- الفقه الإسلامي / ٠4الأخلاق الإسلامية
- /
- ٠1الغيبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
مخالفة الناس منهج الله في موضوع ضَبْط اللِّسان يجعلهم مُتَفَرِّقين :
أيها الأخوة المؤمنون، لازلنا في موضوع الغيبة
وقد بيَّنْتُ لكم من قبلُ أنَّ المؤمن يعرف أنَّ هناك في الإسْلام كبائر، وأنَّها مُدَمِّرَة، ولكنَّهُ يتوَهَّمُ أنَّ الكبائِر هي القَتْل والزنا والسَّرِقة وشُرْب الخمْر، وقد يغيبُ عنه أنَّ الغيبة من الكبائر، فلذلك الذي يُمَزِّقُ وِحْدة المسلمين، ويُفَتِّتُهم، ويُلقي بينهم العداوة والبغْضاء، ويُشَرْذِمُهم، ويجعلهم مُتَفَرِّقين ومتناحرين، مُخالفَتهم لِمَنْهج ربِّهم في موضوع ضَبْط اللِّسان، قال: اسْتَحْيوا من الله حقَّ الحياء، فقال: أن تحفظوا الرأس وما وعى..." حَدَّثْتكم من قبل عن تعريف الغيبة وعن حكمها، وعن الآيات والأحاديث والأقوال الدالة على تحْريمها، ووَصَلْنا إلى موضوعٍ دقيق هو الأسباب الباعِثَة على الغيبة.
بواعث الغيبة ليْسَتْ رحمانِيَّة إنما شَيْطانِيَّة :
المؤمن بصيرٌ بِنَفسِه، أما هذا الذي يتجاهَل ما يجْري في نفْسِه فهو إنْسانٌ غافِل، هناك بواعِث تبْعثُ الإنسان على الغيبة، وهذه البواعث ليْسَتْ رحمانِيَّة إنما شَيْطانِيَّة، فَكُلُّكم يعلم أنَّ الإنسان إما أن يتحرَّك وِفق هدى الله، وإما على وسْوَسَة الشيطان، فهو يريد أن يُلقي بين المؤمنين العداوة والبغْضاء، ألا تذكرون قَوْل النبي عليه الصلاة والسلام:
(( إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم ))
وذلك بعد مجيء النبي عليه الصلاة والسلام إلى الجزيرة العربيّة، لم يعد هناك عبادة أصْنام:
((.......ولكن رضي فيما دون ذلك))
هناك روايتان الأولى:
((....مما تحقرون من أعمالكم ))
والرواية الثانِيَة أنَّهُ:
((......وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ))
لأنَّ التَّحْريش بين المؤمنين هَمُّ الشيْطان، ولأنَّهُ يريد أن يوقِعَ بينهم العداوة والبغْضاء وأن يُلقِيَ فيهم الخوف، قال تعالى:
﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾
بواعث الغيبة :
1 ـ تشفي الغيظ :
أيها الأخوة، الإنسان إما أن يتحرَّك وِفق هدى الله، وإما على وسْوَسَة الشيطان، لذلك من بواعِث الغيبة أنَّ الإنسان أحْياناً بينه وبين إنسانٍ آخر إساءة، يَرُدّ على هذه الإساءة بالغيبة، ويشْفي غليلَهُ بها، أما المؤمن فيَشْكو هَمَّهُ وحُزْنَهُ إلى الله، والمؤمن إذا عامَلَ الناس بِإخْلاصٍ - دقِّقوا في هذا الكلام - يخْدِمُهم ولا ينْتظر منهم المكافأة
لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول: "اِصنع المعروف مع أهْله ومع غير أهْله" فإذاَ خَدَمْتَ إنساناً ثمَّ أساء إليك فحَقَدْتَ عليه، وتألَّمْتَ منه أشَدّ الألم، فلعَلَّ هذا أنَّ العمل ليس فيه إخْلاص، فالعمل المخلص لا يهمُّه الردّ الإيجابي أو السلبي، ولا جزاء ولا شكوراً، قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾
وقال تعالى:
﴿ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ﴾
أوَّلُ باعِث من بواعث الغيبة أنَّها تَشفي الغَيْظ، لكنّ الله سبحانه وتعالى أثْنى على الكاظِمين الغَيْظ، قال تعالى:
﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾
أيها الأخوة، هذا الغَيْظ إن كَبَتّه انقلب إلى حِقْد دفين - هذا عند أهْل الدنيا - أما المؤمن فلا يغْتاظ إنما يتغاضى ولا يغْضَب لأنَّهُ مُخْلص: إلهي أنت مقْصودي ورِضاك مَطْلوبي، فهؤلاء الناس الذين أحْسَنْتَ إليهم إن عرفوا أو لم يعْرفوا، قَدَّروا أو لم يُقَدِّروا، ردُّوا أو لم يَرُدُّوا، لا شأن لك بِهم، أنت شأنُكَ مع الله، وعملُكَ تبْتغي به وَجْهَ الله عز وجل، لذلك الغَيْظ لا يتأتى إلا إذا أحْسَنْتَ إليهم بالذات ونَسيتَ الله عز وجل فإنْ ردوا رداً سيِّئاً أضْمرْتَ الغيْظ، فإذا اسْتَمَرَّ الغيظْ انْقَلَبَ إلى حِقْدٍ دفين وهو دائِماً يُرَدُّ عليه بالغيبة والنميمة.
أساس الغَيْظ ضَعْف في الإخْلاص :
هناك نقْطة دقيقة جداً، وهي أنَّ الحياء فضيلة، والحياء من الإيمان، وأحياناً الخجل رذيلة
قد يكون الإنسان مع رفاقه وأصْدقائِه بِمَجْلس فَيُطْرح موضوع يُغتاب فيه إنسان، فلا يحب أنْ يخرج عن المجموع أو يخالفهم، وليستْ له قدرة للمناقشة والاعْتِراض والمناقشة، ويسْتحي ويخْجل، فهذا الخجل رذيلة، الحياء من الإيمان ولكن أنْ تخْجل في طاعة الله فليسَتْ هذه فضيلة، فإذا سَكَتّ أنت وهذا وذاك، وأصْبح البذيء هو المُتكلِّم وهو الطاعن فأنت أعَنْتَهُ على الغيبة، لذلك لا تعْبأ بِأحد، ولا تأخذْك في الله لَوْمَةُ لائِم، فالمؤمن ليس دائِماً مُسايِر! له مواقف يقول: هذا لا أفْعَلُهُ، ويقوم من المَجْلس، قال تعالى:
﴿ فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾
فالباعث الأوَّل شِفاءُ الغَيْظ، والغَيْظ أساسه ضَعْف في الإخْلاص، فالضَّعْفُ فيه يُسبِّبُ الغَيْظ، والغَيْظ المُسْتَمِرّ ينقلب إلى حِقْدٍ دفين، والغيبة انْتِقامٌ من إنسانٍ أساء إليك تشْفي غليلك وحِقْدَكَ منه باغْتِيابه.
2 ـ مُوافقة الأقْران :
الباعث الثاني على الغيبة: مُوافقة الأقْران، أيْ تسْتحي وتخْجل أنْ تُسْكِتَهُم، وأن تنْهاهم عن هذا المنكر، وأن توقِفَهم عن حدِّهم، وأن تعْتَرِضَهم، لذلك الناس المنقطعون عن الله عز وجل يتفكَّهون بِأعراض الناس، وينْهَشونَها، وكأنَّ أعْراض الناس كَلأٌ مُشاعٌ يأكلهُ من يأكله، فالمُجاملة والمُداهنة والخجل ألا تقف مَوْقِفاً صُلباً وتوقِفَهم عند حَدِّهِم، قلتُ لكم: كان العلماء الأجِلاء إذا تَكَلَّم الواحد في حَضْرَتِهم كلمة عن إنسانٍ يقولون: يا أبي اسْكُت، فَنَحن نحْتاج إلى هذا الالْتِزام حتى تبْقى المَوَدَّة بين المسلمين.
3 ـ البدء بِمَن له عَلَيْك حقّ :
أحْياناً تكون الغيبة فيما يُسَميهِ المحدثون هُجوماً دِفاعياً، فقد يُقَصِّر إنسان في حقِّ آخر، وهذا الإنسان عليه حقّ فلأن لا يفْضَحَهُ بين الناس يبْدأ هو بالطَّعْن فيه، فإذا تَكَلَّمَ أسْقَطَ مِصْداقِيَّتَهُ، هذا أيضاً باعِث من بواعث الغيبة، تبدأ بِمَن له عَلَيْك حقّ وهذه ملاحظة واضِحَة، وهي أنَّ الإنسان قبل أن يعْتدي، أو قبل أن يأخذ ما ليس له، أو قبل أن يمْتنع عن دَفْع الحق الذي عليه يُهاجِمُ أصْحاب الحقّ؛ يغْتابُهم وينال منهم ومن صِدْقِهم، وأمانتهم، حتى إذا طالبوه وأرادوا أن يأخذوا حَقَّهم منه سَقَطَت شهادتهم ومِصْداقِيَّتِهم، فهذا باعث ثالث من بواعث الغيبة، كل واحد بِحِكْمة من الله عز وجل بالغةٍ بالغة جعله بصيراً على نفْسِه، قال تعالى:
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾
من سنن الله في خلقه أنه يسْمح للإنسان أن يفْعل ما يشاء إلى حينٍ ثمَّ يكْشِفُهُ :
أيها الأخوة الكرام، أنت لا تسْتطيع أن تُخادعَ الله أبداً قال تعالى:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾
وأنت لا تستطيع أن تخدع نفْسك أبداً قال تعالى:
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾
بل إنَّك تستطيع أن تخدع أُناساً بعض الوقت، أو تستطيع أن تخدع واحداً طول الوقت، أم أن تخدع الناس طول الوقت فهذا مُسْتحيل، إذاً هناك ثلاث مُسْتحيلات، أوَّل مُسْتحيل: أنْ تخدع الله، والثاني: أن تخدع نفْسَك، والثالث: أن تخدع الناس كلَّهم طول الوقت، والإنسان حينما يخدع يكون غَبِياً لأنَّ الخديعة تنْقلب عليه، قال تعالى:
﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾
وقال تعالى:
﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً ﴾
وينقضون عهد الله، وينتكِثون قال تعالى:
﴿ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾
إذاً هنا أعمال كثيرة تفْعلها ولكنَّها تعود على صاحِبِها بالشَرّ فهذا الباعث هو اسْتخدام الغيبة كَهُجوم دِفاعي، لكنَّ اسمه الحق، وهو الذي يُحِقُّ الحقّ، وربنا عز وجل كما قال:
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾
ولكن من سنن الله تعالى في خلقه أن يسْمح لِكُلٍّ أن يفْعل ما يشاء إلى حينٍ ثمَّ يكْشِفُهُ، كم من حادِثٍ اتُّهِمَ به بريء وبعدها أظْهر الله الحق فانْكَشَفَتْ الحقيقة.
4 ـ أن يُنْسَب للإنسان شيء زوراً وافْتِراءً :
ومن بواعث الغيبة أن يُنْسَب للإنسان شيء زوراً وافْتِراءً، فَيَذْكر الذي فعله حقيقةً، وينال الآخرين بالغيبة وهو لا يشْعر، وهي حالة في زَحْمَة الدِّفاع عن النفْس
ينفي على نفسه هذا العمل ويقول الذي وقع هو كذا وكذا، وهو لا يشْعر، ويكون قد أوْقَع نفسه في المعْصِيَة دون أن يدْري، لكن كما قلتُ لكم في درْسٍ سابق، في آخر أبْحاث الغيبة إن شاء الله تعالى سوف نتعرَّضُ إلى الحالات التي يجوز فيها أن تغْتاب، كالمٌبْتَدِع وأنت مظْلوم فلابدّ من أن تظهر أمام القاضي ظلامتك، قال تعالى:
﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ﴾
هناك أشْخاص أيها الأخوة عندهم مرضٌ نفْسي وهو يبْني مجْداً على أنْقاض الآخرين، و يبْني مكانَةً على تنْقيص أخرى، و يرتفع ويعْلو مع تحْطيم الآخرين، فهذا مَوْقِف لا أخْلاقي، فأنت لك أن ترتفع لِعِلْمٍ أو عملٍ أو بِفَضيلةٍ أو عطاءٍ أو إنْفاقٍ، أما أن تطْعن كي ترفع شأنَكَ وحدَكَ فليْسَ هذا من أخْلاق المؤمن في شيء، لذلك خُذْ هذه القاعدة: لا تبني مَجْدَكَ على أنْقاض الآخرين، ولا تبْني غِناك على إفْقارِهِم، ولا تبْني أمْنَكَ على إخافَتِهِم، ولا تبْني حياتَكَ على مَوْتِهم.
5 ـ الحسد :
ثمَّ إنَّ الحسد من أكبر بواعث الغيبة، وقد ذَكَرْتُ لكم من قبلُ أنَّهُ لابدّ للمؤمن من مؤمن يحْسُدُهُ، ومن منافقٍ يُبْغِضُهُ، ومن كافِرٍ يُقاتِلُه، ومن نفْسِ ترديه، ومن شيطان يُغْريه، فالحَسَد موجود، قلتُ لكم سابِقاً: إنَّ الحسَد تَمَني زوال النِّعْمَة عن أخيك لِتَصير إليك؛ هذه دَرَجة
وهناك درجة أسوَأ تمنِّي زوال النِّعْمة عن أخيك دون أن تصِلَ إليك، ومَرْتَبَة أخرى أكثر منها سوءاً أن تعمل على إزالة النِّعْمة عن أخيك بِكِتاب أو وِشاية تقْرير، فهذه الدرجات من السيئ إلى الأسْوأ، ولكن الحركة أشَدُّهم وهي أن تكتب وأن تُظهر القوَّة على أخيك من أجل أن يُحَطَّم، فهذه أسْوأ حالةٍ من حالات الحَسَد، والحقيقة الحَسَد حِيادي وبديلُهُ الغَيْرة، فالله عز وجل ما رَكَّبَ في الإنسان خصيصةً إلا من أجل أن يرْقى بها إلى الله، فالله عز وجل في الإنسان ما يُسَمى بالغيرة فإذا كنت لا تحْفظ كتاب الله وآخر يحْفظه ألا تغارُ منه؟ وإن كان يُصلي قِيام الليل وأنت لا تُصلي ألا تغارُ منه؟ وإن كان مُتَفَقِّهاً بأحكام الشريعة وأنت لسْتَ كذلك ألا تغار منه؟ فالله عز وجل من أجْل أن نتنافس ونتسابق أوْدَعَ فينا هذه الخصيصة ولها اسْتِعمال مَشْكور ومَحْمود ومَقْبول في الخَيْرات، الحسد نفْسُه إذا انْصَبَّ على أمرٍ من أمور الآخرة أصبح غِبْطَة، المؤمن يغْبط أخاه المؤمن، والله عز وجل قال:
﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾
وقال:
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾
فالله عز وجل لم يودِع خاصَّة في الإنسان ورَكَّبَهُ عليها إلا لِصالحِ إيمانه، والكافر يسْتخْدم هذه الخاصَّة التنافسِيَّة فَيَحْسُد ويغْتاب، فالحَسَد في الدنيا والغبْطة للآخرة.
النفاق و الإيمان :
وسوف أضع بين أيديكم أيها الأخوة مِقْياساً دقيقاً جداً، فالله عز وجل وصَفَ المنافقين فقال:
﴿ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ﴾
فالإنسان إذا أصاب المؤمن خير من الدنيا أو الآخرة وشَعَرْتَ بِضيقٍ وألَمَ لا تتَرَدَّد بأن تصِفَ نفْسَكَ بالنِّفاق، وَشَهِد الله فإنَّ المِقْياس المقابل إذا أصاب أخاك خير من الدنيا و الآخرة نال شهادة، أو تزوَّج امْرأةً صالحَة، أو اشْترى بيْتاً، أو تألَّق اسْمُه في المجْتمع ونال المناصب، وسُرِرْتَ به، وفَرِحْتَ فلا تترَدَّد بأنْ تصِفَ نفْسَك بالإيمان، إذْ المؤمن لا يتألَّم بِخَيْرٍ أصاب أخاه قال تعالى:
﴿ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ﴾
فهذا مِقْياس دقيق ولأنَّ الله تعالى قال:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
وقال عمر: تعاهَد قَلْبَك؛ راقِبْ نفْسَكَ وسريرَتَك ونواياك ومشاعِرَك وطُموحاتِك وافْحَصْها وقِسْها بالحقّ، فالحَسَدُ إذاً هو الذي يدْفَعُ إلى الغيبة، أيَليق بين المؤمنين أن تنطبق عليهم هذه الصِّفة ؟! لا، هم نُخْبة المُجْتمع، ومُتَمَيِّزون بأخْلاقهِم، وسُمُوِ نُفوسِهم، وطهارة أفْئِدَتِهم؛ هذه علاماتهم لذلك لا تجد عالماً مُخْلِصاً وصادِقاً مع الله إلا ويعْرِفُ حُقوق الآخرين وقيمة أخْوانه الدعاة وفَضْلَهُم.
أنواع الدعوة :
كنت أذْكُرُ لكم سابِقاً أنَّ هناك دَعْوةٌ إلى الله
وأنَّ هناك دَعْوَةً إلى الذات مُغَلَّفَة بِدَعْوَةٍ إلى الله، فَمِن لوازم الدَّعْوة إلى الله الاتباع، قال تعالى:
﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾
إنما أنا مُتَّبِعٌ ولَسْتُ بِمُبْتَدِع، ومن خصائِص الدَّعْوة إلى الذات الابْتِداع، تأتي بِجَديد لِيُشير إليك الناس بِبَنانِهم، كي تتَمَيَّز عنهم، كنت أقول لكم أنت اذْكر الحديث الصحيح المَعْروف وعَمِّق فَهْمَكَ له واشَرْحه، ولا تأتي بالغرائِب غير الصحيحة فإنَّها تُفَرِّقُ المُسْلمين، لا تعْتَمِد حديثاً موضوعاً ولا ضعيفاً ولا قَوْلاً غير مُسْنَد، لأنَّهُ لولا الدليل لَقال من شاء ما شاء، عَوِّد نفْسَكَ الدليل.
علامة المُتَّبِع لِرَسول الله أنَّهُ لا يأتي بِشَيْءٍ من عنده إطْلاقاً :
أيها الأخوة آيات دقيقة جداً قد تغيب عن المسلمين، يقول الله عز وجل:
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
ما معنى على بصيرة؟! أي أنا آتيهم بالدليل والتعليل، فعلامة المُتَّبِع لِرَسول الله أنَّهُ لا يأتي بِشَيْءٍ من عنده إطْلاقاً فالدَّعْوة إلى الله من لوازِمِها الاتباع، ولا تكن مع الآراء الضعيفة، ولا مع القِلَّة النادِرة، كن مع جُمْهور العلماء ومجموع المؤمنين، لأنَّ أمَّة النبي صلى الله عليه وسلَّم معْصومَةٌ بِمَجْموعِها، بينما النبي صلى الله عليه وسلَّم معْصومٌ بِمُفْرَدِه، كما أنَّ من لوازم الدعوة إلى الذات الطَّعْن في الآخرين حسَداً من عند أنْفُسِهم والتنافس، ومن لوازم الدعوة إلى الله التعاون والاعْتِراف بِفَضْل الآخرين، فهذه حقائِق لا بدّ من أن تكون واضِحَة.
الاخْتِلاف بين المؤمنين :
أيها الأخوة، هناك آيات كثيرة جداً تُشير إلى هذا الاخْتِلاف بين المؤمنين، أوَّلاً كما تعْلمون أنَّ هناك اخْتِلافٌ أساسه الجَهْل، وهناك اخْتِلاف أساسه الحسَد، وآخر أساسه التنافس، فالأوَّل طبيعي؛ نَقْصُ المعْلومات تُوقِعُنا في الاخْتِلاف، الاخْتِلاف الثاني أساسه الحَسَد قال تعالى:
﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ﴾
ما الاخْتِلاف الثالث؟ أساسه التنافس والاجْتِهاد، فالثالث مَحْمود والثاني ممقوت والأوَّل طبيعي، فنحن قد نختلف لَِضعْف معلوماتنا، أما إذا رأيْتَ الحُكْم الشَّرْعي، والدليل القوي انتهى الاخْتِلاف، وقد نخْتلف ونحن في الحق جميعاً، يا ترى الذِّكْر أما طلبُ العِلْم؟ يا ترى تأليف القلوب أم تأليف الكتب؟ يا ترى نشْر الدَّعْوة على نِطاقٍ واسِع أم جَعْلُها على نِطاقٍ ضَيِّق؟ يا ترى حفْظ القرآن أم فَهْمُه؟ الاشْتغال بالفقه أم بالتفْسير؟ قد نختلف ونحن في الحقّ جميعاً، هذا اخْتِلاف تنافس وهو مَشْكور، وقد نختلف لِضَعْف معْلوماتنا، فهذا اخْتِلاف جَهْل وهو طبيعي ويُحَلُّ بِمَعْرِفَة الحُكْم الشَّرْعي، أما الاختِلاف الخطير المُدَمِّر والذي يُمَزِّقُ اخْتِلاف الأمَّة فهو اخْتِلاف الحَسَد والبَغْي، قال تعالى:
﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا ﴾
وهناك آية أخرى:
﴿حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾
6 ـ اللَّعِب والهَزْل بذْكر عُيوب الناس وسَقَطاتِهم ومشاعِرهُم وما إلى ذلك :
إذاً الباعث الخامس من بواعث الغيبة الحسد، أحياناً تجد إنساناً له دُعابة ومرِح، ويتكلَّم في المجْلس كثيراً، ويُحِبُّ أن يلْفِتَ نظر الناس إليه، وأن يُضْحِكَهم، وأن يمْلأ قلبَهُم سُروراً، وأن يمْلأ وقْتهم طَرَباً، وأن يُحَدِّثَهم عن زَيْدٍ أو عُبَيْد وهو في حديثه بِقَدْر تَسْلِيَتِهم وإمْتاعِهم ينْهَشُ أعْراض الناس وهو لا يشْعر، هذا باعث عَرَضِي؛ اللَّعِب والهَزْل وهو في هذه الحالة يذْكر عُيوب الناس وسَقَطاتِهم ومشاعِرَهُم وما إلى ذلك، هذا الباعث السادس.
وهناك إنْسانٌ مُتَكَبِّر، ولا يدْخل الجنَّة من كان في قلبه مثقال ذرَّة من كِبْر، والمتكَبِّر مريض، لماذا هو مريض؟ لا يحْتمل أن يرى إنساناً فوقه، هناك نساءٌ كثيرات وَقَعْنَ في هذا المرض الخطير، وهناك رجال لا يحْتَمِل أن يرى أحداً فوقه، يتألَّم، ماذا يعْمل؟ يطْعَن، كنت في جَلْسَة قبل أيام، وذكرْتُ رَجُلاً أعلمُ عنه الصلاح والنجاح في الدَّعْوة وما إنْ ذَكَرْتُه حتى هجم الحاضِرون عليه هجوماً عنيفاً، سبحان الله! آلَمَهم أن يكون أحدٌ أعلم منهم، هذه مشكلة كبيرة ومرض نفْسي خطير.
أيها الأخوة: أمْراض الجَسَد مهما كانت كبيرة تنْتهي عند الموت، ولكنَّ أمْراض النَّفْس تنْتهي عند الموت وإلى أبَدِ الآبدين، فإن أصيب الإنسان بمرض خبيث -عُضال - ومات تخلص من هذا المرض، أما إذا كان في القلب كِبْر وحَسَد ورَغْبَة بالاسْتِعْلاء و أنانِيَّة و أثَرَة، فهذا المرض الخبيث الذي يُلِمُّ بالقلب تبدأ أخْطاره عند الموت، ففي الدنيا الناس نِيام ولكن إذا ماتوا انتَبَهوا، فالمُتَكَبِّر إذا قال الناس: فلان مُوَفَّق في التِّجارة يقول لك: بِضاعَتُهُ كُلُّها فاسِدَة، وإن كان في العِلْم، يقول: فلان دجَّال، وإن كان بالأعمال الصالحة يقول: الله أعلم بِنِيَّتِه، هل أنت الوحيد المُخْلص والعالم والفاهِم؟ هذا مرض خطير، لا يحْتَمِل أحداً فوْقَهُ، لا يسْمح ولا يقْبل، ويطْعن فَوْراً.
7 ـ الكبر :
طبْعاً نحن قلنا: هناك السُّخْرِيَة والاسْتِهْزاء أساسه الكِبْر في اللَّعِب والهَزْل وإضْحاك الناس، وأن يرْفَعَ نفْسَهُ على أنْقاض الآخرين، هناك بواعث كثيرة ولكن أنا أرى أنَّ من أخْطر هذه البواعِث هذا الباعث الكِبْر، قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربِّه:
((الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ))
لذلك قال له: اللهمَّ ارْحمني ومحمَّداً ولا ترْحَم معنا أحداً، فقال له: يا أخي لقد تحَجَّرْتَ واسِعاً، الأصْل أنْ يكون الناس كُلُّهم على الحقّ، يجب أن ترى آلاف الدعاة الصادقين، والعلماء العاملين، أما أن تعْتَقِد أنَّ الحقّ فقط مع فُلان، وبِهذا المسْجد، وهذا البلد، هناك عالم جليل له كلمة دقيقة جداً: الحقُّ لا يسْتطيع أحدٌ أن يحْتَكِرَهُ، لا جماعة، ولا طريقة، ولا طائِفَة، ولا أمَّة، ولا جيل، ولا بلد، ولا قطْر، الله هو الحق، ففي كلِّ مكان هناك أهْل الحق، وبِكُلِّ بلدٍ، تَعَوَّد على الكَثْرة لا على القِلَّة، تجد بِمِصْر علماء أجِلاء، وكذا بأيِّ بلد عربي وأيّ بلد مسلم، والله عز وجل يوزّع هؤلاء الدعاة إليه توزيعاً جغْرافياً وزمنياً حكيماً، ألم تسْمعوا حديث النبي عليه الصلاة والسلام عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا أَعْلَمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا))
فَمِن حينٍ لآخر تجد علماء كبار يمْسحون الغبار، ويُزيلون التَّزْوير أحْياناً، فالله عز وجل يوَزِّع هؤلاء في شتى بِقاع الأرض، وفي كلِّ مكانٍ وزمان، فأعْتَقِد أنَّ الخير يجب أنْ يكون عاماً، أما أن تعْتقد أنَّك وحْدك على الحق وما سواك باطل فهذا مرض عُضال يبْدأ أثرهُ بعد الموت.
8 ـ استغراب المؤمن يدفعه للوقوع في الغيبة :
أحياناً هناك بواعث خفيفة لكنها خطيرة، فأنت تسْمع قِصَّة فتقول: لا يُعْقل هذا! مستحيل! تنكرها وتذكر صاحبها وأنت لا تدْري، فإذا وقع المؤمن بِخَطرٍ كبير اذْهب إليه وانْصَحْهُ، وخُذْ بيَدِه إلى الله، فأنت اسْتغرابك ودافعك أوْقَعَكَ في الغيبة، هذا أيضاً من دوافع الغيبة.
9 ـ ِباعِث الرحمة الساذج :
وأحياناً بِباعِث الرحمة الساذج تقول: فلان فعل كذا وكذا، وجرى في بيْته كذا وكذا، وَزَوْجتُه فعلَتْ كذا وكذا، وأوْلاده فعلوا معه كذا وكذا، فهذا بِدافع الحِرْص والشَّفَقَة والرحمة وقَعَ في الغيبة؛ أنا أعْطيكُم مُنْزَلقات الغيبة.
الذنب شُؤْمٌ على غير صاحِبِه، إن ذَكَرَهُ فقد اغْتابه، وإنْ عيَّرَهُ ابْتُلي به وإن رَضِيَهُ شاركَهُ في الإثم، وأنت في موقع الغيرة تنال من أخيك وأنت لا تشْعر.
على الإنسان أن يكْشِفَ الأشْياء الجَيِّدة و يتغاضى عن الأشْياء السَّلْبِيَّة :
أيها الأخوة، لقد قلت: إن سيدنا عمراً نظر إلى الكعْبة فقال: "ما أشَدَّ حرْمَتَك عند الله، ولكنَّ المؤمن أشَدُّ حرْمَةً عند الله منك"، فالمؤمن غال على الله، أوَّلاً: من أكْرَمَ أخاه المؤمن فكأنَّما أكْرَمَ ربَّهُ، والمؤمن يغْلب عليه الصلاح والتَّستُّر، ولا يوجد مؤمن في مطلق الكمال ومعْصوم، أنت عَوِّد نفْسَك أن تكْشِفَ الأشْياء الجَيِّدة، وتتغاضى عن الأشْياء السَّلْبِيَّة، هذا خُلُق نبيل جداً، كُلٌّ منا له الإيجابيات والسَّلْبيات، فقد دخل أحد الصحابة إلى المسْجد لِيَلْحق الركْعة مع النبي عليه الصلاة والسلام فأحدَث ضَجَّة، فلما انْتهتْ الصلاة قال عليه الصلاة والسلام: "زادك الله حِرْصاً ولا تعُدْ"! فَسر هذا الصنيع من الصحابي حِرْصاً منه، لا يوجد إنسان خال من الفضائِل، فاجْعَل هَمَّك كشْفَ الفضائل والإيجابيات المضيئة والبراقة، ذكرتُ لكم قِصَّة لِسيِّدنا عيسى أنَّهُ كان مع الحواريين مروا في الطريق على جيفة نَتِنَة - وأحيانًا الجيفة تكاد تُخْرج المرْء من جلْدِه - فقالوا: ما أنْتَنَ ريحَها! فقال عيسى: بل ما أشَدَّ بياض أسْنانها، بهذه الجيفة المُتَفَسِّخَة التي ملأتْ الأفق برائِحَتِها النَّتِنَة لا تملك شيئاً إيجابياً إلا أسْنانها البيْضاء، وهذه ملاحظة مُهِمَّة للمُرَبِّين، إذا كنت معلِّماً أو أباً أو صاحب مَحَلّ أو مدير مُسْتَشْفى، هؤلاء الذين هم دونك ما لهم ميِّزات؟ هناك شَخْص هَمُّهُ الوحيد البحْث عن العُيوب؛ تأخَّرْت! لكنه أمين ومُتَفَوِّق بِعَمَلِه، فأنت عَوِّد نفْسَك أنْ تكْشِفَ بِكُلِّ إنسانٍ فضائِل وأن تُثْني عليه بها، تجدهُ أحَبَّك وأقْبل عليك، يا معاذ والله إنِّي لأُحِبُّك! نبِيٌّ مُرَسل وسّيِّدُ الأنبياء يقول هذا الكلام، وأنت يا خالد سَيْف من سيوف الله، أبو عُبَيْدة أمين هذه الأُمَّة، لو كان نبِيٌّ بعْدي لكان عمر أو بكْر، وعمر منِّي بِمَكانة السَّمْع والبَصر، أبو بكرٍ ما ساءني قطّ؛ زَوَّجني ابنته وأعْطاني ماله، فاعْرِفوا له ذلك، ما طلَعَتْ شمْسٌ بعد نَبِيٍّ أفْضل من أبي بكْر، معنى ذلك أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان بإمكانه أن يُعَتِّمَ على من حَوْلَهُ لكِنَّهُ ما فعَلَ هذا، ولكنْ أبْرَزهم، فأنت حتى يُحِبُّك الله ويُحِبَّك الناس اِجْعَل هَمَّك كَشْف الفضائِل، وكَشْف الميزات والإيجابيات، فلا يوجد المنعدم منها، إذا كنت معلِّماً وكان عندك طالبٌ مجتهِد له حركةٌ زائِدَة تقول هل: أنا أعْجبني منك اجْتِهادُك، والآخر يتأخَّر فتقول له: أنا مُعْجَبٌ بوَظائِفِك، فأحْياناً الأب تجدهُ دائِماً ينْتَقِدُ أبناءهُ وكأنَّ هذا الابن لا ميِّزَة له طيِّبَة؛ أحد الملوك وكان اسمه ابن عباد ملك من ملوك الأنْدلس وكان شاعِراً فكان يمْشي بِقَصْرِه، وكانت هناك بِرْكَة فَرَسَم عليها الرِّيحُ خطوطاً مُتوازيَة فقال:
نسج الرِّيحُ على الماء زرد
ولم يسْتطِع إكْمال البيت، كانت هناك جارِيَة فقالتْ له:
يا له دِرْعاً منيعاً لو جَمَد
فالْتَفَتَ إليها وأعْجَبَهُ شِعْرُها ولعلَّهُ أعْجَبَهُ جمالها فَتَزَوَّجَها، فأصْبَحَتْ سيِّدَة القصْر، وأكْرَمَها إكْراماً منقَطِعَ النظير، حتى إنَّها مَرَّةً تمَنَّتْ أنْ تعيش حياتَها القديمة فجاءَها بالمِسْك والعَنْبر وجَبَلَهما بماء الوَرْد وقال: هذا هو الطِّين فَدوسي عليه، ثمَّ إنَّ أحد مُلوك شمال إفْريقيا ابن تاشْفين رَدَّ هجمات الإسبان، وأخذ ملوك الأنْدلس واعْتَقَلَهم جميعاً، وأوْدَعَهُم في السِّجْن، فساء حال ابن عباد وافْتَقَر، فَبَعْدَ أن خرج من السِّجْن وأصْبَحَ شخْصاً عادِياً تقول له هذه الزوْجَة التي كانت جارِيَة: ما رأيْتُ منك خيراً قطّ يقول لها: ولا يوْمَ الطِّين! اُنْظر إلى الإجابة، عَوِّدْ نفْسَك أن تذكر الإيجابيات والفضائل، فَعِوَض النقْد اذْكر الإيجابيات، حينها يُحِبُّك أوْلادك وزوْجَتُك، لكنَّ الإنسان يبْحث عن النقائِص والأخْطاء والتقْصير، فالمؤمن يسْعَدُ ويُسْعِدُ إذا وَقَفَ هذا المَوْقِفَ الإيجابي.
على الإنسان أن يكشف النواحي الإيجابيّة والفضائِل وينْشُرْها ولا ينْشر الأخْطاء :
النبي عليه الصلاة والسلام كان يكْشِف لأصْحابه المَيِّزات، فهذا حاطِب بن بلْتَعَة ارْتَكَب خِيانةً عُظْمى، في أيِّ عَهْدٍ، وفي أيِّ قُطْرٍ، وفي أيِّ نظام، وفي أيِّ بلدٍ وعَصْر عُقوبَتُها الإعْدام، أرْسَل كتاباً إلى قُرَيْش يقول فيه: إنَّ محمَّداً سَيَغْزوكم فَخُذوا حِذْرَكم، وهو من أصْحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فالنبي صلى الله عليه وسلَّم جاءَهُ الوَحْي، ذكر له ما حَدَث، فأرْسَل سيِّدنا عليّ إلى مكانٍ بين مكَّة والمدينة لِجَلْب هذا الكتاب فوجده في رأسْ امْرأةٍ وَضَعَتْهُ في ضَفيرَتِها، قُرِأ الكتاب هكذا: من حاطب بن بَلْتَعَة إلى أهْل قُرَيش إنَّ محمَّداً سَيَغْزوكم فَخُذوا حِذْرَكُم، فأتى به النبي عليه الصلاة والسلام: وقال به: ما هذا يا حاطب! قال والله يا رسول الله ما كَفَرْتُ وما ارْتَدَدْتُ! ولكِنّني أَرَدْتُ به أن يكون لي شأنٍ عند قُرَيْش أحْمي به أهْلي ومالي، ماذا فعل رسول الله؟! سيّدنا عمر قال له: دَعْني أضْرِبُ عُنُقَ هذا المنافق، فقال: لا يا عمر إنَّهُ شَهِدَ بدْراً، لقد كانت لهُ سابِقَة، وهي التي تشْفَعُ له، أَرَأيْتُم الإنصاف، وقال حينها رسول الله: إنِّي صَدَّقْتُهُ فَصَدِّقوه! ولا تقولوا فيه إلا خيراً
قال علماء السيرة نَظَر عمر بن الخطاب إلى الذَّنْب فرآهُ خِيانَةً عُظْمى لكِنَّ النبي نَظَر إلى صاحِب الذَّنْب فرأى هذا الذَّنْب لَحْظَة ضَعْفٍ طارِئة فأنْهَضَهُ، ويَرْوي التاريخ أنَّ هذا الصحابِيّ الجليل صار من المُقَرَّبين إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم، والدليل أنَّهُ أرْسَلَهُ مندوباً شَخْصِياً إلى أحد المُلوك، كُنْ هكذا، اكْشِف النواحي الإيجابيّة والفضائِل وانْشُرْها ولا تنْشر الأخْطاء، هذه هي صِفات المؤمن، إذا أردْتُم أنْ يُحِبَّنا الله جميعاً علينا أن نكون كُتْلَة واحِدَة، وأُسْرَة واحِدَة، وهكذا وَصَف النبي صلى الله عليه وسَلَّم المؤمنين فقال:
(( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ الواحد إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ))
وكالبُنيان المَرْصوص يَشُدُّ بعضُه بعْضاً، اِبْحث عن نقاط الخير في إخوانك فالذبابة تقع على الشيء المَكْروه أما إذا كان المكان نظيفاً فلا تجد الذباب.
من أخَفِّ أنواع الغيبة أن يغضب الإنسان لله فَيَقَعُ في الناس من دون أن يشْعُر:
أحْياناً الإنسان، وهذا من أخَفِّ أنواع الغيبة يغْضبُ لله تعالى، ويغار على شَرْع الله فَيَقَعُ في الناس من دون أن يشْعُر.
رُوِي عن عامر بن واثِلَة رضي الله عنه، قال: إنَّ رجلاً مرَّ على قَوْمٍ في حياة النبي عليه الصلاة والسلام فَسَلَّمَ عليهم، فَرَدوا عليه السلام، فلما جاوَزَهُم قال واحِدٌ منهم: يا رسول الله إنَّي لَأُبْغِضُ هذا في الله تعالى! فقال أهْل المَجْلس: لَبِئْس ما قلتَ والله، والله لَنُنَبِّئنَّهُ - أحياناً يكون بين أخوين مشكلة لا يهمُّك أمْرهما، أما إذا كان يهُمُّكَ الأمْر فَكُنْ وسيطاً للخير وأصْلِح بينهما - ثمَّ قالوا: يا فلان، قُمْ فأدْرِكْهُ وأخْبِرْهُ بما قال الرجل عنه، فأدْرَكَهُ رسولهم فأخْبرَهُ، فأتى الرجل رسول الله وقال له: أنا أبْغُضه! وحكى له ما قال فَدَعاهُ النبي وسأله فقال الرجل: لقد قلتُ ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ولِمَ تُبْغِضُهُ؟ فقال: أنا جارهُ، وأنا بِه خبير، والله ما رأيْتُهُ يُصَلي صلاةً قطّ إلا هذه المَكْتوبة، فقال الرجل: سَلْهُ يا رسول الله؛ هل رآني أخَّرْتُها عن وَقْتِها؟ وهل أسَأتُ الوُضوء لها؟ أو الركوع والسجود؟ فسألَهُ فقال:لا، بل يفعل كُلَّ هذا، ثمّ قال له: والله ما رأيْتُهُ يصومُ شهْراً قطّ إلا هذا الشَّهْر الذي يَصُومُه البرّ والفاجِر، فسأله النبي، فقال: سلْهُ يا رسول الله هل رآني قطّ أفْطَرْتُ فيه أو أنْقَصْتُ من حَقِّه شيئاً؟ فسألَهُ فقال: لا، فقال: والله يا رسول الله ما رأيتُهُ يُعْطي سائِلاً ولا مِسْكيناً، ولا شيئاً في سبيل الله إلا هذه الزكاة التي يُؤَدِّيها البرّ والفاجر، فقال: سلْهُ يا رسول الله؛ هل رآني نَقصْتُ منها أو لم أعطها طالِبَها؟ فقال: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: قُمْ فَلَعَلَّهُ خيرٌ منك! أحْياناً الإنسان يضعُ نفْسَهُ وَصِياً على الناس وهو لا يشْعر، من أنت؟ إنسانٌ أدَّى الصلوات، وصام رمضان، وحجّ البيت، وأدَّى زكاة ماله، واسْتَقام على أمْره، وبيْتُهُ إسْلامي وكذا عمَلُه، فإذا كنت أنت تُصَلي قِيام الليل، فَهَنيئاً لك، ليس معْنى هذا أنْ تكون أنت هالكٌ وهو ناجٍ، وكذا إنْ تَصَدَّقت فوق الزكاة، لكن لا تتَّهِم الذي أدَّى زكاة مالهِ بالشُّح! لذلك ورد عن النبي الكريم:
(( برئ من الشح من أدى زكاة ماله ))
الابتعاد عن البدع :
في الدرْس القادم إن شاء الله ننتَقِل إلى عِلاج الغيبة، ولَكِنَّني سَأَخْتِمُ هذا الدرْس بِقِصَّة سَمِعْتُها هذا اليوم، ولَعَلَّ في رِوايَتِها لكم نفْعاً كبيراً: أحدُ خُطباء دِمَشْق - جزاهم الله عنا كُلَّ خير- روى قِصَّةً من على مِنْبر رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فقال: رجُلٌ من أهْل اليسار والغِنى جاء هذا الخطيب شاكِياً فقال له: أنا اِشْتَرَيْتُ هذا الدشّ من أجْل أن أرى الصلاة في الكَعْبَة، يسْهَرُ مع أوْلاده وزَوْجَتِه، يبْدو أثناء تقْليب المَحَطات ظَهَرَ منْظراً مُنْحَطّاً، فالأب لِحِرْصِهِ على أوْلادِه غَيَّرَ المَحَطَّةَ فَوْراً، لكِنَّ ابنهُ حفظ رقْمَ المَحَطَّة، فتابَعَ السَّهْرة حتى انْتَهَت، وتناوَلَ الجميعُ طعامَ العَشاء، وآوَوا إلى فراشِهِم
في البيت الأب والأم والابنتان و الولدان وهم في سِنِّ الشباب، بعد أن آوى الوالدان إلى الفِراش قام الشاب وَقَلَّبَ المحطات حتى وصَل إلى هذه المَحَطَّة، اِسْتَيْقَظ الأب في الليل على أنين، فقام من الفِراش لِيَرى، فإذا بِكُلِ ابن على ابنْتِه! هذا الكلام ذَكَرَهُ صاحِب المُشْكلة، فيا أيها الأخوة الكرام قبل أنْ نشْتري هذه الصُّحون، وقبل أن نقول: نريدُ أن نرى فيها الصلاة في الكَعْبَة، لها آثار خطيرة جداً، قد يمْرضُ الإنسان وهو ليس عار، وقد يفْتَقِر، وقد يسكن في بيتٍ ليس بجيّد، لكن مُصيبةً كَهَذه لا تعْدِلُها مُصيبَة؛ أنْ يزْني ابنُهُ بابْنَتِه! فهذه القِصَّة وَقَعَت وأُلْقِيَت مِن على المِنْبَر، والذي يزيدُ هذه القِصَّة يقيناً أنَّ هذا الذي وَقَعَتْ معه القِصَّة هو الذي حَدّثَ هذا الخطيب بها.
أيها الأخوة، إنَّ هذه الصُّحون تعَدُّ أكبر خَطَرٍ يُهَدِّدُ حياتنا، فالذي يُريدُ رِضا الله عز وجل، وأُسْرَة مُتماسِكَة ومُنضبِطَة وطاهِرة فلْيَبْتَعِد عن هذه البِدَع، طوبى لِمَن وَسِعَتْهُ السنَّة ولم تسْتَهْوِهِ البِدْعة، والقَوْل الذي يقال: أريد أن أرى الصلاة في الكعْبة، هذا كلامٌ باطِل، فَهُوَ يريدُ أن يرى هذه المَحَطات لا أن يرى الكَعْبة، والله حَدَّثوني عن رَجُل في الخامسة والسِّتين لا يَدَعُ الصلاة في المَسْجد، فإذا به يشْتري هذا الصَّحْن ويتْرُكُ الصلاة، ويسْهَر إلى الساعة الخامسة، وينامُ ولا يُصلي الفَجْر، فهي تُفَجِّرُ الإنسان، والشيء الآخر أنَّك إنْ كنتَ مِمَّن لَدَيْهِ زَوْجة فابْنُكَ لا زَوْجَة له! وكذا ابنتُك، وقد لا يجد إلا أخْته، وحالة الهيجان غير معْقولة إطْلاقاً، ذَكَرْتُ هذه القِصَّة حتى تكون مَوْعِظَة، قال له: يا رسول الله عِظني ولا تُطِل فقال:
(( قل: آمَنْتُ بالله ثم استقم ))
إذا لم يُعْجِبْك الشَّرْع، فَسَوْفَ تُواجِهُك مُشْكِلات كبيرة جداً، فالإنسان لا يطْمَئِنّ إلا إذا كان في ظِلّ الله، ومتى يكون في ظِلِّه تعالى؟! إذا كان مُسْتقيماً على أمْرِه، فالبيتُ الطاهر الذي يُتْلى فيه القرآن الكريم، وتُطَبَّق فيه السنَّة المُطَهَّرة، وتُقامُ فيه الصلوات الخَمْسة، والأب مع أوْلاده وزَوْجَتِه بالنُّصْح والإرْشاد، فهذا البيْت لا يُقَدَّر بالثَّمَن، سألني إنسان وقال: هل للأجانب هذه الأجْهِزَة؟ فقلتُ: لا! ليس لَدَيْهم ما تقول، وقد ذَكَرْتُ لكم قِصَصاً مُتشابِهَة سابِقاً، وحتى لا يغيبُ على ذِهْنِكم أُجْرِيَت مُقابلة في أمْريكا وتبَيَّن أنَّ كُلّ مئة حادث للزنا يُقابلُهُ ثلاثة وثلاثين حادث زِنا مَحَارِم؛ بين الأخ وأُخْتِه، والأب وابْنَتِه، فأَحَدُ أسْبابِها هذه الإثارة الشديدة.