الصلاة والسلام يدعو في صلاتهِ ويقول:

(( عن معقل بن يسار: يا أبا بكرٍ، لَلشِّركُ فيكم أخْفى من دبيبِ النَّملِ، والذي نفسي بيدِه لَلشِّركُ أخْفى من دَبيبِ النَّملِ، ألا أدُلُّك على شيءٍ إذا فعلتَه ذهب عنك قليلهُ وكثيرهُ؟ قل: اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بك أن أُشرِكَ بك وأنا أعلمُ، وأستغفِرُك لما لا أَعلمُ. ))

[  صحيح الأدب المفرد: خلاصة حكم المحدث: صحيح  ]

وكانَ يدعو في صلاتهِ ويقولُ:

(( عن أبي موسى الأشعري: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتي وجَهْلِي، وإسْرافِي في أمْرِي، وما أنْتَ أعْلَمُ به مِنِّي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي هَزْلِي وجِدِّي وخَطايايَ وعَمْدِي، وكُلُّ ذلكَ عِندِي. ))

[  صحيح البخاري ]

دققوا في هذا الدعاء: ((اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي)) اغفر لي خطيئتي التي أخطأتها، لكن لو قُلتَ أنتَ لمن يدعوكَ إلى التوبةِ من هذا الذنب: أنا ما كُنتُ أعلمُ أنَّ هذا ذنب، لا أعلم يا أخي، ماذا تُجيبهُ؟ إنَّ عدمَ عِلمِكَ هو معصية، هُناكَ معصيةٌ، وهُناكَ معصيةُ ألا تعلم، لماذا لا تعلم؟ لذلك وردَ في الحديث الشريف في كتاب الجامع الصغير فيما أذكر أنَّه قيل: ويلٌ لمن لا يعلم، هوَ أكبرُ ذنب، ويلٌ لمن لا يعلم، وويلٌ لمن يعلم، كيف؟ ويلٌ لمن لا يعلم، إنَّ عدمَ العِلمِ، إنَّ عدمَ طلبَ العِلمِ، إنَّ عدمَ معرفة الله عزّ وجل ومعرفة منهجِهِ ذنبٌ كبير، لكنكَ إذا عَلِمت ولم تعمل أيضاً ويلٌ لك، ويلٌ لمن لا يعلم، وويلٌ لمن يعلم ولا يعمل، فدِقّةُ هذا الدعاء: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي)) فالجهلُ ذنب، وكُلكم يعلم أنَّ أيَّ مواطن إذا ضُبِطَ بمخالفةٍ، وقالَ للقاضي: يا سيدي ما كُنتُ أعلم، يُجيبهُ إجابةً ثابتةً، يقول لهُ: يا أخي لا جهلَ في القانون، الجاهل لا يُعذر، اطلب العِلم. 
 

اللهَ جلّت حِكمته جعلَ دينهُ مبذولاً بِلا مُقابل:


في المناسبة ما من إنسانِ على وجه الأرض على علمٍ، أو على خِبرةٍ، أو على اختصاصٍ، تستطيعُ أن تطرقَ عيادتهُ، أو مكتبهُ، أو مقرَّ عملهِ، من دونِ أن تُهيئ الأموال الكافية، الأتعاب، الأجور، إلا أنَ اللهَ جلّت حِكمته جعلَ دينهُ، وحقائقَ دينهِ، وكتابهُ، وتفسيرَ كتابهِ، وحديثَ نبيهِ الشريف، وتفسير حديثِ نبيهِ الشريف، جعلهُ مبذولاً بِلا مُقابل، بيوت الله مفتوحة، والخدمات تؤدى بِلا مُقابل، ولكَ أن تسأل، ولكَ أن تستفتي، ولكَ أن تحضر أيَّ مجلسٍ، مهما كانَ الذي يُلقي الدرس على جانبٍ من الأهميةِ والشُّهرةِ تحضرُ درسهُ مجاناً، أمّا الطاولة ليلة رأس الميلاد في بعض الفنادق تُكلّف عشرةَ آلاف ليرة، المعاصي غالية جداً أمّا الطاعات مبذولة، إذاً يقول عليه الصلاة والسلام: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، أَنْت إلهي لا إلهَ إلَّا أنت)) والله دعاء رائع.
 

حقائق خطيرة في التوبة:


أيها الإخوة الأكارم؛ في التوبةِ حقائق خطيرة، وحينما أقول حقائق خطيرة أعني بها حقائق مهمةٌ جداً، من هذه الحقائق أنَّ العبدَ إذا تابَ من الذنب فهل يرجِعُ بعدَ التوبةِ إلى ما كانَ قبلَ الذنب عِندَ الله؟ كانَ في هذه المكانة، سقطَ في ذنب، ثمَ تابَ منهُ، فهل يرجِعُ إلى مكانةٍ كانَ يحتلُها قبلَ الذنب، هذا سؤال؟ الجواب: من التائبين من يعودُ إلى مرتبةٍ كانت قبلَ الذنب، ومن التائبين من يعودُ إلى مرتبةٍ دونَ ما كانَ قبلَ الذنب، ومن التائبين من يعودُ إلى مرتبةٍ فوقَ ما كانَ قبلَ الذنب.
قال: لو أنَّ إنساناً يقطعُ طريقاً طويلاً، تارةً يركبُ ناقتهُ، وتارةً يمشي الهوينى، تارةً يُسرع، تارةً يجلس ليأكل، ما زال كذلك، من طورٍ إلى طور، التفتَ يمنةً فإذا شجرةٌ وارفةُ الظِّلال، وعلى طرفِها ماءٌ يجري، عذبٌ سلسبيل، فتاقت نفسهُ أن يستريحَ، ويجلس هُنا، بينما هوَ يجلس جاءَ عدوٌ لهُ فقيّدهُ في مكانهِ وحَبَسهُ، هذا هوَ الذنب، حينما وقعَ الإنسانُ في ذنبٍ أصبحَ مقيّداً، قال تعالى: 

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)﴾

[ سورة المُدثّر ]

بالقوانين، الإنسان البريء حرّ طليق، يجلس في بيتهِ، يذهب إلى مكان جميل، يلتقي مع شخص، يزور إنساناً، أمّا إذا ارتكبَ جريمةً يُلقى القبض عليه، ويُودع في السجن، متى فقدَ حريّتهُ؟ حينما وقعَ بالذنب، فهذا الإنسان يسير في طريقٍ طويل، وإلى هدفٍ بعيد، تارةً يركب، تارةً يمشي، تارةً يُسرع، تارةً يُبطئ، تارةً يجلس، تارةً يأكل، حانت منهُ التفاتةٌ رأى شجرةٌ وارفة الظِّلال، مياهٌ عذبة، تاقت نفسهُ أن يستريح، استراح، جاءهُ عدوٌ لهُ وقيّدهُ ومنعهُ من الحركة، ثمَّ جاءَ صديقٌ لهُ ففكّهُ من هذا القيد، بعدَ هذه التجربة لعلّهُ يجِدُّ في السير ويُغذُّ في السير، إذاً هذا التائب ربما عادَ بعدَ التوبةِ إلى مرتبةٍ فوقَ ما كانَ قبلَ التوبة، ممكن، وربما عادَ هذا المُسافر بعدَ أن فُكَّ من قيدهِ إلى ما كانَ عليه قبلَ أن يستريح عند هذه الشجرة، وربما أغوتهُ هذه الشجرة وظِلّها الظليل وماؤها العذب النمير فتاقت نفسهُ أن يعود، ويقول: حينما يأتي من يُقيّدُني يأتي من يَفُكُّني، إذاً بعدَ التوبة إمّا أن تعودَ إلى مرتبةٍ كالتي كُنتَ عليها قبلَ الذنب، وإمّا أن تعودَ إلى مرتبةٍ فوقَ ما كُنتَ عليها، وإمّا أن تعودَ إلى مرتبةٍ دونَ ما كُنتَ عليها، هذا بحسَبِ هِمَتِكَ ونشاطِكَ وحُبِكَ وإخلاصِكَ وإدراكِكَ ووعيِكَ، هذه واحدة. 
 

الذنوب أنواع منوعة:


شيءٌ آخر في التوبة هوَ أنكَ إذا وقعتَ في ذنبٍ متعلّقٍ بآدميّ، الذنوب كما تعلمونَ أيها الإخوة أنواع منوّعة؛ هُناكَ ذنوبٌ فيما بينكَ وبينَ الله، وهُناكَ ذنوبٌ فيما بينكَ وبينَ العِباد، فالتي بينكَ وبينَ اللهَ يمكن أن تستغفرَ اللهَ منها فيما بينكَ وبينهُ، ويغلِبُ على الظّن أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى عفوٌّ كريم، ولكنَّ الذنوبَ التي فيما بينكَ وبينَ العِباد هذه لن تُغفر-ودققوا فيما أقول-لن تُغفر إلا إذا غَفَرَ لكَ العِباد، لأنَّ حقوقَ اللهِ عزّ وجل مبنيّةٌ على المُسامحة، بينما حقوق الخلق مبنيّةٌ على المُشاححة، لذلك قبلَ أن تقعَ في ذنبٍ معَ بني البشر، معَ إنسانٍ، معَ مخلوقٍ، معَ حيوانٍ، معَ نباتٍ، قبلَ أن تعتدي، قبل أن تعتدي على حقِّ مخلوقٍ، قبلَ أن تأخُذَ ما بيد مخلوقٍ ظُلماً وعُدواناً، قبلَ أن تُجرّحهُ، قبلَ أن تغتابهُ، قبلَ أن تحقِرهُ، قبلَ أن تأخُذَ مالهُ، قبلَ أن تأخذَ بيتهُ، قبلَ أن تبني مجدكَ على أنقاضهُ، قبلَ أن تبني غِناكَ على فقرهِ، قبلَ أن تبني حياتكَ على موتهِ، قبلَ أن تبني أمنكَ على خوفِهِ، قبلَ أن تقعَ في ذنبِ متعلّقٍ بالعِباد، فكّر ألفَ مرّة، وفكّر مئة ألف مرّة، وفكّر ألفَ ألف مرّة، لأنَّ الذنوبَ التي يقعُ فيها الإنسانُ في حقِّ العِباد مبنيّةٌ على المشاححة، ولابُدَّ من مُسامحة، وقد تقفُ أمامَ إنسانٍ موقِفاً ذليلاً.
 

الدين المعاملة:


فيا أيها الإخوة الأكارم؛ الآن إذا تعلّق الذنبُ بمخلوقٍ ما ولعلّهُ إنسان، لعلّهُ من بني البشر، ماذا نعمل؟ قال: هذا الحق إمّا أن يكونَ ماديّاً، وإمّا أن يكونَ معنويّاً، فإذا كانَ حقّاً ماديّاً لابُدَّ من أدائهِ، أبداً، لابُدَّ من أدائهِ، مال، حاجة، آلة استعرتها منهُ ثمَّ ادّعيتَ أنها ضاعت مِنك فسكت، غافلتهُ وأخذتَ هذا الشيء في ساعةِ غفلةٍ وجهلٍ وطيشٍ، وبعدَ حينٍ تُبتَ إلى اللهِ عزّ وجل، فإذا هذه الآلة الحاسبة بينَ يديك، هذه ليست لك، أي إذا كان الحق مادياً، أي كان مالاً، عارية، كتاباً، آلة، ساعة، حاجة، ديناً، ذِمّة، أجور خِدمة، اشتريتَ من بائعٍ حاجةً، وكانَ عِندهُ ازدحامٌ شديد، فوليتَ الأدبار، ولم تدفع الثمن، أي إذا كانَ قد بدرَ مِنكَ ذنبٌ متعلّقٌ بآدميٍّ أو بمخلوقٍ وكانَ الذنبُ ماديّاً، اسمعوا وسأقول بملء فمي: لابُدّ من أداءِ هذا الحق، أو يُسامِحُكَ صاحِبُ هذا الحق، كلامٌ واضحٌ كالشمس، لهذا حينما قالَ اللهُ عزّ وجل: 

﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)﴾

[ سورة الأحقاف ]

جاءت من للتبعيض، لأنَّ اللهَ عزّ وجل لا يغفرُ لكم كُلَّ ذنوبِكم، يغفر لكم بعضَ ذنوبِكم المتعلّقة فيما بينكم وبينه، إذاً إذا كان الذنبُ متعلّقاً ببني البشر، أو بمخلوقٍ، وكانَ هذا العدوانُ على مالهِ، أو على حاجاتهِ، أو على بضاعتهِ، أو على متجرهِ، أو على بيتهِ، أو اغتصبتَ شِبرَ أرضٍ، أو دُكاناً، أو بيتاً، أو، تُروى قِصّة وقعت في هذه البلدة، إنسان مُضطر لثلاثمئة ألف ليرة، فجاءَ لأحد الأغنياء الكِبار وعرضَ عليهِ مزرعةً فخمةً جداً، على أن يكتب هذه المزرعة باسمهِ، وأن يُقرِضهُ ثلاثمئة ألف ليرة، فإذا تمكّنَ من أدائِها ردَّ لهُ المزرعة، اتفقا هكذا، الغني حينما كُتبت لهُ المزرعة، وذهبَ إليها، وأمضى فيها صيفاً جميلاً، فيها مسبح مثلاً، فيها أشجار مثمرة، فيها بيت، أعجبتهُ هذه المزرعة، بعدَ حين جاءهُ صاحبُ الدين، وقالَ: يا أخي هذا المبلغ توفّرَ لديّ فيُرجى أن تُعيدَ لي المزرعة، قال: لا، كُل إنسان عِندهُ حقهُ، توسّلَ إليه، رجاهُ، وسّطَ لهُ أقرباءهُ، وجهاء الحي، أبداً، كُلٌ مِنّا عِندهُ ما بيدهِ، ويجب أن تعلموا أنَّ المزرعة لها ثمن كبير جداً، وَضَعها رهناً، ولم يُعطِه هذهِ المزرعة مقابِلَ هذا المبلغ، هذا الرجل صاحب المزرعة أصابهُ غمٌّ شديد، وما زالَ هذا الغمُّ يتصاعدُ حتى قضى عليه وماتَ، وقبلَ أن يموت أوصى ابنهُ، تصوروا مثلاً صاحب المزرعة بيته فرضاً في الميدان والغني المغتصب بيته في المهاجرين فرضاً، أنا أقترح اقتراحاً، فأمرَ صاحب المزرعةَ ابنهُ أن يا بُنيّ إذا مِت فامشِ بجنازتي إلى المُهاجرين، ومُرَّ أمامَ بيتِ المُغتصب، أعطهِ هذه الرسالة، كتب رسالة: إنني أنا ذاهبٌ إلى دارِ الحق، وسوفَ أُخاصِمُكَ عِندَ اللهِ عزّ وجل، وإن كُنتَ بطلاً لا تلحق بي إلى هُناك، هذه الرسالة، وهذه قِصّةٌ وقعت، وطبعاً مكتب دفن الموتى استغرب، لماذا نذهب إلى هذا المكان البعيد؟ هُنا التُّربة، الباب الصغير، وأنتم في الميدان، قالَ: لا، هذه وصيّةُ الوالد، لابأس، فذهبت هـذه الجنازة إلى دار المُغتصب، ووقفت الجنازة هُناك، وطُرِقَ الباب، وأُعطيَ الرِّسالة، فتحها وقرأَ ما فيها، والجنازة واقفة، قالَ لهُ: أنا ذاهبٌ إلى دارِ الحق، وإن كُنتَ بطلاً لا تلحق بي إلى هُناك. 
يُروى أنَّ هذا المُغتصِب بعدَ أيامٍ بادرَ فوراً إلى إرجاع المزرعةِ إلى الوَرَثة، شيء مُخيف، أن تغتصبَ شِبرَ أرضٍ، أن تغتصبَ بيتاً، دُكاناً، حاجةً، آلةً، مركبةً، هكذا؟! هذا الذي اغتصبتَ مِنهُ لهُ رب، والربُّ كبير، وسوفَ يأخذُ مِنكَ الثمن باهِظاً يومَ القيامة، لذلك قالَ عليه الصلاة والسلام:

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، قَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلاةٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، فَيُقْعَدُ، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ. ))

[ صحيح مسلم ]

مع صلاته وصومه وصدقته، الدين المُعاملة، تركُ دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانينَ حجّةً بعدَ الإسلام، ركعتانِ من وَرِع خيرٌ من ألفِ ركعةٍ من مُخلّط، قال: أمّا إذا كانَ هذا الذنبُ متعلقاً بآدمي وكان الذنب ليس ماديّاً بل هو معنوي، إذا كان الذنب متعلقاً بآدمي وهو مادي قالَ عليه الصلاة والسلام:

(( عن أبي هريرة رحَمَ اللهُ عبدًا كانتْ لهُ عندَ أخيه مظلمةٌ في عرضٍ أو مالٍ فلْيتحلَّلْ منه اليومَ، من قبلِ ألا يكونَ دينارٌ ولا درهمٌ، إن كان لهُ عملٌ صالحٌ؛ أُخذَ منه بقدرِ مَظلمتِه، وإن لَم تكن لهُ حسَناتٌ؛ أُخذِ من سيِّئاتِ صاحِبِه فحُملَ علَيهِ. ))

[  صحيح الترغيب: خلاصة حكم المحدث: صحيح لغيره: أخرجه الترمذي ]

 

العاقبة للمتقين:


الآن ممكن أن تُرسل حوالة بالمبلغ، الآن مُمكن أن تضعَ المبلغ بظرف، وأن تُلقيّهُ في دُكان هذا صاحبِ الحق، ممكن أن تعتذر، ممكن أن تستسمح، ممكن أن تُقدّم، ممكن أن تُحاسب، ممكن أن تترك البيت، ممكن أن تتخلى عن المحل التجاري، إنسان وهوَ يقودُ سيارتهُ في الحِجاز أصابتهُ أزمةٌ قلبيّة، فانكفأَ على مِقود السيارة، وإلى جانِبهِ زوجتهُ، من غرائب الصُّدف، أنَّ صديقاً لهُ كانَ إلى جانب المركبة فأخذهُ وضعهُ في المقعد الخلفي، وساقَ المركبةَ إلى المُستشفى، وأُدخِلَ فوراً العنايةَ المُشددة، وهُناكَ أُناسٌ يُصابون بأزمةٍ قلبيةٍ بعدَ العنايةِ المُشددة من فاتورةِ العناية المُشددة، فبعدَ ساعاتٍ انتعش وصحا، قال: هاتوا لي مُسجلةً، فإذا هوَ يُصرّحُ أنَّ هذا المحلَ التجاري الكائن في المكان الفُلاني ليسَ لي، هوَ لإخوتي، وقد اغتصبتهُ منهم، ولهم الحقُّ فيه، اعترف، أي أسرع طريقة للاعتراف هذه الطريقة، بعدَ أيامٍ عديدة خرجَ من هذه العناية المُشددة، وشعرَ بقوةٍ ونشاط، فقالَ: أينَ الشريط؟ أعطوني إيّاه، فلمّا استرجعهُ كسّرهُ، وعادَ إلى ما كانَ عليه، وبعدَ ثمانيةِ أشهرٍ ماتَ ميتةً شنيعة، فهذا الذي حصلَ لهُ اسمهُ بالتعريف الحديث: إنذار مُبكّر.
فأحياناً الإنسان يكون مغتصباً مالاً، آكلاً شيئاً ليس له، أربعة شباب وَرِثوا عن والِدهم، الأخ الصغير ذهبَ حقهُ، هذا أخذ البيت قال: من رائحــة والده، وهذا أخذ السجاد كُلهُ، وهذا أخذ المزرعة، وأبقوا الصغير بِلا شيء، أخونا هذا نحنُ نُحبهُ، هذا كلام فارغ، فإذا الإنسان يُغتصب شيئاً ليس له من إخوتهِ، لهُ أخت متزوجة، والبيت الذي يسكنهُ لهُ ولأختهِ، وهي متزوجة، راح عليها.
أعرف أخاً كريماً يحضر معنا في هذا المسجد، يسكن في منزل غالي الثمن، وأُختهُ متزوجة، قيّمهُ بسعر اليوم، سعر خيالي، واشتغل، وجد، حتى قدّمَ لأختهِ حِصتها من هذا البيت، هذا الحق، بنت مستضعفة ضعيفة.
أعرف رجلاً مات ترك ثروة طائلة، ترك ست بنات وأخاً واحداً، هذا الوريث المُذكّر أنكرَ حقوقَ إخوتهِ البنات كُلِّهن بطريقةٍ أو بأُخرى، وقّع الأب بناته قبل أن يموت سندات دين وأشياء كلها حتى خرجنَ من الإرث بِلا شيء، لذلك الآن إذا الموضوع مادي اسمعوا قولَ النبي عليه الصلاة والسلام: ((رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كَانَتْ لأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ أَوْ مَالٍ، فَجَاءَهُ فَاسْتَحَلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ، وَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ حَمَّلُوا عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ)) هناك أخ كريم من إخواننا الكِرام عِندهُ معمل، فقالَ لي: أفقد مالاً، أفقد بِضاعة، بقيتُ أشهراً عِدّة وأنا أُراقب مُراقبة خيالية، والمال يُفقد من جيوبي، من مكان الغلّة، والبِضاعة تنقص، هذا الذي يسرق خبير إلى درجة متناهية، ثمَ توقفت هذه السرقة، ولم يُعرف من هوَ الفاعل، قالَ لي: بعدَ عشر سنوات طرقَ بابي شاب مُلتح، دعوتهُ دخل، قالَ لهُ: هل عرفتني؟ قال له: كأني أعرِفُكَ، قالَ لهُ: أنا كُنتُ عِندِكَ عامِلاً قبلَ عشر سنوات، قال له: تذكرت، قالَ لهُ: أنا الذي كُنتُ آخذُ من جيبك، ومن بِضاعتك، وقد تعرّفتُ إلى الله، واصطلحتُ معهُ، فهأنذا أُريد أن أُعطيكَ كُلَ شيء، هذا الأخ الكريم من إخواننا، قال لهُ: واللهِ نظير هذه التوبة سامحتُكَ بِكُلِ شيء.
حتى رجل جاءتهُ قطعة أرض ليست لهُ بحُكم توزيع الأراضي على الفلاحين، لهُ شيخ سأل شيخهُ: يا سيدي هذه الأرض جاءتني، وأصلُها لِفُلان، قالَ لهُ: هذا لا يجوز يا بُني، اذهب إلى فُلان واشترها منهُ، ليسَ معهُ، باعَ أساوِرَ زوجتهِ، وقالَ: لعلّهُ يرضى بهذه الدفعة المُقدّمة، وأُقسّط لهُ الثمن لسنوات طويلة، جاء إلى هذا الرجل صاحِب هذه الأرض، وقال لهُ: يا سيدي أعطوني هذه الدونمات من أرضِك، وهيَ ليست لي، وسألتُ شيخي فقال: هذه ليست لي، ليسَ لكَ إلا أن تشتريها منهُ، وها أنا قد جِئتُكَ لأشتريها مِنك، فنظرَ إليه صاحبُ الأرض قال: واللهِ ذهبَ مني آلاف مؤلفة من الدونمات، وما وصلَ إليَّ واحدٌ من هؤلاء الأشخاص يُريد شراء الأرض، إنها هديةٌ لكَ يا بُني، خُذها، هذه تأخذها حلالاً زلالاً كما يقولون.
لمّا الإنسان يطلب الورع الله عزّ وجل يُعينهُ، إذا أنت أردتَ أن تخرج من هذا البيت الذي ليسَ لكَ، اللهُ عزّ وجل يُهيئ لكَ بيتاً ممتازاً، إذا آثرتَ اللهَ عزّ وجل فاللهُ لا يُضيّعُك، مرةً ثانية:

(( عن سالم عن أبيه مرفوعاً: ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه. ))

[ رواه أبو نعيم عن ابن عمر مرفوعاً ]

أي مستحيل أن تُطيعهُ وتخسر.
ومرةً ثانية؛ مستحيل أن تعصيهِ وتربح، مستحيل أن تُطيعهُ وتشقى، مستحيل أن تعصيه وتسعد، مستحيل أن تُطيعهُ وتكون بآخر الركب إلا بالمُقدّمة، مستحيل تعصيه وتكون بالمُقدّمة إلا بالأخير، والدليل: 

﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾

[ سورة الأعراف ]

 

المظلمة مادية أو أدبية:


الآن إذا كانت هذه المظلمةُ ليست ماديةً، غيبة، نميمة، استهزاء، تجريح، احتقار، هذا ذنب، يسمونهُ حقوق أدبيّة، أنتَ شتمتهُ، اغتبتهُ، جرّحتهُ، اتهمتهُ وهوَ بريء، طبعاً لو أنهُ أقام دعوى لهُ حقٌّ عِندك، إذاً هذا الذنب كيفَ يُغفر؟ الآن دققوا وهذا نقعُ بهِ كثيراً، بعضُهم قال: يجبُ أن تذهبَ لمن اغتبتهُ، وأن تذكُرَ لهُ ما قُلتَ لهُ في غيبتهِ عنهُ، وأن تطلُبَ أن يُسامِحكَ، لا يوجد سوى ذلك، هذا رأي.
وبعضُهم قال: يجوزُ أن تذهبَ إليه، وتقول لهُ: يا أخي لقد نِلتُ مِنك إجمالاً لا تفصيلاً، أرجو أن تُسامحني.
وبعضُهم قال: لا، يكفي أن يعيدَ اللقاء الذي التقى بهِ معَ زيدٍ وعُبيد، وتحدّثَ بهِ في هذا اللقاء عن فُلان، أن تُعيدَ اللقاءَ مرةً ثانية، وأن تقول لهم: أنا كُنتُ مُخطئاً، وفُلان رجل جيد، وما إلى ذلك.
كم مذهب؟ ثلاثة؛ إمّا أن تذهبَ إليه، وأن تذكُرَ لهُ عينَ الذنب؛ الغيبة، الاحتقار، التقليد، المحاكاة، النميمة، إلى آخره، وأن تطلُبَ السماحَ منهُ، وإمّا أن تذهبَ إليه، وأن تقول لهُ بشكل عام: لقد نِلتُ مِنك، أرجو أن تُسامحني، أو ألا تذهبَ إليهِ أبداً، تذهبُ إلى من كُنتَ معهم، وتحدثتَ إليهم عنهُ، تعقِدُ لهم لِقاءً ثانياً، وتقول: والله أنا كُنتُ في خطأٍ كبير، وفُلان بريء، وأنا قد تجاوزت حدّي، وقد اتهمتهُ ظُلماً، فأرجو أن يحصل لكم العِلم بذلك.
قال مذهبُ الإمام الشافعي وأبي حنيفةَ والإمامِ مالِك هوَ الإعلان التفصيلي والتحلل، قال: لأنَّ البراءةَ من حقِّ المجهول ليست براءةً، أخي اكتب لي براءة ذمة، من ماذا؟ من مبلغ لكَ معي فيه، كم هوَ؟ يجب أن يعرف كم هو المبلغ، براءة ذمة عامة لا يوجد، فُلان بريء الذمة من الدين الفُلاني البالغ كذا وكذا، فرأي الإمام الشافعي وأبي حنيفةَ والإمامِ مالِك أنهُ لابُدَّ من أن تذهبَ إلى من اغتبتهُ، أو احتقرتهُ، أو جرّحتهُ، أو اتهمتهُ، أو غمزتَ من قناتهِ، أو طعنتَ في نَسَبِهِ، أو طعنتَ في أمانتهِ، حتى لو أنكَ أمسكتَ ثوبكَ، وحينما ذُكِرت فُلانة، قُلت: أحسن منّي، وهذه التي تعملها، هذه غيبة، هذا طعن، قالوا: وردَ في الأثر: قذفُ محصنةٍ يهدِمُ عملَ مئة سنة، فالبراءةُ من حقٍّ مجهول لا تصح، لهذا احتجّوا بقول النبي: ((رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كَانَتْ لأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ أَوْ مَالٍ، فَجَاءَهُ فَاسْتَحَلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ)) العرض هو الغيبة والنميمة، لأنهُ حينما فعلَ هذا ارتكبَ جُرمين، ارتكبَ جُرماً في حقِّ أخيه، طعناً في نسبهِ، أو بأمانتهِ، أو بإخلاصهِ.
الآن إذا الإنسان ذُكر أمامهُ عالِم، دجّال، عِندَ الله لا تمر هذه، هذا عالم لهُ دعوة، لهُ إخوان، متأكدٌ أنت؟ معك دليل أمّ للتسلية؟ فكُل إنسان قبلَ أن يقول: دجّال، كذاب، فهيم، لا يفهم، قبلَ أن تتهمهُ بِتُهم هوَ بريء مِنها، حضرتَ مجلِسهُ، استمعتَ إلى دروسهِ، التقيتَ معهُ، هكذا تتهم الناس غيابيّاً وتنجو من عذاب الله؟ لا والله. 
فقال: ((لا بُدَّ من أن تتحللهُ اليوم قبلَ ألا يكونَ درهمٌ ولا دينار)) الآن يوجد مجال أن تستسمح منهُ، تعقد مجلساً آخر تُغيّر كلامك، ممكن أن تتقرّب منهُ بهديّة، ممكن أن تخدمهُ خدمة، ممكن أن يلين قلبهُ، يقول لكَ: سامحتك، لكن قبلَ ذلك مُشكلة.
 أمّا يوجد اختيار ثان، ولعلّهُ مقبول، الاختيار الثاني: أنت اجمع هؤلاء الذين اغتبته في حضرتهم، اجمعهم واذكر لهم أنكَ مُخطئٌ في هذه الغيبة، وأنهُ بريء، وأنهُ لا شائبةَ حولَهُ، وأنا كُنتُ مُخطئاً، ولا عليك ألا تذهبَ إلى صاحب الغيبة، لماذا؟ قال: لأنكَ إذا ذهبتَ إليه، وقُلتَ لهُ: قُلتُ عنكَ كذا وكذا، ربما غلى دمهُ، ورُبما حقدَ عليك، وربُما تفتتَ المُجتمع، ورُبما ورُبما، العلماء الآخرون رجّحوا أنهُ يكفي أن تجمعَ هؤلاء الذينَ اغتبته في حضرتهم، وأن تذكُرَ عكسَ ما قُلتهُ البارحة، وأن تتوبَ إلى الله عزّ وجل.
طبعاً هُناكَ رأيان، والحقيقة الترجيح بينهُما، أنَّ الشخصَ الذي اغتبتهُ إذا كانَ واسِعَ الصدر، حليماً، يترفّع عن الانتقام والحِقد، ولهُ عِندَ الله مكانة، لا تهزهُ أنتَ بِها، أي ما ضرَّ السحابَ نبحُ الكِلاب، ما ضرَّ البحرَ أن ألقى فيهِ غلامَ بحجر، هناك شخص سمعتهُ، مكانتهُ عِندَ الله أكبر من كُل كلامك، أي مكانتهُ وقُربهُ من الله وشعورهُ بالسعادة، أنتَ لا تهزهُ بكلامِك، سيدنا موسى بالمُناجاة قال له: يا ربي لا تُبق لي عدوّاً، قالَ: يا موسى هذه ليست لي، هذه لم أحصل عليها، هذه ليست لي، كُل إنسان لهُ عدو، لا يصح، فإذا إنسان واسع الأُفق، عظيم الشأن لا يهتز، إذا كان ذهبتَ إليه وقُلتَ لهُ: أنا قُلتُ كذا وكذا، أرجو أن تُسامحني، أغلب الظن يُسامحُك، ولا يحقد عليك، أمّا إذا إنسان إيمانهُ وسط، ونمطهُ عصبي، وقُلتَ لهُ: أنا قُلتُ عنكَ كذّاب، أنت قلت عني كذاب؟ فقام ضربه رأساً، فمِثلُ هذه الحالة، الأولى أن تُطبّقَ المذهب الثاني.
طبعاً يوجد حجّة، لماذا في الحقوق الماديّةِ يجبُ أن يؤدى الحقُّ إلى صاحبهِ وفي الحقوق الأدبيّة ليسَ ضروريّاً أن يؤدى الحقُّ إلى صاحِبهِ؟ أن تذهب إلى من اغتبتهُ أمامهم، قال: لأنَّ الحقَّ المادي يُنتفعُ بهِ، هذه الساعة لِفُلان، فإذا أديتها لصاحِبها انتفعَ بِها، أعطاها لابنهِ، أمّا إذا ذهبتَ إلى من اغتبتهُ، قلتَ لهُ: قُلتُ عنكَ: كذّاب، ماذا استفاد؟ استفادَ الحقد والغضب والشتم وما إلى ذلك، إذاً يُمكن بِحسب الحِكمةِ إمّا أن تتجهَ إلى من اغتبتهُ معتذراً مستسمحاً، طبعــاً أن تذهبَ إلى من اغتبتهُ في حضرتهم هذا شيء لابُدَّ منهُ، أمّا إليهِ بالذّات، هُنا يوجد خِلاف بينَ العُلماء حولهُ.
 

الندم توبة:


يوجد عندنا موضوع بالتوبة دقيق، قال لو أنَّ إنساناً كانَ ذنبهُ الكذب، وذنبهُ الغيبة، ثمَّ قُطِعَ لِسانُهُ، وأصبحَ أبكم، هذا الإنسان تُقبل توبتهُ؟ إنسان زان أُقيم عليه الحد، إنسان سارق قُطعت يدهُ، أي أداةُ الذنب معدومة، كيفَ يتوب هذا الإنسان؟ عليه الصلاة والسلام سيد الخلق، لهذا الإنسان توبة مع أنَّ لسانهُ مقطوع كُليّاً، ولا يستطيع أن يقولَ كلمةً واحدة، ولهُ أن يتوب من كُلِ ذنوبهِ السابقة القولية، والآن لسانهُ مقطوع كيفَ لهُ أن يتوب؟ قيل: النَّدَمُ تَوْبَةٌ.
حينما تندم فهذه توبة، إذا الإنسان فرضاً فقدَ حريتهُ، كانَ يُطلق بصرهُ بالحرام، دخــل لغرفة ليسَ فيها نساء لسنوات طويلة، ومات في هذا المكان، كيفَ يتوب من ذنب إطلاق البصر، لم يعد نساء هُنا؟ نقول: ندمهُ توبة، وهذا من رحمةِ الله بِنا، الندمُ توبة. 
طبعاً كيفَ قاسوا ذلك؟ قال: قاسوا ذلك على أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال:

(( عن أبي موسى الأشعري: إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا. ))

[ صحيح الجامع: صحيح ]

لكَ أنتَ مجلس الاثنين والأحد والجمعة، لا سمحَ اللهُ ولا قدّر صار هناك مرض، لَزِمـتَ الفِراش أسبوعين، هل تُصدّق أن أجرَ حضور الدروس الثلاث مكتوبٌ لكَ وأنتَ في البيت؟ إذا كان هناك عُذر طبعاً، أو سافرت سفراً شرعياً، وغِبتَ عن بعض الدروس، وغِبتَ عن بعض الأعمال الطيبة التي ألِفتَ أن تعمَلها، هل تُصدّق أن أجرَكَ هوَ هوَ؟ ((إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا)) .
 وفي الصحيحِ أيضاً أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام حينما كانَ في الجهاد، قالَ:

(( عن أنس رضي الله عنه: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلا كَانُوا مَعَكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ. ))

[ صحيح البخاري ]

كلام جميل جداً، قال عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلا كَانُوا مَعَكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ)) كُلكُم يعلم لمّا النبي تفقّدَ بعض أصحابهِ في غزوة، فهناك شخص طعنَ بِهم، غمزَ من قناتِهم، اتهمهم بالنِفاق، قالَ: يا رسولَ الله! فُلان شَغلهُ النظر إلى عِطفيه عن الجِهاد معك، فقام أحد أصحاب رسول الله قال: كذبتَ والله، يا رسولَ الله! لقد تخلّفَ عنكَ أُناسٌ واللهِ ما نحنُ بأشدّ حُباً لكَ مِنهم، ولو عَلِموا أنكَ تلقى عدواً ما تخلّفوا عنك، شيء جميل، إذا شخص غاب أخوه رأساً نطعن بهِ، همتهُ ضعيفة، قد يكون أمراً قاهراً، زوجتهُ تضع، عِندهُ مُشكلة، مباشرةً تتهِمهُ بالتقصير، لعلَّ لهُ عُذراً وأنتَ تلومهُ. 

الإساءةُ بينَ الطاعتين إذا تابَ العبدُ مِنها حُذِفت:


الآن يوجد عندنا موضوع بالتوبة دقيق جداً، قال: لو أن إنساناً عَمِلَ سيئات حديثة فاستغرقت حسنات قديمة وأبطلتها ثمَّ تابَ توبةً نصوحة خالِصةً، قال: عادت إليهِ حسناتهُ، ولم يكُن حُكمهُ حُكمَ المُستأنِفِ لهُ، بل يُقال: تُبتَ على ما أسلفتَ من خير، صحابي

(( جليل اسمهُ حكيم بن حِزام، قـالَ: أنَّهُ قالَ لِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أيْ رَسولَ اللهِ، أرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أتَحَنَّثُ بها في الجاهِلِيَّةِ، مِن صَدَقَةٍ، أوْ عَتاقَةٍ، أوْ صِلَةِ رَحِمٍ، أفيها أجْرٌ؟ فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أسْلَمْتَ علَى ما أسْلَفْتَ مِن خَيْرٍ. ))

[ صحيح مسلم ]

بعدما أسلمت ضُمّت لكَ هذه الأعمال الصالحةُ السابقة، أي كُل عمل صالح فعلتهُ قبلَ أن تُسلم، وقبلَ أن تؤمن، بعدَ أن أسلمت ضُمّ لكَ، وهذا من رحمةِ الله بِنا، قال: الإساءةُ بينَ الطاعتين إذا تابَ العبدُ مِنها حُذِفت، وضُمّت الطاعتانِ إلى بعضِهِما بعضاً، اللهُ عزّ وجل لا يهدم لكَ عملكَ السابق كُلّهُ، لكَ عِندَ الله مكانة، زلّت قدمُكَ، تعثرت، الله عزّ وجل جابِرُ عثرات الكِرام، فإذا زلّت قدمُك بينَ حسنتين، وتُبتَ من هذه الزّلّة مُحيت، وضُمت الحسنتان إلى بعضِهما بعضاً.
 

شروط قبول التوبة:


بقيَ موضوعٌ أبدأُ بهِ لكن يحتاج إلى درسٍ مستقل، هذا الموضوع أنهُ من شروط التوبة ألا يعودَ الرجلُ إلى الذنبِ مرةً ثانية، أي من شروط قبول التوبة استمرارُ التوبة، فمتى عادَ إلى الذنبِ تبيّنَ أنَّ التوبةَ كانت باطلة غيرَ صحيحة، عادَ الإثمُ الذي مُحيَ عنك، هذا اتجاه، بعضُهم قال: لا، ليسَ هذا شرطاً، إنَّ الاستمرارَ على التوبةِ شرطُ كمالِها ونفعِها، وليسَ شرطَ صحتِها، فنحنُ أمام اتجاهين وكُل اتجاه لهُ أدلّة.
قالوا: إنَّ العبد إذا تابَ من الذنبِ ثمَّ عاودهُ فهل يعودُ إليهِ إثمُ الذنب الذي كانَ قبلَ التوبةِ بحيث يستحقُّ العقوبة على الأولِ والآخر إن ماتَ مُصرّاً؟ نحتكم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، اسمعوا ماذا قالَ النبي؟

(( عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَاه فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِر. ))

[ متفق عليه ]

صاروا اثنتين، ((مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِر)) إذاً الإنسان حينما ينقض توبتهُ يُحاسَبُ عن ذنوبِهِ التي تابَ مِنها مرةً ثانية، وبالقوانين هُناكَ شيء من ذلك، الإنسان يرتكب مخالفة، يكتب تعهّداً، فإذا وقعَ في الذنب مرةً ثانية حوسب بالذنب الأول والثاني، مثلاً قال: إنَّ العبدَ ليعمل بطاعة الله ستينَ سنة فإذا كانَ عِندَ الموت جارَ في وصيتهِ فدخلَ النار.
والله أيها الإخوة؛ عشرات بل بِضع عشرات الحالات التي وصلتني أنَّ هُناكَ أشخاصاً مسلمين مؤمنين صائمين مُصلّين، قبل أن يموت خصَّ الذكور وتركَ الإناث، أو خصَّ ولداً دونَ ولد، أو وريثاً دونَ وريث، أو حرَمَ أُختهُ، أو حرمَ فُلانةً، وكأنهُ مُشرّع، لذلك إنَّ العبدَ ليعمل بطاعة الله ستينَ سنة فإذا كانَ عِندَ الموت جارَ في وصيتهِ فدخلَ النار، وحينما يجورُ الإنسانُ في وصيتهِ ينشأُ أحقادٌ بينَ الأولاد لا تنتهي، هُناك تفصيل آخر، الأصل كذلك، لكنَّ العاق إذا حرمتهُ من نصيبهِ يزدادُ عقوقاً، فإذا أعطيتهُ لعلّكَ تُقرّبهُ إليك، الدليل، قالَ تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)﴾

[ سورة محمد ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)﴾

[ سورة الحجرات ]

اسمعوا إلى حديث السيدة عائشة: أخبري زيداً أنهُ أبطلَ جِهادهُ مع رسولِ الله إلا أن يتوب، أي باعَ شيئاً بسعرين، أخبري زيداً أنهُ أبطلَ جِهادهُ مع رسولِ الله، إذاً السيئات تستغرق الحسنات، الفكرة خطيرةَ جداً، السيئات تستغرق الحسنات، بشكل واقعي السيئة حِجاب.
 يقولون بالأخبار: الطريق مقطوعة بسبب تراكم الثلوج، والطريق مقطوعة إلى الله بسبب تراكم الذنوب، نفس الشيء، الطريق مقطوعة بسبب تراكم الذنوب، إذا تراكمت الذنوب انقطع الطريق إلى الله عزّ وجل، ما قيمة هذه الحسنات السابقة؟ أنتَ الآن ليسَ في الإمكان أن تستفيدَ منها، أمّا إذا تُبتَ من هذا الذنب الجديد ضُمت إليها، إذاً السيئة تستغرق الحسنة السابقة، فإذا تابَ العبدُ منها ضُمت إلى الحسنةِ اللاحقة، كلام دقيق جداً.
إذاً من قواعد الشريعة أنَّ من السيئات ما يُحبط الحسنات بالإجماع، هذا الرأي الأول.
أول رأي أنَّ السيئات تستغرقُ الحسنات وتُبطِلُها إلا أن يتوبَ منها، إذا تابَ منها ضُمّت الحسنات السابقة إلى الحسنات اللاحقة، وهذا الذنب كأنهُ لم يكُن، واضح.
الاتجاه الآخر هو أنكَ إذا وقعتَ في ذنبٍ ثمَّ تُبتَ مِنهُ، هذا الذنب كأنهُ لم يكن، فإذا فعلتَ ذنباً جديداً هوَ ذنبٌ جديد، ولهُ توبةٌ جديدة، هذا رأي آخر، من أينَ استُنبط؟ قال: 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)﴾

[ سورة النساء ]

الآية توحي أنَّ الحسنة لا تضيع عِندَ الله عزّ وجل، يوجد حديث للنبي عليه الصـلاة والسلام رواه الإمام أحمد في مُسندهِ، قالَ:

(( عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ رَضِي اللَّهم عَنْهم، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ. ))

[ ضعيف الجامع ]

لكن إذا أردتم أن تفهموا هذا الحديث، ليسَ تواباً من ذنبٍ واحد يقعُ فيهِ الفينةَ بعدَ الفينةَ، أي كُل مرة تاب من ذنب لم يكن يعرفهُ ذنباً من قبل، هذا الكلام يُوجّه الحديث توجيهاً جيداً.
 

التوبة حبل إنقاذ وصمام أمان وباب نجاة وتصحيح مسار:


على كُلٍّ؛ الإنسان في موضوع التوبة عليهِ أن يكونَ دقيقاً جداً، قُلتُ في الخُطبة السابقة يوم الجمعة في جامع النابلسي: التوبةُ صمام الأمان إذا ضغطت على الإنسان سيئاته، الوعاء البُخاري فيه صمام أمان، إذا ازدادَ الضغط ربما انفجر، لكنَّ صمامَ الأمان يقي الانفجار، إذا ضَغَطَت عليكَ سيئاتُك فصمام الأمان هوَ التوبة، إذا غَرِقتَ في ذنوبِك فالتوبةُ حبلُ النجاة، حبلٌ متين، إذا ضللتَ الطريق التوبةُ تصحيحُ المسار، إذا أُغلِقت عليكَ أبوابُ النجاة، التوبةُ باب النجاة، أي التوبة باب نجاة، صمام أمان، تصحيح مسار، حبل إنقاذ، أحياناً الغرقى يقفون بطائرة هيلكوبتر، ويُدلون لهم بالحِبال، يتمسكون بها، ثمَّ يرفعونهم، فالتوبة حبل، حبل إنقاذ، وصمام أمان، وباب نجاة، وتصحيح مسار، وبابُ التوبةِ مفتوحٌ ما لم يُغرغِرِ العبدُ، مفتوح على مصراعيه، والتائب من الذنبِ كمن لا ذنبَ له، وإنَّ اللهَ يُحبُ التوابين، وللهُ أفرح بتوبةِ عبدهِ من الضّال الواجد والعقيم الوارد والظمآن الوارد، وإذا رجَعَ العبدُ العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماواتِ والأرض أن هنئوا فُلاناً فقد اصطلحَ مع الله.
فو اللهِ الذي لا إلهَ إلا هو لا يُمكن أن تتذوقوا شعورَ التائب بالسعادة إلا إذا كُنتم كذلك، إذا تُبتم توبةً نصوحة تشعرون براحةً لا توصف، كأنكَ اصطلحتَ معَ الله خالق الكون، كأنكَ في حرزِ حريز، في أمنٍ عظيم، في رحمةٍ غامرة، في توفيقٍ بالغ، في سعادةٍ طافحة، في بِشرٍ لا يُقدّرُ بثمن، لذلك أنا أعجب ماذا تنتظر؟ 

إلى متى وأنتَ في اللذات مشغولُ                    وأنتَ عن كُلِ ما قدّمتَ مسؤولُ

[ البوصيري ]

* * *

﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)﴾

[ سورة الحديد ]

كُن عن همومِكَ مُعرِضاً            وكِلِ الأمورَ إلى القضا

وأبشر بخـــيرٍ عاجــــلٍ            تنسى بـهِ ما قد مضــى

فلــرب أمــــرٍ مُسخـــطٍ            لك فــي عــواقبهِ رِضـا

ولربّما ضــاقَ المضيـق            ولربّما اتّســــعَ الفضــا

اللهُ يفعــــلُ ما يشــــــاء           فلا تكُــــن معترضـــــا

اللهُ عـــــوّدكَ الجميـــل            فقِس على ما قد مضـى

[ صفي الدين الحلي ]

* * *

وكُلّ واحد منكم إذا جلسَ مع نفسهِ متأملاً، أي ذنبٍ أفَعَلَهُ؟ وعاهدَ اللهَ على تركِهِ، والإقلاعِ عنهُ، يشعر أنَّ الباب مفتوح وقد قَبِلهُ الله عزّ وجل، إذا قالَ العبدُ: يا ربي لقد تُبتُ إليك، قالَ: عبدي وأنا قد قَبِلت، وأنا قد قَبِلت.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا، إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، ومن الخوف إلا منك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء، مولانا رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور