- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠14برنامج ربيع الإيمان - قناة اليرموك
مقدمة :
المذيع :
أعزائي المشاهدين ؛ السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، مرحباً بكم إلى أولى حلقات برنامج : "ربيع الإيمان" ، اليوم سنتكلم مع فضيلة أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، أهلاً وسهلاً فضيلة الشيخ .
الدكتور راتب :
بارك الله بكم ونفع بكم إن شاء الله .
المذيع :
سنتحدث اليوم عن الإنسان هذا المخلوق المكرم ، وسيوضح لنا الشيخ هذا المعنى ، استفدت من الشيخ فائدة أود أن تكون عنواناً لهذه الحلقة ، قلت لي سيدي إن التعمق هو أساس المتعة في العلم ، نريد أن نتعمق اليوم في معرفة هذا المخلوق العظيم .
الإنسان هو المخلوق الأول رتبة :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم ، إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أستاذ طالب جزاك الله خيراً ، من عرف نفسه عرف ربه ، أنا لا أعتقد أن هناك معرفة تفوق في أهميتها عن أن يعرف الإنسان نفسه ، أنت من ؟ أنت المخلوق الأول رتبة، والدليل وقد قيل : لولا الدليل لقال من شاء ما شاء ، قال تعالى :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
أنا أعطيت الكلمات الأخيرة في الآية معنى استفهامياً ، هل كان ظلوماً جهولاً حينما رغب أن يكون المخلوق الأول ؟
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
فإذا كلف حمل الأمانة ولم يحملها ، وخان الأمانة ، إنه كان ظلوماً جهولاً ، تقرير ، قد نقرأ الآيات الأخيرة في الآية قراءة استفهامية ، وقد نقرؤها قراءة تقريرية ، أي حينما تعرض على أولادك من يأتي بدكتوراه من بلاد بعيدة أعطيه نصف المعمل ، لك عشرة أولاد ، كل ولد له بيت ومركبة وزوجة ومصروف يكفي حاجته ، أحد هؤلاء الأولاد تنطح لهذا المقام قال : أنا يا أبت أهل لها ، والحقيقة تفوق ، فإن لم يحقق هذا الهدف كان دون كل أخوته ، لذلك رُكِّب الملَك من عقلٍ بلا شهوة ، وركب الحيوان من شهوة بلا عقل ، وركب الإنسان من كليهما ، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان ، الدليل القرآني ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾
خير ما برأ الله ، الإنسان إذا عرف الله كان في قمة المخلوقات ، المخلوق الأول ، أما إذا خان الأمانة ، ولم يحملها ، ولم يتبع منهج الله عز وجل ، كان دون أحقر مخلوق في الكون، قال تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾
فبين أن تكون فوق الملائكة وبين أن يكون من شرد عن الله عز وجل دون الحيوان، هذا المقام مقام كبير ، يمكن أن يأخذ الطيار مبلغاً فلكياً ولكن لا يوجد حل وسط ، لا يستطيع أن يضع الطائرة في مكان ويذهب إلى بيته ، إما أن تسقط فينتهي ، أو أن ينجح فيتمتع بدخل كبير جداً .
المذيع :
سيدي ما هي مكونات هذا الإنسان الذي من أجله خلقت السموات و الأرض ؟
أيّ شيء خلقه الله له وظيفتان ؛ نفعيّة وإرشاديّة :
الدكتور راتب :
هو أولاً المخلوق الأول رتبة ، لأنه قبِل حمل الأمانة ، سخر الله له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه ، هذا التسخير نوعان ؛ تسخير تعريف وتسخير تكريم ، أي شيء خلقه الله ؛ القمر مثلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(( هِلالٌ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ))
له وظيفة نفعية ، وله وظيفة إرشادية ، كل شيء خلقه الله من دون استثناء ، المجرات ، الذرة ، المخلوقات ، الحيوانات ، النباتات ، الأطيار ، الأسماك ، الأشجار ، النبات ، أي شيء خلقه الله عز وجل له وظيفتان وظيفة نفعية ، ووظيفة إرشادية .
المذيع :
دكتور قلت مرة : إن هناك آيات في القرآن الكريم بعنوان لكم ، الله عز وجل خلقها لكم .
تسخير السموات و الأرض للإنسان :
الدكتور راتب :
﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ﴾
هو لأنه قبِل حمل الأمانة سخر الله له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه ، ومن البديهي أن المسخر له أكرم من المسخر .
المذيع :
سيدي ضربت مثالاً جميلاً على هذا الموضوع قلت : البقرة تنتج في اليوم أكثر من ستين لتراً .
الدكتور راتب :
سبعون كيلو تقريباً حاجتها أربعة كيلو ، والباقي للإنسان ، قال تعالى :
﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ﴾
لكم جاءت في آيات كثيرة ، لذلك أحد أسباب إيمان إنسان ألماني أن ما تنتجه البقرة من حليب يفوق حاجة وليدها ، معنى هذا أنها مصممة لشيء آخر ، كل شيء مخلوق لخدمة الإنسان لأنه مسخر له ، لأنه قبل حمل الأمانة ، لكن مع الأسف الشديد حينما لا يأخذ الأمانة كما أراد الله ويقصر في حملها أي مخلوق مسخر له أكرم عند الله منه .
المذيع :
سيدي لم نفسر معنى الأمانة في الآية ؟
تميز الإنسان عن باقي المخلوقات بالجانب العلوي أي بالعقل :
الدكتور راتب :
الحقيقة الحيوانات عطاؤهم من الله الشهوة وليسوا مكلفين ، هذا الحيوان يأكل هذا الحشيش ، أي حيوان عطاؤه من الله حاجاته ، أي الملك حاجته عقلية ، الحيوانات الحاجات مادية ، أما الإنسان فجمع بين الحاجتين ، جانب علوي وجانب سفلي ، الجانب السفلي يلتقي مع بقية المخلوقات فيه ، يأكل يتزوج ينجب ، يلتقي مع بقية المخلوقات ، أما الجانب العلوي فيتميز به ، معنى ذلك أن أي إنسان عكف عن طلب العلم لم يلبِّ حاجة عقله ، هناك حاجات دنيا من الطعام والشراب وما إلى ذلك ، وهناك حاجات عليا ، أي إنسان أعرض عن حاجاته العليا لم يسأل من خلقني ؟ لماذا خلقني ؟ لماذا جاء بي إلى الدنيا ؟ ماذا بعد الموت ؟ أين كنت قبل أن آتي ؟ هذه أسئلة كبيرة جداً .
هنا يحضرني مقولة دقيقة : ليس كل ذكي بعاقل ، قد تجد إنساناً يحمل أعلى شهادة في الفيزياء النووية مثلاً لكن لأنه ما عرف الله ، وما أطاعه ، وما عرف سرّ وجوده ، وما عرف ماذا بعد الموت ، لا يعد عاقلاً ، لذلك ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مجنوناً في الطريق ، فسأل أصحابه سؤال العارف : من هذا ؟ قالوا : هذا مجنون ، قال : لا ، إنه مبتلى ، المجنون من عصى الله .
المذيع :
لأنه لا عقل له . ما الفرق بين العاقل والذكي ؟
الفرق بين العاقل و الذكي :
الدكتور راتب :
الموضوع دقيق جداً ، اكتشف قبل سنة تقريباً ، لأن الآية الكريمة :
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾
الآن ثبت أن هناك خلايا عصبية تحيط بالقلب ، وهي أقوى من خلايا الدماغ بخمسين ألف مرة ، وهي تسير الدماغ ، فإذا قال تعالى :
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾
طبعاً هذا الكشف مذهل ، بدأ في فرنسا وطبعاً بالأنترنيت موجود ، كيف القلب هو الذي يعقل والقرآن قبل ألف وأربعمئة عام قال تعالى :
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾
كأن هذا تقريب للأخوة المشاهدين ، الذاكرة في الكومبيوتر هي الرام ، والهارد هو العقل ، الذاكرة مجموعة معلومات محشوة في جهاز معين ، فإذا مات وفنيت الذاكرة المعلومات ذهبت ، أما العقل ففي القلب ، والقلب تقريباً بتعبير آخر المعلومات مدرجة في القلب بشكل ميكانيكي لا بشكل كهربائي .
المذيع :
ما الفرق دكتور ؟
الدكتور راتب :
القلب الذي عقلته لا يزول إلا بعد الموت ، عقل عرف الله في الدنيا وأطاعه ، القلب هنا قلب النفس ، من أنت أيها الإنسان ؟ أنت جسم هو الوعاء ، والنفس هي الذات ، والعقل هو جهاز كآلة حاسبة ، من أنت ؟ أنت النفس والدليل ، قال تعالى :
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾
﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾
من أنت ؟ أنت نفسك ، نفس الإنسان هي ذاته ، هي التي تؤمن ، هي التي تكفر ، ترقى تسقط ، تعطي تمنع ، تغضب ترضى ، الإنسان له نفس ، أما هذا الجسم فوعاء ، وهذه الروح قوة محركة ، كالكهرباء في الآلة ، الروح إمداد الله لهذا الإنسان ، عند الموت يتوقف الإمداد ، لو وزنا ميتاً لا ينقص ولا ميليغرام ، الإمداد توقف .
المذيع :
أعزائي المشاهدين فاصل ونعود إلى الحديث الممتع مع فضيلة أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ...
الروح هي إمداد من الله عز وجل ، هذا التعمق الجميل الذي بينته دكتور عندما تكلمت عن أن الجسم وعاء والنفس هي الذات والعقل المعالج والروح هي الإمداد من الله عز وجل ، هل هناك تقسيم آخر لمكونات الإنسان ؟
الإنسان عقل يدرك وقلب يحب وجسم يتحرك :
الدكتور راتب :
هو عقل يدرك ، وقلب يحب ، وجسم يتحرك ، العقل غذاؤه العلم ، والقلب غذاؤه الحب ، والجسم غذاؤه الطعام والشراب ، وحينما يلبي حاجات عقله وقلبه وجسمه معاً يتفوق ، فإذا لبى حاجة واحدة أو حاجتين وأهمل الثالثة يتطرف ، وفرق كبير بين التطرف والتفوق ، حاجة العقل العلم ، لا بد من معلومات دقيقة عميقة صحيحة يقينية ، قال تعالى :
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾
لا بد من أن يغذي الإنسان عقله بالعلم ، لكن هذا القلب يحتاج إلى حب ، فإذا أحبّ الله عز وجل أحبّ الخير ، أحبّ الإنسان ، أحبّ العمل الصالح ، أحبّ لقاء الله ، هذا الحب يسمو به ، لكن الحب أحياناً لا يسمو بالإنسان إذا أحبّ حباً غريزياً بخلاف منهج الله ، هذا الحب يهوي به ، أما إذا أحبّ الذات الإلهية وخضع لمنهجه واتصل به ، فهذا الحب العلوي هو الذي يسمو بالإنسان .
المذيع :
الإنسان عقل يدرك وقلب يحب وجسم يتحرك .
الدكتور راتب :
يحتاج إلى الطعام والشراب و الكساء ، الإنسان بحاجة إلى عمل ، ليكسب رزقه ، بحاجة إلى أولاد ، بحاجة إلى مسكن ، فحينما تلبي الحاجات بشكل متناسق يتفوق الإنسان ، فإذا لبى حاجة وأهمل البقية يتطرف .
المذيع :
سيدي هذا يقودنا إلى سؤال مركزي ، وربما البشرية تعاني من الإجابة عن هذا السؤال : لماذا خلق الإنسان ؟
الحكمة من خلق الإنسان :
الدكتور راتب :
أولاً : لا يوجد إنسان بأدنى درجة من الوعي إلا يكون له هدف وراء أعماله ، فخالق الأكوان يخلق هذا الإنسان ، لماذا خلقه ؟ قد نستنبط علة الخلق للتأمل ، لكن نحن معنا قرآن ، معنا كلام خالق الأكوان ، قال تعالى :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
فالعبادة علة وجودنا ، لكن لئلا يفهم بعض الأخوة الكرام المفهوم الضيق للعبادة ، صلى وصام وحج وزكى ، لا ، العبادة خضوع هذا الإنسان لمنهج الله عز وجل ، منهج الله يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية ، منهج شمولي ، منهج يغطي حاجات الإنسان جسماً وعقلاً وروحاً وقلباً وأسرة وعملاً وحرفة ومهنة واجتماعاً ولقاءً وتألقاً ، بل إن الإنسان أودع الله فيه من باب الاختصار حاجات ثلاث ؛ يوجد آلاف الحاجات ، لكن أضخم الحاجات الحاجة إلى الطعام والشراب حفاظاً على بقاء الفرد ، والحاجة إلى الطرف الآخر ، إلى زوجة إن كان رجلاً ، وحاجة المرأة إلى زوج إن كانت امرأة ، حفاظاً على بقاء النوع ، وأهم حاجة وهي الثالثة تأكيد الذات ، التفوق حفاظاً على بقاء الذكر ، أنت بحاجة إلى بقاء الجسم بالطعام والشراب ، بحاجة إلى بقاء النوع بالزواج ، بحاجة إلى بقاء الذكر بالعمل الصالح ، فالإنسان وفق منهج الله بإمكانه أن يلبي كل هذه الحاجات .
المذيع :
سيدي نحن نعاني بشكل مؤسف جداً من تقزيم معنى العبادات ، ونحن ندرك أن الله خلقنا للعبادة ، فكثير من الناس يظنون العبادة على أنها صلاة وصيام وزكاة وحج وتسبيح وعمرة، وهذا فهم لا شك أنه فهم قاصر ، لو كان هذا الفهم الصحيح لكان أحسن الناس أعبد الناس ، هل هذا الفهم صحيح ؟
الدين الإسلامي منهج تفصيلي متكامل :
الدكتور راتب :
الذي تفضلت به تحت عنوان صغير ، العبادات الشعائرية أما التعاملية ، فالعبادة أولاً خضوع لمنهج الله التفصيلي ، منهج فيه صلاة ، صوم ، حج ، زكاة ، لكن هناك أمراً بالصدق ، والأمانة ، والإحسان ، والإنصاف ، والعدل ، يؤكد العبادة التعاملية أن سيدنا جعفر رضي الله عنه حينما سأله النجاشي عن الإسلام ، فقال :
(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك ، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لتوحيده ، ولنعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ))
أنا أقول لك كلمة : أحد أكبر أسباب انحطاط المسلمين هو ضعف العبادة التعاملية ، أحد أكبر الأسباب ، لأن العبادة الشعائرية تشبه ثلاث ساعات الامتحان ، والعبادة التعاملية العام الدراسي بكامله ، الذي لم يداوم أصلاً ، ولم يقرأ أي كتاب ، ماذا يفعل بهذه الساعات الثلاث ؟ لن تنفعه ، الدين متكامل ، الدين منهج تفصيلي في معاملة الزوجة ، في تربية الأولاد ، في كسب المال ، في إنفاق المال ، في أخذ المباحات ، في ترك المحرمات ، في الفضائل ، الدين منهج تفصيلي كبير جداً ، هذا المنهج إذا طبقه الإنسان حقق وجوده ، لأن الله عز وجل خلقنا ليرحمنا ، قال تعالى :
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
خلقنا للسعادة ، خلقنا لجنتين ؛ جنة الدنيا وجنة الآخرة ، خلقنا لجنة عرضها السموات والأرض ، فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
الصفة الأولى في المؤمن هي العطاء لأنه مخلوق للجنة :
إذاً نحن مخلوقون للجنة ، والإنسان حينما يؤمن أنه مخلوق للجنة الآن عرف سرّ وجوده ، والدليل القوي أن الله عز وجل قال :
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾
صدق أنه مخلوق للجنة ، فلما صدق أنه مخلوق للجنة اتقى أن يعصي الله ، وبنى حياته على العطاء ، قال تعالى :
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾
لما كذب بالجنة وآمن بالدنيا استغنى عن طاعة الله ، بنى حياته على الأخذ ، لذلك الصفة الأولى في المؤمن العطاء ، والصفة الأولى بغير المؤمن الأخذ .
هناك إنسان قدم كتاباً لسيدنا رسول الله فقال له : " يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ ، يا من قدست الوجود كله ، ورعيت قضية الإنسان ، يا من زكيت سيادة العقل ونهنهت غريزة القطيع ، يا من هيأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع ، فعشت واحداً بين الجميع ، يا من كانت الرحمة مهجتك ، والعدل شريعتك ، والحب فطرتك ، والسمو حرفتك ، ومشكلات الناس عبادتك ".
فالإنسان عقل يدرك ، والعقل غذاؤه العلم ، وقلب يحب ، والقلب غذاؤه الحب ، وجسم يتحرك ، وغذاؤه الطعام والشراب .
المذيع :
سيدي هذا يقودنا نحو السؤال : هل الإنسان مخير أم مسير ؟
الإنسان مخير :
الدكتور راتب :
سيدي لو ألغيت اختيار الإنسان لألغيت الجنة والنار ، والثواب والعقاب ، والخير والشر ، والأمانة والتكليف ، حينما يقدر الله على عبد أن يشرب الخمر كيف يحاسبه ؟ مستحيل، ألغيت المحاسبة ، كما قال سيدنا علي : إن الله أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً ولم يكلف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، لو ألغيت الاختيار ألغيت كل شيء ، قال تعالى :
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾
﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾
في اللحظة التي ألغي الاختيار ألغي الدين ، ألغيت الجنة والنار ، ألغي الثواب والعقاب ، ألغي العمل الصالح ، ألغي تقييم الإنسان .
المذيع :
سيدي هذا التخيير تكريم للإنسان أم تكليف ؟
الاختيار تكريم للإنسان :
الدكتور راتب :
أعلى أنواع التكريم ، لأنك حينما تجبر جهة إلى فعل ما ، هذه الجهة لا فضل لها إطلاقاً ، أنت متى تتفوق ؟ بإمكان الإنسان أن يعصي لكنه يطيع الله ، بإمكانه ألا يصلي ولكنه يصلي ، بإمكانه أن يأخذ الحرام فيأخذ الحلال ، ما دام هناك خيار فهناك سمو .
المذيع :
سيدي ما الفرق بين التكريم والتكليف ؟
الفرق بين التكريم و التكليف :
الدكتور راتب :
الحقيقة التكليف لأن الإنسان قبِل حمل الأمانة كلفه الله أن يعبده في الدنيا ، لتكون هذه العبادة ثمن للجنة ، الجنة فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر، لها ثمن ، ثمنها طاعة الله في الدنيا ، فالعبادة هي طاعة الله ، في أوسع معانيها طاعة ، هناك منهج تفصيلي وهناك طاعة ، هذه الجنة ثمنها الطاعة ، قال تعالى :
﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
المذيع :
دكتور هل يمكن أن يقال : إن كرامة الإنسان مشتقة من تكليفاته ، بمعنى الذي لا مسؤولية له لا تكون له كرامة .
حاجة الإيمان إلى جهد من الإنسان :
الدكتور راتب :
الإنسان لأنه المخلوق الأول فجعلت الجنة التي خلق لها بثمن يقدمه ، أحياناً عندما يكون ابن ملك فرضاً يطلب من أبيه سيارة فيعطيه أفخم سيارة ، عندما يطلب من أبيه دكتوراه يقول له : هذه عليك وليست عليّ ، هذه تحتاج ابتدائي إعدادي ثانوي جامعة دبلوم وماجستير ودكتوراه ، هذه من جهده ، فالعطاء الإلهي يكون بالصحة ، بالمال ، بالغنى ، بالزوجة ، بالولد، هذا عطاء ، أما الإيمان فيحتاج جهداً من الشخص ، النبي صلى الله عليه وسلم آتاه الله كل شيء ؛ آتاه الوحي ، آتاه العلم ، البيان ، جمال الصوة ، لما أثنى عليه أثنى عليه بالخلق العظيم، الخلق جهده ، شيء شخصي منه .
المذيع :
لماذا كان القرآن الكريم كتاب هداية ولم يكن كتاب تقنية وتمدن وتحضر ؟
القرآن الكريم كتاب هداية يعالج قضايا الإنسان :
الدكتور راتب :
لماذا لم تكن موضوعاته مصنفة ؟
المذيع :
أقصد لماذا لم يعالج قضايا تكنولوجيات وتطوير العلوم إنما عالج قضايا الإنسان ؟
الدكتور راتب :
حينما تقول في القرآن الكريم كل شيء ، هذا الكلام يحتاج إلى دراسة ، كل شيء يقربك إلى الله شعرة ، أو يبعدك عن الله شعرة ، بالقرآن موجود ، أما هندسة السدود فليست بالقرآن موجودة ، هذه شؤون الدنيا ، حفر الآبار ، هناك مليون موضوع متعلق بالدنيا ، القرآن الكريم كتاب هداية ، معنى هداية أي شيء مهما صغر أو مهما كبر يقرب من الله ذكره القرآن الكريم ، وأي شيء يبعد عن الله مهما صغر أو كبر ذكره القرآن الكريم ، أما الشؤون الخاصة كزخرفة هذا المكان فليست في القرآن واردة .
خاتمة و توديع :
المذيع :
أكرمك الله دكتور ، وأحسن الله إليك ، أشكرك على هذا المعنى الجميل .
في نهاية هذه الحلقة أتقدم إليك بالشكر الجزيل على ما قدمت من بيان وإيضاح بارك الله فيك ، أعزائي المشاهدين انقضى الوقت سريعاً في هذه الحلقة كعادته دائماً مع المحبين والأحباب ، أعزائي المشاهدين نلقاكم بإذن الله عز وجل في حلقة مقبلة مع ربيع الإيمان ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .