وضع داكن
11-06-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 046 - المحاسبة - 2 أدوات المحاسبة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

أدوات المحاسبة:

 

1-العلم: 

أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس والأربعين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، ومنزلة اليوم هي منزلة المحاسبة، وقد سبقَ أن عولِجَت هذه المنزلة قبل درسين، واليوم نأخذ الجزء الثاني منها.
بيَّنـتُ في الدرس السابق من المحاسبة أنَّ أدوات المحاسبة كثيرة، من أبرزها العِلم، أنت بالعِلم تُحاسِبُ نفسكَ، أنت حينما تقرأ نصّاً باللُّغة العربيَّة، هل تستطيع من دون أن تكون عالمًا باللُّغة أن تعرف أخطاءك؟ مستحيل، إن درسْتَ العربيَّة، ودرستَ قواعد العربيّة، وقرأت نصّاً عربياً، تكشف الأخطاء التي وقعت بها، فالعِلم هو الوسيلة الأولى، والأداة الأولى لِمُحاسبة النَّفس، إن كنتَ تعرف الحلال والحرام، وما ينبغي وما لا ينبغي، وما يجوز وما لا يجوز، إن كنتَ تعرف الفرائض والواجبات والسُّنَن والتَّحسينات، وإن كنت تعرف المحرَّمات وتعرف المكروهات وتعرف المندوبات والمباحات، عندئذ تُحاسب نفسَك، أما هذا الذي لم يطلب العلم كيف يُحاسب نفسهُ؟ وأكبر دليل اقرأ نصًّا أمام إنسان غير متعلّم، تقول له: كيف رأيت قراءتي؟ يقول لك: ممتازة، وقد ارتكبت مئة خطأ، لا يستطيع أن يكشف الخطأ إلا عالم، هذه واحدة. 

2-سوء الظن بالنفس:

الشيء الثاني: سوء الظنّ بالنّفس أحدُ أدوات المحاسبة، هذا الذي يمْدحُ نفسهُ، ويتملّقها، ويتوهم أنَّه على صوابٍ دائمًا، وأنّ الناس جميعًا مُخطئون، هذا إنسان بعيد عن محاسبة النَّفس، لابدّ مِن أن تُحاسب نفسكَ حِسابًا دقيقًا عن طريق سوء الظنّ بها، لذلك المُوَفَّقون في حياتهم يُحسِنون الظنّ بِإخوانهم، ويُسيئون الظنّ بأنفسهم، وغير المُوَفَّقين في حَياتهم يُسيئون الظنّ بِإخوانهم دائمًا، ويُحْسِنون الظنّ بِنُفوسهم.
سيّدنا عمر عملاق الأسلام رضي الله عنه وأرضاه كان يخْطُب، فجأةً قطَع الخُطبة، وقال: كنتَ عُمَيراً فأصبَحْتَ عمر فأصبحت أمير المؤمنين، وكنتَ ترعى غُنَيْماتٍ لِبَني مخزوم على دُرَيهمات، هذا الكلام لا علاقة له بالخطبة، فلما نزل من على المنبر قال له أصحابهُ: ما علاقة هذا الذي قلته بالخطبة؟! قال: جاءَتني نفسي فقالتْ لي: ليس بينك وبين الله أحد، أيْ أنتَ قِمَّة المجتمع الإسلامي، ليس معنى هذا أنَّه قِمّة المجتمع لأنه ِقوّي، لا، قِمّة المجتمع الإسلامي في الدِّين، وفي القُرْب من الله عز وجل. فقال: أردْتُ أنْ أُعرِّفها أنَّني كنتُ عُمَيْرًا فأصْبحتُ عمراً فأصبحت أمير المؤمنين، وكنتَ أرعى غُنيماتٍ لِبَني مخزوم، أردت أن أعرف نفسي. 
بصراحة أقول لكم: المُوَفَّقون في حياتهم يسيئون الظّنّ بأنفسهم، يُحاسبون أنفسهم حسابًا عسيرًا، دَعْكَ من التَّمَلُّق لِنَفْسِك، لا تُزَكّ نفسك، دائمًا الحقيقة المُرَّة أفضل ألف مرَّة من الوهم المريح، أكثر الناس يقول لك: أنا إيماني أقوى منك، وهو لا يُصَلِّي، ويفعل كلّ الموبقات، كلام شيطان هذا، كلام شيطان أن تقول: أنا مؤمن وأنت لسْت كذلك. 

3-تمييز النعمة من الفتنة:

الشيء الثالث-فسوء الظن بالنفس أحد أدوات محاسبة النفس-تمييز النِّعمة من الفتنة، كم إنسان ذي نِعمةٍ مُسْتَدْرجٍ بها؟ إذًا هي فتنة، وكم من إنسانٍ متميِّزٍ بِنِعمةٍ مُكَرَّمٍ بها؟ المال قد يكون لإنسان نعمة ولآخر فتنة، إذا جَمَعَك المال على الله فهو نعمة، فإذا جمعَكَ على معْصِيَة فهو فتنة، القوَّة إنْ أوْصَلتْك إلى الله فهي نعمة، وإن أبْعَدَتْك عنه فهي فتنة. 

4-أن تميز بين المِنّة والحجّة:

شيءٌ آخر؛ لابدّ من أن تُميِّز بين المِنَّة والحجَّة، فالله سبحانه وتعالى إذا أعطاك فهو مِنَّة، فإن أنْفقْت الذي أعطاك إياه في معْصِيةٍ، كان هذا الذي أخذْتَهُ من الله تعالى حجَّة عليك، فأنت دائماً بين أن يكون الشيء حجَّة لك أو حجَّة عليك.
الآن كلُّ قوَّة ظاهرة وباطنة صَحِبها تنفيذٌ لِمَرضاة الله عز وجل وأوامره فهي مِنَّة، وكلّ قوَّة ظاهرة وباطنة صَحِبها بُعْدٌ عن الله عز وجل فَهِي حجَّة، كلّ مال اقْترَنَ بِطاعة الله عز وجل فهو مِنَّة، وكلّ مال أُنْفق في معصِية الله عز وجل فهو حجَّة، كلّ فراغٍ اقْترن بِعملٍ صالح فهو نعمة، وإن اقْترنَ بِعَمل سيِّئ فهو فتنة، كلّ قَبُولٍ من الناس، وتعظيم لهم، ومحبة لهم لك، اتَّصلَ به خضوع للربّ وذلّ وانْكِسار، ومعرفة بعيب النفس والعمل، وبذْل النَّصيحة للخلق فهو مِنَّة، وإلا فهو حُجَّة، وكلّ حال مع الله تعالى أو مقامٍ اتَّصل به السَّيْرُ إلى الله فهو مِنَّة، إن صَحِبهُ الوقوف عنده والرِّضا به فهو من لذَّة النَّفس ورعوناتها. 

5-أن تميز ما لك وما عليك وأن تعطي كل ذي حقّ حقه:

أيها الإخوة؛ هذا ملخص الدرس الماضي، أردْتُ أن أجعله بين أيديكم كي نبني عليه شيئًا جديدًا، لابدّ مِن أن تُمَيِّز ما لك وما عليك، وأن تُعْطِيَ كلّ ذي حقّ حقّه، وكثيرٌ من الناس يجعل كثيراً ممَّا عليه من الحق من قِسْم ما له، لا مِن قِسْم ما عليه، فيتحيَّر بين فِعْلِهِ وترْكِهِ، وإن فعلهُ رأى أنَّه فضْلٌ قام به، لا حقّ أداء عليه أن يؤديه.
الآن ما الذي لك؟ وما الذي عليك؟ أُناسٌ كثيرون بإزاء هذا التقسيم يظنّ أن ترْك المباحات حقّ عليه، لا، تَرْكُ المباح ليس حقًّا عليك، مسْموحٌ لك أن تدَعَهُ، لو أنَّ الإنسان تعبَّد الله تعالى بِتَرْك النِّكاح هل هذه العبادة صحيحة؟ هذه ليْسَت لك كي تنفقها، هذه حقّ لك، ما لك ليس لك أجرٌ إذا صرفْتَهُ عنك، لك أن تتزوّج، لك أن تغتسل، لك أن ترتدي ثيابًا نظيفة، لك أن تأكل، لك أن تنام، فالذي لك لا يمْكنُ أن يكون عليك أن تؤدِّيَهُ، لذلك إنَّ نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم سألوا عن عبادته في السرّ، فكأنَّهم تقالُّوها، رأوها قليلة،

(( فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْهم قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. ))

[ صحيح البخاري ]

الذي لك ليس لك أجر بإنفاقه، لك أن تتزوّج، ليس لك أجر بترك الزَّواج، لك أن تعمل، ليس لك أجر بِتَرْك العمل، لك أن تنام، ليس لك أجر بِتَرك المنام، الآن إنسان أراد أن يُسافر إلى الحج سيراً على الأقدام هل له أجر؟! لا، لأنَّ المشقة في الإسلام ليْسَت مطلوبةً لِذاتها، حينما تُفرَض عليك مرحبًا بها، أما أن تطلبها لِذاتها فهذا ليس من الدِّين في شيء، ((لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)) . 

6-أن تعرف ما القليل وما الكثير؟ 

نقطةٌ في المحاسبة جديدة: الكثير والقليل، قبل كلّ شيء يقول تعالى:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾

[ سورة النساء ]

وقال تعالى: 

﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)﴾

[ سورة البقرة ]

الحكمة كثير، ومهما أكثرت منها فهي تحتاج إلى أكثر من ذلك، أما المال يُعَدُّ قليله كثيرًا وكثيرهُ قليلاً، يُعَدُّ كثيره قليلاً إذا مات الإنسان ذهب ماله، يُعدُّ قليله كثيرًا إذا أُنْفقَ المال في طاعة الله كان كثيرًا عند الله عز وجل.

  علاقة الاستغفار بِعَرفات:


الآن يقول العلماء: أرباب العزائم والبصائر أشدُّ ما يكونون اسْتِغفارًا عَقِبَ الطاعات لِشُهودهم تقصيرهم فيها، وترْك القيام لله بها كما يليق بِحلاله كما يليق بِجَلاله وكِبْريائه، وأنَّه لولا الأمر لما أقْبل أحدهم على مِثل هذه العبوديَّة، ولا رضِيَها لسَيّدِه، الآن: 

﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)﴾

[ سورة البقرة ]

ما علاقة الاستغفار بِعَرفات؟! كنتَ في عِبادة، وكنت في انْقِطاعٍ لله عز وجل، فلِمَ الاسْتِغفار؟! قال العلماء: كلَّما عظُمَ الله عندك رأيْتَ عِبادتك له لا تليق به، فينبغي أن تستغفر، وقال تعالى: 

﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)﴾

[ سورة آل عمران ]

هم يقومون الليل ثمّ يستغفرون، قال: الاستغفار يَجِبُ أن يأتيَ عَقِبَ عبادة دينِيَّة مديدة، وكان عليه الصلاة والسلام،

(( عن عائشة رضي الله عنها: إذا سلم من الصَّلاة اسْتغفرَ ثلاثًا، ثمَّ قال: اللهمّ أنت السلام، ومنك السَّلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام.  ))

[ صحيح مسلم ]

وأمرهُ الله تعالى بالاستغفار بعد أداء الرِّسالة، والقيام بها، وبأعبائها، وقضاء فرْض الحجّ واقْتراب أجله، فقال في آخر سورة أُنزلت عليه: 

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)﴾

[ سورة النصر ]

عَقِبَ النَّصْر الكبير اسْتغفِر، وعَقِب الحجّ اسْتَغْفِر، عقِبَ الصِّيام استغفر، كان النبي عليه الصلاة والسلام في خاتمة عباداته يقول:

(( عن علي بن أبي طالب: سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، اللهمّ اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهِّرين. ))

[ ابن الملقن المصدر: البدر المنير: حكم المحدث: مرسل ]

 

من تحَقَّق بالعُبوديَّة نظر في أفعاله بِعَين الرِّياء:


قال بعض العارفين: متى رضيتَ عن نفسِكَ وعملك فاعْلَم أنَّه غير راضٍ عنك، ومن عرف أنَّ نفسهُ مأوى كلّ عَيبٍ وشرّ، وعمله عُرضةٌ لِكُلّ آفة ونقْص، كيف يرضى لله نفسه وعمله؟! أحد العلماء يقول: من تحَقَّق بالعُبوديَّة نظر في أفعاله بِعَين الرِّياء، وأحواله بِعَين الدَّعوة، وأقواله بِعين الافْتِراء، وكلَّما عَظُم المطلوب في قلبك صَغُرَت نفسُكَ عندك، وتضاءَلَتْ القيمة التي تبذُلها في تحصيلهِ.
 

على الإنسان أن يربأ بنفسه عن تعيير المقصرين:


أيها الإخوة؛ يَجِبُ أن تتّهِم نفسَك، يجب أن تعرف ما لك وما عليك، يَجِب أن تعرف ما القليل وما الكثير، الآن لا يكْمُل هذا المعنى إلا بأن تربأ بِنَفسك عن تعْيير المُقصِّرين، ورد أنَّ الذَّنب شؤْم على غير صاحبه، إن ذكرهُ فقد اغتابَهُ، وإن رضِيَ به فقد شاركهُ في الإثم، وإن عيَّرَهُ ابْتُلِيَ به، أنت مستقيم، لم تقم بِذَنب، ولكن أخوك هو الذي قام بهذا الذنب، فإن عيَّرْتَهُ ابتليت به، وإن ذكرتَهُ فقد اغْتَبتَهُ، وإن أقْررْتَهُ فقد شاركْتهُ في الإثم، لذلك ينبغي ألا تزدري البطيء، وألا تُدِلّ بطاعتك، لا تحتقرُ من يعصي الله فلعلَّهُ يتوب ويسْبِقُك، ولا تُذِلّ بذنبك أو بعملك الطيب على الله عز وجل، قال تعالى: 

﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)﴾

[ سورة الحجرات ]

قال: ينبغي أن تربأ بِنَفسك عن تعييرِ المقصِّرين، فلعلّ تَعييرك لأخيك بِذَنبهِ أعظمُ إثماً من ذنبه، وأشدُّ من معصِيتِهِ، لما فيه من صَولة الطاعة، وتزكِيَة النَّفس وشُكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذَّنب، وأنَّ أخاك باء به، ولعلَّك كَسَرْتهُ بِذَنبِهِ، وما أحْدثت له شيئًا، إذاً لا تزدري البطيء في طريق الإيمان، ولا تُذِلّ بالمتفوِّق في طريق الإيمان، أعْطِ كُلاً حقَّه.
 

احذر من ذنب يمقتك الله فيه:


هذا الذي يُدِلّ بِعَمله على الله قال: ما أمْقتَهُ عند الله! فذَنبٌ تذِلّ به لديه أحبّ من طاعة تُذِلّ بها عليه، وإنَّك إن تبيتَ تائبًا، وإنَّك إن تبيتَ نائمًا، وتُصبِحَ نادمًا خير لك من أن تبيتَ قائمًا، وتُصبِحَ معجبًا، إن تبيت نائماً وأن تستيقظ خاشعاً لله، أن تبيت قائماً وأن تصبح مُعجباً فإنّ المعْجب لا يصعدُ له عمل، وإنَّك إن تضْحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مذلّ، وأنين المُذنبين أحبّ إلى الله تعالى من زجل المسبِّحين المذِلِّين، ولعلّ الله عز وجل أسقاه بِهذا الذَّنب دواءً استخْرج به داء قاتلاً هو فيك وأنت لا تشعر، إذاً ازْدِراء البطيء والإذلال فيه إثم.
 

أهل البصائر يعرفون منها بِقَدْر ما تناله معارفُ البشر:


أهل البصائر يعرفون منها بِقَدْر ما تناله معارفُ البشر، ووراء ذلك ما لا يطَّلِعُ عليه الكرام الكاتبون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: عن أبي هريرة  إذا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِناها، فَلْيَجْلِدْها الحَدَّ، ولا يُثَرِّبْ عليها، ثُمَّ إنْ زَنَتْ، فَلْيَجْلِدْها الحَدَّ، ولا يُثَرِّبْ عليها، ثُمَّ إنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَتَبَيَّنَ زِناها، فَلْيَبِعْها، ولو بحَبْلٍ مِن شَعَرٍ. وفي رواية:

(( عَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ في جَلْدِ الأمَةِ إذا زَنَتْ ثَلاثًا، ثُمَّ لِيَبِعْها في الرَّابِعَةِ. ))

[ صحيح مسلم ]

لا يثرب أي لا يعير من قول يوسف عليه السلام:

﴿ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)﴾

[ سورة يوسف ]

 الميزان بيَدِ الله، والحكم لله، والسَّوط الذي ضُربَ به هذا العاصي بيَدِ مقلِّب القلوب، والقصْد إقامة الحدّ لا التَّعْيير ولا التثريب، أي الإسلام حينما يكون في أوّله قد ينشأ في بيئةٍ غير مطبِّقة له، فإقامة الحدّ شيءٌ عظيم جداً ينبغي أن يكون واضِحاً في أذهاننا، قال تعالى: 

﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)﴾

[ سورة الإسراء ]

وقال سيدنا يوسف: 

﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾

[ سورة يوسف ]

أرأيتم إلى هذا الأدب؟ ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ وقال بعضهم: لا يأمنُ القدَر وسطْوتَهُ إلا أهل الجهل بالله.
وأنا في سفري حينما عُدْت، قالوا لي: أتَدري من تُوُفِّي؟ قلتُ: لا، قال: فلان، شابٌّ في ريعان الشَّباب، عنده محلّ تِجاري كبير، وله دَخْلٌ وفير، ومن روَّاد المسجد، وهو فيما أعتقد صالح، ولا أُزَكِّي على الله أحدًا، ولكن توفِّي بحادث هو وزوجتهُ وأُمُّه وأولادهُ، أي لا يذكر إنسان أنه يعيش للستِّين أو للسبعين، أما أن يأتي الموت في الثلاثين، فجأة، هذا شيءٌ مُخيفٌ جدًّا، يا ترى: مهيَّأ؟ مُحَضر؟
﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾ وقال يوسف: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ وكان عامّة يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا مقلّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك،

(( عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاص، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ. ))

[ صحيح مسلم ]

 

نهاية المطاف:


أيها الإخوة؛ هذه نِهاية المنزلة التي بدأناها قبل حين؛ منزلة المُحاسبة، الأداة الأولى: العِلم، والأداة الثانية أن تُفرِّق بين النِّعمة والنِّقمة، الأداة الثالثة أن تعرف ما ينبغي فعْلُهُ وما لا ينبغي فعْلُهُ، وأن تعرف أنَّ طلب العِلْم فرضُ عَينٍ على كلّ مسلمٍ ومسلمة.
أيها الإخوة؛ في درس آخر إن شاء الله نُتابِع موضوعًا آخر من موضوعات مدارج السالكين، في مراتب إياك نعبد وإياك نستعين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور