- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠14برنامج ربيع الإيمان - قناة اليرموك
مقدمة :
المذيع :
أعزائي المشاهدين ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، نرحب بكم أجمل ترحيب و نعود بكم إن شاء الله إلى حديقة ربيع الإيمان ، مع فضيلة أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي، أهلاً وسهلاً فضيلة الدكتور .
الدكتور راتب :
بارك الله بكم ونفع بكم .
المذيع :
كنا قد تحدثنا في آخر حلقة عن العبادة ، واليوم إن شاء الله سوف نستأنف حديثنا عن مفهوم العبادة في الإسلام ، ونظراً لأهمية وخطورة هذا الموضوع لا بد أن نتناوله من كافة جوانبه ، سنتكلم اليوم عن العبادة ، مفهومها ، صورها وأشكالها ، وما هو المقصود من العبادة في الكتاب والسنة ؟
الإنسان هو المخلوق الأول عند الله عز وجل :
الدكتور راتب :
لا بد من إلقاء نظرة شمولية لتوضيح هذا المفهوم الخطير .
بادئ ذي بدء الإنسان كما تعلمون هو المخلوق الأول عند الله ، هو مخلوق متحرك ، هناك أشياء ساكنة كهذه الطاولة ، هو كائن متحرك ، السؤال الدقيق ما الذي يحركه ؟ الله عز وجل أودع فيه حاجات ، لما أودع فيه حاجة إلى الطعام والشراب جعله متحركاً ، يتحرك ليعمل، ليكسب المال ، ليشتري الطعام ، ليأكل هو وأهله ، يتحرك ليكسب المال ، ليتزوج ، يتحرك ليكسب المال ليرقى عند الناس ، فهناك حاجات ثلاث عند الإنسان ، الحاجة إلى الطعام والشراب حفاظاً على وجوده كإنسان ، والحاجة إلى اقترانه بزوجة أو العكس زوجة لزوج ، هذه الحاجة لبقاء النوع دون أن يشعر ، والحاجة الثالثة لتأكيد الذات ، التفوق .
الحاجة مودعة في الإنسان ، هذه الحاجة تجعله كائناً متحركاً ، لولا هذه الحاجات ما رأيت على وجه الأرض شيئاً ؛ لا جامعات ، ولا معاهد ، ولا مدارس ، ولا طرقات ، ولا أبنية ، ولا معامل ، ما رأيت على وجه الأرض شيئاً .
من صحت حركته سلم و سعد في الدنيا و الآخرة :
الآن السؤال الدقيق : هذه الحركة إما أن تصح أو لا تصح ، إن صحت حركة الإنسان سلم وسعد في الدنيا والآخرة ، وإن لم تصح شقي وهلك في الدنيا والآخرة ، هما طريقان لا ثالث لهما ، ولأن الإنسان آلة بالغة التعقيد ، أقصد بالتعقيد تعقيد الإعجاز ، لأن الإنسان هو المخلوق الأول عند الله ، أودع فيه العقل ، أودع فيه القلب ، أودع فيه النفس ، أودعه في هذا الجسم ، فهو إنسان بالغ التعقيد فلأنه بالغ التعقيد لا بد من الحفاظ على سلامته من العطب ، من الخلل ، من المرض ، من السقوط النفسي ، هناك أمراض للنفس وأمراض الجسد ، لكن الذي يلفت النظر أن أمراض الجسد تنتهي عند الموت لكن أمراض النفس تبدأ عند الموت ، ويشقى بها الإنسان إلى أبد الآبدين ، الكبر .
المذيع :
دكتور لو تكرمت كيف تبدأ الأمراض ؟
الدكتور راتب :
جميع الأمراض حتى العضالة منها ، الورم الخبيث ينتهي هذا المرض ، أي مرض مها يكن عضالاً ينتهي عند الموت ، أما الكبر ، المعصية ، الانحراف ، الاستعلاء ، الإيقاع بين الناس ، هذه الأمراض النفسية ، فالحقيقة نحن نرى الأمراض الجسمية ، لكن الأمراض النفسية أشدّ خطراً بكثير لأنه يبدأ مفعولها السلبي بعد الموت ، وتمشي معه إلى ابد الآبدين.
الإنسان إذا وصل إلى شفير القبر وقد طهره الله من كل الذنوب والخطايا والأمراض النفسية فهو في جنة ، لو أن الإنسان استحق في الدنيا بعض التأديب من الله ساق الله له بعض المصائب ، ليطهره من أدرانه ووصل إلى شفير القبر وهو طاهر مطهر ، فهو من أسعد الناس .
المذيع :
دكتور بهذا العرض الجميل كيف ننتزع مفهوم العبادة وتعريف العبادة وحقيقة العبادة من البيان الذي تقدمت به ؟
مفهوم العبادة و تعريفها :
الدكتور راتب :
الإنسان هو الكائن الأول ، عقل وقلب وجسم ونفس ، كائن متحرك ، ما الذي يحركه؟ حاجاته الثلاث إلى الطعام والشراب وإلى الزواج وإلى تأكيد الذات ، في أثناء هذه الحركة إما أن تأتي الحركة صحيحة أو غير صحيحة ، بصحة الحركة يسلم ويسعد ، إن لم تصح يشقى ويهلك، العبادة تعليمات الصانع ، وأنت دون أن تشعر حينما تقتني آلة بالغة التعقيد تقرأ بادئ ذي بدء تعليمات الصانع ، لأن الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تتبع تعليماتها هي الجهة الصانعة، نحن دون أن نشعر لو أخذنا آلة اشتريناها أول شيء نقرأ تعليمات الصانع المصنع ، إذا أصابها خلل نعود بها إلى المصنع ، أو إلى الوكالة ، لأن الخبير هو الذي يقدم لك شيئاً ، الله عز وجل قال :
﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾
العبادة تعليمات الصانع ، افعل ولا تفعل ، افعل لأن سلامتك وسعادتك منوطة بهذا الذي أمرت أن تفعله ، هذه الفرائض ، ولا تفعل الشقاء في الدنيا والآخرة مرتبط بهذه المنهيات ، افعل ولا تفعل ، الشرع بأكمله يلخص بكلمتين افعل الأوامر لا تفعل النواهي ، من عند من ؟ من عند الصانع ، النقطة الدقيقة الدقيقة أن العلاقة بين الأمر ونتائجه وبين النهي ونتائجه علاقة علمية ، أي علاقة سبب بنتيجة .
المذيع :
دكتور كيف ذلك ؟
الدكتور راتب :
الأوامر الإلهية موضوعية بمعنى لو جاءت جهة ملحدة وطبقت منهج الإسلام قطفت ثماره في الدنيا فقط ، منهج موضوعي ليس منهجاً وضعياً ، منهج رمزي ؟ لا ، موضوعي أي كل أمر إلهي فيه بذور نتائجه ، إذا الإنسان غض بصره عن محارم الله يسعد بزوجته .
المذيع :
لذلك نستطيع أن نفهم في ضوء هذا الذي تفضلت به فضيلة الدكتور قول سعيد النورسي رحمه الله : إني أرى الإسلام في الغرب ولا أرى المسلمين ، وأرى المسلمين في عالم الإسلامي ولا أرى الإسلام ، لأنهم يطبقون المنهج الموضوعي للعبادة .
الدكتور راتب :
هم بعقولهم ، بذكائهم وحده طبقوا الإسلام دون أن يشعروا ، لكن ما طبقوه عن عبادة لله ، الفرق كبير جداً ، طبقوه عن مصلحة ، والمسلمون حينما قصروا في فهم دينهم وتركوا تطبيق هذه العبادات ضيعوا آخرتهم .
المذيع :
دكتور الآن اتضح لنا مفهوم العبادة .
الدكتور راتب :
تعليمات الصانع التي تدرج في حقلين كبيرين افعل ولا تفعل ، هناك أوامر و منهيات.
المذيع :
دكتور هناك تفسير تقليدي يسيطر على كثير من عقول المسلمين في أن العبادة أن تبقى في مكة والمدينة ، وتقرأ القرآن ، وأن تصلي ، وأن تصوم ، هناك نزعة تقليدية لتفسير معنى العبادة ، كيف تفسر هذا ؟
العبادة الشعائرية لا تقبل ولا تصح إلا إذا صحت العبادة التعاملية :
الدكتور راتب :
اسمح لي أن أوضح لك هذه الحقيقة ، العبادات الذي ذكرتها قبل قليل تساوي لبنة في بناء مئة طابق ، لأنه عندنا عبادات شعائرية كالصلاة والصوم والحج والزكاة ، وعبادات تعاملية، لا بد من التوضيح ، أولاً لنأخذ الصلاة :
(( يؤتى برجال يوم القيامة لهم أعمال كجبال تهامة يجعلها الله هباء منثوراً ، قيل: يا رسول الله جلهم لنا ؟ قال : إنهم يصلون كما تصلون ، ويأخذون من الليل كما تأخذون ، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها))
النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه الكرام من المفلس ؟
((أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ ؟ فقالوا : المفْلسُ فينا من لا درهم له , ولا متاع , فقال : إن المفْلسَ مَنْ يأتي يوم القيامة ؛ بصلاة , وصيام , وزكاة ، ويأتي قد شَتَمَ هذا ، وقذفَ هذا، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيُعطَى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ أُخِذَ من خطاياهم ؛ فطُرِحَتْ عليه ، ثم يُطْرَحُ في النار))
هذه الصلاة ، الصوم :
(( مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ))
الحج :
(( من حج بمال حرام فقال : لبيك اللهم لبيك ، قال الله له : لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك))
لو أنفق الإنسان صدقة من مال حرام ، قال تعالى :
﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ﴾
فالعبادات صلاة صوم حج زكاة إنفاق ، هذه لا تقبل ولا تصح إلا إذا صحت العبادة التعاملية ، أنا أرى أن العبادة التعاملية أخطر بكثير من العبادة الشعائرية .
المذيع :
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(( إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم ))
الصلاة دقيقة جداً لا نقطف ثمارها إلا إذا استقمنا فيما بين الصلاتين :
الدكتور راتب :
أتحب أن أضرب لك مثلاً ؛ ساعات الامتحان الثلاث ثلاث ساعات المادة ، العام الدراسي بأكمله بدوام الطالب ، ومتابعة المدرس ، ومراجعة الدرس ، وكتابة الوظائف ، والاستذكار ، والحفظ ، العام الدراسي بكامله يساوي العبادة التعاملية ، وثلاث ساعات الامتحان تساوي العبادة الشعائرية ، أنت في هذه الساعات الثلاث تقطف ثمرة العبادة التعاملية ، فالإنسان حينما يستقيم بين الصلاتين ، يغض بصره بين الصلاتين ، يصدق بين الصلاتين ، يؤدي ما عليه بين الصلاتين ، إذا وقف في الصلاة ليصلي عرجت نفسه إلى بارئها اتصل بالله ، فلذلك الصلاة دقيقة جداً ، لا يمكن أن نقطف ثمارها إلا إذا استقمنا فيما بين الصلاتين .
المذيع :
دكتور أنوار المصلين والصائمين والمتصدقين لا تستكمل إلا إذا كانوا يتمتعون بحسن الخلق ، لكن الرجل إذا كان يصلي ويصوم ويتصدق ويجح ولكن يظلم أبناءه ، ويسيء لجيرانه وربما يعتدي على ما حرم الله .
ما لم نستقم على أمر الله لن نستطيع أن نقطف من الدين ثماره :
الدكتور راتب :
مثل منتزع من واقعنا لو عندك جلسة مع أصدقاء ، أحد الأصدقاء اغتاب أحدهم ، فهذا الذي اغتاب قام ليصلي العشاء ، هل يستطيع أن يعقد مع الله صلة ؟ معصيته حجبته ، لو أحدهم تابع شيئاً غير لائق بالانترنيت أو بالفضائية وقام ليصلي العشاء هل يستطيع أن يعقد صلة مع الله ؟ إذا الأخطاء والتقصيرات والمخالفات والمعاصي حجب بين العبد وربه ، فما لم يستقم الإنسان على أمر الله لن يستطيع أن يقطف من الدين ثماره .
مرة سألت تاجراً كم نوع من التجارة في الأرض ؟ قال : مئة ألف ، تجارة أراض ، بيوت ، عمارات ، أسهم ، سندات ، معامل ، أقمشة ، أغذية ، قلت له : هل بإمكانك أن تضغط كل هذه التجارات بكلمة واحدة ؟ قال لي : مستحيل ، قلت له : لا ليس مستحيلاً ، كل أنواع التجارات في الأرض من آدم إلى يوم القيامة ، يمكن أن تضغط في كلمة واحدة إنها الربح ، فإن لم تربح فلست تاجراً ، هذا الدين عقائد ، وعبادات ، ومعاملات ، وتشريعات ، وفضائل ، وتاريخ إسلامي ، وفقه مقارن ، وأصول الفقه ، وفقه نظري ، وفقه عملي ، يمكن أكثر من مئة ألف عنوان كبير في هذا الدين ، أنت افتح أي كتاب المراجع حوالي مئتي مرجع ، هذا الدين العظيم الواسع الشمولي المتنوع بين فكر نظري وبين تطبيق عملي ، وبين عبادات وبين معاملات ، يمكن أن يضغط كله في كلمة ؟ أنا أقول ممكن إنها الاستقامة ، فإن لم تستقم لن تستطيع أن تقطف من ثمار الدين شيئاً ، إن لم تستقم صار الدين فولكلوراً ، وعادات ، وتقاليد ، وتراثاً ، بين عادات و تقاليد و فولكلور و تراث وبين منهج إلهي ، أنا أريد أن أؤكد ما لم تتحرك وفق منهج الله ، ما لم تدع لله هذه لا أفعلها ، ما لم تقبل على شيء لله ، ما لم تمنع لله ، ما لم تعط لله ، ما لم تصل لله ، ما لم تقطع لله ، ما لم ترض لله ، ما لم تغضب لله ، لن تستطيع أن تقطف من ثمار الدين شيئاً ، هذا الدين .
المذيع :
دكتور مع التأكيد على أهمية العبادة الشعائرية هذا لا يعني ..
الدكتور راتب :
أنا قلت : لم تقطف ثمارها ، لأن الصلاة اتصال بالله ، أنت حينما تخالفه إذا إنسان غشّ مادة غذائية أنا أتحدى هذا الإنسان أن يستطيع الاتصال بالله ، يصلي الصلاة سهلة يتوضأ ويصلي أما أن تنعقد مع الله صلة وقد غش الناس بطعامهم ؟ بعض الصناعات الغذائية يضاف لها مادة مسرطنة يصبح لونها فاتحاً ، فيرتفع سعرها ، معمل ضخم يضيف هذه المادة المسرطنة لهذه المادة الغذائية صار لونها أميل للبياض يرتفع سعرها ، يؤذي كل من اشترى هذه المادة ، وقد يسبب لهم مرضاً خبيثاً حتى يحقق ربحاً عشرة بالمئة زيادة ، هل هذا الإنسان بفطرته ، بعقله الباطن ، بإمكانه أن يتصل بالله عز وجل ؟
((الخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله))
أنا أكاد أقول لك : الدين كله استقامة ، ما لم تستقم لن تستطيع أن تقطف من ثمار الدين شيئاً .
خاتمة و توديع :
المذيع :
دكتور أكرمك الله ، جولة جميلة أشكرك عليها في بيان حقيقة العبادة ومفهومها وطبيعتها ، سوف نكمل حديثنا إن شاء الله في حلقة قادمة عن الاستقامة والعبادة بمعنى الاستقامة إن شاء الله تعالى ، كما أتقدم بالشكر الجزيل إلى فضيلة أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، وأنتم أيها المشاهدون كذلك أشكركم على حسن المتابعة ، وأسأل الله أن ألقاكم في حلقة مقبلة في ربيع الإيمان إن شاء الله ، وإلى لقاء آخر ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، جزاكم الله خيراً فضيلة الدكتور ، وأحسن إليكم ، وبارك فيكم .