الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
جهتان لن تستطيع أن تكذب عليهما؛ الله تعالى ونفسك:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الآية الرابعة عشرة من سورة القيامة، وهي قوله تعالى:
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)﴾
ومع الدرس الثالث من سورة القيامة ومع الآية الرابعة عشرة: ﴿ بَل الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ أقوى حجة على الإنسان أنة يعلَم نفسه قطعاً، يعلَم ما إذا كان على حقّ أو على باطل، يعلَم ما إذا كان صادقاً أو كاذباً، يعلَم ما إذا كان مخلصاً أو منحرفاً خائناً، يعلَم كلَّ شيءٍ عن نفسه، جهتان لن تستطيع أن تكذب عليهما ولا لثانيةٍ واحدة: الله جلَّ جلاله ونفسك، الله جلَّ جلاله مطَّلعٌ على السرائر:
﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾
النية والإخلاص لا يعلمهما إلا الله:
يعلَم جَهْرَكَ، ويعلَم سِرَّك، ويعلَم ما خفي عنك، ويحول بين المرء وقلبه، أقرب شيء لك قلبك، والله بينك وبين قلبك، يعلَم خائنة الأعين، ولن يستطيع إنسان على وجه الأرض أن يضبط خيانة العين.
طبيب يفحص امرأةً، مكان الألم هنا، إن اختلس نظرةً إلى مكانٍ آخر هل هناك في الأرض من يستطيع أن يضبطه؟ أبداً، يعلَم السِّر، يعلَم الخواطر، يعلَم الأفكار، يعلَم النوايا، يعلَم البواطن، لذلك النيَّة لا يعلَمها إلا الله حتى المَلَك لا يعلَّمها.
إنسان ذهب إلى بلد غربي وأراد أن يتزوَّج امرأةً، وذهب إلى مركزٍ إسلامي وعقد عقده الشرعي على هذه المرأة بإيجابٍ منه وقبولٍ منها وشاهدي عدل ومهر على كتاب الله وسُنَّة رسوله، وفي نيَّته أن يطلِّقها بعد سنتين، بعد أن ينهي الدراسة، هل في الأرض كلِّها إنسان يستطيع أن يعلَم ذلك؟ أبداً، لكن الله وحده يعلَم، أنت مكشوف أمام الله عزّ وجل، ما دمت هكذا ينبغي أن تكون مخلصاً، ينبغي أن تكون سريرتك كعلانيتُك، ينبغي أن يكون باطنك كظاهرك، ينبغي أن تكون خلوتك كجلوتك، هذا الإخلاص، وهذا الذي قاله عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ . ))
المال والنساء نقطتا الضعف عند الإنسان:
أروع ما في المؤمن الوضوح، لا يوجد عنده سر، ما في قلبه على لسانه، ما ينطق به في قلبه، لا يستحي من شيء في حياته، أموره كلَّها شرعية، لا في بيته، ولا في علاقته بزوجته، ولا في علاقته بأولاده، ولا ببناته، ولا بأصهاره، ولا بجيرانه، ولا بزبائنه، لأنه لا يكذب، ولا يغش، لا يوجد عنده نقطة ضعف يضعف أمامها، لماذا المؤمن عزيز النفس؟ لأنه مستقيم، لا يخشى في الله لومة لائم، نقطتا الضعف الخطيرتان في الإنسان: المال والنساء، حصَّن نفسه من النساء بالعفَّة ومن المال بالورع، انتهى الأمر، لن تستطيع أن تصل إلى إنسان إلا بإحدى هاتين النقطتين، بمالٍ أخذه حراماً، أو بعلاقةٍ مشبوهة، قمة المجتمع الغربي تُسَاق إلى المحاكمة لأنه تحرَّش بامرأة، صَغُرَ.
الإنسان نفسه حجة قوية عليه:
لذلك الإنسان أمام ربه مكشوف، فالله جلَّ جلاله لا تستطيع أبداً أن تُخْفي عليه شيئاً.
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)﴾
﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)﴾
﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)﴾
ونفسك أيضاً لن تستطيع أن تخدعها، تكشفك على حقيقتك: ﴿الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ هذه فيها مبالغة، شديد البصر، الإنسان له على نفسه حجة لأنه يعلَمها حقيقة العِلم، ﴿الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ إلا أنه أوتي ذكاءً، أوتي عقلاً يستخدمه لتغطية انحرافه، هذا كلام، هذا المنطق التبريري، والإنسان منطقي فعندما ينحرف يبرر، يأتي بحجج واهية ليغطِّي بها انحرافه، هذا المنطق لا قيمة له عند الله.
شهود أعضاء الإنسان عليه يوم القيامة:
لأن يوم القيامة:
﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)﴾
يوم تشهد عليهم جلودهم.
﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21)﴾
جلد الإنسان، جلد أعضائه التي مارس بها المعصية تنطق عليه يوم القيامة، وتشهد عليه، إنك لن تستطيع أن تكذب على الله، لن تستطيع أن تكذب على نفسك:
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾
بل إن الله عزّ وجل حينما سَوَّى هذه النفس:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾
أي ألهمها حينما تفجر أنها فاجرة، وألهمها حينما تتقي أنها مُتَّقية: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ .
هذا يتضح أحياناً من إنسان كان تائهاً شارداً منحرفاً، فعندما تواجهه بخطئه يغلي، ويأتي بحجج ضعيفة وواهية، لكن لو أن هذا الإنسان تاب إلى الله ورجع إليه يقول لك: والله كنت أكذب.
ذات مرَّة كان هناك رجل وسيم الصورة يُستخدم في الإعلان لبعض أنواع الدخان، فمات بسرطان بالرئة بسبب الدخان، وهو على فراش الموت قال هذه الكلمة: كنت أكذب عليكم الدُخان قتلني، فالإنسان أحياناً يكذب وكثيراً ما يكذب وربما لا يَصْدُق، وربما يكذب كلَّما تَنَفَّس، والمؤمن لا يكذب، يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ، فالإنسان بصيرٌ على نفسه ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ هذه المعاذير يُلقيها للناس ليخدعهم، ليُغَطِّي انحرافه، ليغشَّهم، ليضللهم، لكنه يعرف الحقيقة، حتى يوم القيامة يقول المشركون:
﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)﴾
قال:
﴿ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)﴾
الكذب لا يطول وقد يكشف في أية لحظة:
﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ قال بعضهم: "تستطيع أن تكذب على بعض الناس لكلِّ الوقت، وتستطيع أن تكذب على كل الناس لبعض الوقت، أما أن تكذب على كل الناس لكل الوقت فهذا لن تستطيعه" .
فكل إنسان له عُمر؛ إذا كان كذاباً، مخادعاً، مضللاً، مزوِّراً، له عُمر، إذا كان الذين يضلهم قلائل قد يدوم هذا العمر، وإذا كانوا كُثُر يقصر هذا العُمر، لابدَّ من أن يُكشف لأن هذه سنَّة الله في خلقه.
﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)﴾
﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)﴾
كشف الله للحقائق ولو بعد حين:
الله عز وجل لابدَّ من أن يفرز المؤمنين إلى صادقين وإلى مقصَّرين ثم إلى منافقين، هذا شيء لو الإنسان أيقن به ينخلع قلبه، لابدَّ من أن يكشف ربنا الحقيقة، هو الحق، كل أساليب الذكاء في الخديعة لبعض الوقت، للباطل جولةٌ ثم يَضْمَحِل، الله عزّ وجل يكشف؛ يكشف المنافقين، يكشف المنحرفين، وقد يرخي الحبل إلى أمد من أجل أن يأخذ الإنسان أبعاده كلَّها فإذا وصل إليها كشف الله الحقيقة، والإنسان ينبغي أن يستحيي من الله، ينبغي ألا يجعل الله أهون الناظرين إليه، إذا استحييت من الله ألقى عليك الستْر، سَتَرَك، إذا استحييت من الله، حفظك، إذا استحييت من الله ألقى عليك الهيبة، إذا استحييت من الله خدمك أعداؤك، أما حينما ينخلع أو يُهتك الستر الذي بينك وبين الله عندئذِ يكشف الله الستر الذي بينك وبين الناس.
معرفة الإنسان لنفسه من أعظم الأشياء:
سيدنا الصديق-رضي الله عنه-ما قرأتُ دعاءً أكثر أدباً وتواضعاً من هذا الدعاء، مُدِح، قال: "اللهمَّ أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهمَّ اجعلني خيراً مما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون" هذا عن قوله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ وإذا تحقَّقت من هذا استقمت على أمره، وتعاملت معه وحده، والله كاشف الحقيقة، لماذا تحاول أن توهم الناس أنَّك على غير حقيقتك؟ الأصل كاشفك، إذا كنت في محل تجاري فرضاً وصار هناك خطأ، إذا كشفه صاحب المحل لماذا تحاول أن تُضلل هذا الطفل الصغير؟ ليس له قيمة، إذا الخطأ كشفه من بيده الأمر فأنت ما من فائدةٍ أن توهم هذا الصغير أنك مستقيم، إذاً: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ .
الخيانة والكذب من صفات المنافقين وهي أبعد ما يكون عن المؤمنين:
اللهمَّ صلِّ على سيدنا محمد في عقِب إحدى الغزوات وأظنها تبوك جاء المنافقون يعتذرون واحداً تلو الآخر، استمع إليهم، وقَبِلَ منهم أعذارهم، ودعا لهم، فلما جاء الصادق المُقَصِر سيدنا كعب، سيدنا كعب قال له: والله لقد أوتيت جدلاً، أوتيت لساناً طليقاً، ولو جلست إلى غيرك لخرجت من غضبه، ولكنني جمعت أن أصدقك يا رسول الله، إني إن صَدَقتك لعلَّ الله يغفر لي، وإني إن كَذَبْتُ عليك يوشك الله أن يفضحني، انظر إلى التوحيد، صدقه، قال له: حينما دعوتنا إلى الذهاب إلى هذه الموقعة ليس عندي عذرٌ إطلاقاً، تخلَّفت بلا سبب، فالنبي قال كلمة قصيرة لكنها بليغة: أما هذا فقد صدق، سمع لثمانين شخصاً قبله، ولا يوجد شيء يرفعك كالصدق، ولا يوجد شيء يصغرك كالكذب، والمؤمن لا يكذب، المؤمن قد يخطئ كثيراً لكنه لا يكذب ولا يخون، يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ.
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)﴾
أي يا محمد، كان عليه الصلاة والسلام إذا نزل عليه الوحي أسرع وردد الكلمات كلمات الله عزّ وجل خَشْية أن ينساها، فطمأنه الله عزّ وجل:
﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)﴾
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)﴾
إنك لا تنسى بفضل الله عزّ وجل.
اهتمام النبي الكريم بالقرآن وحفظه:
﴿ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)﴾
شاء الله مرَّةً أن ينسى، صلى الظُهر ركعتين، سأله أحد الصحابة -ذو اليدين-يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ أي أصبح الظهر ركعتين أم نسيت؟ ولأن النبي لم ينس قط سابقاً، قال:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ إِحْدَى صَلاتَيِ الْعَشِيِّ، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّه غَضْبَانُ وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَوَضَعَ خَدَّهُ الأيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: قَصُرَتِ الصَّلاةُ؟ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتِ الصَّلاةُ؟ قَالَ: «لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ» فَقَالَ: «أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟» فَقَالُوا: نَعَمْ. فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ثمَّ سَلَّمَ ثمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثمَّ سَلَّمَ. ))
فقال ذو اليدين: بعضه قد كان ، أصَر، سأل النبي أصحابه الكرام فإذا به قد صلى ركعتين صلاة الظهر، فأتمَّ الظهر أربعاً وقال: إنما نُسِّيت كي أسُن، لولا أن الله أنساني كيف أسنّ لكم سجود السهو، إنما نُسِّيت كي أسُن، نُسيّ ولم ينس:
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)﴾
قال: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ لا تقلق لن تنساه، تطمين من الله عزّ وجل، أي أنت استوعب الكلمات لا تخشى أن تنساها، لن تنسى هذا القرآن، فالنبي عليه الصلاة والسلام كل شيءٍ نزل عليه حفظه من أوَّل مرة، وقد تقول أنت: أنا لا أحفظ، الجواب: لو بلغ اهتمامُك بنصٍ من النصوص كما بلغ اهتمام النبي بالقرآن لحفظته، الحفظ متعلِّق بالاهتمام، ولاحظ نفسك الأشياء التي تَهْتَمُّ لها تحفظها، أحياناً صاحب محل تجاري، يوجد في المحل عشرة آلاف نوع، يحفظ الأنواع واحداً واحداً وأمكنتها والعدد المتبقي منها، لأنه مهتم، هذه تجارته.
مهمة الإنسان اتباع الأمر والنهي:
﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)﴾
نجمعه لك ونقرؤه عليك، فإذا قرأناه عليك:
﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)﴾
أنت مهمتك الاتباع، لا تحمل عبء الحفظ لن تنسى، إذا قرأناه عليك اتبع مضمونه، اتبع الأمر والنهي، اتبع المشاهد التي سمعتها، اتبع الأوامر التي تلقيتها: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ لا تقلق من حفظه لن تنسى هذا القرآن، اطمئن.
السنة الشريفة هي شرح للقرآن الكريم:
﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(19)﴾
علينا بيان هذا القرآن أي الله عزّ وجل كما أوحى إليه هذا النص المتلو أوحى إليه شرحَه غير المتلو، لذلك السنَّة هي شرحٌ للقرآن، والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى.
﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
الذي ذكره من أحاديث شريفة شرحاً للقرآن من وحي الله عزّ وجل، لكن القرآن وحيٌّ متلو والسنَّةُ وحي غير متلو، إذاً: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ تبين أنت يا محمد بوحيٍ منا ما نُزِّل عليك، لذلك السنة مُبينِة، تُبين أنت يا محمد بوحيٍ منا غير متلو ما نُزِّل عليك: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ وكما أن الله حفِظ كلامه، حفِظ سُنَّة نبيه لأنه من لوازم حفظ الأصل حفظ الشرح.
تعهد الله تعالى بحفظ كلامه ومن لوازم هذا التعهد حفظ سنة نبيه:
الآن لو أنه صدر قانون ثم صدر مرسوم تفسيري لهذا القانون لا قيمة لحفظ القانون من دون حفظ تفسيره، فحفظ التفسير جزءٌ من حفظ القانون، وكذلك لما تعهَّد الله عزّ وجل بحفظ كلامه من لوازم هذا التعهُّد أن يحفظ سُنَّة نبيه، لذلك هيَّأ علماء لهم همةٌ عاليةٌ جداً مَحَّصوا السنة، ونخبوها، وفرزوها، وعرفوا صحيحها، وعرفوا ضعيفها وموضوعها، وصنَّفوا الكتب فالسنَّة الآن محفوظة، كل شيء ميَسَّر، يوجد عندنا كتب صحيحة، القضية انتهت، ما من علمٍ عند الأمم كعلم الحديث عندنا، علم دقيق جداً، لذلك بما أن الدين نقلٌ أخطر ما في النقل صحة النقل، ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ نجمعه، نستكمله، ونقرؤه عليك، القرآن نزل مُنَجَّماً وفق الحوادث، وهناك حكمة بالغة أن ينزل منَجماً وفق الحوادث، ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾ عليك ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ أي مهمتك أن تُطَبِّقه:
﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)﴾
﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ .
أعمال الإنسان مكتوبة في صحيفة أعماله:
بعض العلماء قال: "لهذه الآيات تفسيرٌ آخر يختلف مع سياق الآيات" ، إنك تُلقي على طُلابِك موضوعاً في التاريخ، ترى بعض الطلاب قد أغمض عينيه، تقطع الدرس وتنبِّه الطالب ثمَّ تعود إلى الدرس، فبعض العلماء فسَّروا هذه الآيات تفسيراً يبتعد عن سياق الآيات، الآن حينما قال الله عزّ وجل:
﴿ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)﴾
يقول له الله عزّ وجل يوم القيامة: أيها الإنسان لا تحرك به لسانك لتعجل به، كل شيء فعلته مكتوب عندنا: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ القضية ليست في كلامك، بما كُتِب في صحيفة أعمالك، ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ أعمالك كلها جُمِعت عليك: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ نقرؤه عليك، ألم تفعل يوم كذا كذا؟ يوم كذا كذا؟ في المكان الفلاني، في الوقت الفلاني؟ مع فلان؟ كل أعمال الإنسان سوف يراها أمامه وهي تتلى عليه.
إحصاء أعمال الإنسان في الدنيا:
﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ﴾ لا تستعجل كل شيء مسجَّل، عملت؟ لا لم أعمل، سوف نسمعك الشريط، سوف ترى شريطاً مصوَّراً، أين ذهبت؟ إلى أيِّ بيتٍ دخلت؟ ماذا فعلت؟ أرح نفسك ولا تتكلم، كل شيء مسجل، هذا هو المعنى، ﴿تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ كتاب أعمالك: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ سنقرؤه عليك، ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ فإذا قرأناه عليك ليس لك إلا أن تقول: نعم فعلت كذا، ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ حينما نقول لك: ألم تفعل كذا وهذه الصورة؟
بيان أعمال الإنسان في الآخرة عملاً عملاً:
الآن في الدنيا نأتي بإنسان يقود سيارة ويُخالف، ويوجد جهاز رادار يكشف المخالفة ويصورها، نأتي به نقول له: هذه سيارتك، وهذا هو الوقت، وهذه هي الساعة، وهذه هي السرعة، ما قولك؟ يرى الصورة صحيحة يقول: نعم، ليس لك إلا أن تقول نعم، لأن هناك صورة.
﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)﴾
هذه المخالفة خمسمئة، هذه سحب إجازة، هذه سجن، سوف نبين لك المخالفات، أول شيء: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ﴾ لا تستعجل، لا تنفِ بسرعة لأن كل شيء مسجَّل ومصور، لا تنفِ، لا تستبق الأمور.
عرض أعمال الإنسان عليه وعدم مغادرة واحد منها:
﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)﴾
جمع كل أعمالك صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، جُمعت كلها في كتاب، الإنسان يضجر يقول:
﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾
لا توجد واحدة نسيها، كلها مذكور حتى النظرة، حتى الكلمة، حتى الابتسامة في غير محلها، فيها سخرية، كلًّه مسجل: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ سنجمع لك أعمالك كلَّها ونقرؤها عليك، فإذا قرأناها عليك لأنها مشاهدة لا تستطيع إلا أن تُقِرَّ بها، ليس أمامك خيار، ألم تفعل كذا؟ نعم هذه الصورة، وهذا التاريخ، تقول: نعم، ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ ثمَّ نقول لك: هذه المخالفة ثمنها كذا، وهذه كذا، وهذه كذا، وهذه كذا.
بيان المعاصي للإنسان وعقوباتها :
﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ بيان المعاصي، ونتائجها، وعقوباتها، ومصائرها، هذا تفسير ثان، إما أن الله عزّ وجل يخاطب النبي يقول: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ﴾ يا محمد ﴿لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ نعلَم حرصك على حفظه وثباته، اطمئن، لا تحمل عبء حفظه، ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ ، ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ﴾ في صدرك.
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ: آية لها عدة معانٍ:
1 ـ شرح القرآن بوحيٍ من الله عزّ وجل لرسول الله:
وقرأناه عليك: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾ عليك أن تطيع الأمر والنهي، ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ ثمَّ إنك مكلَّفٌ أن تشرحه بوحيٍ منا، ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ حتى شرح القرآن بوحيٍ من الله عزّ وجل لرسول الله، هذا المعنى.
2 ـ تسجيل أعمال الإنسان عليه:
المعنى الثاني: أيها الإنسان يا من تُنَبَّأ بما قدَّمت وأخَّرت لا تستعجل لأن كله مسجل، إنا علينا أن نسجل لك كل أعمالك، وإذا تلوناها عليك ليس أمامك إلا أن تعترف بها، ثمَّ نخبرك لكل ذنبٍ عقوبته، ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ .
نقاط الضعف في أصل خلق الإنسان:
يقول الله عزّ وجل:
﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)﴾
أي الله عزّ وجل خلَق الإنسان هلوعاً، وخلقه ضعيفاً، وخلقه عجولاً، وهذه ثلاث نقاطٍ في أصل خلق الإنسان، نقاط ضعفٍ في أصل خلقه لصالحه، خُلِق عجولاً حتى إذا اختار الآخرة ارتقى عند الله كثيراً، طبعه يدعوه إلى العاجلة، الشيء أمامه، الآن أكثر الناس يتحرَّكون وفق شهواتهم الآنيَّة، أما الذي يفكر للمستقبل، أحياناً طفل أو طالب يوجد عند إغراءين: إغراء أن يذهب إلى النزُهات مع أصدقائه ويترك المدرسة، وينام إلى ساعة متأخرة، ويذهب إلى أماكن جميلة، ويأكل ما يشتهي، ويدع الدراسة، طالب آخر يتصوَّر نفسه أصبح طبيباً أو مهندساً، في مرتبة عالية جداً، له بيت، له مركبة، له زوجة، فيؤاثر المستقبل المشرق على هذه الساعات الممتعة الآنيّة فيقبع وراء الكتاب يدرس، الأوَّل عاش لحظته بغباء، والثاني عاش مستقبله، هذه القصة كلها كذلك.
الإنسان خُلِق هلوعاً شديد الهلع، وخُلق ضعيفاً، وخُلِق عجولاً، خُلِق ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره، ولو خُلِق قوياً لاستغنى بقوَّته فشقي باستغنائه، خُلِق هلوعاً ليلجأ إلى الله عند الخوف، أما خُلِق عجولاً لأنه إذا اختار الآجلة وكان طبعه يحب الآجلة لا يرقى عند الله، طبعه آني.
إعمال الفكر سبب الفوز بالآخرة:
أنا أذكر لكم كثيراً هذا المثل لأنه واضح جداً؛ سيارة واقفة في مكان ما، وعليها أن تدور حول دائرة أو حول ساحة وتتجه إلى مكان بعيد، فهي واقفة باتجاه الشرق، والشمس على اليمين، وأنت بحسب معرفتك هذه السيارة سوف تدور حول الساحة بدقيقةٍ واحدة وتنعكس الآية، تنقلب الشمس إلى مكان آخر، إن صعدت إلى هذه السيارة أين تجلس؟ العاقل يجلس في الشمس، يقول لك: دقيقة، ويتمتَّع بالظل ساعة، والذي يعطِّل فكره يقبع في الظل يقول لك: هذا مجنون جالس في الشمس، من المجنون؟ الذي جلس في الظل، فالذي يحب العاجلة عطَّل فكره، والذي يحب الآجلة أعمل فكره، شيء واضح جداً، كل شيء بحسابه.
تغض بصرك، تضبط لسانك، تصلِّي، تصوم، تجاهد نفسك وهواك، تنفق مالك، هذه فترة مؤقتة وجنة إلى أبد الآبدين، أما الإنسان الآخر يتفلَّت كم سنة؟ سنوات تمضي سريعاً وأمامه العقاب إلى أبد الآبدين، فالإنسان أحياناً ينطلق من محبَّته لذاته، ينطلق من أنانيته فيستقيم على أمر الله، كل شيء بحسابه.
تناقض العبثية مع وجود الله:
الآية الكريمة:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
أي مستحيل، هذا يتناقض مع وجود الله، أن يُعَامل إنساناً مستقيماً، ورعاً، يخاف الله عزّ وجل، يرجو رحمته، يخشى عذابه، يضبط لسانه، يضبط عينه، يضبط أذنه، يضبط أعضاءه، يحرر دخله، يعامل زوجته بالحسنى، يربِّي أولاده، إنسان يفعل هذا، وإنسان متفَلِّت، يعاملان سواء؟ هذا يتناقض مع وجود الله، إن تيقَّنت أن الله يعامل هذا كهذا أيقنت بالعبثية، والعبثية تتناقض مع وجود الله:
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾
لا يوجد حساب؟ لا توجد مساءلة؟ جامعة تكلِّف ألف مليون لا يوجد فيها امتحان؟ كل واحد سجل أخذ دكتوراه؟ لا يوجد فحص أبداً؟ هذا مستحيل، إنسان لا يفعلها فكيف الواحد الديَّان؟
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾
مستحيل.
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾
شاب مؤمن له معاملة خاصة، له حياة طيبة، له سعادته، له مكانته، له طمأنينته، له استقراره النفسي، له ثقته بالله عزّ وجل، ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ مرة ثانية المثل واضح جداً؛ سيارة على اليمين شمس وعلى اليسار ظل، الطريق يستغرق ساعة، أمام ساحة، تدور الدورة بدقيقة فإذا دارت هذه الدورة انعكست الآية، والإنسان صعد إلى السيارة، على اليمين شمس، على اليسار ظل، إذا عَطَّل فكرة يجلس في الظل يتمتع فيه دقيقة ويذوق حرارة الشمس ساعة، وإذا شغَّل فكره يتحمَّل الشمس دقيقة ويتمتَّع بالظل ساعة، هذا المثل كَبِّره، هذه الدنيا دقيقة "الدنيا ساعة اجعلها طاعة" .
حبّ الدنيا وكراهية الموت رأس كل خطيئة:
انظر إذا شخص مات وترك بيتاً فخماً أين هو قاعد؟ تحت أطباق الثرى، انتقل من دار مؤَقَّت إلى دار أبدية، فالإنسان دائماً وأبداً عليه أن يعرف ما سيكون، الأغبياء يعيشون الماضي، يفتخرون بماضيهم دائماً، والأقل غباء يعيشون حاضرهم، والأذكياء يعيشون المستقبل، المؤمن بعقله الراجح دائماً يعيش المستقبل، ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ أي المرض حبُّ الدنيا، قيل: حبُّ الدنيا يُعمي ويُصِمّ، حبُّ الدنيا رأس كل خطيئة.
(( عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك الأممُ أن تتداعى عليكم، كما تتداعى الآكلةُ إلى قصعتِها، فقال قائلٌ: ومن قلةٍ بنا نحن يومئذٍ؟! قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيلِ، ولينزعنَّ اللهُ من صدورِ عدوكم المهابةَ منكم، وليَقذفنَّ في قلوبِكم الوهنَ، قال قائل: يا رسول اللهِ! وما الوهنُ؟! قال: حبُّ الدنيا، وكراهيةُ الموتِ. ))
[ سنن أبي داود هداية الرواة :خلاصة حكم المحدث : صحيح . ]
في آيةٍ أخرى يقول الله عزّ وجل:
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)﴾
﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ العاقل الذي يفكِّر بآخرته، لذلك المؤمن منضبط يرجو الآخرة، يرجو رحمة الله، يرجو دخول الجنة، يسعى إلى سعادةٍ أبديةٍ لا تنقضي، هذا هو العاقل.
خليفة أموي دخل إلى بيت الله الحرام رأى عالِماً جليلاً أراد أن يتقرَّب إليه قال له: سلني حاجتك؟ قال له: ليس لي عندك حاجة، قال له: سلني حاجتك؟ قال له: والله إني أستحي أن أسأل غير الله في بيت الله، التقى به خارج بيت الله قال له: سلني حاجتك؟ قال له: والله ما سألتها من يملكها أفأسألُها من لا يملكها؟ قال له: سلني حاجتك؟ قال له: نجني من النار وأدخلني الجنة، قال له: هذه ليست لي، قال له: إذاً ليس لي عندك حاجة، أنا حاجتي مع الله.
(( عن عبد الله بن مسعود: من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله هم دنياه. ))
تألق وجه المؤمن يوم القيامة:
﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)﴾
في النهاية يوجد وجهان، وجه متألِّق ينظر إلى الله عزّ وجل، الجنة فيها حور عين، فيها بساتين، فيها أنهار، فيها كل شيء، ولكن أجمل ما فيها النظر إلى وجه الله الكريم:
(( عن أبي هريرة: إنَّ أُناسًا قالوا: يا رَسولَ اللهِ، هل نَرى ربَّنا يومَ القيامَةِ؟ فَقال رَسولُ اللهِ: هل تُضارُّونَ في القَمرِ ليلةَ البَدرِ؟ قالوا: لا، قال: فهَل تُضارُّونَ في الشَّمسِ ليسَ دونَها سَحابٌ؟ قالوا: لا، قال: فإنَّكم تَرونَ ربَّكُم يومَ القيامَةِ كَذلكَ. قال عَطاءُ بنُ يَزيدَ: وَأبو سَعيدٍ الخُدريُّ جالسٌ مَع أَبي هُريرَةَ حينَ حدَّث بِهذا الحَديثِ، لا يَرُدُّ عليهِ مِن حَديثِه شَيئًا. ))
[ تخريج كتاب السنة ; خلاصة حكم المحدث : إسناده جيد ]
إنكم ترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر، ويوجد أحاديث كثيرة تُثبت ذلك، وهذه الآية أصل، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ من النضارة، تألُّق، الآن إذا إنسان نجح بتفوق تجد وجهه صار بلون آخر، أصبح بلون مشرق، عيناه زئبقيتان، حركتهم عجيبة، تصبح حركته لطيفة لأنه نجح، النجاح مُسْعِد، فهذا الوجه الذي نجا من عذاب النار واستحق دخول الجنان تجده ناضراً.
والله مرَّة دُعيت إلى افتتاح مسجد، الذي عمَّر المسجد يقف يستقبل الضيوف وودعهم واحداً واحداً، لم أنظر إلى وجه متألِّق كوجهه لأنه عمِلَ عملاً عظيماً، بنى مسجد بأكمله، وهو يستقبل الضيوف بتألق، وهو يودعهم في تألق، العمل الطيِّب يجعلك متألقاً، الوجه يصبح جميلاً، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ .
سواد وجه الكافر يوم القيامة من الخزي:
تنظر إليه، والعياذ بالله، ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ كالحة، سوداء.
﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)﴾
﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ كالحة، سوداء، مغبرَّة من عملها، من انحرافها.
العمل الصالح والسيئ بيد الإنسان:
﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ الآن إذا شخص ارتكب جريمة كبيرة، أُلقي القبض عليه، أحياناً يصوروه ترى وجهه كالحاً، غاضباً، وعينه في الأرض، يودع في السجن، يا ترى هل سيعدمونني؟ يا ترى سأنال سجناً مؤبداً؟ يا ترى عشرين سنة؟ يا ترى هل يوجد عفو؟ ﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ أي أمر عظيم، داهية، ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ كل هؤلاء الناس على اختلاف مشاربهم، وانتماءاتهم، ومللهم، ونحلهم، وأعراقهم، وأجناسهم، وألوانهم، وقبائلهم، وعشائرهم، وأسرهم، وقوميَّاتهم، في النهاية وجهان؛ وجهٌ نضر ينظر إلى الله عزّ وجل، ووجهٌ باسر يظن أنها النهاية، أو أن يُفعل بها فاقرة، وجوهٌ مبيَضَّة من عملها الطيب، ووجوهٌ مسودّة من عملها الخسيس، والأمر بيد الإنسان، الطاعة بيدك، والمعصية بيدك، العمل الصالح بيدك، والعمل السيئ بيدك، وأنت مخير.
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)﴾
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نتابع هذه الآيات.
الملف مدقق