وضع داكن
24-11-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 014 - الخشوع
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

منزلة الخشوع .

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الرابع عشر من دروس مدارج السالكين , درسنا اليوم منزلة الخشوع .
 كلمة الخشوع وردت في القرآن الكريم , قال تعالى :

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾

[سورة المؤمنون الآية: 1-2]

معنى الفلاح .

 الذي يُلفت النظر أن كلمة قد أفلحَ في القرآن , وردت في آياتٍ عِدة فقط :

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾

[سورة الأعلى الآية: 14]

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾

[سورة الشمس الآية: 9-10]

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾

 كلمة قد أفلح من خالق الكون ، يعني كلُّ المقاييس الأرضية تتعطل أمام هذا المقياس ، يعني يا عبادي الذي أفلحَ منكم , ونجح , وتفوق , وفاز , وكان عاقلاً , وسأسعدهُ إلى الأبد , من فعلَ كذا وكذا .
 المؤمن على قدرِ إيمانه بالله عزّ وجل , وعلى قدرِ تعظيمه لكلامه , يأخذُ هذه الآيات بحجمها الحقيقي .

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾

 بعض المفسرين قالوا : الخشوع في الصلاة لا من فضائلها بل من فرائضها .
 وفرقٌ كبير بينَ أن تقول :
 الخشوع في الصلاة من فضائل الصلاة .
 وبينَ أن تقول الخشوع في الصلاة من فرائض الصلاة .
 ما معنى أفلحَ ؟ ما دمنا قد وصلنا إلى كلمة أفلحَ .

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾

[سورة المؤمنون الآية: 1-2]

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾

[سورة الأعلى الآية: 14-15]

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

[سورة الشمس الآية: 9-10]

 الفلاح منَ الفِلاحة , والفِلاحةُ من فَلِحَ وفَلَحَ : شقَّ الأرضَ , وألقى فيها الحب , ومنه الفلاّح , ومنه عِلمُ الفِلاحة .
 هذا الفلاّح إذا شقَّ الأرض , وألقى في الأرض , الحب ماذا تعطيه الأرض ؟ تعطيه سبعمائة ضعفٍ بنصِ القرآن الكريم :

﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾

[سورة البقرة الآية: 261]

 أنت حينما تعطي واحداً , وتأخذ سبعمائة ضعف , فهذا رِبحٌ وفير , وهذا فلاح , وهذه تجارة , وهذا فوز ، يعني أراد الله عزّ وجل أن يضرب مثلاً لِفلاح المؤمن مع ربه، لِفلاح المؤمن في الآخرة بشيء منتزعٍ من حياتنا اليومية، الفلاح الذي يلقي حبةً, كمعلومات جانبية, مثلاً: بعض بذور الخضراوات, تعطي أربعة ملايين ضعف, البندورة مثلاً البذرة الواحدة تعطي أربع ملايين ضعف وزنها خضاراً, من ثمار هذا النوع، هناك بذور تعطي أضعافاً مضاعفة .
 يعني ربنا عزّ وجل حينما قال :

﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ﴾

 بعض علماء اللغة يقولون :
 سبعة وسبعون وسبعمائة لا تعني الكم بل تعني التكثير .
 كأن يقول أحدنا باللغة الدارجة : قلت لك ستين مرة لا أحبُ هذا الشخص ، هو هل قال ستين ؟ كلمة ستين يستخدمها العوام للتكثير فقط .
 ففي اللغة العربية سبعة ومضاعفات السبعة لا تعني الكم بل تعني التكثير ، فلما ربنا عزّ وجل قال :

﴿ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ ﴾

 ليسَ القصد إعطاء رقم أو كم مُحدد بل القصد التكثير ، يعني أنتَ إذا أتيتَ يومَ القيامة وقد أطعمتَ لقمة , تجدها عِندَ الله كجبلِ أُحد .
 لذلك :
 الفلاح في الدنيا لا أن تستهلك الوقت أن تستثمره ، لا أن تستهلك المال أن تستثمره ، لا أن تستهلك نعمة الأمن أن تستثمرها في معرفة الله ، لا أن تستهلك نعمة الصحة أن تستثمرها , دائماً بين المؤمن وغير المؤمن استهلاكٌ أو استثمار ، المستهلك يُذهب طيباته في الحياة الدنيا ، كما أمسك سيدنا عمر تفاحة , نظرَ إليها مليّاً , يبدو أنه اشتهاها , فقال : أكلتها ذهبت أطعمتها بقيت ، يعني إن أكلتها فقد استهلكتها , وإن أطعمتها فقد استثمرتها ، ففرقٌ بين المؤمن وغير المؤمن كالفرق بين الاستهلاك والاستثمار .

 

الخشوع والفلاح :

 منزلة الخشوع دخلت في الفلاح ، والخشوع في الصلاة ليسَ من فضائل الصلاة بل من فرائض الصلاة .

الآية الأولى :

 والقرآن الكريم يقول :

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾

الآية الثانية :

 تعالوا بنا إلى بعض آيات القرآن الكريم الأخرى عن الخشوع ، قال تعالى :

﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾

[سورة الحديد الآية: 16]

 الله عزّ وجل يُذكر صباحاً ومساءً , في المساجد ، في الخُطب , في شهر الصيام ، في تلاوة القرآن ، ولا سيما في العالم الإسلامي ، الله عزّ وجل يُذكر لكن ردُّ الفِعل مُنعكسُ الذِكرِ عِندك ، هل هوَ خشوعٌ أم تلبدُ حِسٍ ؟ ربنا عزّ وجل قال :

﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾

 يبدو أنًّ الإنسان أحياناً يصدأ قلبه , أو تُصبح عباداته شكليّةً ، الإنسان بحاجة إلى تجديد إيمان .
 أقول لكم هذه الكلمة :
 الإنسان عرفَ الله ، آمنَ به ، استقامَ على أمره ، صلى خمسَ مرات في اليوم .
 أمراض تصيب المؤمنين :
 تصبحَ العبادةُ جوفاء ، تؤدى العبادة كطقسٍ من الطقوس ، أن يصلي وقلبه غير خاشع ، أن يصوم وقلبه غير خاشع ، أن يَحُجَ البيت وهو كالسائح تماماً , ينظر هنا وهنا .
 لذلك الخشوع هو سِرُّ العبادات ، الخشوع روحُ العِبادة ، فالعِبادة التي ليسَ فيها خشوعٌ عِبادةٌ جوفاء ، عِبادةٌ أقربُ ما تكون إلى الطقوس ، والأديان الوثنية دائماً فيها حركات وإيماءات وسكنات , هذه الحركات والسكنات في الديانات الوثنية , يسميها علماء الاجتماع بالطقوس ، طقوس البوذية ، طقوس السيخية ، طقوس هذه الديانة ، حاش لله أن تكونَ الصلاة والصيام والحج في الإسلام طقوساً ، إنها عبادات .
 ما الفرق بين العبادات وبين الطقوس ؟
 الطقوس لا معنى لها , ولا غاية لها ، ولا معقولية فيها .
 لا معنى ولا غاية .
 ولكنَّ العبادة ربنا عزّ وجل جعلَ لها غاياتٍ عظمى , وحِكمٍ فضلى ، قال :

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾

[سورة التوبة الآية: 103]

 تطهير النفس من أدرانها ، وتزكيتها بالفضائل ، ثمرة من ثمار الزكاة ، الصيام , قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾

[سورة البقرة الآية: 183]

 التقوى , الحج .

 

﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾

[سورة المائدة الآية: 97]

 يعني إذا علمتَ أنَّ الله يعلم, حُلت كلُّ مشكلاتك، ما معنى: إذا علمتَ أنَّ الله يعلم؟ يعني إذا علمتَ أنَّ الله يعلم لا يمكن أن تعصيه .
 مرة دخلت إلى محل تجاري, في مدينة عربية، لفت نظري في المحل التجاري شاشة تلفزيون, ورأيتُ فيها رجلاً يكتب على الشاشة في النهار، من هذا الرجل؟ يبيع قطع كهربائية ، فلّما اخترت قطعةً, قال لي: هي في المستودع فوق الطابق الخامس, اذهب إلى هناك, وانتق ما يُعجبك, فذهبت إلى هناك, فإذا المحاسب كان عليه آلة تصوير تلفزيونية, صاحب المحل في مكان البيع يراقب هذا المحاسب، قلت: سبحان الله! هذا المحاسب عليه هذه الآلة التي تنقل صورته إلى صاحب المحل في مكان البيع، يعني هو تحت المراقبة الدائمة، لو حكَّ رأسه لرآه صاحب المحل، لو غادرَ الطاولة لرآه صاحب المحل، قلت: هذه طريقة, يعني لا تجعل هذا الموظف, بإمكانه أن يتحرك, ولا أن يغيب, ولا أن يتشاغل, ولا أن يسترخي, ولا أن يقرأ مجلة أو جريدة، لا يقدر, لأنه في مراقبة دائمة .
 قلت: لو عَلِمَ الإنسان أنَّ الله يُراقبه هكذا في بيته، في عمله، في سفره، في استلقائه، في فراشه، مع زوجته، مع أولاده، أثناء قضاء حوائجه، أثناء علاقاته بالآخرين، لو عَلِمَ الإنسان أن الله بإمكانه أن يراقبه هكذا, هل بإمكانه أن يعصيه؟ لا والله, أن تعلمَ أنَّ الله يعلم فقد انتهت المشكلة كلها .

العبادات كلها معللة:

 إذاً : الحج مُعلل ، الصلاة , الزكاة معللة ، الصيام مُعلل .

الصلاة :

 قال تعالى :

﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾

[سورة العنكبوت الآية: 45]

 الصلاة مُعللة , قال تعالى:

﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾

[سورة العلق الآية: 19]

 القُرب , قال تعالى :

﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾

[سورة طه الآية: 14]

 ذِكر , قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً﴾

[سورة النساء الآية: 43]

 صار الذِكر، والوعي، والقرب، الصلاة نور, القلب يستنير بالصلاة، الصلاة طهور، القلب يطهر بالصلاة .
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ:

((أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ, يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا, مَا تَقُولُ ذَلِكَ: يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟ قَالُوا: لا يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا, قَالَ: فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِن الْخَطَايَا))

 الصلاة مُعللة في القرآن وفي السُنّة، والصيام مُعلل، والزكاة مُعللة، والحج مُعلل، والعبادات كلها مُعللةٌ بمصالح العِباد، فهل يحّقُ لنا أن نُسميَّ الصلوات أو الصيام أو الحج طقوساً إسلامية؟ أعوذ بالله, كلمة طقوس هذه توصف بها الحركات المُبهمة غير الهادفة التي لا معنى لها, التي نجدها في الديانات الأرضية، أما الإسلام فيه العبادات، لذلك العبادة في الإسلام روحها الخشوع .

 

الحج :

 إنسان ذهبَ إلى الحج , أقول لكم بصراحة دون مجاملة : واحد سُمِحَ له أن يذهبَ إلى الحج, ودفع مبالغ طائلة, وركب الطائرة, وغادر بلده, وترك محله, وترك أهله, وترك أولاده, ازدحام, وحر, ونفقات, وانتظار بالمطار سبعة أيام, أو سبع ساعات, أو عشر ساعات, يعني لا أُصدق أنَّ الحاج طافَ حولَ الكعبة وما شعرَ بشيء، ذهبَ إلى عرفات, وأقام ساعات طويلة, جلس مثل السائح, والله الخيمة حر أين الطعام؟ أين يوجد مكيف؟ جلس ونام قليلاً وارتاح, حتى غابت الشمس, ثم جاء إلى مِنى .
 يعني أنا لا أُصدق أنَّ خالقَ الكون أمركَ أن تترك بلدك, وأن تركب الطائرة, أو أن تمشي على قدميك, أو أن تركب الجمل, وأن تقطع المسافات الشاسعة, وأن تُنفق عشرات الألوف, وأن تتحمل مشاق السفر للتواجد في مكان اسمه الكعبة، والله لا أُصدق ذلك إلا أن يكون في هذا الطواف الخشوع والإقبال, والشعور بالقرب, والشعور بتلقي التجلي من الله عزّ وجل, أن تذهبَ إلى عرفات دونَ أن تشعرَ بشيء إلا أنكَ وُجِدتَ في عرفات .

لطيفة :

 يعني أيام عِند الفقهاء بعض الآراء , تدعو إلى التساؤل :
 إنسان هارب من الناس , ومرَّ بعرفات خطأً لثانية واحدة في أيام الحج صحَّ حجهُ ، إذا كان هارباً , والناس يتبعونه , دخلَ في منطقة عرفات لثانية واحدة , صحَّ حجهُ .
 الفقهاء ينظرون إلى الأحكام الظاهرة , يعني إذا تواجدتَ في عرفات وقتاً قصيراً مهما كانَ قصيراً صحَّ الحج , خالق الكون لا يُعقل أن يأمركَ , أن تدعَ أهلكَ , وبيتكَ , وتجارتكَ , وأن ترتدي الثياب البيضاء الخشنة غير المخيطة , وأن تتحمل مشاق السفر , ومشاق الحج , ومشاق الازدحام , والانتظار الطويل , ليتواجد جسمكَ في عرفات دون أن تخشع ، دون أن تبكي ، دون أن تذوب كما تذوب الشمعة ، لا والله , ليسَ هذا الحج , الحج قُرب ، الحجُ إقبال ، الحجُ اتصال ، الحجُ ذوبان في محبة الله عزّ وجل .
 أقول لكم : أريد أن أُفرّق بينَ العبادات كما أرادها الله عزّ وجل، وبين الطقوس التي نلمحها في كلِّ الديانات، يعني في طقوس كثيرة جداً يفعلها الهنود، يفعلها الأفارقة، يفعلها الهنود الحمر في أمريكا؛ حركات، إيماءات، تمتمات لا معنى لها, ولا غاية لها, ولا هدفَ لها ، أما تحجُ البيت بأمرِ خالق الكون, ولا تشعر أنَّ هذا الحج أجملُ رحلةٍ, قُمتَ بها في تاريخ حياتك، هكذا الحج، فربنا قال:

﴿واسجد واقترب﴾

 قال:

﴿أقم الصلاة لِذِكري﴾

 قال:

﴿حتى تعلموا ما تقولون﴾

﴿الذين هم عن صلاتهم ساهون﴾

 قال له قم فصلِّ فإنك لم تُصلِّ .
 الآية الثانية في منزلة الخشوع :

﴿ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشعَ قلوبهم لِذِكر الله﴾

 هذا القلب خاشع يشعر بالحب ، القلب وجل .

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾

[سورة الأنفال الآية: 2]

 العين تدمع، الوجه يُشرق، الجلد يقشعر، الأعصاب تضطرب, هل يبكي الإنسان من ذِكر الله؟ هذه العين ألم تبكي مرةً لِذِكر الله حباً، خوفاً، طمعاً، خشوعاً؟ هكذا الصلاة. هذه ألم يأنِ: إلى متى أنت يا عبدي هكذا؟ إلى متى أنتَ في هذه الجفوة؟ إلى متى أنتَ في هذه القطيعة؟ إلى متى تُنكر قلبكَ ولا تبحثُ عن حلٍ لهذا؟ إلى متى أنتَ في هذا البُعد؟ يا ربي لقد عصيتك ولم تعاقبني, فوقع في قلب هذا المؤمن, أن يا عبدي قد عاقبتك ولم تدري, ألم أحرمكَ لذّةَ مناجاتي؟.
 هل تُصدّق أنكَ إذا شربتَ الماءَ واقفاً خِلافاً للسُنّة, ثم أقبلتَ على الصلاة, تشعر في حِجاب خفيف، إذا أخّرتَ الصلاة عن وقتها، إذا فعلتَ شيئاً خِلاف السُنّة تشعر بالجفوة، تشعر بالبُعد، بالمقابل إذا كنتَ دائماً من سُنّة رسول الله، إذا كنتَ دائماً مع الأمر والنهي، إذا كنتَ دائماً مع الله عزّ وجل, ألا تشعر بسعادةٍ لا توصف؟ والله الذي لا إله إلا هو جميع شروط الحياة تتعطل، يعني كيفما كان بيتكَ، وكيفما كان دخلكَ، وكيفما كانت صحتكَ، وكيفما كان مستوى معيشتكَ، وكيفما كانت مكانتكَ، كلُّ هذه الشروط الظاهرة عندئذٍ تتساقط أمام عينيك, لأنه لا قيمةَ لها .

المعاني اللغوية والشرعية للخشوع .

 الآن : الخشوع معناه الانخفاض ، خشعَ رأسه أي أخفضَ رأسه ، حنى رأسه ، والدليل ربنا عزّ وجل قال :

﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾

[سورة الغاشية الآية: 1-2]

 راقب أنت صور المجرمين بالصحف، لصوص أُلقيَّ القبضُ عليهم, بصرهم أينَ هوَ؟ في الأرض،

﴿هل أتاك حديث الغاشية وجوهٌ يومئذٍ خاشعة﴾

 فالخشوع هو انخفاض الرأس, إمّا لِذلٍ, أو لشعورٍ بالنقص, أو لشعورٍ بالذنبِ, أو ما شاكلَ ذلك، فالخشوع هو الانخفاض والذلُّ والسكون، من معاني الخشوع السكون, والدليل:

﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً﴾

[سورة طه الآية: 108]

 انخفاض الرأس مع الذُلِّ مع السكون, الحركة الزائدة في الصلاة, هذه بعيدة عن الخشوع .
 النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً حركته في الصلاة غير طبيعية, فقال عليه الصلاة والسلام:

((لو خشعَ قلبه لخشعت جوارحه))


 الحركة، التحرك، ميلان دائماً، في أشخاص يحب أن يتحرك حركة نواس أثناء الصلاة, ليسَ هذا هو الخشوع، لو خشعَ قلبه لخشعت جوارحه، يعني الخشوع هو انخفاض الرأس مع الشعور بالذلِّ لله عزّ وجل، كلما تذللتَ لله عزّ وجل ازددتَ عِزّاً، وكلما تذللت لمخلوق ازددتَ ذُلاً .
 اجعل لربكَ كلَّ عِزكّ يستقر ويثبتُ فإذا اعتززتَ بمن يموت فإنَّ عِزكَ ميتُ
 إذا الإنسان كانَ عزيز النفس مع الناس, وكانَ بينه وبينَ الله ذليلاً أو متذللاً, وضع رأسه على الأرض, وسجد, وبكى, وناجى, وابتهل, ودعا, واستجار, واستنجد, واستغاث, واستعطف, وأعلنَ عن نقصه, وعن ضعفه, وعن فقره, وعن تقصيره, وأثنى على الله لِما هو أهله، هكذا الصلاة خضوع لله، تذلل، سكون, تأكيد الانخفاض, ربنا عزّ وجل قال:

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

[سورة فُصلّت الآية: 39]

 ما معنى خاشعةً؟ منخفضة،

﴿فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت﴾

 الخشوع الانخفاض، والخشوع الذُل، والخشوع السكون، هذه معاني الخشوع, هذه المعاني اللغوية ما المعاني الشرعية؟.
 قال: الخشوع قيام القلب بينَ يدي الرب بالخضوع والذلِّ والجمعِ عليه، يعني ملتفت إليه, خاشع خاضع، ذليل، مُنقاد إلى الله عزّ وجل، هذا المعنى الشرعي للخشوع, قال بعضهم: الخشوع: الانقياد للحق .

 

علامات الخشوع :

 قال : الخشوع من علاماته خمودُ نيران الشهوة , وإشراق نور الله في القلب .
 الإنسان بين نار الشهوة ونور الله ، بينَ النارِ وبينَ النور ، بينَ نار الشهوة وبين إشراق نور الله في قلبه ، فإذا استعرت الشهوة في جسده فهو بعيدٌ عن الخشوع ، وإذا أشرقَ نور الله في قلبه اقتربَ من الخشوع ، الخشوع اتقاد نور الله ، وعدم الخشوع استعار نارِ الشهوة .

النور الإلهي :

 أنتَ بينَ شهوةٍ ونور ، بينَ نار الشهوة ونور الحق ، لذلك ..

شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي  فأرشدني إلى تركِ المعاصي
وأنبأني بأنَّ العِلمَ نـــورٌ  ونور الله لا يُهدى لعاصـي

 وكلمة نور لا يعرفها إلا من ذاقها ، يعني صفاء النفس ، استقامة الإنسان ، إقباله على الله ، انقياده لله ، أن يقفَ وقته في سبيل الله ، يشعر بشعور لا يوصف لا يعرفه إلا من ذاقه ، يعني أنتَ بينَ اتقادِ نارِ الشهوة في جوانحك وبينَ إشراق نور الله في قلبك .
هل عندنا آيات في القرآن الكريم تؤكد أنَّ للهِ نوراً يُقذف في قلب المؤمن ؟..

 

الآية الأولى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

[سورة الحديد الآية: 28]

الآية الثانية :

﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾

[سورة النور الآية: 40]

الآية الثالثة :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾

[سورة الأنفال الآية: 29]

 تُفرّقونَ به بينَ الحقِ والباطل .
 الآن : هل تصدقون أن سِر السعادة الرؤيا الصحيحة .
 وسِر الشقاء الرؤيا غير الصحيحة ؟ .
 الإنسان :
 متى يُخطئ ؟
 متى ينحرف ؟
 متى يعصي ؟
 متى يبتعد ؟
 متى يتورط ؟
 إذا رأى أنَّ في المعصية فلاحاً ، لا يرتكب الإنسان المعصية إلا إذا ظنَّ أنَّ في المعصية نجاحاً وفلاحاً وذكاءً وكسباً ومغنماً ، أعمى البصيرة لو أنه رأى رؤيةً صحيحة لرأى في المعصية دماراً وهلاكاً وبُعداً وشقاءً وتراجعاً , لن يعصي الإنسان ربه إلا إذا عميت بصيرته .
 سِر التفوق وسِر النجاح أن يتقدَ في قلبكَ نور الله عزّ وجل , أو أن يُلقى نور الله في قلبك , ترى به الخيرَ خيراً والشرَّ شراً ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام من دعائه الشهير: اللهم أرِنا الحقَّ حقاً وارزقنا اتباعه , وأرِنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابه .
 ألا تقرؤون أحياناً في الجريدة , عن إنسان تورط, وارتكب جريمة, وبعد ساعات أُلقي القبض عليه, وسيقَ للمحاكمة, وحُكمَ عليه بالإعدام, هذا حينما أقدم, أينَ عقله؟ أعمى القلب, توّهمَ في هذه الجريمة مغنماً, طبعاً هذه حالة حادة، حالات أخف, يعني إذا الإنسان توهم أنه إذا نظر إلى النساء في الطريق, وملأ عينه منهن, فهو يُسر بهذا النظر, هل هذه الرؤيا صحيحة؟ لا, أعمى القلب .
 إذا توهمَ الإنسان أنه إذا كذبَ باعَ بضاعته، إذا حلفَ اليمين باعَ بضاعته، أنه إذا احتال على الناس فهو ذكي، هذه آثار الرؤيا المشوّهة، فلذلك الإنسان لا يصحُ عمله إلا إذا صحت رؤيته، ولا يشقى إلا إذا ساءَ عمله، ولا يسوء عمله إلا إذا عَمِيت بصيرته, رؤيا, صحة عمل, سعادة، عمى, سوء عمل, شقاء، هذا تقسيم قطعي مهما قسّمتَ الناس، أغنياء وفقراء، أذكياء وأغبياء، متحضرين همجيين، يعني من أي تقسيم شئت, عرق أصفر، عرق أحمر، عرق أبيض .

 

التذلل لله تعالى من الخشوع :

 الإمام الجُنيد يقول : الخشوع تذلل القلوب لعلاّم الغيوب .
 أنا أُطمئنكم إذا الإنسان له مع الله مواقف تذلل وخشوع , لن يُذلّه الله أمام الناس، مرة كنتُ أُشيع جنازة طبيب من أطباء البلد, له فضل على هذه البلدة توفي, في بيننا زيارات, فذهبت لتشييع جنازته، وصلتُ إلى المسجد الذي تُقام فيه صلاة الجنازة، لفت نظري, لي أصدقاء بمناصب رفيعة في البلد, في الجامعة, منصب رفيع جداً, على مستوى عميد، فأنا وإياه كُنا في مدرسة واحدة, وفي صف واحد، دخلت إلى المسجد, وصليت صلاة الجنازة, فلما خرجت, وجدته واقفاً خارج المسجد, ولم يدخل، يعني قلت: يا رب استكبرَ أن يُصلي, هو أكبر من أن يدخل بيتَ الله عزّ وجل, ويضع رأسه على الأرض؟ سؤال كبير، يحمل شهادة عُليا، ذكي، هنا توقفت قلت: الذي يدخل المسجد, يضع رأسه على الأرض خشوعاً لله عزّ وجل, لن يُذلّه الله خارج المسجد, في مواقف ذُل نعوذ بالله منها، لمّا ربنا عزّ وجل يهين إنساناً ..

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾

[سورة الحج الآية: 18]

 قلتُ لكم مرة : طبيب من أطباء البلد الأوائل, وكانَ في اختصاصه فريداً, لكنه كانَ ماديّاً، كان طبيباً نسائياً، ما يقبل أن يتحرك إلى امرأة بحالة خطيرة إلا بليرة ذهبية وعربة, لم يكن في سيارات, قصة قديمة جداً ليرة ذهب وعربة، بعضُ أهلِ المريضة يضطرون إلى بيع الفراش من تحتها, كي تُقدّمَ أجرة الطبيب سلفاً, هذا الطبيب لم يرحم الناس, ولم يُشفق عليهم, وكانَ ماديّاً وأنانيّاً، أمضى سنوات طويلة, تزيد عن عشر سنين, ملقى في قبوٍ من أقبية البلدة, فقد لفظه أهله, لأنه فلج, تنكرت له زوجته، تنكرَ له أولاده، وضعوه في قبو البناء، وعمّر بناء يُعد البناء الأول في بعض أحياء دمشق, حجر مُزخرف, أنشأ البناء، وزيّنه، وكساه، وفرشه، وفق أذواقه الخاصة, فلما استقرت له الدنيا, ورقصت له, جاءه المرض العُضال، تحملّهُ أهله أيام, بل أسابيع, ثم وضعوه في القبو, فكان يطلب زوجته، أين فلانة؟ لا ترد عليه، يطلبها بإلحاح، بعد خمس أيام تأتي، تُكلّمه كلمة قاسية, بعد فترة نُقلَ إلى قبو آخر, لأنَّ رائحته أصبحت كريهة, نُقل إلى قبو بعيد عن البناء, لأنه أساء للبناء .
 تدخل مسجد, تضع رأسك لله، خشوعاً لله، ويُذلّكَ الله في آخر حياتك، يتخلى عنك، لا والله، هذه دخول المساجد, حضور مجالس العلم، قراءة القرآن، محبة الله عزّ وجل، هذا كله ينعكس في المجتمع عِز وشأن وكرامة ورِفعة لكَ، الله عزيز:

﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾

[سورة المنافقون الآية: 8]

 أنتَ غالٍ على الله لا يُسلّمُكَ لأحد، لا يتخلى عنك، تجد الأمور تجري لمصلحتك، تجري لترفعك، تجري لترفع من شأنك، هكذا المؤمن فعلاً غالٍ على الله عزّ وجل، فأنت إذا كنت مؤمناً فعلاً تلقّى ثمرات الإيمان .
 فأنا أقول لكم: الخشوع الخضوع، تُحب أن تخضع, أما أبلغ من هذا الخضوع خضوعك لأمر الله عزّ وجل، قال لك: غُض بصرك, يعني الأمر ليس يعجبك, أين أذهب بعيوني؟ ما هذا الكلام؟ أمرك بغض البصر، فإذا كنتَ خاشعاً لله, فأنتَ خاضعٌ له، وأنتَ مُتذلل له، وأنتَ ساكن أمامه .
 العلماء جميعاً أجمعوا على أنَّ الخشوع محله القلب, إذا واحد مشى بين الناس, مطأطئ الرأس كثيراً, وأكتافه مالت, صار خاشعاً, لا والله, ارفع رأسك, واجعل قامتك مديدة, كُن عزيزاً، متى مَوتَ علينا ديننا، الخشوع في القلب ليسَ في الجوارح، ارفع رأسك, وحَسّن لِباسك, ونظّف رِحالك, وكُن شامةً بينَ الناس, واشعر بِعزة الدين.
 النبي عليه الصلاة والسلام قال: الخشوع محله القلب وثمرته على الجوارح .
 النبي رأى رجلاً يعبثُ بلحيته في الصلاة, فقالَ عليه الصلاة والسلام:

((لو خشعَ قلبُ هذا لخشعت جوارحه))

 لو خشعَ قلبه لخشعت جوارحه، الخشوع مكانه في القلب ومظهره في الجوارح .
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ, لا يَخُونُهُ, وَلا يَكْذِبُهُ, وَلا يَخْذُلُهُ, كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ عِرْضُهُ, وَمَالُهُ, وَدَمُهُ, التَّقْوَى هَا هُنَا, بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ, أَنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ))

[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, وأبو داود والترمذي في سننهما, ومالك في الموطأ]

 وقال بعض العارفين: حُسنُ أدبِ الظاهر عنوان أدب الباطن, والله في جلسة ما فيها أدب، على مقعد، أيام تجد شخص في مقتبل حياته, يقعد ويضع قدماً فوق قدم ويميل, من أنت؟ اجلس جلسة هكذا دون ميلان, دون قدم فوق قدم, اجلس بأدب, في جلسة ما فيها خشوع, ما فيها أدب أساساً .
بعضهم رأى رجلاَ خاشعَ المنكبين والبدن, فقال: يا فلان, الخشوع هاهنا, وأشار إلى صدره, لا هاهنا وأشار إلى منكبيه, الخشوع في القلب .
 حتى النبي عليه الصلاة والسلام, لمّا رأى رجلاً من أصحابه الكرام, يتبختر في مشيته أمام الأعداء, قال:

((إنَّ الله يكره هذه المشية, إلا في هذا الموطن, بل إنَّ التكبر على المتكبر صدقة))

 كان أصحاب النبي أذكياء جداً, وكانوا أعزّة .
 خُبيب بن عدي, أرادَ كفار مكة أن يقتلوه, والقتل صلبٌ, عليهم أن يُثبتوه في جِذعِ نخلة, ويرمونه بالسِهام حتى يموت، انظروا عِزة المؤمن, اقترب أبو سفيان, قال له: أتُحبُ أن يكونَ مُحمدٌ مكانك وأنتَ مُعافى؟ قال له: والله ما أُحبُّ أن أكون في أهلي وولدي, وعندي عافية الدنيا ونعيمها, ويُصاب رسول الله بشوكة, هذا الجواب, فقال: ما رأيت أحداً يُحبُّ أحداً كَحُبِّ أصحابِ مُحمدٍ مُحمداً .
 الإنسان ليس له حق أمام كافر, أن يتذلل, ويشكو له همه .

((من جلسَ إلى غنيٍ فتضعضعَ له ذهبَ ثُلثا دينه))

 ليس له حق أن يشكو لغير المؤمن، هو إذا اشتكى للمؤمن فكأنما اشتكى إلى الله، سيقول لك: يا أخي أطل بالك، اصبر، الله كريم، الله يمتحنك, الذي عِندَ الله ليسَ عِندَ العبد، هكذا يقول لك المؤمن، أما الكافر فيقول: قلت لك: هذا الطريق ابتعد عنه, لم تقبل مني، قلت لك: أضعتَ حالكَ بهذه الطريقة، قلتُ لك: لا تحضر مجالس العلم، هذه سببها لم يعينوك، منعوك من الوظيفة يقولها شاقياً .
 فلذلك إياك أن تشكو همّكَ لغير المؤمن, وإذا كنت بطلاً, كما قال سيدنا يعقوب: إنما أشكو بثي وحُزني إلى الله, ويُعاب من يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم.
 إذا كنتَ بطلاً فاجعل الشكوى لله عزّ وجل، لا تشكو إلى إنسان, لأنَّ هذا الإنسان كائناً من كان, لن يستطيع أن يفعلَ معكَ شيئاً، لا يملك لكَ نفعاً ولا ضراً، لكَ مع الله ساعات قُرب، في قيام الليل لا تجد بيتاً، أنت محتاج لزوجة صالحة مؤمنة لا تجد، كله لا يضع الحِجاب، شعرت بضيق, يا ترى لكَ مع ربك ساعة خشوع, ساعة إقبال, هكذا الله عزّ وجل قال:
 إذا كان ثلث الليل الأخير, نزلّ ربكم إلى السماء الدنيا, فيقول: هل من تائبٍ فأتوبَ عليه؟ هل من مُستغفرٍ فأغفرَ له؟ هل من طالبِ حاجةٍ فأقضيها له؟ حتى ينفجر الفجر.
 إذا لم يكن لكَ مع الله ساعات قُرب، ساعات تهجد، ساعات مناجاة، ساعات توسل، ساعات استعطاف، ساعات إعلان عن نقص الإنسان، ساعات ثناء على الله عزّ وجل، ليس لكَ مع الله ساعات أبداً, أليست لكَ مع الله مودة؟.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾

[سورة مريم الآية: 96]


 بعض العلماء قالوا: ود مع الله، بعضهم قال: ود مع الخلق، على كُلٍ القرآن حمّال أوجه .
 بعض الصحابة وهو حذيفة, وكان حذيفة خبيراً بالمنافقين, مر بنا الدرس الماضي, قال: إياكم وخشوع النِفاق، فقيل له: وما خشوع النِفاق؟ قال له: أن ترى الجسدَ خاشعاً والقلب ليسَ بخاشع .
 يعني وأنت تصلي بين الناس, لا تظهر خشوعاً غير موجود, أنصحك لوجه الله، لا تكن عندك ازدواجية, كن إنسان واحد وليس إنسانيين، فسيدنا حذيفة يقول: إياكم وخشوع النِفاق، قيل: وما خشوع النِفاق؟ قال له: أن ترى الجسدَ خاشعاً والقلب ليسَ بخاشع .
 ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً, طأطأَ رقبته في الصلاة, فقال: يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك, ليسَ الخشوعُ في الرِقاب, إنما الخشوع في القلوب .
 أحدهم ملأ الحرمَ المكيَّ صخباً وضجيجاً, وجد لوزة, قال: من صاحب هذه اللوزة؟ فقيل له: كُلها يا صاحب الورع الكاذب, كُلها وخلّصنا .
 يقول: أنا بين السنّين في سمسمة, يا ترى تُفطّر هذه؟ تعبر امرأة فينظر لها وخائف أن تُفطره السمسمة، ما هذا التناقض؟ خائف أن تفطره السمسمة, يحلف يمين كاذب بالبيع والشراء, يُحضر أشياء نادرة جداً, ويخاف أن تكون مُخالِفة للشرع, هذا خشوع النِفاق, المؤمن واضح، قال له: يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك, ليسَ الخشوعُ في الرِقاب, إنما الخشوع في القلوب .
 ورأت السيدة عائشة رضي الله عنها شباباً, يمشونَ ويتماوتون في مشيتهم, فقالت لأصحابها: من هؤلاء؟ فقالوا: هؤلاء نُسّاك، فقالت: كانَ عمر بن الخطاب, إذا مشى أسرع، وإذا قالَ أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعمَ أشبع، وكانَ هو الناسِكُ حقاً, هكذا الناسِكُ, ما رأيتُ أزهدَ منه .
 الفُضيل يقول: كان يُكره أن يُريَّ الرجل الناسَ من الخشوع أكثرَ مما في قلبه, وقال حذيفةُ رضي الله عنه: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، بغير بلاد تجده يعد النقود بالصلاة, يُخرج المحفظة ويعدها، يضبط الساعة، يمر شخص تجده ينظر إليه لم يبق إلا أن يُكلّمه، صلاة ليسَ لها معنى إطلاقاً, ويجوز بلا وضوء .
 قال: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة, أولاً صلاة بلا خشوع, ثمَّ لا صلاة, ورُبَّ مصلٍ لا خيرَ فيه, ويوشك أن تدخلَ مسجد الجماعة, فلا ترى فيهم خاشعاً, أقسمَ لي واحد بالله كانوا بوليمة, وصلّوا أربع صفوف, حوالي 150 رجلاً, والإمام نسيَّ ركعة, ولا واحد تذكر من الحاضرين, ولا واحد .
 وقال سهلُ: من خشعَ قلبه لم يَقرب منه الشيطان .
 الخشوع: افتقار إلى الله عزّ وجل، بعدٌ عن مُراءاة الخلق, وتجريدٌ لرؤية الفضل .
 الفقرة الأخيرة من الخشوع: أن الخاشع ما زويَّ عنه من الدنيا, أو ما لحقه منها من ضررٍ وأذى فهو مِنةٌ أيضاً, لا تنسى أنَّ للهِ عليكَ نعمتين .

بقيَّ في الدرسِ نقطتان :

1-أن تبتعد عن المراءاة :

 الأولى أنَّ الخشوع أن تبتعد عن المُراءاة ، يعني إذا كنت دائماً مع الناس, وليست لكَ خلوة مع الله عزّ وجل, اللقاء مع الناس المستمر, يُضعف فيكَ الخشوع، يعني أنت أردتَ أن تبكي في الصلاة, وجودك مع أُناس كثيرين, ربما حالَ بينكَ وبينَ البكاء, فلا بدَ من صلاةٍ تؤديها في البيت، أدِّ السُنّةَ في البيت، أدِّ الوترَ في البيت، صل قيام الليل في البيت، أدِّ النوافل في البيت، صل وحدك في الغرفة، أما اللقاء مع الناس المُستمر دون أن تكون لكَ مع الله خَلوةٌ أبداً, هذا ربما أضعفَ فيكَ الخشوع، لأنَّ الإنسان مع الناس يُراقب الناس وهو لا يدري .
 ثبت في السُنّة إحياء الليالي بشكل جماعي, هذا لم يرد عندَ رسول الله، أن تُحييَ ليلة العيد في بيتك، تقرأ القرآن، تذكر، تتهجد، تدعو، تتوسل، تبكي، تستعطف، هذا كله وارد, فلذلك أولاً البعدُ عن مُراءاة الخلق، مما يزيد الخشوع أن تبتعدَ عن مُراءاة الخلق .

2-لا ينبغي أن تكون حريصاً على أن يظهر خشوعك أمام الناس :

 في شيء آخر: إذا كنتَ خاشعاً, وتمنيتَ أن يراكَ الناس خاشعاً, فهذا مما يُضعف الخشوعَ فيك، يعني أفضلُ أنواع الخشوع أن تُخفيَ هذا الخشوع، إنسان يتمنى أن يبكي أمام الناس, يا أخي ما شاء الله على القلب الذي له, ما هذه الأحوال؟ ما هذا الحب؟ دخل بالنِفاق وهو لا يدري .
 شيئان يُضعفان الخشوع : أن تكون مع الناس دائماً, لا بدَ من غارِ حِراء بشكل متقطع, لا بدَ من غارِ حِراء, لا بد من خلوةٍ مع الله, من أجل أن يزدادَ الخشوع، ولا ينبغي أن تكونَ حريصاً على أن يظهر خشوعكَ أمام الناس, فإنَّ هذا الحِرصَ وحده يُضعف الخشوع .
 قال : رقصت الفضيلةُ تيهاً بفضلها فانكشفت عورتها .
 الفضيلة حينما ترقص تيهاً بنفسها، هذا التيهُ هو نقيصة وليسَ فضيلة .
 وسيدنا علي يقول رضي الله عنه: أفضلُّ الزُهدِ إخفاء الزُهدِ .
 في شخص حريص أن يكون أمام الناس خاشعاً، أنتَ كُن خاشعاً مع الله ولا تُعلّق كبير أهميةٍ على مرأى الناسِ لك.
 وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نتابع موضوعات مدارج السالكين.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور