- الخطب
- /
- ٠4المناسبات الدينية
مقدمة :
السيد وزير الأوقاف ، الدكتور محمد عبد الستار السيد حفظه الله ورعاه ، سماحة المفتي العام للجمهورية ، وصحبهما الكرام ، السادة العلماء الأجلاء ، الأخوة المؤمنون حضوراً ومستمعين ومشاهدين ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
تطبيق سنة النبي الكريم تبعث السكينة في قلوب المؤمنين الصادقين :
نحن في ذكرى الخامس عشر من شعبان ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت :
(( وما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قطُّ إِلا شهر رمضان ، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان ))
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(( ذاك شهر يَغْفُلُ الناسُ عنه بين رجب ورمضانَ ، وهو شهر تُرفَع فيه الأعمال إِلى ربِّ العالمين ، فأحبُّ أن يرفع عملي ، وأنا صائم ))
ومن القواعد الأصولية في العبادات أن الأصل فيها الحظر ، فلا تشرع عبادة إلا بالدليل القطعي والثابت ، بينما الأصل في الأشياء المباحة أنه لا يحرم شيء إلا بالدليل القطعي والثابت ، ونحن جميعاً حينما نطبق سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونتأسى بسيرته ، ونؤدي العبادات كما ينبغي ، ومنها الصيام نقطف الثمار اليانعة التي قطفها أصحابه الكرام ، وإحدى أكبر هذه الثمار تلك السكينة التي تتنزل على قلوب المؤمنين الصادقين ، فتجعل الواحد منهم وهو في الناس رجلاً ، وهو بين الرجال بطلاً ، وهو مع الأبطال مثلاً ، وشخصية المؤمن الفذة ذات الجانب العلمي ، والجانب الأخلاقي ، والجانب الجمالي ، إحدى دلائل إعجاز القرآن الكريم .
السلامة والسعادة مطلبان أساسيان لكل إنسان على وجه الأرض :
ذلك أن المؤمن استجاب لنداء الفطرة ، واهتدى إلى سرِّ وجوده ، وغاية وجوده ، فتوضحت لدية الغاية والطريق ، وعاش في معية الله ، ومعية رسله ، وأنبيائه ، ومعية المتقين ، ونجا من عذاب الحيرة والشك ، إن السكينة وردت في القرآن الكريم في عدة آيات من أبرزها قوله تعالى :
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾
أيها الأخوة الكرام ، لا سعادة بلا سكينة ، ولا سكينة بلا إيمان ، سكينة النفس هي الينبوع الأول للسعادة ، والسلامة والسعادة مطلبان أساسيان لكل إنسان على وجه الأرض ، لأن الله يعطي الصحة ، والقوة ، والذكاء ، والمال ، والجمال للكثير من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين ، والسكينة هي السمة الأولى للمؤمن ، هذه السكينة تزدهر بغير عون من المال ، بل بغير مدد من الصحة ، يسعد بها الإنسان ولو فقد كل شيء ، ويشقى بفقدها ولو ملك كل شيء ، هذه السكينة ليست ملك أحد يمسكها أو يرسلها ، ولكنها في متناول كل واحد من البشر إذا دفع ثمنها .
الإيمان بالله و اليوم الآخر المصدر الوحيد للسكينة :
إن للسكينة مصدراً واحداً لا ثانياً له ، هو الإيمان بالله الذي يحمل على طاعته ، والإيمان باليوم الآخر الذي يمنع أن تؤذي مخلوقاً على وجه الأرض ، هذا الإيمان العميق الذي لا يكدره شك ، ولا يفسده نفاق ، والعمل بمقتضى هذا الإيمان ، لقد علمتنا الحياة أن أكثر الناس قلقاً وضيقاً ، واضطرباً ، وشعوراً بالتفاهة والضياع هم المحرومون من نعمة الإيمان ، وبرد اليقين .
إن هذه السكينة نفحة من السماء ، ينزلها الله على قلوب المؤمنين من الأرض ، ليثبتوا إذا اضطرب الناس ، وليرضوا إذا سخط الناس ، وليوقنوا إذا شكّ الناس ، وليصبروا إذا جزع الناس ، وليحلموا إذا طاش الناس ، هذه السكينة نور من الله ، وروح منه ، يسكن إليها الخائف ، يطمئن عندها القلق ، ويتسلى بها الحزين ، ويستروح بها المتعب ، ويقوى بها الضعيف، ويهتدي بها الحيران ، هذه السكينة نافذة على الجنة يفتحها الله للمؤمنين من عباده ، منه تهب عليهم نسماتها ، وتشرق عليهم أنوارها ، يفوح عليهم شذاها وعطرها ، ليذيقهم الله جزاء ما قدموا من خير ، وليرهم نموذجاً لما ينتظرهم من نعيد ، فينعموا بهذه النسمات بالروح والريحان ، والأمن والأمان ، في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة ، إنها جنة القرب ، إنها جنة السكينة ، قال تعالى :
﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾
أي ذاقوا طعمها في الدنيا .
ما من نعمة تحجب معها السكينة إلا وتنقلب بذاتها إلى نقمة :
ما من نعمة تحجب معها السكينة إلا وتنقلب بذاتها إلى نقمة ، وما من محنة تحفها السكينة إلا وتكون هي بذاتها نعمة ، ينام الإنسان على الشوك مع السكينة فإذا هو مهاد وثير ، وينام على الحرير وقد أمسكت عنه السكينة فإذا هو شوك القتاد ، يعالج المرء أعسر الأمور ومعه السكينة فإذا هي هوادة ويسر ، ويعالج أيسر الأمور وقد تخلت عنه السكينة فإذا هي مشقة وعسر ، ويخوض المخاوف والأخطار ومعه السكينة فإذا هي أمن وسلام ، ويعبر المناهج والسبل وقد أُمسكت عنه السكينة فإذا هي مهلكة وبوار .
هذه السكينة لا تعز على طالب كائناً من كان في أي وزمان ومكان ، وفي أي حال ومآل ، وجدها إبراهيم عليه السلام في النار ، ووجدها يوسف عليه السلام في الجب ، ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت ، ووجدها موسى عليه السلام في اليم ، ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حينما افتقدوها في الدور والقصور ، ووجدها نبينا عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار ، والأعداء يتعقبونه ليقتلوه ، ويجدها كل مؤمن آوى إلى ربه ، يائساً ممن سواه ، قاصداً بابه وحده من دون كل الأبواب ، يبسط الله الرزق مع السكينة ، فإذا هو متاع طيب ورخاء وفير ، وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة ، ويمسك السكينة مع الرزق فإذا هو مثار قلق وخوف ، وإذا هو مثار حسد وبغض ، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض ، وقد يكون التلف بإفراط واستهتار .
يمنح الله الذرية مع السكينة فإذا هي زينة الحياة الدنيا ، ومصدر فرح واستمتاع بالخلف الصالح ، ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ، ونكد ، وعنت ، وشقاء ، وسهر بالليل ، وتعب بالنهار .
يهب الله الصحة والعافية مع السكينة فإذا هي نعمة وحياة طيبة ، ويمسك سكينته فإذا الصحة والعافية بلاء ، يسلطه الله على الصحيح المعافى ، فينفق الصحة والعافية ، فيما يحطم الجسم ويفسد الروح ، ويزخر السوء إلى يوم الحساب .
ويعطي الله الجاه والقوة مع السكينة ، فإذا هي أداة إصلاح ، ومصدر أمن ، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر ، يمسك السكينة فإذا الجاه والقوة مصدرا قلق على فوته ، ومصدرا طغيان وبغي ، ومصدرا حقد وكراهية ، لا يقر لصاحبها قرار ، ويدخر بها للآخرة رصيداً ضخماً من النار .
أسباب السكينة لدى المؤمن :
أول أسباب السكينة لدى المؤمن أنه هُدي إلى فطرته التي فُطر عليها ، وهي فطرة متسقة ، ومنسجمة ، ومتجاوبة مع نواميس الوجود الكبير كله ، ومع منهج الخالق العظيم ، فعاش المؤمن مع فطرته في سلام ووئام ، لا في حرب وخصام ، ومع من حوله في شفافية ومشاركة ، لا في وحشة وعداوة .
ذلك لأن في القلب شعثاً لا يلمُّه إلا الإقبال على الله ، وفي القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله ، وفي القلب حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله ، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاستماع عليه والفرار إليه ، وفي القلب نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضى بأمره ، ونهيه ، وقضائه ، وقدره ، والصبر على ذلك إلى يوم لقائه ، وفي القلب فاقة لا تسدها إلا محبته ، والإنابة إليه ، وصدق الإخلاص له .
الأقوياء بإيمانهم واستقامتهم هم السعداء والضعفاء بشركهم وانحرافهم هم التعساء :
أيها الأخوة الكرام ، هذا ما ينبغي أن يكون عليه مجتمع المؤمنين الصادقين من سعادة، ووئام ، وحب ، وسلام ، هذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون وهم على مشارف ثاني أكبر عبادة في الإسلام ، ولكن واقع المسلمين يدمي القلب . أيها الأخوة الكرام ، القوة سمة أساسية في شخص المؤمن ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ))
لذلك ينبغي أن نخاطب المؤمن وهو على مشارف شهر الصيام ، فنقول له : كن عضواً في جمعية الأقوياء ، ولا تكن رأساً في قطيع النعاج ، قد تبدو ضعيفاً لأنك قبلت أن تكون ضعيفاً فعش كما تريد ، ولكن لا بدّ من أن تعلم أنه بإمكانك أن تصبح قوياً بإيمانك بالله ، وثقتك به ، وأن تتعافى من شعورك بالضعف الذي سببه الشرك الخفي .
إن الأقوياء بإيمانهم واستقامتهم هم السعداء ، والضعفاء بشركهم وانحرافهم هم التعساء .
واعلم أيها الأخ يقيناً أن الشيء الذي لا تستطيعه هو الشيء الذي لا تريد أن تكونه ، قوة الإيمان مطلب أساسي ، و إلا فلا قيمة للحياة من دون قوة في الدين ، وإن القوة مصدر للثقة، والثقة لا توجد إلا في قلوب المؤمنين ، وإذا أردت القوة الحقيقية فابحث وأنت في شهر الصيام عن قوة لا تحتاج إلى غيرها ، إنها قوة الله عز وجل .
إذا كان الله معك فمن عليك ، وإذا كان عليك فمن معك ، ويا رب ماذا وجد من فقدك؟ وماذا فقد من وجدك ؟
لغة الشكوى والاستجداء والتوسل لن تحقق لنا شيئاً لأننا نعيش في عالم الأقوياء :
إن الجبن ، والخورة ، والاستكانة ، والاستسلام ، والانهزامية ، والذل ، وجميع المفردات في قاموس الضعف مرفوضة في حياة المؤمنين الصادقين ، فأنت كائن لم تخلق لتكون مسلوب الإرادة ، بارد الهمة ، تأمل دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( اللهم وأعوذُ بك من العجْزِ والكَسَلِ ، وأَعوذُ بك من البخْلِ والجُبْنِ ، وأعوذ بك من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وقَهرِ الرجال ))
كيف نبحث عن القوة ونحن ضعفاء ؟؟؟
ولكن أيها الأخوة ، كيف نبحث عن القوة ونحن ضعفاء ؟ إن الحديث عن القوة النابعة من الضعف ليس دعوة إلى الرضا بالضعف ، أو إلى السكوت عليه ، بل هو دعوة للاستشعار القوة حتى في حالة الضعف .
إذاً يجب أن نبحث في كل مظنة ضعف عن سبب قوة كامنة فيه ، ولو أخلص المسلمون في طلب ذلك لوجدوه ، ولصار الضعف قوة ، لأن الضعف ينطوي على قوة مستورة يؤيدها الله في حفظه ورعايته ، فإذا قوة الضعف تهد الجبال ، وتدك الحصون ، كما ترون وتسمعون ، أنت قوي ، هذا سرّ ضعفك ، وأنت ضعيف هذا سرّ ضعفك .
لذلك نستطيع أن نقابل القنبلة الذَرية بقنبلة الذُرية ، أي بتربية جيل ، واعٍ ، ملتزم ، ينهض بأمته ، ويعيد لها دورها القيادي في الأمم .
يقول أحد علماء الغرب الذين اهتدوا إلى الإسلام : " أنا لا أصدق أن يستطيع العالم الإسلامي اللحاق بالغرب على الأقل في المدى المنظور ، ولكنني مؤمن أشد الإيمان أن العالم كله سيركع أمام أقدام المسلمين ، لا لأنهم أقوياء ، ولكن لأن خلاص العالم في الإسلام ، ولكن بشرط أن يحسنوا فهم دينهم ، وأن يحسنوا تطبيقه ، وأن يحسنوا عرضه على الطرف الآخر" .
توظيف الله عز وجل طغيان الطغاة في الأرض لخدمة المسلمين و دينهم :
وإذا عرجنا على الموضوع الساخن ؛ موضوع فلسطين نقول لهؤلاء الذين يحاولون تهويد مقدساتنا : ولو علمتم أيها الطغاة ماذا قدمتم لدين الله ، وللمؤمنين من خير لم تريدوه ، لندمتم أشد الندم ، فنحن بسبب طغيانكم أكثر وعياً ، وأكثر تماسكاً ، وأكثر وحدة ، وأكثر تمسكاً بديننا ، وأكثر قرباً من ربنا ، وأكثر مقاومة لكم أيها الأعداء. ولو أنفقنا المليارات الممليرة لما استطعنا أن نعريكم كما عريتم أنفسكم في حرب غزة فشكراً لكم ، لقد أعنتم شعوب الأرض على أن تكفر بكم ، لقد أحييتم فينا مفهوم الجهاد ، فكسرنا عصاكم الغليظة مرات ومرات ، ولا تنسوا أيها الطغاة أن لكل أجل كتاباً ، وأنكم قد اقترب أجلكم ، وأن تقريراً من حلفائكم يؤكد أنكم لن تستطيعوا أن تبقوا في فلسطين أكثر من عشرين عاماً قادمة .
فاسمعوا قول الله عز وجل خالق السماوات والأرض :
﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته