الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
النفس في حالة النزاع الأخير:
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الرابع والأخير من سورة القيامة، ومع الآية السادسة والعشرين وهي قوله تعالى:
﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ(26)﴾
من التي بلغت التراقي؟ النفس، هذا في حالة النزع، في حالة مفارقة الدنيا، وما من واحدٍ منا جميعاً إلا وسيمر بهذه اللحظة، لحظة مفارقة الدنيا: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ .
أيها الإخوة؛ الإنسان وهو في زحمة العمل، وهو في صحَّته، وهو في شبابه، وهو في تألّقه منغمس في همومه، وفي أهدافه، وفيما هو فيه، أما حينما يشعر أنه لابدَّ من أن يغادر الدنيا عندئذٍ يعيش في حالةٍ خاصة.
مَنْ رَاقٍ: آية لها عدة معان:
﴿ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)﴾
الإنسان مُضَّجِع على سرير الموت حوله أولاده، حوله إخوته، حوله زوجته، أخواته، كلُّهم متلهِّفون لمصيره هل يعيش أم يموت؟ هل يبقى أم يغادر؟ ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ* وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ من يرقى له أي من يشفيه؟ أو من يشفي هذا الإنسان وقد شارف على الموت؟ إمَّا المعنى الأول: من يشفيه؟ يبحثون عن طبيبٍ يشفيه، أو يستيئسون من طبيبٍ يشفيه: ﴿مَنْ رَاقٍ﴾ من يشفيه؟ أو من يشفي هذا المريض الذي على وشك الموت؟
أو من يرقى به إلى السماء ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ الإعداد لهذه الساعة التي لابدَّ منها عين العقل، لأن هذه الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، لأن هذه الساعة مصير كل حيّ، كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت:
والليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلابد من نزول القبر
[ صالح بن محمد بن عبد الله ]
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبـــور جنـازة فاعلم بأنـــك بعدها محمـول
تفاوت الناس في الاستعداد للموت:
أيها الأخوة؛ هل يستطيع واحدٌ من بني البشر أن يُنكر حدث الموت؟ الأنبياء ماتوا، الملوك ماتوا، الجبابرة ماتوا، عُظماء العالم ماتوا، أغنياء العالم ماتوا، أقوياء العالم ماتوا، الأصِّحاء ماتوا، المرضى ماتوا، أصحاب الشكل الوسيم ماتوا، أصحاب الشكل الدميم ماتوا، الموت مصير كل حيّ، إذاً لا يستطيع أحدٌ أن ينكر حدث الموت لكن الناس بماذا يتفاوتون إذاً؟ في الاستعداد له فقط، لا نتفاوت في إنكار الموت أو عدم إنكاره، لأن الموت أقوى حقيقة مستقبلية، أي ما من حدث أشدُّ واقعيةً في مستقبلنا من مغادرة الدنيا، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا.
الشخص منا قد يحضر في الأسبوع تعزية أو تعزيتين، والسنة خمسون أسبوعاً، خلال أربعين سنة (25×40) أي حضر حوالي ألف تعزية، فلابدَّ من تعزيةٍ يُعَزِّي الناس بِهِ، لابدَّ من تعزية، الذي كان يُعَزِّي الناس هو موضوع التعزية، هذه لابدَّ منها، في النهار الإنسان يخرج من بيته مرة أو مرتين أو ثلاث، ثم يعود إليه مرة أو مرتين أو ثلاث، المُعَدَّل ثلاث مرَّات خروج وعودة، لابدَّ من مرة يخرج ولا يعود أبداً، الإنسان يخرج ماشياً على رجليه منتصب القامة لابدَّ من خروج بشكل أفقي، بيت فخم، صغير، كبير، أجرة، ملك، واسع جداً، ضيِّق جداً، بأرقى أحياء دمشق، بأشدّ أحياء دمشق تواضعاً، لابدَّ من مغادرة هذا المنزل، أين يُغَسَّل؟ يا ترى في المستشفى أم في البيت؟ في المطبخ؟ في البهو؟ في الحمام؟ لابدَّ من أن يُغَسَّل، صلِّ قبل أن يصلى عليك، هكذا قرأت كلمة في بعض البلاد.
1 ـ الاستقامة على أمر الله:
أريد من هذه الآيات حدث الموت لا أحد يستطيع أن ينكره إطلاقاً، نتفاوت في الاستعداد للموت، أول بند في الاستعداد للموت الاستقامة على أمر الله، طاعة الله عزَّ وجل.
ثاني بند: طلب العلم.
ثالث بند: الإحسان للخلق، فنتفاوت في معرفتنا بالله، ومعرفتنا لمنهجه، وطاعتنا له، والإحسان إلى الخلق.
صورة الإنسان على فراش الموت:
لذلك الله عزَّ وجل أعطانا صورة، صورة الإنسان وهو على فِراش الموت: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ *وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ من يشفيه؟ أين الطبيب؟ اتصلوا بالطبيب، بالمستشفى، أو ماذا يفعل الطبيب مع هذه الحالة الميئوس منها؟ معنى ثان، أو من يرقى به إلى السماء؟ هل ترقى به ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟
دفع الإنسان وهم الموت عند تعلقه بالحياة:
﴿ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)﴾
ظنَّ هنا بمعنى أيقن، الإنسان لتعلُّقه بالحياة يدفع عن مُخَيِّلَتِهِ وَهْمَ الموت، الصحة طيبة، عرضية، لها علاج، تُعالج، الطبيب وعد بالشفاء، الطبيب قال: يوجد دواء، الإنسان أحياناً يدافع عن نفسه يرد الحقيقة المرة، لكن أحياناً المريض يدرك أن مرضه عضال ولا شفاء له، وأنه على وشك مغادرة الدنيا.
فرح المؤمن عند ملاقاة ربه:
إخواننا الكرام: ورد في بعض الأحاديث أن:
(( عن عبد الله بن عمرو: تحفةُ المؤمنِ الموتُ. ))
[ مجمع الزوائد : خلاصة حكم المحدث : رجاله ثقات ]
أي الموت موت المؤمن كل جهوده في الدنيا، وكل نشاطه في الدنيا، وكل استقامته، وكل عباداته، وكل بذله، وكل تضحيته، وكل أعماله الصالحة، الآن سيقطف ثمارها، لذلك المؤمن الموت عنده تحفة.
والله أيها الأخوة –وذكرت هذا كثيراً-قد قرأت أكثر من ترجمة سبعين أو ثمانين صحابياً، الذي لفت النظر في كل هذه المطالعات أن هؤلاء الصحابة الكرام كانوا في أسعد لحظات حياتهم عند مغادرة الدُنيا، صدق رسول الله: ((تحفة المؤمن الموت))
(( عن أبي هريرة: لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. ))
(( عن أنس بن مالك: لَمَّا ثَقُلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ، فَقالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ: وا كَرْبَ أبَاهُ! فَقالَ لَهَا: ليسَ علَى أبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَومِ، فَلَمَّا مَاتَ قالَتْ: يا أبَتَاهُ، أجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يا أبَتَاهْ، مَن جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ، يا أبَتَاهْ، إلى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ، فَلَمَّا دُفِنَ، قالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ: يا أنَسُ، أطَابَتْ أنْفُسُكُمْ أنْ تَحْثُوا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ التُّرَابَ؟! ))
واكربتاه يا أبت، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
لكرامة المؤمن عند ربه يلقي في روعه أن أجله حان:
المؤمن لكرامته عند الله يلقي الله في روعه أن الأجل اقترب، فهو مستبشر، قد يأتيه ملك الموت بأحبِّ الناس إليه.
يروى عن أحد الصالحين وحوله أولاده وهو على فراش الموت قال لأولاده: قوموا سلِّموا على عمكم، عمهم أي أخوه يحبه حباً شديداً لكنه سبقه إلى الآخرة، يقول لهم: قوموا سلموا على عمكم، هذا أقرب الناس إليّ، هذا المحب، هذا الوفي، هذا المخلص، بمن جاءه ملك الموت؟ بأحبّ الناس إليه.
قرأت عن عالم جليل في بعض البلاد الإسلامية أنه كان في السجن ونام فرأى رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال له: أنت غداً ضيفنا ، يقول زميله: ما رأيت أحداً أسعد منه، ولا أقرب إلى الله منه، ولا أشدَّ تفاؤلاً منه.
الموت هو لحظة العطاء والمكافأة:
لا أريد أن أخوِّف الأخوة الكرام، إذا كان عملك طيباً، واستقامتك عالية، ومعرفتك بالله عالية، وأنت طلبت العلم، وحملت نفسك على طاعة الله، ولك أعمال صالحة من إنفاق للمال، من خدمة المسلمين، من الصدق، من الإخلاص، من الأمانة، الموت عُرس.
تصوَّر أن طالباً -مثل افتراضي-أُرسل إلى بلد غربي ليأتي بدكتوراه وهو فقير، لكنه موعود وعداً قطعياً أنه إذا عاد بهذه الدكتوراه سيغدو في أعلى منصب، وسيسكن أجمل بيت في العاصمة، وسيركب أغلى سيارة، وستقدم له من الميزات ما لا يعدُّ ولا يحصى، صار هناك يشتغل ويدرس؛ إما حارس، أو في المطعم، أو في تنظيف السيارات، عمل شاق، ودراسة شاقَّة سبع سنوات، نال الدكتوراه، صَدَّق الشهادة، اشترى بطاقة طائرة، صار موعد إقلاع الطائرة، وضع رجله في سُلَّم الطائرة باتجاه أهله، وباتجاه ما وُعِد به من منصبٍ رفيع، ومن زوجةٍ جميلة، ومن منزلٍ كبير، ومن مركبةٍ فارهة، تُرى هذا السنوات السبع التي قضاها في بلد غربي يعمل أشدّ الأعمال ويدرس، وانتهى العمل، وانتهت الدراسة، ونال الشهادة، وصدَّق الشهادة، وحمل معه الوثائق، والآن في طريق العودة إلى أهله، إلى أمه وأبيه، إلى إخوته، إلى أخواته، إلى منصبه الرفيع، إلى بيته الفخم، إلى مركبته الفارهة، إلى زوجته الموعود بها، بماذا يشعر؟ يَكادُ يرقص سعادةً، يكاد يرقص من السعادة، أبداً، هذا هو الموت، ما الموت؟ الموت لحظة العطاء، كنت في زمن الامتحان فدخلت إلى زمن الإكرام، كنت في زمن التكليف فانتقلت إلى زمن التشريف، كنت في زمن العمل والكدح فانتقلت إلى زمن المكافأة والجائزة.
﴿ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْئُولاً (16)﴾
(( قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خطَرَ علَى قَلْب بَشَرٍ. قالَ أبو هُرَيْرَةَ : اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. ))
لا يوجد إنسان إلا وسافر، أنا أعرف فرضاً من يقول لك: أنا ذهبت إلى الحج والعمرة، أنا ذهبت إلى لبنان، هذا إلى تركيا، هذا إلى مصر، كل واحد له مجموعة بلاد زارها، لكن محدودة، أما المسموعات كثيرة جداً، افتح الأخبار تسمع عواصم بأطراف الدنيا، عاصمة الأرجنتين، عاصمة ألاسكا، عاصمة في الشمال، عاصمة في الجنوب، في شرق آسيا، في شمال أمريكا، في جنوب أمريكا، مسموعاتك كثيرة جداً، أما الخواطر ليس لها حدود، شيء خاطر لا يوجد له مقياس أساساً، أنا قد يخطر في بالي إنسان طوله من الأرض إلى القمر، هذا خاطر، الحديث يقول: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)) .
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)﴾
هذه الجنة إلى الأبد، ما معنى الأبد؟ مفهوم صعب إدراكه.
ذكرت مرة من الأرض إلى الشمس يوجد مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر، إذا كل ميليمتر صفر، كل ميلي واحد بالأرض والأصفار إلى الشمس، أي واحد أمامه مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر أصفاراً بحدود ميلي بين الصفرين، ما هذا الرقم؟ أول ستة أرقام مليون، الستة الثانية مليون مليون، ألف مليار، الستة الثالثة، للشمس وكل ميلي صفر، هذا الرقم ضعه صورةً وضع خطاً تحته، وارسم في المخرج إشارة اللانهاية، قيمة هذا الرقم صفر، الرقم مهما كان كبيراً إذا نُسِب إلى اللانهاية فهو صفر، لو إنسان عاش مليون سنة، بالنسبة إلى الأبد صفر، لو عاش مليار سنة، صفر، ما دام رقم فهو صفر، لأن الرقم محدود واللانهاية لا محدود.
اكتشفوا مجرة، ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، قبل عام ونصف تقريباً أُذيعت في محطة أخبار عالمية، ثلاثمئة ألف بليون، البليون ألف مليون، والألف الثانية أي مليون مليون، ثلاثمئة مليون مليون سنة ضوئية، الضوء يقطع في الثانية ثلاثمئة ألف كيلو متر، في الدقيقة ضرب ستين، بالساعة ضرب ستين، باليوم ضرب أربع وعشرين، بالسنة ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين، اضرب ثلاثمئة ألف بستين بستين بأربع وعشرين بثلاثمئة وخمسة وستين ينتج ما يقطعه الضوء في سنة ضوئية، اضربه بثلاثمئة ألف بليون سنة، ما هذا الرقم؟ بالنسبة إلى الأبد صفر، الله عزَّ وجل قال:
﴿ إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)﴾
إما إلى جنةٍ يدوم نعيمها أو إلى نارٍ لا ينفد عذابها.
الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق:
والله الذي لا إله إلا هو لو عرفنا قيمة الأبد لما نمنا الليل، أنت في دار عمل، في دار كَسْب، في دار رُقي، والأعمال الصالحة لا تعدُّ ولا تحصى، الله عزَّ وجل جعل لك في كل مكان عملاً صالحاً، في بيتك يوجد عمل صالح، كونك زوجاً، الزوج المثالي طريق إلى الله، كونك أباً الأبوة المثالية طريق إلى الله، كونك ابناً البنوة المثالية طريق إلى الله، الزوجة خدمتها لزوجها وعنايتها بأولادها طريق إلى الله، إتقان عملك طريق إلى الله، طلب العلم طريق إلى الله، تلاوة القرآن طريق إلى الله، غض البصر طريق إلى الله، ضبط اللسان طريق إلى الله، تحرير الدخل طريق إلى الله، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، بين أيدينا، وسائل الرقي بين أيديكم جميعاً، ألا تستطيع أن تكون صادقاً لا تكذب أبداً؟ ألا تستطيع أنت تكون عفيفاً؟ ألا تستطيع أن تكون ورعاً؟ ألا تستطيع أن تطلب العلم؟ أن تحضر مجلس علم؟ ألا تستطيع أن تقول الحق؟ بيدك هذا كله، فلذلك أيها الأخوة نحن في دار عمل، لأن ساعة المغادرة صعبة جداً.
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)﴾
﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ .
انسحاب الروح من الإنسان شيئاً فشيئاً:
لذلك: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ ، هذه الروح وصلت إلى عظم الترقوة، يقول لك: رجليه بردوا، ازرقّوا، النفس ماشية، تنسحب شيئاً فشيئاً: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ﴾ بلغت عَظْمَي الترقوة، وصلت الروح إلى هنا، وصار هناك اضطراب بالأهل، طبعاً إذا كان له سيرة حميدة جداً يتمنَّى من حوله أن يفدوه بأرواحهم، وإذا كان بخيلاً يقولون: خلصنا الحمد لله، هناك إنسان يتمنَّى الناس حياته، وهناك إنسان يتمنَّى الناس موته.
﴿ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)﴾
من يشفي هذا المريض؟ أين الطبيب؟ اتصلوا بفلان، أو مرض عُضال لا يوجد أمل، من يشفي هذا المرض العُضال؟ أو من يرقى به إلى السماء؟
عدم صعوبة الموت على المؤمن:
﴿ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)﴾
هنا إذا شخص له قريب توفي، يمر القريب بمراحل أمل بالحياة، لكن أحياناً يغلب على ظنه ويوقن أنه انتهى، يقول لك: أنا انتهيت، أعرف رجلاً أنا لم أره ولكني سمعت عنه صالح جداً، له أعمال طيبة كثيرة جداً، إذا دخل إنسان يطلب منه مساعدة لأسرة يتيمة، لجمعية خيرية، لبناء مسجد، يقول له: افتح هذا الصندوق وخذ ما تشاء، ولا تُعْلمني بما أخذت، صار معه مرض بدمه، وصار هناك اتصال هاتفي بين المستشفى وبين البيت، الاتصال كان ليس له ولكن لابنه، رفع السماعة خطأً فعلّم أنَّه قد بقي من حياته ثلاثة أيام، قال له: ثلاثة أيام أقصى شيء، هكذا سمعت، هذا الرجل أول يوم أنهى علاقاته المالية، هناك صفقات ألغى بعضها وأتمّ بعضها، ووكَّل صديقه بمتابعة الأعمال، وثاني يوم ودَّع أهله فرداً فرداً، أولاده، بناته، أصهاره، وثالث يوم اغتسل بنفسه، وله شيخ في الشام صالح، جاء شيخه وعملوا أمامه ذكراً، كما جاء في الهاتف ثالث يوم الساعة الواحدة فارق الحياة، أنا أخذت موعظة من هذه القصة، الإنسان إذا كان عمله طيِّباً، ومستقيماً، وله عند الله مكانة، الموت ليس صعباً، مرحباً بالموت.
لقاء الله أعظم شيء عند النبي الكريم:
النبي الكريم خُيِّر بين أن يكون مخلداً في الحياة الدنيا، بين أن يؤتى زهرة الحياة الدنيا، وبين أن يلقى الله، قال: بل الرفيق الأعلى، ولما قال الله عزَّ وجل:
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)﴾
قال: هذه السورة تعزية النبي عليه الصلاة والسلام، انتهت رسالته، ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ .
بطولتك أن تضحك عند لقاء ربك:
ذكرت سابقاً الإنسان أحياناً يولد، كل من حوله يضحك من فرحهم، هو يبكي وحده، أما إذا جاءه ملك الموت كل من حوله يبكي، فإذا كان مؤمناً وعرف سرَّ الحياة، وعرف حقيقة حياته الدنيا، وعرف ربه يضحك وحده، أي بطولتك أن تضحك وحدك حينما يبكي الناس عليك، أن تضحك وحدك، البطولة أن تكون آخر من يضحك.
﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)﴾
الله عزَّ وجل قال:
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)﴾
البطل هو الذي يضحك آخر الأمر، والمؤمن يضحك، يضحك حينما يلقى الله عزَّ وجل، ضحك السرور، ضحك الفرح، ضحك الاستبشار.
في بعض الآثار النبوية أن المؤمن يرى مقامه في الجنة حينما يغادر الدنيا، فيقول: لم أرَ شراً قط، كل ما ساقه الله له من مصائب يراها محض خير، لم أرَ شراً قط، أي الوجه المشرق للموت، الموت للمؤمن مسعد، الموت راحة، النبي رأى جنازة قال:
(( عن أبي قتادة الأنصاري: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا. ))
انتهى التكليف، انتهى كل شيء أنت مكلَّف به، انتهى الشيء الذي تراه متعباً.
مثل بسيط لو طالب فرضاً درس عاماً دراسياً بجهد كبير، وسهر إلى ساعة متأخِّرة من الليل، وحَرَم نفسه كل شيء، فنال أعلى درجة، ساعة إعلان النتائج يأتيه سرور ينسيه كل تعبه.
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ: آية لها عدة معان:
1 ـ اجتماع شدة الحياة وشدة الآخرة على الميت:
﴿ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)﴾
كلمة ساق تعني الشدة، شَمَّرَتِ الحرب عن ساقها، عن شدتها، قال: اجتمع على هذا الميت شدة الحياة الدنيا وشدة الآخرة، هناك أشخاص يتوهمون إذا شخص متفلِّت ومرض مرضاً عضالاً، يظنون الآن يموت ويستريح، لا لن يستريح، إلى تعبٍ أشد، من شدةٍ إلى شدة، من شدة الدنيا إلى شدة الآخرة، ﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ أي اجتمع على هذا الميِّت شدة الدنيا وشدَّة الآخرة، هذا معنى.
2 ـ ضُم ساقي الميت إلى بعضهما بعضاً وشدهما:
والمعنى الثاني: الميِّت حينما يُغَسَّل تُرْبَطُ رجلاه، أنا مرة شاهدت تغسيل ميت، فلما انتهى من تغسيله المُغَسِّل ولفَّه بالكفن، جاء بقطعة قماش طولية غمسها في الماء وشدّ بها رجليه، طبعاً القماش إذا بلَّ بالماء يتماسك، شدَّ بها رجليه شداً عنيفاً: ﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ إما اجتمعت عليه شدة الدنيا مع شدة الآخرة، أو ضُمَّت ساقاه إلى بعضهما بعضاً وشدت، صار لا يوجد مشي الآن انتهى، لا يستطيع أن يقوم يمشي، يمَوِّه، يتنزَّه، يتحرك: ﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ .
الرجوع إلى الله تعالى بأعمالك كلها:
إلى أين؟
﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)﴾
يا ترى الذي أنت ذاهبٌ إليه أطعته؟ الذي أنت ذاهبٌ إليه نصحت عباده؟ الذي أنت ذاهبٌ إليه أكلت مال عباده ظُلماً؟ الذي أنت ذاهبٌ إليه أخفت عباده بلا حق؟ الذي أنت ذاهبٌ إليه كنت عبئاً على عباده أم كنت رحمةً لهم؟ كنت مضلاً أم هادياً؟ كنت مُحسناً أم مسيئاً؟ كنت منصفاً أم جاحداً؟ كنت رفيقاً أم جبَّاراً؟ هذا الذي أنت ذاهبٌ إليه كل هؤلاء الخلق عباده ماذا فعلت معهم؟ هل غششتهم؟ ابتززت أموالهم؟ انتهكت أعراضهم؟ روَّعتهم؟ أخفتهم؟ إلى أين؟ ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ مسكين.
عدم تصديق الإنسان للدين وإعراضه عنه:
﴿ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)﴾
لا صَدَّق بهذا الدين، ولم يتصل بالله عزَّ وجل، والدين تصديق وصلاة، التصديق عقيدة، الصلاة عبادة، الدين معرفة وطاعة، لا صدَّق بهذا الدين ولا اتصل برب العالمين.
﴿ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)﴾
مُشَكِّك، لا يعتقد أن هذا الدين يَصْلُحُ لهذا الزمان، لا يعتقد بأحد صالح، دائماً يظنُّ السوء، يُشَكِّك بكل عمل طيب، يُبَخِّس كل عمل طيِّب، يُكَذِّب: ﴿وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ عن الله عز وجل، أي تكذيب وإعراض، نشاطه الفكري تكذيب، حالته النفسية إعراض.
الحديث عن الدنيا عمل كل إنسان بعيد عن الله:
تجد شخصاً يجلس معك ثلاث ساعات، الحديث في الدنيا تجده يقظاً، نشيطاً، متألِّقاً، عيونه زئبقيَّات، تتكلم معه عن الله تجده يقول لك: هل تسمح لي؟ أول كلمة عن الله تجده يتثاءب، ينام، بالدنيا عن الأسعار، العملات، البيوت، الأجهزة الإلكترونية، ماذا هناك من مستجدات؟ تجده نشيطاً يقظاً، شاطر، تكلم له عن الآخرة صار يكبو: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى* وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ ممكن يمضي ساعات طويلة في شؤون الدنيا ولا يتحمَّل درساً طويلاً، ولا صلاة طويلة: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ شيء مخيف، هناك عشرات الناس يموت وهو لم يصلِّ، سمعت عن شخص مات في بلد عربي ترك ثلاثة آلاف مليون، ما صلى فرضاً في حياته، وكان ببلد الحرمين ولم يحج ولم يعتمر، مات في الفندق، وفي سنّ ليس متقدماً، بالخمسينات تقريباً: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى* وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ ، هناك إنسان يموت وهو يصلِّح الصحن الفضائي.
الكِبر سبب غفلة الإنسان عن مصيره:
﴿ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)﴾
الإنسان أحياناً يغفل عن مصيره، يعيش لحظتَهُ، صحة طيبة، أكل، بيت جميل، امرأة جميلة أمامه، مكانة، مرتبة، حديثه فيه عجرفة، حديثه فيه غطرسة، حديثه فيه كبر، جلسته فيها كبر، إذا جلس في كبر، إذا قاد مركبته فيه كبر، إذا تحدث من طرف أنفه: ﴿وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى﴾ لا يحترم الآخرين، النبي عليه الصلاة والسلام ما رئي ماداً رجليه قط بين أصحابه، متواضعاً، دخل مكة فاتحاً، دخلها مطأطئ الرأس، كادت ذُؤابة عمامته تُلامس عنق بعيره تواضعاً لله عزَّ وجل، والله المؤمن جلسته فيها أدب، لو اضطجع فيه أدب، حديثه فيه أدب، الله أكرمني، الله فَضَّل عليّ، الله سمح لي، الله وفَّقني، يقول لك الآخر: أنا، لحم فلان من خيري، خير إن شاء الله، أنا متفضل على فلان، إذا أراد أن يتكلم، لولاي كانت الكلاب شحطته، كل ذلك كلام فارغ، كلام فيه كبر، أنا أعيل ثمانية أشخاص، الله المعيل أنت مُعال معهم.
الويل للإنسان المتعجرف مما ينتظره:
﴿ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى﴾ تمطيِّ الكبر، حديثه كبر، جلسته كبر، إن حَدَّث فعن نفسه، عن رحلاته، عن زياراته، عن إنفاقه الشديد، الرحلة كلفته كذا ألف، وهذا العُرس كلَّفه كذا مليون، والعريس ألبس ابنته خاتم بثمانمئة ألف مثلاً، هذا حديثه، كِبر، وفخر، واختيال على الناس:
﴿ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)﴾
الخطر قريب منك، الخطر على مرأى البصر، ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ أي ويلٌ لك مما ينتظرك، لو شخص راكب سيارة ونازل بنزلة شديدة، والمكان جميل، والنسيم عليل، ثم اكتشف أنه لا يوجد معه مكبح، وينتهي الطريق بمنعطف حاد، يقول لك: انتهينا، لو يعرف الإنسان:
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)﴾
﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ .
محاسبة الإنسان محاسبة دقيقة يوم القيامة:
الآن دققوا:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾
هل من الممكن أن تلعب على الناس، تغتصب أموال الناس، تنتهك أعراض الناس، تظلم الناس، تضغط على الناس، تخوِّف الناس، ولا يوجد شيء أبداً؟ لا يوجد إله يحاسبك؟ لا يوجد سؤال وجواب أبداً؟ هذا بالأرض مستحيل، جامعة مكلفة ألف مليون لا يوجد امتحان؟ لا يوجد إنسان يحاسب؟ الله عزَّ وجل يقول: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ معنى ذلك أنك أنت مؤمن بالعبثية، قوي وضعيف، الله مَلَّك الضعيف للقوي، غني وفقير، الغني يَحَار في إنفاق الأموال.
قال لي أحد الأشخاص هناك شخص زوجته عندها غرفة أربعة جدران من الأرض إلى السقف كلها أحذية، مكتبة أحذية كلها، مال لا تأكله النيران، هناك حمامات في إسبانيا مساحتها أربعمئة متر، بيت، قصر، الحمام، هناك بيوت ضمن غابات، هناك مركبات، هناك سيارات، هناك طائرات، ومن دون حساب؟!! ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ لا يوجد تكليف ولا يوجد حساب؟!
إعجاز القرآن في خلق الإنسان:
﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)﴾
[ سورة القيامة ]
ألم يكن حويناً منوياً واحداً من بين خمسمئة مليون حوين؟ حوين واحد ذهب إلى البويضة ولقَّحها، وخرج من عورة ودخل في عورة وخرج من عورة: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾ علامَ الكبر؟ ألم يكن طفلاً؟ ألم يكن لا يضبط نفسه؟ كم عقاب أخذ من أمه لأنه لم يضبط نفسه وهو صغير؟
﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(39)﴾
وهذا من إعجاز القرآن الكريم.
أيها الأخوة؛ آيتان في كتاب الله تنفيان العبثية، الأولى هذه: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدى﴾ والآية الثانية:
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾
الجواب:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
الجواب:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
الجواب:
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾
الجواب:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)﴾
الجواب: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾ .
الجواب:
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)﴾
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)﴾
عدم استواء المؤمن مع الفاسق يوم القيامة:
يوجد حساب:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)﴾
هذا الجواب.
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾
أيها الأخوة الكرام؛ القرآن كلُّه جواب لهذا التساؤل: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ ما من عثرة، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يعفو الله أكثر.
﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)﴾
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ تظلمها وتطلقها وتأخذ لها مالها، يقول لك: هذه ليس لها أحد، هكذا تمر؟ ألا يوجد حساب أبداً؟ الذي خلقها نسيها؟ يوجد ظلم كثير، الظلم يأتي من الجهل، من جهل الظالم، أن هذا المظلوم له رب، لذلك:
(( اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً فإنه ليس بينه وبين الله حجاب، ))
أبداً ولو كان كافراً: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ .
القصاص في الدنيا قبل الآخرة:
صدقوني أيها الأخوة أخ كريم أقسم بالله وهو يركب مركبة في طريق من الطرق، سائق المركبة رأى كلباً صغيراً على طرف الطريق في أيام الشتاء، الزفت دافئ والتراب بارد، الزفت لونه أسود يمتص حرارة، جالس هذا الكلب الصغير على طرف الطريق، فاستطاع سائق هذه السيارة أن يقطع رجليه فقط، طبعاً مهارة عالية جداً، لم يدسه كله، داس يديه فقط، قصّ يديه، هذا الرجل يقسم بالله العظيم أنه بعد أسبوع في اليوم الذي يُشبه هذا اليوم قال لي: كان يوم السبت وقتها، السبت التالي في المكان نفسه الذي فعل هذا بهذا الكلب تعطَّلت مركبته فأحد عجلاتها يحتاج إلى تبديل، قال لي: رفع المركبة بالرافعة وسحب البراغي وأمسك بالعجلة ليأخذها من مكانها ليضع مكانها عجلة أخرى، الرافعة تعطَّلت وقعت السيارة على الدولاب، والعجلة على رُسُغَي يديه فسحقتا، إلى أن وصل إلى المستشفى اسودّت يداه لابدَّ من قطعهما، قال لي: من السبت إلى السبت، هذا الكلب الصغير الذي يجلس على طرف الطريق أليس له رب؟ له رب، أنا أقول لك على مستوى كلب، على مستوى هِرَّة:
(( عن عبد الله بن عمر: عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ قَالَ فَقَالَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا، وَلَا سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا وَلَا أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ. ))
على مستوى هرة، هناك عقاب شديد، فما قولك فيما فوق الهرة؟ ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ لكن الناس لا يعرفون الله عزَّ وجل، يغشون غشاً شديداً ويدفعون الثمن باهظاً.
خلق الإنسان على أجمل صورة:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى(38)﴾
علقة، دم متجَمِّد، ثم صار إنساناً، صار فيه دماغ، فيه شعر، عينان جميلتان، خدَّان أسيلان كما يقولون، أسنان بيضاء، لسان طليق، يدان، مفاصل، رُسُغ، أصابع، جذع، قلب، رئتان، معدة، أمعاء، كبد، غدد صمَّاء، أعصاب، عضلات، حركة: ﴿فَخَلَقَ فَسَوَّى﴾ جميل الصورة، أنت انظر إلى بيت من دون إكساء وهو على الإسمنت لا يحتمل، أما بعد الكسوة ؛ دهان، ورخام، وبلاط، وثريات، وسجاد، فالإنسان من دون جلد مخيف، طبعاً يوجد بناء داخلي عظيم، بعد ذلك يوجد جلد جميل.
﴿ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)﴾
انظر إلى الزوجة، بُنيتها، شكلها، طباعها، كمال في وظيفتها، وبنية الرجل، وطباعه، وأجهزته، كمال في وظيفته.
بعث الإنسان يوم القيامة للحساب:
﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)﴾
بلى، الله عزَّ وجل خلقنا وسيعيد خلقنا.
﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)﴾
﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)﴾
العاقل من عرف ما بعد الموت:
لذلك لا تكون عاقلاً، ولا ذكياً، ولا فالحاً، ولا ناجحاً، ولا موفَّقاً، ولا فائزاً إلا إذا عرفت الله، وعرفت ما كلَّفك الله به، وعرفت هذا اليوم الذي لابدَّ من أن تغادر به الدنيا، وعرفت ما بعد الموت، أما أن نعمل للحياة الدنيا فالقضية سهلة العالم كله يعمل للحياة الدنيا، العالم كله يعمل لهذه السنوات المحدودة، ماذا بعد الموت؟ أعظم بلاد العالم، أجمل بلاد العالم فيها مقابر، معنى هؤلاء الذين عاشوا في هذه البلاد الجميلة، واستمتعوا بخيراتها، وبأجهزتها، وبطائراتها، وبسيَّاراتها، وبإدارة الأعمال فيها، ماتوا ودفنوا فيها، الموت مصير كل حيّ، وأتَمَنَّى على كل إنسان أن يدخل الموت في حسابه اليومي، كان أحد الصالحين ينام في قبر يتلو قوله تعالى:
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾
يقول لنفسه: قومي لقد أرجعناكِ.
كل إنسان لابدَّ من أن يغادر، وأجمل شيء إذا الإنسان أعدّ للموت الإعداد الكافي عندما يأتي لا يفاجأ به، مهيئ نفسه، وا كربتاه يا أبت، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه.
فيا أيها الأخوة؛ هذا المقطع الأخير من سورة القيامة دقيق جداً.
﴿ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(39)أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)﴾
الملف مدقق