وضع داكن
18-01-2025
Logo
العقيدة الإسلامية - الدرس : 09 - لماذا خلق الله الإنسان ؟ وما هي مهمته الرئيسة ؟
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

أسئلة تدور في فلك الإنسان:

 

1- لماذا خلقنا الله عز وجل؟

أيها الإخوة المؤمنون؛ وصلنا في موضوع العقائد إلى أن هناك أسئلة ثلاث، لو تمكّن الإنسان من الإجابة عنها إجابة صحيحة لحلت كل مشكلاته ولسعد في الدنيا والآخرة.
السؤال الأول: لماذا خلقنا الله عز وجل؟ هذا اكبر سؤال لأنه ما من إنسان عاقل على وجه الأرض يعمل عملاً من دون هدف، فلو تساءلنا ما هو الهدف الكبير الذي خلقنا الله من أجله؟ إذا أرسلك أبوك إلى بلد أجنبي من أجل أن تدرس، إذا عرفت الهدف من إرساله إليك، والتفت إلى الدراسة، حققت الهدف من هذه البعثة، فرضيت وأرضيت، وإذا أرسلك أبوك إلى بلد أجنبي من أجل الدراسة فظننت أنه قد أرسلك من أجل اللهو فقد شقيت وأشقيت، معرفة الهدف الكبير من خلق الإنسان شيء مهم جداً، لأن الناس كما ترون يسعون في متاهات ويمشون في طرق مسدودة، ما هي الطرق المسدودة؟ أي طريق ينتهي بالموت، طريق المال ينتهي بالموت، طريق الشهرة ينتهي بالموت، طريق العلو في الأرض ينتهي بالموت، طريق الشهوات ينتهي بالموت، إذاً هذه الطرق الشتى المتعددة التي يمشي بها الناس كلها تنتهي بالموت، هذه الطرق كلها مسدودة، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به. 

2- ما هو الهدف من الخلق؟

السؤال الثاني: أما وقد خُلِقنا على وجه هذه الأرض، ما هو أثمن شيء فيها؟ طبعاً هذا السؤال له علاقة بالسؤال الأول، إذا عرفت الهدف الذي من أجله خُلِقت تعرف ما أثمن شيء على وجه الأرض، أي سؤالان لسؤال واحد، وإذا عرفت لأي شيء خُلِقت، وما أثمن شيء تفعله في الدنيا، لا شكّ أنك تعرف إلى أين المصير.
هذه الأسئلة الثلاث التي طرحتها في الدرس الماضي أحاول وبالله التوفيق توضيحها، الله سبحانه وتعالى الذات الكاملة، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه،

(( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم. قالوا: قد قبلنا يا رسول الله . قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر . قال: كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض.  ))

[ صحيح البخاري ]

((كان الله)) هذه كان تامة إعرابها فعل ماض تام، ليست ناقصة، لا تعني كان هذه أنه كان في الماضي تعني أنه وُجِدَ ولا يزال، "اتق الله حيثما كنت" بمعنى حيثما وجدت،   (( كان الله ولم يكن معه شيء)) والكون كله حادث، أي مشيئة الله سبحانه وتعالى اقتضت خلق الكون،
فلماذا خلق الله هذا الكون؟ لو لم تعرف لماذا خلق الله هذا الكون، لو تأملت في ملكوت السماوات والأرض لعرفت أن لهذا الكون إلهاً عظيماً، ابحث أنت عن هدف يليق بجلال الله عز وجل، أي حينما يُبنى بناء ضخم جداً أتظن هذا البناء أنشئ لهدف سخيف؟ بناء ضخم جداً مزود بكل وسائل الراحة لا يُعقَل أن يكون هذا البناء إنما أنشئ لهدف سخيف، لو لم تعرف ما الهدف الكون يُنْبِئك أن وراء خلق هذا الكون هدفاً عظيماً.
الشيء الأساسي أن الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار، لا يُرى بالحواس، ولكن كل هذا الكون، مجراته التي يُقدّرها العلماء الآن بمليون مليون، وكل مجرة يُقَدّر العلماء أن فيها مليون مليون نجم على حدّ تقريبي، وأن من النجوم ما يزيد عن حجم شمسنا بملايين المرات، وأن نجم قلب العقرب يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما، وأن مجرتنا التي نحن فيها يزيد طولها عن مئة وخمسين ألف سنة ضوئية، وأن بيننا وبين القمر ثانية ضوئية واحدة، أي هذا الكون يُجسّد قدرة الله، يُجسد علم الله، يُجسد خبرة الله، يُجسد غنى الله عز وجل، هذا الكون دليل على وجود خالق عظيم له أسماء حسنى، فما قولك في هدف يليق بجلال الله عز وجل؟ هل خلقنا ليعذبنا؟ أمحتاج هو أن يعذبنا؟ إذا عذبناه ماذا يستفيد؟

(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. ))

[  صحيح مسلم ]

ذلك لأن عطائي كلام وأخذي كلام. 

3 ـ هل يليق بالله أن يخلقنا ليعذبنا؟

هل يليق به أن يخلقنا ليعذبنا؟ هل يليق به أن يخلقنا عبثاً بلا هدف؟ أيفعلها إنسان عاقل؟ هل يليق به أن يخلق سماوات وأراضين ومجرات وكواكب وشمساً وقمراً ونجوماً وليلاً ونهاراً ثم تكون حياتنا قصيرة لا تزيد عن ستين عاماً نصفها في الإعداد لها؟ نصفها بالضبط إلى أن يستطيع الإنسان الزواج والسكنى في بيت مستقل، وتأمين حاجاته، تأمين دخل معقول بالثلاثينات، الآن صار بالأربعينات، بالخامسة والخمسين صار معه أزمة قلبية، بالثامنة والخمسين نعوته على الجدران، لا تستحق ذلك، أيعقل أن يكون كل هذا الكون لأجل سنوات محدودة؟ أيقبله عاقل؟ لماذا خلقنا الله عز وجل؟ لابد من هدف يتناسب مع كماله، لابد من هدف يتناسب مع جلاله، لابد من هدف يتناسب مع قوته، هو القوي، لذلك ربنا عز وجل أجاب عن هذا السؤال في آيتين واضحتين وفي آيات كثيرة، قبل أن يجيب نفى ما يتوهمه بعض الناس، قال تعالى: 

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾

[  سورة المؤمنون  ]

مستحيل خالق عظيم، الآن أي دولة تبني بناء يكلفها ثلاثة عشر مليار، يستغرق البناء عشرين سنة، ثم تأتي الأجهزة الحديثة تكسره وتهدمه بلا سبب؟ لماذا بنيتم هذا البناء؟ لا لشيء، هكذا، أتفعلها دولة على وجه الأرض؟ بناء ضخم، يكلفها مئات الملايين تجهزه بكل شيء تدفئة وتكييف وتبريد وأثاث بعد أن ينتهي يُدَمّر لماذا؟ ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ نفى الله أيضاً ما يتوهمه بعض الناس من أن الله عز وجل خلق الكون وهو يلعب: 

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)﴾

[ سورة الدخان ]

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)﴾

[  سورة ص ]

هذا ظنّ الكفار وحدهم، أيُعقل أن يُخلق الإنسان ولا يسأل عن أعماله؟ القوي قوي، والضعيف ضعيف، والغني غني، والفقير فقير، والصحيح صحيح، والمريض مريض، وهكذا، هذا عمّر خمساً وثمانين سنة، وهذا ثماني عشرة سنة، مات بحادث، لماذا؟ هكذا، ما السبب؟ هذا لم يهنأ بحياته، ما تزوج، ما سكن في بيت، ما عمل سياحة، هذا أكل وشرب وعاش سنوات طويلة وتمتع بالصحة، وتمتع بالطعام والشراب، وكل شيء، لماذا هذا يولد ابن غني كل شيء متوافر أمامه وهذا لا يُحصّل قوت يومه؟ لو لم يكن هناك دار آخرة سؤال كبير يوجد بالحياة قوي ويوجد ضعيف، يوجد طويل العمر، ويوجد قصير العمر، يوجد صحيح، يوجد مريض، يوجد غني، يوجد فقير، قال تعالى: 

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾

[ سورة القيامة  ]

لا، خلقه غنياً ولا يسأله عن هذا المال كيف جمعه، وكيف أنفقه، خلقه فقيراً ولا يسأله لمَ لم يصبر؟ لمَ لم يعرف؟ ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ ربنا عز وجل نفى أن يخلق السماوات والأرض إلا بالحق، نفى أن يخلقها عبثاً، نفى أن يكون لخلقها لاعباً، نفى أن يخلقها سدىً، نفى أن يُتْرِك الإنسان سدى، هذا كله نفاه الله عز وجل وأثبت قوله تعالى، وقال: 

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات ]

 

الهدف من العبادة:


إذاً الهدف هو العبادة، لو عرفنا معنى العبادة، العبادة أن تعرفه فتطيعه فتسعد بقربه، ذات ثلاثة حدود، الله عز وجل قال: العبادة هي الهدف من خلق الكون أو من خلق الإنسان والجن، العبادة أن تعرفه وأن تطيعه وأن تسعد بقربه، آية أوضح من هذه الآية: 

﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾

[ سورة هود ]

إذاً الإنسان مخلوق للسعادة، لا تظنون هذا كلاماً، هذه حقائق، إذا عرفت أنك خلقت من أجل أن يُسعدك الله عز وجل شعرت بالراحة، شعرت بالرَّوح، شعرت بالتفاؤل، شعرت بأنك مكرم، شعرت بأن الله عز وجل تفضّل عليك بإيجادك، شعرت أن هناك نعمة هي نعمة الإيجاد، قد يقول قائل: الناس كلهم معذبون، يوجد مجاعات، يوجد زلازل، يوجد فيضانات، يوجد شحّ، يوجد قحط، يوجد قهر، يوجد حروب، يوجد براكين، يوجد صواعق، الإجابة عن هذا السؤال يا أستاذ تقول: إن الله خلقنا للسعادة، خلقنا ليُسعدنا، خلقنا لنسعد، لنعبده، لنعرفه، لنطيعه، لنسعد بقربه، هذا كلام جيد، مقبول ويتناسب مع جلال الله.
 

ما الحكمة من وجود المصائب في الأرض؟


هناك سؤال آخر ما بال الناس أشقياء؟ على المستوى المادي الفقراء هم الأكثرون، المعذبون هم الأكثرون، الجواب:
إن السيارة لماذا صنعت؟ من أجل أن تسير، فما بال الشركة الصانعة قد زودتها بالمكابح؟ أليست المكابح تتناقض مع حركتها؟ الجواب:
إن استعمال المكابح ضروري لسلامتها، صُنعت لتسير والمكبح يوقفها ولكنه يوقفها في الوقت المناسب، من أجل ألا تُدَمّر صاحبها، فكما أن الله سبحانه وتعالى خلقنا ليُسعدنا من أجل هذه السعادة بالذات خلق الله عز وجل المصائب، خلقها لمهمة ثانية تاه عنها، ضلَّ عنها، تلهّى بالدنيا، تأتي المصائب لتُذكره بالمهمة الكبرى التي خُلِق من أجلها، إذاً هذا ملخص كل مصيبة تقع على وجه الأرض:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)﴾

[ سورة التوبة ]

﴿إِلَّا تَنْفِرُوا﴾ إما أن تنفر وإما أن تُعذَّب، إما أن تُحقق الهدف الذي خُلقت من أجله وإما أن يُضّيق الله عليك حباً بك، إذاً يجب أن نتيقن يقيناً قطعياً لاشك فيه أن نعمة الإيجاد نعمة كبرى، لأنه أوجدك كي يسعدك.
 

العبث في الكون لا يتناسب مع جلال الله وقوته:


ولكن يأتي سؤال آخر أهي السعادة في الدنيا؟ الجواب: نعم ولا.
الآن ندخل في موضوع ثان، ربنا عز وجل خلق الخلائق كلها دفعة واحدة، ما من شيء تقع عليه عينك إلا وقد خلقه الله عز وجل مع غيره في وقت واحد سماه العلماء: عالم الأزل، والله سبحانه وتعالى في هذا العالم عَرَض عليهم عطاءً لامحدوداً، لكن هذا العطاء   اللامحدود اللامتناهي، الأبدي السرمدي الذي لا يُوصف له ثمن، أي إما أن تقبل منصباً ليس له دخل محدود، يُعطى هذا المنصب صاحبه كالقضاة في بريطانيا شيكاً مفتوحاً، أيّ رقم تكتبه تقبضه، مهما كَبُر هذا الرقم تأخذه، ولكن هذا المنصب الرفيع يحتاج إلى دراسة طويلة، وإما أن ترضَى أن تأخذ قوت يومك من دون أن تكون مسؤولاً أو مُكرماً، أي يوجد عرضان؛ عرض مغري جداً لكن يحتاج إلى جهد وفيه مسؤولية، أي الطيار يقبض راتباً ضخماً جداً، لكن مقابل هذا الراتب الضخم جداً هو في الجو مسؤول، أية غلطة يرتكبها يموت هو وركابه معه، لكن يوجد أعمال في الأرض راتبها محدود، لأن صاحبها ليس مسؤولاً كمسؤولية الطيار، وليس يقع في خطر لو سها كما يقع الطيار لو سها، فربنا عز وجل عرض على الخلائق عرضاً مغرياً: 

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

أي جرى عرض على الخلائق، خَيَّرَ الله عز وجل هذه الخلائق بين أن تكون مخلوقات تسعد بالله سعادة محدودة، لماذا محدودة؟ 
مثل آخر: ممكن أنا لو فرضنا أن أحدهم والده من كبار الأغنياء، هذا الأب الغني ممكن أن يُطعِم ابنه أطيب طعام، يسكنه في قصر، يزوجه أجمل امرأة، ممكن أن يهيئ له طائرة خاصة، سيارة خاصة، يختاً في البحر خاصاً، ينتهي هنا عطاء الأب، يعطيه مالاً، يعطيه بيتاً، يعطيه مركباً وطيئاً، يعطيه زوجة، لكن متعة العلم هذه تُعطى أم تُؤخذ؟ هذه تؤخذ، لو أن ابناً لرجل مليونير طلب من أبيه أن يجعله رئيساً لجامعة راقية، يقول له: هذه لا، هذه بجهدك، متعة العلم لابد من أن تُحصّلها أنت، فكذلك ربنا عز وجل يعطي، والإنسان قد يأخذ من عطاء الله، أما ربنا عز وجل يعطي عطاءً يتناسب مع طاقة احتمال هذا المُعطى، أنت عندك عشرة إنش ماء، عندك نبتة صغيرة، لو صببت هذا الماء عليها لسحقتها، أما حينما تقوى هذه النبتة وتكبر تأخذ ماءً كما تشاء.
أردت من هذا الكلام أن أوضح لكم أن الله سبحانه وتعالى عرض على الخلائق في عالم الأزل عرضاً مُغرياً جداً، عرض أن يسعدوا سعادة أبدية سرمدية لا محدودة مقابل أن يأتوا إلى الدنيا، في الدنيا يجب أن يبذلوا هم من أجله، من أجل أن يعطيهم عطاءً غير محدود لابد من أن يأتي هذا المخلوق إلى مكان، وهذا المخلوق مزوّد بشهوات، يُزوّده الله بشهوة المال، وشهوة العلو، وشهوة الجنس، هذه الشهوات يزودها الله عز وجل لهذا المخلوق، ويأمره أن يُنفِذ منها ما يتوافق مع شرع الله عز وجل:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)﴾

[ سورة الليل ]

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾

[ سورة النازعات ]

 

مستلزمات الأمانة:

 

1- تزويد الإنسان بالعقل والشهوة:

أولاً: من مستلزمات الأمانة أن يكون هذا المخلوق مزوّداً بشهوات، من مستلزمات الأمانة أن يكون هناك كون يُجسِّد أسماء الله الحسنى، من مستلزمات هذه الأمانة أن يكون هناك فكر يستطيع أن يستدل على الله عز وجل من خلال الكون، من مستلزمات هذه الأمانة أن يكون حرّاً في اختيار ما يريد، فحرية الاختيار مع الفكر مع الكون مع الشهوات، أربعة عوامل تجعل من هذا الإنسان أكرم مخلوق على وجه الأرض، فكر موجود، شهوات، قال الله تعالى:

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾

[ سورة آل عمران  ]

2- لن تُقبل على الله إلا إذا آثرت رضاه على شهوتك:

ما الذي يحدث؟ الله عز وجل تسعد به إذا أقبلت عليه، ولن تستطيع أن تُقبل عليه إلا إذا كان لك ثقة أنه راضٍ عنك، وكيف يرضَى عنك؟ إذا آثرت جانبه في كل شيء، أعطاك شهوة النساء، فإذا غضضت بصرك عن امرأة لا تحلّ لك ارتقيت إلى الله عزّ وجل، فإذا تزوجت امرأة وفق ما شرع لك ارتقيت إلى الله عز وجل، زوّدك بحبّ المال فإذا كسبته من طريق مشروع ارتقيت إلى الله عز وجل، فإذا تركت المال الحرام ارتقيت إلى الله عز وجل، لولا هذه الشهوات لن تستطيع أن تُقبل على الله أبداً، بترك ما حرّم الله عليك وأخذ ما أحلّ لك، بالترك والأخذ ترقى.
إذاً أنت في دنيا هدفها الأول أن تعمل أعمالاً تستطيع أن تُقبل بها على الله إلى الأبد في الجنة، أي إذا آثرت جانب الله عزَّ وجل كان لك عمل تلقى الله به، إذا استقمت في بيعك وشرائك، إذا نصحت المسلمين، إذا كنت محسناً، إذا كنت ورعاً، إذا آثرت ما يبقى على ما يفنى، إن كان لك عمل صالح بما في هذه الكلمة من معان، أي استقامة وعمل طيب فيه خدمة للناس، هذا العمل الذي تفعله باختيارك، بمحض اختيارك من دون إجبار أو إغراء أو إكراه، هذا العمل الصالح يُؤهلك أن تُقبل على الله في الجنة إلى الأبد.
مثل بسيط؛ هل يستطيع أن يدخل مجند على أعلى رتبة في الجيش من دون أذن؟ والله مستحيلة، يحتاج إلى شهر حتى يصل إليه، يحتاج إلى طلب لأعلى منه للعريف وللرقيب وللمساعد وللملازم وهكذا، لكن إذا كان هذا اللواء الشهير له ابن يسبح في مسبح وأشرف على الغرق، وهذا المجند ألقى بنفسه في هذه البحرة وأنقذه، وخاطر بحياته من أجل ابن هذا الضابط، وعرف الأب ما فعل هذا الجندي مع ابنه، ألا يستطيع هذا المجند أن يدخل على هذا الضابط متى شاء من دون إذن؟ ولله المثل الأعلى، الله عز وجل غني عنّا ولكن بعثك إلى الدنيا، قال لك: هذا مال، هل تستطيع أن تنفق المال من أجلي؟ سأزودك بشهوات هل تغض بصرك من أجلي؟ هل تختار هذه المرأة الصالحة ذات الجمال المتوسط على امرأة جميلة جداً لكنها فاسقة أيهما تختار؟ هل تختار هذا الدخل المشروع على دخل كبير كبير من طريق غير مشروع؟
 

سرّ الحياة:


أتمنى أن أوضح لكم سرّ الحياة، جاء بك إلى الدنيا وزودك بالشهوات وقال: أقرضني من مالك، عاون أخاك، اضبط شهواتك من أجلي، ابذل من أجلي، إذا فعلت واستقمت وبذلت وقدمت وكنت ورعاً تحسّ أنه راضٍ عنك، بهذا الإحساس تُقبل عليه، فإذا أقبلت عليه سعدت إلى الأبد بقربه، هذا هو الهدف من مجيئك إلى الدنيا، كيف تسعد به؟ بالإقبال عليه، تسعد به إذا أقبلت عليه، مثلاً قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾

[ سورة الكهف ]

إذا طرقت باب شخص مهم ومعك هدية، الهدية شفيع لك، خلقنا ليُسعدنا، جاء بنا إلى الدنيا كي نتأهل لهذه السعادة، ما هي الأهلية فيها؟ أن تبذل مما أعطاك الله، لذلك قيل: اللهم إنّا نسألك موجبات رحمتك.
والله لا أتمكن من توضيح أكثر مما وضحت، أي نحن في حياةٍ؛ فرصة لسعادة أبدية، هذه الفرصة نملكها، يكفي أن تغض بصرك، يكفي أن تنفق مالك، يكفي أن تمضي وقتك في طاعة الله، هذه الجلسة تُعرض عليكم يوم القيامة شريطاً مسجلاً، أنت في هذا اليوم أصدقاؤك ذهبوا إلى دور اللهو، أمضوا وقتهم في اللعب بالنرد، في المزاح الرخيص، في الحديث عن النساء، أمضوه يتابعون مسلسلاً رخيصاً، وأنت حضرت إلى المسجد كي تعرف الله عز وجل، هذا الذي يرقى بك، أنت في الدنيا من أجل البذل: 

﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾

[ سورة العصر ]

زواجك لله، إنجاب الأولاد لله، عملك لله، خدمتك لله، نومك لله، أن تجلس مع أولادك لله، أن تُؤنس زوجتك لله، هذه بالنهاية، أنت جئت إلى الدنيا من أجل أن تفعل شيئاً يرضى الله به عنك، من أجل أن تُقْبِل عليه في الدار الآخرة بعمل يصلح للعرض عليه.
 

من عرف الله عرف عظمته:


طبعاً هذا العمل كيف تستقيم؟ هنا عندنا سلسلة، كيف تعرفه؟ بالتفكر في الكون، إذا فكرت بنفسك، بجسمك، كيف كنت من ماء مهين، أصبحت إنساناً سوياً، فكّرت بطعامك، بشرابك، بثيابك، بزوجتك، بأولادك، بأسرتك، فكّرت بالجبل، بالقمر، بالشمس، بالنجوم، بالكواكب، بالأمطار، بالرياح، بالثلوج، بالوديان، بالسهول، بالصحاري، بالبحار، بالأسماك، بالأطيار، فكّرت، لابد من أن تعرف الله عز وجل، إذا عرفته عرفت عظمته، وإذا عرفت عظمته تولّد في نفسك خشية منه، هذه الخشية تحملك على أن تستقيم على أمره، إذا استقمت على أمره وأقبلت عليه سعدت بهذا القرب، عملت الصالحات لمزيد من هذا القرب.
أي الدنيا كلها لا تعدل عند الله جناح بعوضة إلا العمل الصالح، قال تعالى:

﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)﴾

[ سورة النساء ]

إذاً خلقك ليسعدك سعادة أبدية سرمدية لا متناهية، لكن هذه السعادة لها ثمن، جاء بك إلى الدنيا من أجل أن تتأهل لهذه السعادة، طبيعة التأهيل أن تفكر في الآيات الكونية من أجل أن تعرفه، أن تستقيم على أمره، أن تعمل الصالحات تقرباً له، أن تقبل عليه، هذا هو التأهيل، لذلك إذا خلت حياتنا من علم وعمل ودعوة وصبر فلا جدوى منها: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ من علم وعمل ودعوة وصبر، قال تعالى: 

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)﴾

[ سورة التكاثر ]

التكاثر انحرف بكم عن هدفكم: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أنكم خلقتم لغير هذا، لغير جمع المال: ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ .
 

ينبغي على الإنسان ألا ينسى الهدف الذي خُلِق من أجله:


مرة إمبراطور اليابان كان اسمه الميكادو، أرسل سبعة طلاب في بداية النهضة اليابانية إلى أوروبا وأمريكا للدراسة، هؤلاء كانوا في بلد اليابان كان بلداً متخلفاً، فلما وُجِدوا في بلاد في مدن كبرى فيها فتن، وفيها أشياء جميلة، وفيها أشياء رخيصة، فانغمسوا في الملذات الرخيصة وقصّروا في تحصيل العلم ولم ينجحوا، وعادوا إلى اليابان فأعدمهم الميكادو، أرسلهم لمهمة محددة فنسوها وانغمسوا في شيء آخر، حينما عادوا أعدمهم، الإنسان أُرسِل إلى الدنيا لمهمة محددة فإذا عرفها ونفّذها وكان في مستواها سَعِد في الدنيا والآخرة، وإذا تغافل عنها أو جهلها أو عمل عملاً يتناقض معها، حينما يموت يصيح صيحة لو سمعها أهل الأرض لصُعِقوا، صيحة الندم: 

﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)﴾

[ سورة الفجر ]

﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)﴾

[ سورة الفرقان ]

هذا الكلام أنا أسميه كلاماً خطيراً يضعك أمام مسؤولياتك، يقول لك: أنت مخلوق في هذه الدنيا من أجل أن تهيئ نفسك لسعادة أبدية، فإن لم تفعل فلك الشقاء الأبدي، خُلِقتَ للسعادة وجئت إلى الدنيا من أجل أن تؤهل نفسك لسعادة الأبد، في جنة عرضها السماوات والأرض.
 

نموذج من الصحابة صدقوا في طلب الحقيقة فتوصلوا لها فانظر إلى مآلهم:


البارحة في خطبة الجمعة ذكرت أن سيدنا سعد بن الربيع، النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن انتهت معركة أحد تفقّد أصحابه صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل سعد بن الربيع؟ فلم يجبه أحد، فقال لأصحابه: ابحثوا عنه، أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ أحد الأصحاب الكرام وكان أنصارياً توجّه نحو ساحة المعركة ليتفقده بين القتلى إذا به يراه وفيه رمق أخير، فقال له: يا سعد إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أبحث عنك أفي الأحياء انت أم في الأموات؟ تصوروا شخصاً يموت بجرح بليغ ينزف دماً، وعلى وشك مفارقة الدنيا فيقول هذا الجريح المحتضر يقول: أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أني في الأموات، أنا انتهيت، وأقرئه السلام وقل له: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وأقرئ قومي السلام وقل لهم: لا عذر لكم عند الله إذا خُلِص إلى نبيكم وفيكم عين تطرُف، ولم يزل هذا الصحابي الذي ندبه النبي واقفاً حتى فارق الحياة، وعاد إلى النبي فأخبره بالخبر فبكى حتى اخضلّت لحيته بالدموع.
المهم التعليق على القصة؛ هذا إنسان جريح، هذا إنسان على وشك الموت، وهو شاب، ما هذه السعادة التي غمرت قلبه؟ لأنه حقق الهدف الذي من أجله خُلِق، آمن بالنبي، أطاع الله عز وجل، بذل أثمن ما يملكه وهي نفسه.
فلما أحدنا يعرف مهمته ويكون بمستواها والله الذي لا إله إلا هو لا يُحْزِنه شيء، قرأت عن الصّدّيق رضي الله عنه كلمة لا زالت ترن في أذني، وصفه الواصفون فقالوا: ما ندم على شيء فاته من الدنيا قط، إذا شخص ذهب ليعقد صفقة تجارية في بلد، واشترى بضاعة بمئات الملايين ومتوقع أن يبيعها بألوف الملايين، وحقق ربحاً كبيراً، ولم يتغدَّ وصارت الساعة السادسة لا يوجد أي مطعم الكل أغلق، ويستطيع أن يأكل أفخر طعام لأن معه مالاً، لكن المطاعم أغلقت، أما الصفقة فيها ربح بمئات الملايين، هل يتألم؟ هدفه تحقق، يمكن أن يأكل في الفندق شطيرة، يأكل جبنة، لأن هدفه الكبير تحقق ويعيش بنشوة الربح الكبير، فالمؤمن حينما يعرف مهمته في الدنيا وهو في مستواها وهو في طريقها يسعد سعادة والله الدنيا كلها لا تُرضيه إذا أقبلت ولا تسخطه إذا أدبرت، هكذا قيل: إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء.
 

الموت بداية لحياة جديدة:


إذا إنسان راكب سيارة ليست له من جهة إلى جهة، خمس دقائق فوجد المقعد غير مريح، هل يتألم؟ كلها خمس دقائق،

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ   قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.  ))

[ صحيح البخاري ]

هذا البناء كله لي، ما شاء الله، إذا كان قلبك يدق فهو لك وإن توقف فهو ليس لك، هذه ورقة الطابو أي القلب يدق، إذا إنسان وكّل وكالة، وأراد أن ينفذها، أخي اذهب هل الموكل ميت أم على قيد الحياة؟ تحتاج الوكالة الآن إلى قيد نفوس، لايزال حياً حتى تفرغ لك إذا معك وكالة، فمعنى الحياة إذا لم يعرف الإنسان مهمته منها قضية خطيرة جداً، الطريق مسدود، طريق المال مسدود ينتهي بالموت، طريق العلو في الأرض ينتهي بالموت، طريق الشهوة ينتهي بالموت، كل شيء ينتهي بالموت، والموت قريب جداً أقرب إلى أحدنا من ظله، من عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت، والموت ليس نهاية، هنا الخطورة، يتوهم الناس أنه النهاية، يا لطيف إنه بداية، الموت بداية الحياة الأبدية، تفضل، يصيح صيحة لو سمعها أهل الأرض لصعقوا، ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ خلقك ليسعدك أعلى سعادة:

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾

[  سورة الإسراء ]

أنت ممن تحمّل الأمانة، ممن تنطحت لها، ممن قلت: أنا لها يا رب، جاء بك إلى الدنيا من أجل هدف واحد أن تُؤهل نفسك لهذه السعادة الأدبية، هذا ضيّع وقته بالمال، هذا ضيّع وقته بمشكلات الحياة، هذا ضيّع وقته بتحقيق أهداف أرضية محدودة، هذا ضيّع وقته بالسخف، هذا قضى حياته بالخصومات، هذا قضى حياته بأشياء لا قيمة لها، سبحان الله! قال تعالى:

﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى(4)﴾

[ سورة الليل ]

يوجد سعي واحد صحيح أن يكون سعيك لمعرفة الله عز وجل، أصل الدين معرفته، فأنت في الدنيا من أجل مهمة خطيرة جداً، فالمؤمن صار طعامه متعلقاً بهذه المهمة، زواجه يريد امرأة صالحة، هو الآن مخلوق للاستقامة والعمل الصالح، فإذا اختار امرأة سيئة فاسقة لا تُرضي الله يكون هذا الزواج مِعولاً هدّمَ سعادته الروحية، فدخل زواجك وعملك، كسبك للمال، أنت مخلوق بحياة من أجل أن تعرف الله، فأي عمل يمتص وقتك كله ترفضه، أنا لي مهمة كبيرة جداً.
 

المؤمن الذي عرف الله لا يضيع آخرته بدنياه:


أيها الإخوة اسمعوا هذا الكلام؛ إذا عُرِض عليك عمل في الشهر مئة ألف، شرط أن يكون الدوام ثماني عشرة ساعة، ليس لك إلا ست ساعات نوم من الساعة العاشرة وحتى السادسة فرضاً صباحاً، وبالشهر مئة ألف، وعمل آخر دخله ألف وخمسمئة بالشهر لكن الدوام ثماني ساعات، تستطيع أن تحضر مجلس علم، تصلي الصبح حاضراً، تقرأ القرآن، تُفكّر، تذكر، تدعو إلى الله، طبعاً أهل الأرض كلهم يقولون لك: خذ الوظيفة التي راتبها مئة ألف، أما المؤمنون فيقولون لك: خذ الوظيفة ذات الألف والخمسمئة، لأنك خُلقت لهدف كبير، هذا الدخل الكبير في الحقيقة خسارة، يأتي الإنسان يوم القيامة مفلساً، أما الحياة بعد الموت:

(( قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَر ٍ . قالَ أبو هُرَيْرَةَ : اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].  ))

[ متفق عليه ]

واكربتاه يا أبت، قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، إن المؤمن ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة كما ينتقل الطفل من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا.

﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)﴾

[ سورة يس  ]

تجد شخصاً ميتاً تقول: مسكين مات، والله الذي لا إله إلا هو المسكين من يقول مسكين وهو ضال، هذا المسكين، إن كان هذا الميت مؤمناً فالمسكين الذي يقول عنه مسكين، حقق الهدف،

(( النبي الكريم شاهد جنازه فقال: عن أبي قتادة أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلم مرَّ عليْهِ جنازةٌ فقالَ: مستريحٌ ومستراحٌ منْهُ، فقالوا: ما المستريحُ وما المستراحُ منْهُ؟ قالَ: العبدُ المؤمنُ يستريحُ من نصَبِ الدُّنيا وأذاها والعبدُ الفاجرُ يستريحُ منْهُ العبادُ والبلادُ والشَّجرُ والدَّوابُّ. ))

[ متفق عليه ]

فلما الإنسان يتوضح له الهدف، والمهمة في الأرض، عندئذ قد لا ينام الليل:

(( عَنْ أَنَسٍ   قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثلَهَا قَطُّ، قَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثيرًا» . قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: «فُلانٌ». فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}. ))

[ صحيح البخاري ]

إذا دخل أحد الطلاب إلى الامتحان قيل له نكتة لا يضحك، جربها، إذا كان الامتحان مهماً، المادة صعبة، والتخرّج متوقف عليها، وليس هو متأكداً من تحضيره لهذه المادة ومقدرته فيها أضحكه، لا يضحك، أو شخص سوف يتحاكم مازحه، لا يضحك معك، هول الموقف،

(( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ   عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا» . ثُمَّ قَرَأَ «{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَإِنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِي يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي أَصْحَابِي، فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} -إِلَى قَوْلِهِ- {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ».  ))

[ صحيح البخاري ]

قالت السيدة عائشة: أيرى بعضنا بعضاً؟ استغربت معقول حفاة عراة؟! قال: يا أم المؤمنين الأمر أفظع من أن يعنيهم ذلك، لهول الموقف.
 

خلاصة الدرس:


السؤال الأول: خُلقنا لنسعد، والثاني: نحن الآن في مهمة، إذا كنا معذبين فمعنى ذلك أننا نحن قد ابتعدنا عن الهدف الذي خُلقنا الله من أجله، هذا التفسير الدقيق والبسيط والواضح، ((فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) فإذا كنت مسروراً معنى هذا أنك أنت على الطريق الصحيح، وإن كنت غير مسرور فمعنى ذلك أنك ابتعدت فربنا عز وجل برحمته وحرصه سخّرَ لك شيئاً يُلفت نظرك، فالمصائب كلها هدفها أن تعود إلى جادة الصواب، هذا هو الضلال، وهذا هو الهدى.
طبعاً نحن هذا الدرس مقدمة، لكن أن تعرف لماذا خُلقت، وما أثمن شيء في الأرض، مثلاً؛ إنسان لسبب تافه يقول لك: لم يكن معي وقت لآتي إلى المسجد، وجدت نفسي أشعر بالبرد، والمطر يهطل، سآتي في الأيام القادمة، هذا كلام يعني أنك لا تعرف قيمة هذا المجلس، أحياناً يعصي الإنسان ربه لسبب تافه، والله استحييت أن أقوم لأصلي، لا تعرف أنت لماذا خلقك الله في الدنيا، لذلك الإنسان إذا عرف المهمة هان عليه كل شيء، إذا عرفت لماذا خُلقت وما أثمن ما في الدنيا هان عليك كل شيء، عندئذ تقول كما قالت رابعة:

فليتك تحلو والحياة مريـــرة        وليتك ترضى والأنام غضــاب

وليت الذي بيني وبينك عامر       وبيني وبين العالمين خـــــراب

[ رابعة العدوية ]

***

 

الصحابة عرفوا رحلتهم في الدنيا وحذروا من أي منزلق يحجبهم عن ربهم:


صحابي جليل رأى باباً مفتوحاً وهو ماشٍ بالطريق فحانت منه نظرة للداخل فإذا امرأة في البيت، كَبُر عليه ذنبه، عَظُمت عليه هذه المخالفة، خاف من أن يلقى النبي ويُنزل الله فيه وحياً فهام على وجهه في الجبال، تفقّده النبي صلى الله عليه وسلم أين فلاناً؟ حتى ندب أناساً يبحثون عنه، كلف سيدنا علياً بهذه المهمة، التقى به في أحد شِعَاب مكة وهو يبكي، فخفف عنه وجاء به إلى النبي، هذا الصحابي قال له: بشرط أن تأخذني إلى النبي في عقب صلاة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يكون مسروراً جداً، فجاء به في عقب صلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما قصتك؟ قال له: ذنبي عظيم، فقال صلى الله عليه وسلم: أكبر من الجبال؟ قال له: أكبر من الأرض؟ قال له: أكبر من السماء؟ قال له: أكبر، أنا أخذت موعظة كم كان الذنب عندهم عظيماً؟ من علامات المنافق أن الذنب عنده كالذبابة يدفعها، ماذا عملنا؟ هل خربت الدنيا؟ نظرنا إليها ماذا حدث؟ المنافق هكذا، المنافق ذنبه عليه سهل جداً أما المؤمن يعظم عليه ذنبه، حتى قال له صلى الله عليه وسلم: أكبر من عفو الله؟ قال: لا، عفو الله أكبر، العبرة من القصة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفوا المهمة، ورأوا أن أي مخالفة أو أي معصية تعيق هذه المهمة، تحجبهم عن مهمتهم.
طبعاً هذه الموضوعات لنا عودة لها في ثنيات هذا البحث الذي سوف نأخذه في دروس قادمة إن شاء الله.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور