وضع داكن
26-07-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 068 - تعظيم حرمات الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة تعظيم الحرمات:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن والستِّين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، ومنزلة اليوم تعظيم الحرمات، قال تعالى:

﴿ ذَلِكَ ومَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُو خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوثَانِ واجْتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ (30)﴾  

[ سورة الحج ]

أَيَّة منزلة من منازل مدارج السالكين وردت فيها آية أو حديث، هي منزلة، تعظيم حرمات الله منزلة من منازل مدارج السالكين.
 

تسليط الله الأعداء على المسلمين وجعل بأسهم فيما بينهم:


الأصل أيها الإخوة؛ أن الإنسان إذا تعرَّف إلى الله وعرف طرفاً من جلاله يُجِلُّ أمره، ويُجلّ نهيه، ويُجِلّ طاعته، ويُجلُّ عباده المؤمنين، ويُجلّ كلَّ شيء يتَّصل به، يُجِلّ المسجد، يُجلّ المصحف، أيُّ إنسان، أو أيُّة جهة، أو أيُّ كتاب يتَّصل بجلال الله عزَّ وجل يُجِلُّه، ﴿ومَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُو خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ لذلك حال المسلمين اليوم أنه هان أمرُ الله عليهم فهانوا على الله، سلَّط عليهم أعداءهم، جعل بأسهم فيما بينهم، ليست كلمتُهم هي العليا، لأعدائهم عليهم ألف سبيل وسبيل، لأنهم لم يُجلّوا الله ولم يُجلّوا أمره، ﴿ومَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُو خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ .
 

تعريف بحرمات الله:


قال الليثُ أحد العلماء: حرمات الله ما لا يَحِلّ انتهاكُها.
وقال عالم آخر: الحرمات هي الأمر والنهي.
وقال عالم ثالث: الحرمة ما وجب القيام به وحَرُم التفريط فيه.
وقال قوم: الحرمات ها هنا المناسك؛ مناسك الحج زماناً ومكاناً.
والصواب أن كل هذه من الحرمات، أي شيء مقدَّس؛ شيء يتَّصل بالدين، يتصل بالإله، فالقرآن مُقدَّس، وكُتُب السنة مقدَّسة، وكتب العلم الشرعي مقدسة، ومن يعمل بالعلم الشرعي مقدَّس، بيوت الله مقدسة، أمر الله مقدس، نهيه مقدس.
 

كلما ازداد الإنسان إيماناً وإجلالاً لله عز وجل عظّم حرمات الله:


كلما ازددت إيماناً وإجلالاً لله عز وجل تُعظِّم حرمات الله، بل إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم.

(( عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ والْجَافِي عَنْهُ، وإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ. ))

[ ابن مفلح: الآداب الشرعية: إسناده جيد ]

مسلم متقدِّم في السن، أمضى حياته في طاعة الله، يجب أن تُجِلَّه، يجب أن تحترمه،  يجب أن تُيسِّر له أمره، ((إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ)) إن من إجلال الله توقير الإمام العادل، إنسان بمنصب، مستقيم، يعمل للصالح العام، يجب أن تحترمه، له صدر المجلس، ما دام أنه مخلص، وله نفع عام، ويسهر على راحة الناس، وعلى أمنهم وسلامتهم، فأيُّ شيء يتّصل بالله عز وجل المسلم الصادق يُجِلُّه، الصلاة مقدسة، لا يؤخِّرها عن وقتها، ولا يُضيّعها، الصيام مقدس، لو كان معذوراً في الإفطار لما أفطر علانية، حرمة للشهر.
 

من ازداد تمسكاً بأمر الله كان مقامه عند الله أعلى:


قال بعضهم: الحرمات تَعُمُّ هذا كلَّه، وهي جمع حُرمَة، وهو ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق، والأشخاص، والأزمنة، والأماكن، والحقوق، فتعظيمها توفيتها حقَّها، وحفظها من الإضاعة، والخروج من حرج المخالفة، وجسارة الإقدام عليها، بتعظيم الأمر والنهي خوفاً من العقوبة، وطلباً للمثوبة، إنسان قويٌّ إذا أعطى توجيهاً يُنفَّذ بحذافيره خوفاً من بطشه، خالق الكون أعطاك أمراً، أعطاك نهياً، فكلما ازددت تمسكاً بأمر الله كان مقامك عند الله أعلى.
 

الأنبياء والمرسلون والصّديقون هم قدوتنا:


الآن مَنْ قدوتنا؟ الأنبياء والمرسلون والصّديقون في دعائهم، وسؤالهم، والثناء عليهم بخوفهم من النار، ورجائهم للجنة، قال تعالى: 

﴿ وزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ووهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وأَصْلَحْنَا لَهُ زَوجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ويَدْعُونَنَا رَغَبًا ورَهَبًا وكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)﴾

[ سورة الأنبياء ]

الأنبياء والمرسلون سألوا اللهَ الجنة، واستعاذوا به من النار، وأنا لا أرضى أن يقول قائل: أنا لا أرجو الجنة، ولا أخشى النار، ولكن أعبد الله لأنه أهل للعبادة، أي هو فوق مقام الأنبياء؟ الأنبياء رَجَوا رحمته وخافوا من عذابه، والأنبياء قمم البشرية، فإذا الإنسان الذي يقع في قمة السُّلَّم رجا ربَّه، رجا الجنة، وخاف من النار، لا ينبغي أن يقول إنسان ليس نبيًّا: أنا لا أعبد الله طمعاً في جنته، ولا خوفاً من ناره، ولكنني أعبده لأنه أهل للعبادة، هذه مزاودة، فالأنبياء جميعاً يدعون ربَّهم رغباً ورهباً، هذا هو القرآن، وهذه هي السنة، والإنسان لا يمكن أن يكون أعبد من رسول الله، ولا أكثر قرباً من رسول الله.
 

منهج النبي عليه الصلاة والسلام:


(( عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْواجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: فأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ومَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ ولا أُفْطِرُ، وقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ ولا أَتَزَوجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وكَذَا؟ أَمَا واللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. ))

[ صحيح البخاري ]

أي المنهج الذي جاء به النبيُّ-عليه الصلاة والسلام-كامل وتامٌّ، ولا تحتاج إلى منهج آخر، لذلك لا تُفكِّر أن تنتقص من الدين شيئاً، ولا أن تضيف عليه شـيئاً، أيَّة إضافة أو أيَّ إنقاص اتِّهامٌ للدين بالزيادة والنقص.
 

ثناء الله على خواص خلقه بأحسن أعمالهم:


خواص خلقه أثنى الله عليهم بأحسن أعمالهم، وجعل من أعمالهم الطيبة أنهم استعاذوا به من النار، قال تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)﴾

[ سورة الفرقان ]

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)﴾

[ سورة الفرقان ]

هذا الذي يدعو الله أن يصرِف عنه عذاب جهنم هو يُعظِّم حرمات الله، أيضا قوله تعالى:

﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)﴾

[ سورة آل عمران ]

سيدنا إبراهيم، قال تعالى:

﴿ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾

[ سورة الشعراء ]

 

الأنبياء قدوة لنا وكلامهم منهج لنا:


أيها الإخوة الكرام؛ ما أدري ما السبب أن الإنسان يقرأ قصص الأنبياء في القرآن، يقرأ مناجاتهم، يقرأ أدعيتهم، يظن أنه لا علاقة له بهذا، هؤلاء الأنبياء قدوة لنا، كلامهم منهج، دعاؤهم علم، موقفهم طريق إلى اله  عز وجل، فأنا من أنصار أن كل آية فيها ذِكر لنبيٍّ ينبغي أن تقف عندها، وأن تجعل هذا الموقف قدوة لك، النبي عليه الصلاة والسلام أمَرَ أمَّته أن تسأله في وقت الإجابة عقِيب الأذان، هذا الوقت هو وقت الإجابة، لذلك:

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِرَجُلٍ: مَا تَقُولُ فِي الصَّلاةِ؟ قَالَ: أَتَشَهَّدُ، ثُمَّ أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ، أَمَا واللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ ولا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، قَالَ حَولَهَا نُدَنْدِنُ. ))

[ صحيح الجامع ]

أي صحابي يسأل الله الجنة، ويستعيذ به من النار، وكان هناك كلام بين صحابيين لم يفهم منه شيئاً، ((أَمَا واللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ ولا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، قَالَ حَولَهَا نُدَنْدِنُ)) .
في الصحيح من حديث الملائكة،

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وجَدُوا قَومًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، تَنَادَوا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وهُو أَعْلَمُ بهم: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قال: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ، ويُكَبِّرُونَكَ، ويَحْمَدُونَكَ، ويُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَونِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لا واللَّهِ مَا رَأَوكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: وكَيْفَ لَو رَأَونِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَو رَأَوكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وتَحْمِيدًا، وأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، قَالَ: فيَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُون؟ قَالَ: يقولون: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: فيَقُولُ: وهَلْ رَأَوهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا واللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَو أَنَّهُمْ رَأَوهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَو أَنَّهُمْ رَأَوهَا، كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنْ النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ: وهَلْ رَأَوهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا واللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوهَا، قَالَ: فيَقُولُ: فَكَيْفَ لَو رَأَوهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَو رَأَوهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلائِكَةِ: فِيهِمْ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمْ الْجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُم. ))

[ صحيح البخاري ]

أي معقول إنسان ضائع شارد غافل ما سأل الله ولا مرة الجنة ولا استعاذ به من النار أن يُعامل هذا العبد كعبد آخر ليل نهار يسأله الجنة ويستعيذ به من النار؟ 
أيها الإخوة؛ هؤلاء الأنبياء والرسل في قصص القرآن التي ذَكَرت مواقفهم وأحوالهم وأدعيتهم واستعاذتهم ورجاءهم، وما جاء في السنة من وصف العباد المؤمنين، ومواقفهم، واستعاذتهم، منهجٌ لنا نحن المؤمنين. 
 

أكبر باعث للعمل الصالح رجاءُ الجنة وأكبر رادع عن المعصية خوفُ النار:


هناك حقيقة أتمنى أن تكون واضحة لديكم، إذا خلا القلبُ من ملاحظة الجنة والنار، ورجاء هذه، والهرب من هذه، فترت عزيمتُه، وضعُفت همَّتُه، ووهى باعثُه، وكلما كان أشدَّ طلبا للجنة وعملاُ لها كان الباعثُ له أقوى، أنا أقول لك كلاماً صريحاً: أكبر باعث للعمل الصالح رجاءُ الجنة، وأكبر رادع عن المعصية خوفُ النار، وما سوى ذلك كلامٌ فارغ لا معنى له، يوجد عنده ضمير مسلكي يقظ، هذا كلام فارغ، يخشى على سمعته، كلام فارغ، حينما تخلو له الفرصة يقتنصها، فأيُّ رادع غير رادع خوف النار رادعٌ وهميٌّ، وأيُّ باعث غير باعث الجنة باعثٌ خُلَّبي، الباعث الحقيقي أن ترجو جنة الله إلى الأبد، والرادع الحقيقي أن تخاف من النار، فلذلك ما الذي يجعل المؤمن مقيَّداً؟

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه: الإيمانُ قيد الفتك، ولا يفتك مؤمن. ))

[ سنن أبي داود : صحيح لغيره ]

لأنه يعلم علم اليقين أن الله كبير، وأن بطش الله شديد، وأن عذابه في الدنيا لا يُحتمل، وأن عذابه في الآخرة أشدُّ وأبقى، فالإنسان حينما يعلم ما عند الله من العقاب، وما يرجو من رحمته من ثواب، لاستقام على أمره، وإن أردتم أضعكم مع حقائق تعيشونها جميعاً: إنسان أقوى منك، إذا قال فعل، هل يمكن أن تقع تحت مخالفة أمره؟ إنسان عادي لكنه أقوى منك، بإمكانه أن يُوقِع بك الضررَ، وهو مُطَّلع عليك، فهل يمكن أن تعصيَه جهاراً؟ هذا شأنك مع إنسان أقوى منك فكيف شأنك مع الله جلّ جلاله؟ لذلك الإمام الغزالي-رحمه الله تعالى-يقول: يا نفس! لو أن طبيبا حذَّركِ من أكلة تحبِّينها، لا شكَّ أنكِ تمتنعين عنها، أيكون الطبيبُ أصدقَ عندكِ من الله؟
طبيب نهاك عن أكل الملح، وحذَّرك من مغبَّة جلطة، وارتفاع ضغط، وتصلُّب شريان، تدع الملح كليًّا، الطبيب تحذيرُه مقبول عندك، والطبيب صادق، وتأخذ بتوجيهه، وتنسى أن تأخذ التوجيه من الله عز وجل؟ 
 

الجنة التي أرادها الله لعباده:


إخواننا الكرام؛ هناك حقيقة أتمنى أن تكون واضحة لديكم، الجنة التي ينبغي أن نسعى إليها ليست اسماً لمجرَّد الأشجار والفواكه، والطعام والشراب، والحور العين، والأنهار، والقصور، وأكثر الناس يتوهَّمون في مسمَّى الجنة أن الجنة اسم لدار النعيم، أي مكان جميل جداً، بساتين، أرض خضراء، أشجار قطوفها دانية، فيها حور عين، فيها ولدان مخلدون، فيها نهر من عسل مصفَّى، فيها نهر من لبن لم يتغيَّر طعمه، فيها ماء غير آسن، فيها خمر لذَّة للشاربين، هذه جنة، ولكن ليست هي الجنة التي أطلقها الله على دار النعيم، هذه الجنة هذه المحسوسات، ما بين أنهار، وأشجار، وحور عين، وولدان مخلَّدين، لكن الجنة التي أرادها الله فوق هذا نظرٌ إلى وجه الله الكريم،  قال عليه الصلاة والسلام:

(( عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَونَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَونَ هَذَا، لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَرَأَ: وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ الْغُرُوبِ. ))

[ صحيح البخاري ]

وقد ورد تفاصيل عن هذه الرؤية أن المؤمن إذا نظر إلى وجه الله الكريم يغيب من نشوة النظرة خمسين ألف عام، وهل هناك فوق ذلك؟ طبعاً، لو دخلت بيتاً وكان صاحب البيت له جمال أخَّاذ، فأنت جلست في مكان، ومتَّعت عينيك بجمال وجهه، شيء جيِّد، ولكن هناك مرتبة أعلى بكثير، أن يقف لك صاحب البيت، وأن يستقبلك بحرارة بالغة، وأن يدعوك بأحبّ الأسماء إليك، وأن يُرحِّب بك، وأن يُقرِّبك من مجلسه، هذا هو التكريم الحقيقي، لذلك قال تعالى:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)﴾

[ سورة التوبة ]

صار هناك مستوى محسوس؛ أنهار، وأشجار، وقطوف، وولدان، وحور عين، وأنهار من عسل مصفى، ولبن، وخمر، وماء غير آسن، هذا مستوى، مستوى آخر: النظر إلى وجه الله الكريم، مستوى أعلى: أن يُرحِّب اللهُ بك، وأن يرضى عنك، وأن يقرِّبك، ﴿ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ .
 

كلُّ نعيم دون الجنة محقور وكل بلاء دون النار عافية:


إخواننا الكرام؛ قال تعالى:

﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾

[ سورة الصافات ]

اشترى بيتاً بأحد شوارع دمشق الغالية جداً، البيت في الطابق الثاني عشر، هي شقَّتان، فاشترى بلاطة، والبيتان على المفتاح؛ كسَّر البلاط، وأزال النوافذ، وكسَّر المرافق العامة، وأعادها كسوة البيتين بتؤدَة وإتقان منقطع النظير، واستغرق العمل سنتين بالتمام والكمال، الوصف الذي سمعته لا يُصدَّق، طاولات من الرخام الشَّفاف، والإضاءة مخفية ثابتة، وبعد أن انتهى البيتُ بأيام معدودة جاءته المنيةُ، هذه هي الدنيا، ومثل هذه القصة تتكرَّر كثيراً، بيت لم يُسكَن، زواج لم يَتِم، شهادة لم تُحضَّر، سفرة لم يَعُد منه، دخل البيت ولم يخرج، خرج ولم يعُد، سافر ولم يعد، هكذا، قال تعالى: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾ وقال تعالى:

﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾

[ سورة المطففين ]

ما خير بعده النارُ بخير، وما شرٌّ بعده الجنة بشَر، وكلُّ نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية، وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحبّ أن أرحمه إلا ابتليتُه بكل سيئة كان عملها سقماُ في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذّر، فإذا بقي عليه شيء شدَّدتُ عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه.
 

السعي إلى جنة القرب من الله عز وجل:


بعض العلماء يتمثَّل هذا البيت، فقال:

قلـيل منكَ يكفيني ولكن                      قليلُك لا يُقال له قـليلُ

[ أبو النصر أحمد المكيالي ]

* * *

أي نظرة إلى الله عز وجل تكفي الإنسان، الآن في الدنيا-كلامي دقيق-جنة من لم يدخلها لم يدخل جنةَ الآخرة، إنها جنة القُرب، اسعَ إليها، واللهِ الذي لا إله إلا هو لو سعيتَ إليها، وذُقتَ ومضة من ومضاتها، واللهِ تحتقر نعيم الدنيا كلّه، نعيم الدنيا كلُّه تحتقره أمام هذه الومضة، أحياناً تجد إنساناً غارقاً بالعمل الصالح، الجاهل يشفق عليه، نقول له: أشفِق على نفسك، هو غارق في سعادة لا تُوصف، المنهمك في عمل طيِّب، وفي عمل صالح، وفي عمل مُخلِص لله عز وجل، هذا سعادته في التعب، وشقاؤه في الراحة، لو أرحتَه يتألَّم أشدّ الألم.
 

أشدُّ أنواع العذاب أن يُحجَب الإنسانُ عن ربه:


أيها الإخوة؛ هذا عن الجنة فماذا عن النار؟ قال: وكذلك النار أعاذنا الله منها، فإن لأربابها من عذاب الحجاب عن الله، الحقيقة أشدُّ أنواع العذاب أن يُحجَب الإنسانُ عن ربه، قال تعالى:

﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾

[ سورة المطففي ]

يقابل ذلك قوله تعالى:

﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾

[ سورة القيامة ]

وجهٌ نضير متألِّق ينظر إلى الله عز وجل، ووجه عليه غَبَرة محجوب عن الله عز وجل، وجه ابْيَضَّ لعمله الطيَّب، ووجه اسودَّ لعمله السيّئ، فقال: الحجاب عن الله، واستحقاق غضب الله، وسَخَط الله، والبعد عن الله، والطرد من رحمة الله، أعظم من التهاب النار في أجسادهم، ورد هذا الحديث:

(( عن جابر بن عبد الله: إن العار ليلزم المرءَ يوم القيامة حتى يقول: يا رب لإرسالُك بي إلى النار أيسر عليَّ مما ألقى، وإنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب. ))

[ ضعيف الجامع: أخرجه الحاكم في مستدركه ]

العذاب الحسِّي، لهيبُ النار الذي يُحرِق الجلدَ، قال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)﴾

[ سورة النساء ]

ومع ذلك العذاب النفسي الحاصل من استحقاق النار ليس قليلاً، فلذلك النار اسم لمجموعة من العذابات، بربِّكم نأتي بمثل بسيط، أنت مُقدِم على زواج، ومعك فرضاً حوالي ثلاثمئة ألف، ووجدت بيتـاً بثلاثمئة ألف ضمن دمشق، فرضاً؛ موقعه مناسب جدًّا، وأيُّ بيت آخر ثمنه مليون، وذهبت إلى صاحب البيت لتشتريَه، قال لك: واللهِ لقد بِعتُه، لا تنام الليلَ، ما أحد ضربك، شعور بالندم، أنت قصَّرت، كان لابدَّ أن تتابعه قبل يومين، كان لابدَّ أن تسأل، فالندم على فوات شراء بيت، أو الندم على فوات الزواج بفتاة، يُبقي صاحبه في ألم لا يُحتمَل، فكيف الندم على فوت الجنة واستحقاق النار؟ ((إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول: يا رب، لإرسالُك بي إلى النار أهونُ عليَّ مما ألقى، وإنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب)) فلذلك عذاب النار منوع، هناك عذاب حسِّي:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)﴾

[ سورة البروج ]

هناك عذاب نفسي، العذاب النفسي بعضُه ندم، بعضه حسرة، بعضه خزي، بعضه عار، بعضه أن هذا الذي استحقَّ دخول النار استحقَّ غضب الله، وسخط الله، والبعد عن الله.
 

السعي المشكور سعي من أراد الآخرة:


لذلك مطلوب الأنبياء والمرسلين والصدِّيقين والشهداء والصالحين هو الجنة، ومهربُهم من النار، وخيرُ العباد من يريد اللهَ ويريد ثوابه، وهؤلاء خواصُ خلقه، قال تعالى:

﴿ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)﴾

[ سورة الأحزاب ]

فالدار الآخرة أي الجنة مطلوبة من قِبَل خواص خلقه: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً﴾ هذا خطابُه لخير النساء، أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وقال تعالى:

﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)﴾

[ سورة الإسراء ]

فأخبر أن السعيَ المشكور سعي من أراد الآخرة، وأبلغُ من هذا قولُه لخواص أوليائه وهم أصحابُ نبيِّه صلى الله عليه و سلم:

﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)﴾

[ سورة آل عمران ]

فخواص خلقه أصحاب نبيِّه، يريد الآخرة، إذًا لا ضيرَ أن نرجو الجنة، وأن نتعوذ من النار، وهذه مرتبة الأنبياء والمرسلين.
 

عبادة الله لأنه أهل للعبادة:


أما الذي يقول: هذه الولية الصالحة التي قالت: إلهي لا أعبدك طمعاً في جنتك، ولا خوفاً من نارك، ولكنني أعبدك لأنك أهل للعبادة، نحن نأخذ ديننا من القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، وأما هذه رحمها الله، وأكرمها الله، ولعلها وليّة حقاً، ولعلها موصولة بالله، لكن هذه ليست مُشرِّعة، نحن لا نعتقد العصمة إلا لرسول الله، هو المُشرِّع، ونُحسن الظنَّ بالمؤمنين، دون أن نُعلِّق كبيرَ أهمِّية على أقوالهم، هم ليسوا مُشرِّعين.
أي هذا الذي ركِب ناقته وحمل عليها زاده و شرابه، وجلس ليستريح من وعثاء السفر، أخذته سِنةٌ من النوم فأفاق فلم يجد الناقةَ، فأيقن بالهلاك قطعاً، وصار يبكي ويبكي حتى نام مرة ثانية،  فلما استيقظ رأى الناقةَ أمامه، من شدة الفرح اختلّ توازنُه،

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وعَلَيْهَا طَعَامُهُ وشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُو كَذَلِكَ، إِذَا هـُو بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ. ))

[ صحيح البخاري ]

خيراً إن شاء الله، نعذره، كلامه صحيح؟ أعوذ بالله، كلامه كفرٌ؛ ولكن قال بعض العلماء: ما كلُّ من وقع في الكفر وقع عليه الكفرُ، من شدة الفرح اختلّ توازنه، قال: يا رب أنا  ربك وأنت عبدي، هذا لا نؤاخذه.
الآن إذا إنسان آخر اختلّ توازنه فتكلم بكلمات تُخالف الكتاب والسنة، نرجو له الرحمة والمغفرة، ولعله أقربُ إلى الله منا، لكن لا نأخذ بهذا الكلام، بل نأخذ بالقرآن والسنة، القرآن والسنة صرَّحا بآيات كثيرة جداً أن خواص أوليائه، وخواص أصحاب نبيِّه، وأن أنبياءه وهم قمم البشر، سألوا اللهَ الجنة، واستعاذوا به من النار، فهل يُعقل أن ياتيَ إنسان ليس رسولاً ولا نبيًّاً ويتأبَّى أن يستعيذ بالله من النار وأن يسأله الجنة؟ بل هو فوق ذلك، يسأله النظر إلى وجهه الكريم، لا يعبده خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، ولكن يعبده لأنه أهلٌ للعبادة، هذا كلام يُخالِف الكتاب والسنة، نحن نرجو لصاحبه المغفرة والرحمة، ولعله لم يقُله أيضاً.
 

العصمة لرسول الله وحده أما أمته فهي معصومة بمجموعها:


أنا أختم هذا الدرسَ بهذه الحقيقة: لو أنك قرأتَ كلاماً لعالم كبير يُخالف الكتاب والسنة، ما موقفك؟ أول احتمال: أنه ما قاله، دُسَّ عليه، ثاني احتمال: أنه قاله وما أراد المعنى الذي أنت فهمته منه، احتمال ثالث: أنه قاله وأراد المعنى الذي فهِمته منه، ولكن ترك هذا المعنى بعد حين، وتراجع عن هذا المعنى، والاحتمال الرابع: أنه قاله وأراد المعنى الذي فهِمته ولم يتراجع عنه فهو مخطئ، وانتهى الأمر.
نحن عندنا رسول الله هو المعصوم وحده، النبيُّ وحده معصوم، أمَّته معصومة بمجموعها، النبي عليه الصلاة والسلام معصوم وحده، أمتُه بمجموعها، هذه عقيدتُنا، العصمة لرسول الله وحده، أما أمته بمجموعها معصومة، فإذا إنسان بساعة من الساعات اختلَّ توازنه، وقال كلاماً يُخالف الكتاب والسنة، لعله ما قاله، أو لعله قاله بساعة غيبوبة، ليس مشرِّعاً وليس حُجةً، نحن منهجنا كتاب الله، ومنهجنا سنة رسول الله، ولا شيء غيرهما.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور