الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، و أرٍنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام: بدأنا من درسين سابقين موضوع الكبائر، وذكرت لكم أنَّ الكبائر المألوفة كالقتل والزِنا والسرقة هذه يعرفها جميع المسلمين، ولكننا أردنا في هذا الدرس أن نلفت النظر إلى الكبائر التي يتوهمها الناس صغائر وهي كبائر،
ماذا تنفعك صلاتك وصيامك وحجك وزكاتك إن كنت ترتكب الكبائر وأنت لا تدري؟ الشيء الذي لا يُصدَّق أنَّ معظم المسلمين يرتكبون الكبائر وهم لا يشعرون، وبارتكابهم هذه الكبائر يقع حجابٌ كثيفٌ بينهم وبين ربهم، فهل تصدِّقون مثلاً أن قطيعة الرحم من الكبائر، الإنسان إذا امتنع عن زيارة أقربائه قد وقع في كبيرةٍ وهو لا يدري، إلا أن هناك تحفظاً لا بُدَّ من التنويه به،
طبعاً دع خيراً عليه الشر يربو، درء المفاسد مقدَّم على جلب المنافع، إذا كان في هذه الزيارة مفسدة، أو اختلاط، أو غيبة، أو نميمة، أو سخرية، أو استهزاء، هذا ليس من صلة الرحم في شيء، أمّا لك خالةٌ أو عمةٌ أو لك أختٌ أو لك بنتٌ في طرف المدينة أنت بعيدٌ عنها، لست متفرغاً لزيارتها، إذا قطعت هذه المرأة، بنت، أخت، خالة، عمّة، عن قصد، ولو زرتها لم ينشأ أي مخالفةٍ للشرع، فقد وقعت في كبيرةٍ، ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾
أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقد ذكرت لكم من قبل، أنَّ صلة الرحم لا كما يتوهم الناس قضية زيارة، هي تبدأ بزيارة وتمر بتفقُّد الأحوال، وقد تحتاج هذه الزيارة مع تفقُّد الأحوال إلى معونةٍ ثم تصل إلى الدعوة إلى الله، وقد تنتهي بالهدى إلى الله، يعني أعظم إنسان ذلك الذي لا ينسى أهله وأقاربه وأصدقائه، إذا عرف الله عزَّ وجل، واتصل به وسعد بقربه، لا ينسى الذين حوله، لا ينسى الذين ربَّوه، لا ينسى الذين تعبوا حتى أصبح بهذا الوضع، فلذلك صلة الرحم تبدأ بالزيارة وتمر بتفقُّد الأحوال، وقد يحتاج هذا التفقُّد إلى مساعدة، ثم ينتهي هذا بالدعوة إلى الله عزَّ وجل، فإذا استطعت من خلال صلة الرحم أن تأخذ بيد أقاربك إلى الله عزَّ وجل، وأن تدلّهم عليه، وأن تحملهم على طاعته، فقد حقَّقت من هذه العبادة أعلى غاياتك.
﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ (23)﴾
قطيعة الرحم تستحق لعنة الله عزَّ وجل، لذلك صنَّفها العلماء من الكبائر (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ) أمّا الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد والإمام البخاري، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ ))
استثنيت الصلة التي يُبنى عليها فساد، أمّا لو انتفى الفساد ولم تصل رحمك، وليس هناك عذرٌ فقد وقعت في كبيرةٍ، يبدو أنَّ الإسلام نظَّم الحياة على أساس التكافل الاجتماعي الأسري، يعني كل أسرةٍ متكفلةٌ بأفرادها، المجتمع مجموعة أُسر، فإذا كل أسرةٍ تفقدت أقرباءها، رعت شؤونهم، تفقدت أحوالهم، مدَّت لهم يد المساعدة، أخذت بيَدِهم إلى الله.
سمعت عن بعض الأبنية في الميسات، بناء من طوابقٍ عديدة، سكان هذا البناء على تفاهم جيد فيما بينهم، لهم جلسة كل يوم مُعيَّن في الأسبوع، فاتفقوا على أن يذهبوا جميعاً إلى مسجدٍ واحدٍ يوم الجمعة، واتفقوا على أن يسهروا في كل أسبوع يوماً، وأن يدعوا بعض الدُعاة ليلقي عليهم بعض المواعظ، هذا تعاون على أمر الدين، فإذا كان الجار الغريب، يتعاون مع جاره على أمر صلاح الدنيا وصلاح الآخرة، فكيف بالمؤمن؟ هؤلاء الذين حولك من لهم غيرك؟ الناس جميعاً أنت لهم وغيرك لهم، يوجد إنسان في الطريق أنت له وغيرك له وألف إنسانٍ له، أمّا الذين لا يعرفهم أحدٌ إلا أنت، أقرباؤك من لهم غيرك؟، فكل أسرةٍ إذا تفقدت أفرادها وعناصرها، التفقُّد يبدأ بالزيارة، ثم بالمساعدة، ثم بالدعوة إلى الله عزَّ وجل، نكون قد حقَّقنا من صلة الرحم الغاية التي أرادها الله عزَّ وجل، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري:
(( مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَه ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ ))
متفقٌ عليه، اتفق على هذا الحديث الإمام البخاري ومسلم.
من لوازم الإيمان صِلة الرحم، من لوازم الإيمان الإحسان إلى الجار، من لوازم الإيمان الإحسان إلى الأهل، هذا هو الدين، إذاً قطيعة الرحم كبيرة، أحياناً الإنسان يهتدي إلى الله، له أصدقاءٌ مؤمنون، إخوةٌ مؤمنون، ينضم إليهم انضماماً كُليِّاً وينسى أهله، قد لا يعجبه أهله، ولكن خُذ بيَدِهم، انصحهم، فكِّر في طريقةٍ تهديهم إلى الله عزَّ وجل، فكِّر في أسلوبٍ تُلقي فيهم صحوةً دينية، أنت مُكلفٌ بهم، وفي حديثٍ آخر رواه الإمام البخاري:
(( إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ حتَّى إذا فَرَغَ منهمْ قامَتِ الرَّحِمُ، فقالَتْ: هذا مَقامُ العائِذِ مِنَ القَطِيعَةِ، قالَ: نَعَمْ أما تَرْضَيْنَ أنْ أصِلَ مَن وصَلَكِ، وأَقْطَعَ مَن قَطَعَكِ؟ قالَتْ: بَلَى، قالَ: فَذاكِ لَكِ ثُمَّ قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ:{فَهلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فأصَمَّهُمْ وأَعْمَى أبْصارَهُمْ، أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أمْ علَى قُلُوبٍ أقْفالُها} [محمد: 22-24]. ))
من فضل الله عزَّ وجل أعمال صالحة أو كسب رزق:
لذلك مرَّ معنا في درس الجمعة:
﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(10)﴾
يعني بعد صلاة الجمعة إذا الإنسان عنده قائمة أقرباء، أخته، بنت أخته، خالته، عمَّته، أقرباء زوجته، ليعمل لهم زيارات دورية، يوم الجمعة هذا يوم عطلة ويوم عيد، هذا من لوازم صلاة الجمعة (وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) وفضل الله إمّا الأعمال الصالحة، أو كسب الرزق في الدنيا، وكلاهما من فضل الله عزَّ وجل، وفي حديثٍ آخر أخرجه الإمام البخاري:
(( مَن أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. ))
ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام؟
(( خير الناس من طَال عُمُرُه، وحَسُنَ عَمَلُهُ ))
من أراد أن يطول عمره وأن يحسُن عمله فليصل رحمه.
أحياناً الإنسان يتوهم أن الصلة زيارة، كما قلت قبل قليل، هناك هدفٌ كبيرٌ جداً وراء الزيارة، أحياناً نصيحة تسديها بإخلاصٍ تفعل فعل السحر، أحياناً ملاحظة تُبديها، أحياناً تبحث لابن أختك عن زوجٍ صالحٍ يأخذ بيدها إلى الله، فهذه الأسرة وما فيها من تقوى وصلاحٍ في صحيفتك، فلمّا الإنسان يقتطع من وقته وقتاً لزيارة أقربائه، يصلهم، يجبر خاطرهم، يكون قد قام بعملٍ عظيم، أحياناً الأخت حينما يزورها أخوها تفتخر به أمام زوجها، ويشعر زوجها أن لهذه الزوجة أقرباءٌ يحرصون على صِلتها، ولها عندهم شأنٌ كبير، أمّا إذا زوَّج أخته، ولم يفكِّر إطلاقاً في أن يزورها، هذا وقع في كبيرةٍ وهو لا يشعر، كبيرة قطيعة الرحم ، وفي حديثٍ رواه الإمام مسلم وأخرجه الإمام البخاري، قال عليه الصلاة والسلام:
(( الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ تَقُولُ مَن وصَلَنِي وصَلَهُ اللَّهُ، ومَن قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ ))
نستنبط من هذا أن قطيعة الرحم من الكبائر.
كيفية تصنيف العلماء القطيعة من الكبائر:
كيف صنَّف العلماء هذه القطيعة من الكبائر؟ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ) طبعاً أي إنسانٍ يُصلّي، ويشهد أنَّ لا إله إلا الله، ويشهد أنَّ محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت، فهو مسلمٌ، كيف تقطعه؟ بأي دعوةٍ؟ بأي حُجةٍ؟ ما الدليل على أنَّ قطيعتك له مُغطاةٌ في الشرع؟ أبداً لا يوجد تغطية، أمّا أن يقول لك أحدٌ: لا تزُر فلاناً، فهذا كلام خلاف الشرع.
وفي روايةٍ أُخرى لهذا الحديث يقول الله عزَّ وجل :
(( قالَ اللَّهُ: أَنا الرَّحمنُ وَهيَ الرَّحمُ، شَقَقتُ لَها اسمًا منَ اسمي، من وصلَها وصلتُهُ، ومن قطعَها بتتُّهُ ))
[ أخرجه الترمذي وأحمد وأبو داوود ]
أنا مرة ذكرت قصةً مؤثِّرة، إنسانٌ زار أخته وجدها على خلافٍ مع زوجها شديد، والخلاف على مبلغٍ بسيط، تطالبه بمبلغٍ كل شهر من أجل لباس الأولاد، وهو يمتنع لأن دخله محدود، هذا الأخ ليس غنياً لكن يستطيع أن يؤمِّن هذا المبلغ لأخته، فقال: دعوا هذه الخصومة، المبلغ خذيه منّي كل شهر، يقول لي هذا الأخ الكريم: على ستة أشهُر، أول الشهر يُقدِّم هذا المبلغ البسيط لأخته نيابةً عن زوجها، أي توفيقاً بينهما، بعد ستة أشهُر طلبت أخته أن يُجري لهم درساً أسبوعياً، أخته وبناتها، بدأ يعطيهم درساً بسيطاً، آيةً، وحديثاً، وحُكماً فقهياً، وقصةً من الصحابة، هذا الدرس استمر فترةً وانتهى بأنَّ كل بنات أخته قد تحجبنَّ، ثم استطاع أن يزوِّج ثلاثةً منهنّ من شبابٍ مؤمنين، هذا المبلغ البسيط الذي حلّ به مشكلة، انتهى إلى إحياء أُسر، انتهى إلى هداية، أربع فتياتٍ كُنَّ سافراتٍ، تحجبنَّ وسرنَّ في طريق الحق، بسبب هذه الزيارة التي أعقبتها مساعدة ثم أعقبتها هداية، هذا الذي أُريده، الشيء الذي يجب أن يبقى في ذهنك أنني مكلفٌ أن أرعى أهلي، إخوتي الذكور، أخواتي الإناث، خالاتي، عمَّاتي، أقربائي، أزورهم زياراتٍ دورية، أتفقَّد أحوالهم، إذا كانوا بحاجةٍ إلى مساعدةٍ أساعدهم، ثم أنصحهم وأدلّهم على الله، ممكن الآن أن تعطيهم شريطاً يستمعون إليه، ممكن أن تدعوهم إلى المسجد، أن تعمل لهم درساً، هذا الذي أقوله، فليكن في ذهن كلٍّ منّا، أنَّ قطيعة الرحم كبيرةٌ من الكبائر، من قوله تعالى: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ) ورأيتم الأحاديث الصحيحة، حديث الإمام البخاري، والحديث المتفق عليه، وكل الأحاديث التي تأمر بصلة الرحم، أحاديثٌ من أعلى مستويات الصِحة.
توعَّد الله عزَّ وجل قاطع الرحم باللعنة:
وفي قوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۙ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(25)﴾
(وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ) أمر الله أن تصل رحمك، فإذا قطعتها قال:
(أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار) وفي الحديث القدسي الذي أخرجه البزَّار من حديث ابن عباسٍ عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قول الله عزَّ وجل:
(أَنا الرَّحمنُ وَهيَ الرَّحمُ، شَقَقتُ لَها اسمًا منَ اسمي، من وصلَها وصلتُهُ، ومن قطعَها بتتُّهُ) ، وفي حديثٍ آخر وأخير عن ابن عباس:
(( بُلُّوا أرحامَكم ولو بالسَّلامِ ))
[ أخرجه الطبري والبيهقي ]
يعني اتصال هاتفي، لك خالة أو أخت، ولا يوجد وقتٌ لتزورها، اتصل بها، كيف الصحة بخير؟ نحن مشتاقون لكِ، هل يلزمكِ شيء؟ السلام عليكم، خمس كلمات هذه صِلة رحم، أحياناً الرسالة أو الاتصال الهاتفي، تقريباً ينوب مناب الصِلة، لكن أعلاها الصِلة والتفقُّد والمساعدة والدعوة إلى الله، لكن أدناها: (بُلُّوا أرحامَكم ولو بالسَّلامِ) بإلقاء السلام.
الشيء الثاني من الكبائر قطيعة الرحم، والكبيرة الأُخرى هي النميمة، قال تعالى:
﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)﴾
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه:
(( أنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ رَجُلًا يَنِمُّ الحَدِيثَ فقالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ. ))
النميمة تُفتِّت العلاقات و تدمرها:
أنا قلت لكم أول الدرس: نتوهم أن السرقة، والخمر، والقتل، والشرك من الكبائر، والتولي يوم الزحف، لكن النميمة وقطيعة الرحم أيضاً هذه من الكبائر:
(( مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا ))
يُعذبان من النميمة، فلان قال عنك كذا، وفلان قال عنك كذا، تفتَّتت العلاقات، وأصبح الشرخ قوياً، وأصبح المجتمع مُتفكِّكاً، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مالك في الموطأ:
(( إنَّ شَرَّ النَّاسِ، ذُو الوَجْهَيْنِ الذي يَأْتي هَؤُلاءِ بوَجْهٍ، وهَؤُلاءِ بوَجْهٍ. ))
وهذا شيءٌ منتشر بشكلٍ واسعٍ جداً، الإنسان ذكي، يعرف ما الذي يرضي هؤلاء، وما الذي يرضي هؤلاء، فإذا تكلم لهؤلاء بما يرضيهم وذمَّ هؤلاء، فلمّا التقى بالأوائل أرضاهم وذمَّ الآخرين، وقع في شرِّ عمله، وهو أنه صار ذا وجهين، وأنه يرتكب كبيرةً هي النميمة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( لا يُبلِّغُني أحدٌ عن أحدٍ من أصحابي شيئًا فإني أُحبُّ أن أخرجَ إليهم وأنا سليمُ الصدرِ ))
[ أخرجه الترمذي وأبو داوود وأحمد ]
أحياناً يكون هناك علاقةٌ متينة بين شخصين، يوجد أشخاص مختصون بقطيعة هذه العلاقات، يقطعون هذه العلاقات الوشيجة، قال عنك كذا، كنّا في مجلسٍ فورَد ذكرك فمطَّ شفتيه، أنت إنسان، كنّا في مجلسٍ فجاء ذكرك فلم يُثنِ عليك بل طعن بك، هذا كله ينتهي بالإنسان إلى الوقوع بالكبائر.
وعن كعبٍ قال: " اتَّقوا النَّميمةَ، فإنَّ صاحِبَها لا يستريحُ من عذابِ القبرِ" .
وفي قوله تعالى:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)﴾
(حَمَّالَةَ الْحَطَب) أي تمشي بالنميمة، النميمة وقطيعة الرحم من الكبائر.
ثالثاً: التطفيف بالكيل والميزان:
ومن الكبائر أيضاً، أنا أنتقي من الكبائر التي يظنها الناس صغائر، ومن الكبائر أيضاً التطفيف بالكيل والميزان، قال تعالى:
﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3) أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾
قال بعض العلماء: التطفيف نوعٌ من السرقة والخيانة، وأكل المال بالباطل، والتطفيف بتمرةٍ يجرح عدالة الإنسان.
(( إذا ظننتم فلا تَحَقَّقُوا، وإذا حسدْتُم فلا تبْغُوا، وإذا تطيَّرْتم فامضُوا، وعلى اللهِ فتوكَلُوا، وإذا وزنْتُم فأرْجِحُوا. ))
فالبضائع التي تباع بالأطوال، إذا قاس الثوب ليبيعه شدَّه، وإذا قاسه ليشتريه أرخى الثوب وجعله خطٍ منحنٍ، إذا اشترى الخط منحني، أمّا إذا باع الثوب مشدود هذا مُطفِّف، في الوزن يبيع شيئاً ثميناً جداً، يوزن معه الكرتون، أحياناً الشاي والقهوة يضعها بكيس وزنه ثقيل، كيلو الأكياس هذا لا يساوي كيلو القهوة، سعر الأكياس خمسين ليرة، والقهوة بثلاثمائة وخمسين، فعندما تزن هذه الأشياء الغالية بعبوات لها وزن، أحياناً تجد العبوة الخشبية وزنها خمسة كيلو أو عشرة كيلو وهي حطب، أربع قطع كبيرة جداً يحسبها بأنها كيليين، وهي قد تكون أربعة كيلو أو خمسة كيلو، يوجد كيلو ثمنه خمسين ليرة أو أربعين، وهناك فاكهة غالية جداً، فإذا حسم كليين وكان وزنها أربعة كيلو ماذا حدث؟ صار تطفيف، فربنا عزَّ وجل قال: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) أحياناً يلقي البضاعة بكفّة الميزان إلقاءً شديداً، ثم يحملها ويقول لك: تفضل، بهذه الطريقة أنت أعطيتها وزناً مع دفع، فالكفَّة رجحت، ثم أمسك بقطعة اللحم وقدَّمها لك، هذا لا يجوز، أحياناً يوجد مروحة عندما يأتي هواءها إلى الكفّة يضع لك الوزن، هواء المروحة الضاغط يُرجِّح الكفَّة، أيضاً هذا تطفيف، الله قال: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) بالأطوال، بالمكاييل، بالأوزان، بطريقة البيع، هذا كله يدخل في ذلك، العلماء قالوا: "التطفيف ضربٌ من السرقة والخيانة، وأكل المال بالباطل"، والعلماء قالوا أيضاً: "التطفيف بتمرة واحدة يجرح العدالة" .
رابعاً: الأمن من مكر الله:
الآن يوجد شيء قد لا تصدِّقونه، الأمن من مكر الله من الكبائر، يعني مقيم على معاصي وهو مرتاحٌ جداً، ما عنده مشكلة، هو يأمن مكر الله، قال تعالى:
﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)﴾
يوجد في الدخل شُبهة، يوجد ترك للصلوات، يوجد إطلاق للبصر، يوجد جلسات مختلطة، يوجد كلام باطل، يوجد غيبة، يوجد نميمة، يوجد لعب نرد إلى الساعة الواحدة مساءً، يوجد تناول الدخان، لا يوجد عنده مشكلة أبداً، مرتاح، هذه الراحة تعني أنه يأمن مكر الله، كأن الله عزَّ وجل لن يعاقبه، أو لن يؤدِّبه، أو لن يسوق له بعض الشدائد، لا يخاف الله عزَّ وجل.
(( رأسُ الحكمَةِ مخافَةُ اللهِ تعالى ))
[ أخرجه أبو داوود والبيهقي ]
فالأمن من مكر الله من الكبائر (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) .
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ(44)﴾
قال له: يجب أن تصل إلى الشام بعد ساعتين وعشر دقائق، معه أرقى سيارة، بعد دقائق كان قطعتين، ترك ألفي مليون (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) على أي شيءٍ مستند؟ من يضمن أن نعيش بعد ساعة؟ من يضمن ألا تنمو في جسمنا نموُّاً عشوائياً بعض الخلايا؟ من يضمن أن نصل إلى بيوتنا؟ من يضمن إذا نمنا أن نستيقظ وإذا استيقظنا أن ننام؟ فكل إنسان يأمن مكر الله يرتكب كبيرة، معنى هذا أنه لا يتوب (حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً) .
﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)﴾
إذاً الأمن من مكر الله من الكبائر، أن تكون مطمئناً ولست مستقيماً، أن تكون مطمئناً ولست على حق، وفي رقبتك حقوق لم تؤدِها، أن تكون مطمئناً وأنت قاطع رحم، أن تكون مطمئناً وتارك صلاة، أن تكون مطمئناً وتلعب بالنرد، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( من لَعِبَ بالنَّرْد شيرِ فكأنَّما غمَس يدَه في لحمِ خنزيرٍ ودمِه ))
أن تقيم على المعاصي، وأن تأمن عقاب الله عزَّ وجل، هذا اسمه في كتاب الكبائر، الأمن من مكر الله (فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) .
خامساً: القنوط من روح الله:
عندنا من هذه الكبائر أن تقنط من روح الله، أن تقنط من نصر الله، هناك شخصٌ تضعف معنوياته إلى درجةٍ أنه يقع، لم يبقَ عنده أملٌ بأنَّ الله ينصره، لا مصلحة للإله بأن يُعذبك،
يوجد مشكلة ابحث عنها، إذا إنسان ركب سيارة فتوقفت، يجلس ويندب حظه ويضرب نفسه؟! أم يفتح غطاء المحرك ويبحث عن الخطأ، ابحث عن غلطٍ، ابحث عن معصيةٍ، فلو جلس وندب حظه وبكى وضرب نفسه، لم يستفد شيئاً بقي في مكانه، لو رفع غطاء المحرك ووجد الخطأ وأصلحه، وسار في طريقه، النقطة الدقيقة إذا الإنسان رأى الأمور ضده، أينما فتح بابٌ يُغلَق، معنى هذا أنه يوجد عنده علةٌ كبيرة، يبحث عنها عوضاً من أن يجلس، وتضعف همته، وييأس من روح الله، يجب أن يعمل على أن يُصلِح ما اختلَّ من سلوكه، يقول الله عزَّ وجل:
﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)﴾
مرةً التقيت مع أخٍ هو عضوٌ في حوض دمشق، ذكر كلاماً لم يستطع أحدٌ من الحاضرين الوقوف منه، بأنَّ مستوى المياه الجوفية انخفض إلى درجةٍ أنَّ الشام مهددة بالجفاف، ولا بُدَّ من أن يرحل عنها أهلها، ومعه أدلة، هو طبيب، ومثقف ثقافةً عاليةً جداً، وعضوٌ في لجنة حوض دمشق، منسوب المياه الجوفية هابط هبوطاً مخيفاً، ويبدو أنَّ الأمر استقر هكذا، ونحن انتقل خط الجفاف إلينا، ولا يوجد أمل، في العام الذي يليه كانت نسب الأمطار ثلاثمائة وخمسين مليمتراً في دمشق، أمّا المعدَّل السنوي مئتان واثنا عشر، هبط ثلاثمائة وخمسين مليمتراً، أكثر من أربعين نبعاً تفجرت كانت قد جفت من ثلاثين عاماً، مياه منين وصلت إلى برزة، عين الصاحب عاد فانفجر، شيءٌ مخيف! ثلاثمائة وخمسين مليمتراً ينزل في عامٍ واحد، والمُعدَّل السنوي منذ عشرين سنة أو ثلاثين سنة مئتان واثنا عشر، هذا لم يكن في حسبانه! وجاءت سنوات والحمد لله خير، سنة ثلاثمئة، وسنة ثانية مئتان وخمسون، وهذه السنة مئة وثمانون على ما أعتقد، على كلٍّ أين هذا اليأس؟ انتهى اليأس (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) .
الله عزَّ وجل يخلق الفرَج بعد الشدة، يخلق الفرَج بعد الضيق، يخلق من الضعف قوةً، من الفقر غنىً.
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
يوجد نهي، قال عليه الصلاة والسلام:
(( لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهو يُحْسِنُ الظَّنَّ باللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ))
أي اجتهد في معرفة الله إلى أن تصل إلى الإيمان الصحيح، الذي قوامه حسن الظنِّ بالله، فصار القنوط من رحمة الله واليأس من رحمة الله من الكبائر، والأمن من مكر الله من الكبائر، وقطيعة الرحم من الكبائر، والنميمة من الكبائر.
أمّا الآن يوجد كبيرة من الصعب جداً أن تخطر في بال أحدكم، إنسان خدمك ولم تحسن إليه، ولم تعرف قيمة خدمته، ولم تشكره على عمله، هل هذه كبيرة؟ نعم كبيرة، قال تعالى:
﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)﴾
أمر، وقال عليه الصلاة والسلام:
(( لا يَشكُرُ اللهَ مَن لا يَشكُرُ النَّاسَ. ))
[ أخرجه الترمذي وأحمد وأبو داوود ]
إنسانٌ أُسدي له معروفاً فلم يشكره، تنكَّر له.
أُعَلِّـمُهُ الرِّمَـايةَ كُلَّ يَـومٍ فَلمَّـا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمانِي
وَكَمْ عَلَّمْتُـهُ نَظْمَ القَوَافي فَلَـمَّـا قـَالَ قَافِيـةً هَجـانِي
هنا يوجد إساءة، رجلٌ أُسديَ له معروفاً يجب ألا ينسى هذا المعروف، يجب أن يرد عليه بمعروفٍ مثله، يجب أن يصمت أقل الدرجات، أمّا أن يُسيء فهذا من الكبائر، كفران النعمة من الكبائر، لذلك العلماء بمقاييس الكبائر عددوا سبعين كبيرة، إذا جمعنا الآيات التي فيها لعن
﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ۖ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)﴾
﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)﴾
التي فيها غضب، التي فيها ليس منّا، هذا لا ينتمي إلى المسلمين، التي فيها عقابٌ شديد، توعُّد بعقابٍ شديد، التي فيها دخول النار.
(( عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ في هِرَّةٍ سَجَنَتْها حتَّى ماتَتْ، فَدَخَلَتْ فيها النَّارَ، لا هي أطْعَمَتْها ولا سَقَتْها، إذْ حَبَسَتْها، ولا هي تَرَكَتْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ. ))
هذه كبيرة تستوجب النار، أنت اعرف القواعد، كل سلوكٍ توعَّد الله صاحبه بالنار فهو كبيرة، كل عمل توعَّد الله صاحبه باللعن فهو كبيرة، بالغضب فهو كبيرة.
قال بعض السلف: "كفران النعمة من الكبائر، وشكرها بالمجازاة أو بالدعاء" ، قال عليه الصلاة والسلام:
(( من استعاذكم بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أتى إليكم معروفًا فكافئوه ، فإن لم تجدوا فادْعُوا له، حتى تَعلَموا أنْ قد كافأتُموه ))
إمّا أن ترد على العمل الصالح بعملٍ صالح، إمّا أن ترد على الهدية بهديةٍ مثلها، وإمّا أن تدعو له حتى تعلم أنك قد كافأته، أما إنسان قدَّم لك خدمة، فيجب أن تُقدِّم له خدمة.
مرةً كنت أُصلّي الفجر في جامع العفيف وكان يوجد درس كما هو في النابلسي، دخلت إلى البيت بعد الدرس وأداء الصلاة، ما إن استلقيت حتى قرع الجرس، قلت: من هذا الذي جاء بهذا الوقت؟ وقتٌ غير مألوف، فخرجت لأتفقد الذي طرق الباب فإذا طفلٌ صغير قال: نسيت المفاتيح على الباب، وجدت لفتة لطيفة جداً أنه وجد المفاتيح وأخبرني، فأنا قلت له: شكراً ودخلت إلى البيت، ما إن أضجعت مرةً أُخرى قلت ما معنى كلمة شكراً لهذا الطفل الصغير؟ هذا كلام لا معنى له، فبحثت عن بعض الأشياء اللطيفة في البيت وتبعته، وكان قد وصل إلى نهاية الشارع، وقدّمت له هديةً أُعبِّر بها عن أنه لفت نظر إنسان يوجد مفاتيح على الباب (ومن أتى إليكم معروفًا فكافئوه) كن نبيه، أي شيء قُدِّم لك أقل شيء اشكره عليه، أقل شيء قل له: شكراً أكرمتنا، والأبلغ أن ترد عليه بهديةٍ بمثلها، خدمك خدمة اخدمه خدمة، قدَّم لك هدية قدِّم له هدية، هناك أشخاص يعتبروا الهدايا دَين وهذا الصواب، النبي قال:
(( تَهَادُوا تَحَابُّوا ))
التهادي فعل فيه مشاركة، تُقدِّم له ويُقدِّم لك، تُعينه ويُعينك، تزوره ويزورك، هذا فعل فيه مشاركة، فلذلك الإنسان إذا شكرنا بعضنا دائماً المعروف ينمو، أمّا إذا ما شكرنا بعضنا فالمعروف يموت، رجلٌ يركب حصاناً في الصحراء رأى شخصاً فقيراً بلا حذاء بلا نعل، ورمال الصحراء محرقة، دعاه إلى ركوب الخيل، ما إن اعتلى ظهر الخيل- كان أحد لصوص الخيل- حتى دفع صاحبها نحو الأرض، وعدا بها لا يلوي على شيء، قال له صاحب الفرس: يا هذا لقد تنازلت لك عن الفرس ولن أسأل عنها بعد اليوم، ولكن إياك أن يشيع هذا الخبر في الصحراء فتذهب المروءة، وبذهابها يذهب أجمل ما فيها.
نحن إذا كل واحد خدم الثاني خدمةً وشكره شكرٌ حقيقي، وإذا كان قادراً ردّ هذه الخدمة بخدمةٍ مشابهة، وردّ الهدية بهديةٍ، تتنامى العلاقات وتتمتَّن الأواصر، أمّا إذا قُدَّمت لك خدمة ولم تتنازل أن تشكر صاحبها عليها، عددتها فرضاً يؤدّى إليك، فبعد حين تتقطع الصِلات، ويتفتَّت المجتمع، لذلك منع الماعون هو الذي تُقدَّم له خدمة فلا يرد عليها، والآن لمّا الناس تنكَّروا للخير بسبب الجحود عند بعض الناس، يريد أن يدهن بيته فاستعار بيت جاره وقال له: عشرة أيام، هذه السنة رقم خمس عشرة وهم بالمحاكم، استعار البيت عشرة أيام ليدهن بيته، فتملَّكه واعتبر نفسه مستأجراً وقال له: هذه المحاكم، يوجد سبعمائة ألف بيت في الشام مغلقين، لا يوجد عندنا أزمة سكن ولكن أزمة إسكان، سبعمائة ألف بيت، إحصاء دقيق، كلها على المفتاح مغلقة، ولو قدّمت بيتاً إلى إنسان تملَّكه وانتهى الأمر، لا يوجد عهد.
أحياناً تجد شخصاً في الطريق لا تُركبه معك تخاف، قد يكون معه مخدرات، قد يكون مسيئاً، هذه الإساءة ترى السيارات فارغة، قد يكون عنده مشكلة فتتورط معه، فلذلك منع الماعون، وعندما الإنسان يتنكَّر لصانعي الخير، يكون قد قطع الخير في المجتمع، والحقيقة نحن يجب أن نعود إلى هذه السُنَّة، أمّا أن يكون كُفران النعمة من الكبائر، إنسان خدمك، رعاك، قدَّم لك شيئاً، نصحك تُسيء إليه؟! والله أسمع قصصاً عمّا يجري في المجتمع من الجحود وتنكُّر الجميل، شيءٌ لا يصدق، أن الإنسان وصل إلى هذا المستوى، باعك بضاعةً وخفَّض لك بثمنها وأعطاك إياها بالدَين، وخبرت عنه هل هذا معقول؟ أحياناً ترى موظفاً بمحل، رعاه رعايةً طويلة، وقدَّم له أشياءً كثيرة، ثم اشتكى عليه وأوقعه بمشاكل لا تنتهي، الإنسان إذا انقطع عن الله عزَّ وجل يصبح وحشاً، حسّه مُتلبِّد لا يوجد عنده إحساس بالعمل الصالح أبداً، مع أنَّ المؤمن مأمور، اصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله، إن أصبت أهله أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت أهله .
آخر كبيرة هو الذي يترك صلاة الجمعة من الكبائر، قال عليه الصلاة والسلام عن ابن مسعود رضي الله عنه:
(( أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الجُمُعَةِ: لقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بالنَّاسِ، ثُمَّ أُحَرِّقَ علَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ ))
أكبر شيءٍ أن تحرق له بيته، أو أن تهدم له بيته، هناك أُناسٌ يهدمون البيوت، أمّا هنا فالنبي قال: (هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بالنَّاسِ، ثُمَّ أُحَرِّقَ علَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ) لأن هذه عبادة تعليمية، وفي حديثٍ آخر يقول عليه الصلاة والسلام:
(( أنَّهُما سَمِعا رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ علَى أعْوادِ مِنْبَرِهِ :لَيَنْتَهينَّ أقْوامٌ عن ودْعِهِمُ الجُمُعاتِ ، أوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ علَى قُلُوبِهِمْ ، ثُمَّ لَيَكونُنَّ مِنَ الغافِلِينَ . ))
عَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( مَنْ تَرَكَ ثَلاثَ جُمَعٍ تَهاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللهُ علَى قلْبِه ))
[ أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وأبو داوود ]
والأحاديث المتعلقة بصلاة الجمعة تزيد عن مائتي حديث وكلها في الصِحاح، وذكرت هذا يوم الجمعة في درس الجمعة.
نمر سريعاً على هذه الكبائر، ترك صلاة الجمعة من الكبائر
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9)﴾
وذكر الله هو الخطبة كما قال معظم المفسرين، التطفيف من الكبائر، الوزن، الكيل، المساحة، العدد من الكبائر، اليأس من روح الله من الكبائر، كُفر النعمة، عدم شكر الناس من الكبائر، أشياء دقيقة جداً، النميمة من الكبائر، قطيعة الرحم من الكبائر، يوجد في الأسواق كتاب الكبائر فيه سبعين كبيرة، وكلها بالأدلة الصحيحة بالآيات والأحاديث، فالإنسان إذا اجتنب الكبائر فهو في بحبوحةٍ من أمر دينه، والله عزَّ وجل يقول:
﴿ إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا (31)﴾
الملف مدقق