- الفقه الإسلامي / ٠4الأخلاق الإسلامية
- /
- ٠1الغيبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
الفرق بين سوء الظنّ وبين الظنّ الذي أُمِرْنا أنْ نظُنَّهُ :
أيها الأخوة المؤمنون، لازلنا في موضوع الغيبة، ونحن في الدرس السادس ولعلَّهُ الأخير، وفقرة اليوم هي تحْريم الغيبة بالقلب.
قال العلماء: إنَّ سوء الظنّ حرام مثل سوء القَوْل، فما الذي يُفَرِّق بين سوء الظنّ وبين الظنّ الذي أُمِرْنا أنْ نظُنَّهُ؟ ورد أن: الحزم سوء الظن وسوء الظن عِصْمة:
(( احترسوا من الناس بسوء الظن ))
فكيف نُوَفِّق بين الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلَّم وبين أنَّ غيبة القلب هي سوء الظنّ؟
العلماء فَرَّقوا تفْريقاً دقيقاً؛ إذا كان ليس هناك دليل إطْلاقاً فهذا سوء الظنّ المُحَرَّم، أما إذا كان هناك دليل فهذا سوء الظنّ الذي أُمِرْتَ به، أحياناً يتهَرَّب منك إنسان كي يُوَقِّع لك إيصال، وعَقْد، وعقْد بالمَحْكمة لماذا؟ لأنَّه أصْبح هناك دليل على سوء نِيَّتِه، فَسُوء ظَنِّكَ به أصبح مقْبولاً، سوء الظنّ عِصْمة، اِحْتَرِس من الناس من سوء الظنّ من الذي لا تعْرفه إطْلاقاً، أما إذا كان هناك معرفة ودليل مُريب فإنَّ هذا الدليل أخرج الظنّ من السوء، أما إذا انعَدَمَ الدليل وكانت هناك معْرفة ووُضوح ثمَّ تُسيء الظنّ به فهذه غيبة القلب، فكأنَّما الله تعالى حَرَّمَ عليك أنْ تُحدِّثَ غيرك بِلِسانك عن مساوئ الغير، حَرَّمَ عليك أنْ تُحَدِث نفْسك عن مساوئ أخيك، والدليل القرآني قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا إِخْوَانًا وَلَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ ))
أخطر شيء أن يتخذ الإنسان قراراً متسرعاً من دون تحقق :
لكن أقول لك هذا القول: إذا كان لك أخ صديق ومُحِبّ وطاهر ونقيّ وتقِيّ تعْرِفُهُ معْرِفَةً يقينِيَّة، وتعْرِفُ مداخله ومخارجه، وتعْرف البئر، وما تحت البئر، ثمّ جاءك رجل مُفْتر وفاسق وقال لك عنه كذا وكذا؛ كلاماً سيِّئاً، فأنت كلام هذا الفاسق لم يُحَرِّك شَعْرَةً في جَسَدِك، دون أن تسْتَوْضِح وتتأكَّد، لكن لو أنَّ كلام إنسان بِحَقِّ إنسان غيَّرَ قلْبَك فإذا لقِيتَهُ كان سلامُكَ جافاً، وكنت تزوره كُلَّ أسبوعٍ فَقَطَعْتَهُ لأنَّ فلاناً وفلاناً تَكَلَّمَ عنه كذا وكذا فأنت الآن وَقَعْتَ في إثْم، ما هذا الإثم؟! أنَّهُ قيل لك عن أخيك ولم تتَحَقَّق، لذلك ورد عن عَلِيٍّ رضي الله عنه: "لا أصْرِمُ أخاً قبل أن أُعاتِبَهُ" ولِقَول الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾
البيان يطْرد الشيطان :
الموضوع شَطْران: غيبةُ القلب أن تُسيء الظنّ بِأخيك، فإذا كان هناك دليل كان هناك تحقيق، أما إذا انْعَدَم الدليل أصبح سوء ظنّ وحتى لو كان هناك دليل، فهناك عند المناطقة دليل غير كاف فإذا كان كذلك فَيَجِبُ عليك أن تتحَقَّق، لو وعَدَك إنسان بِشَيء ولم يُنَفِّذْهُ فهل إخْلاف الوعْد كاف للطَّعْن به؟ قد يكون هناك أمْر قاهر، وحادث بالبيت خطير، فعَدَمُ حُضورهِ في الوقْت غير المناسب غير كاف وليس معنى ذلك أنَّهُ مُخْلِفٌ لِلوَعْد، إلى أن تسْأله.
مَرَّةً زُرْت أخاً كريماً، فَتَوَضَّأت عنده فأعطاني بِشْكير مكتوب عليه اسم الفندق ماذا يخْطر بِبالك؟ وكيف وصَل إليه؟ بَقِيَ هذا في قلبي مُدَّة إلى أن قال لي أحد الأخوة الكرام هذه الفنادق تُقَدِّمُ كُلَّ ما عندها من مناشِف وبشاكير لِمُوَظَّفيها كُلَّ عام؛ وهو يعْمل في الفندق، إذاً هذا الذي قَدَّمَ لي هذا البشْكير ألا ينبغي أن يقول لي هذا الكلام؟ لئلا يجعلني أُسيء الظنّ به، الأمر دقيق جداً، فالبيان يطْرد الشيطان، فكما أنَّهُ مُحَرَّمٌ أن تغتاب، مُحَرَّمٌ أن تحمِلَ الناس على أن يغْتابوك، رَحِمَ الله عبْداً جَبَّ الغيبة عن نفسِه.
وأصْل هذا قَوْل النبي عليه الصلاة والسلام لِصَحابِيَيْن مرَّا به وكانت معه صَفِيَّة وهو سيِّد الخلق وحبيب الخلق:
(( عَنْ صَفِيَّةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَحَدَّثْتُهُ وَقُمْتُ فَانْقَلَبْتُ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ قَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ فَخَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا أَوْ قَالَ شَرًّا ))
وَضِّح دائِماً الأمر الذي أنت عليه، فإذا كنت في مَحَلٍّ تِجاري وجاءَتْك أُخْتك، طبْعاً أهْلاً وسَهْلاً فإذا كان معك أخٌ بَيِّن له من هي، وإلا أنت آثِم، مما تجْعله يُسيء الظنّ بك.
تحريم وضع الناس في المواقف الحرجة :
الآن موضوع ثان؛ كما أنَّه مُحرَّم عليك أن تغْتاب فَهُوَ مُحَرَّمٌ عليك أن تجعل الناس في مَوْقِف الحرج، مُحَرَّمٌ أن تضع نفْسك موْضِعَ التُّهْمة، والنبي قال: "الجهالة تُفْضي إلى المنازعَة"، إنسان عنده جار يبيع غُرَف نوم، فقال له: غرفة النوم هذه لي، فَبَعَثَ له بها، بَعَثَ له خمْسة آلاف أوَّل أسبوع وعشرة آلاف ثاني أسبوع، إلى أن وصل المبْلغ إلى سبعين ألفاً، فقال له صاحبها: هذه سعرها مئة وسبعون ألفاً! فقال له الجار لِمَ لمْ تقُل لي؟! فقال له: ما سألتني! وهذا كان بقِطار فطلب من أحدهم الجُلوس مكان حقيبة فَرَفَض الجالس بإصْرار ثمَّ جاء مُنَظِّم القِطار ووصل الأمْر إلى توْقيف القطار، ثمَّ لما سألوا عن الحقيبة لِمَن هي فأجابهم إنسان كان جالس أمامه فقال: هي لي! فقالوا له: لمَ لمْ تَقُل؟ فقال: ما سألتموني، فعلى الإنسان أن يكون دقيقاً فالبيان يطْرد الشيطان .
((إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ قَالَ قَتَادَةُ إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ))
هذه رُخْصة من الله تعالى فَخَواطِرُك كُلُّها مَعْفُوٌّ عنها، أما إنْ تَكَلَّمْت أو تَحَرَّكْت فَكُلُّ هذا مُسَجَّل، فقبل هذا كُلُّ شيء مَعْفُوٌّ عنه، لكن لي نصيحة لِمَن تَرِد على نفْسه خواطر قبيحة إنْ لم يقْمَعْها رُبَّما تَحَوَّلَت إلى كلامٍ أو فِعْلٍ، لكن هذه الخواطر إن رضيتَ بها وتابَعْتَ الحديث معها ربَّما انْقَلَبت إلى عمل، أو إلى كلام.
التَجَسُّس من ثمرات سوء الظنّ :
ومن ثمرات سوء الظنّ التَجَسُّس، قال تعالى:
﴿ وَلَا تَجَسَّسُوا﴾
وفي اللُّغَة العربيَّة التَجَسُّس تتَبُّع الأخْبار السيِّئة بينما التَحَسُّس تتبُّع الأخبار الطيِّبَة، قال تعالى:
﴿ يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ﴾
فإذا وقَعْت مع إنسان في سوء ظنّ لا تتَحَقَّق من طُرق مُلْتَوِية، اِذْهب إليه مُباشرَةً وقُل له: بلغني كذا وكذا، فما حقيقة الأمر؟ فالطُّرق المُستقيمة هي أقْصر الطُّرق، أما غيرها فتُسَبِّب العداوات، وتُخَرِّب العلاقات.
الأسباب المُبيحة للغيبة :
الآن ننتقل إلى موضوع في الغيبة مُهِمّ جداً، ألا وهو الأسباب المُبيحة للغيبة، ولكن الذي أتمناه ألا تكون هذه الأسباب مَطَّاطِيَّة، فهذه الأسباب إذا مَطَطْتها يُمكن أن تُغطي كُلَّ أنواع الغيبة، مُدَّعِياً أنَّك تُهاجِم مُبْتدِعاً، فانتَبِهوا فإنَّ هذه الرُّخَص وهذه الأسباب ينبغي أن تأخذوا بها بِحَذَرٍ شديد، وقد وردت في أُصول الفِقْه؛ الضرورة تُقَدَّر بِقَدَرِها فإذا كان الإنسانُ ماشِياً بالصحْراء وقد غلب عليه أنَّهُ مَيِّتٌ جوعاً لا مَحَالة، فإذا كانت خمْسَ لقْيمات تَسُدّ رَمَقَهُ، وتبعده عن الموت فلا يجوز أن يأكل سِتّ؛ وهذا الطبيب مُباحٌ له أن يرى جِسْم المرأة؛ هذا صحيح ولكن مُباحٌ له أن يرى مَوْضِعَ العِلَّة فقط، يأتي بِرِداء كبير فيه فَتْحة ويَضَعُها على المريضة، ثمَّ يسأل أين الألم؟ فليس له الحق أن ينظر إلى مكانٍ آخر؛ الضرورة تُقَدَّر بِقَدَرِها.
قال: إنَّ الغيبة وإن كانت مُحَرَّمَة فإنَّها تُباحُ في أحْوالٍ للمَصْلحة العامَّة، كُلُّكم يعْلم أنَّ الشريعةُ مصْلحةٌ كُلُّها، ورحْمةٌ، وعدْل، فَمَصْلَحَةُ عامَّةِ المُسْلمين مُقَدَّمَة على مصْلحة الأفْراد، لِذلك الفقهاء اسْتِناداً إلى أدِلَّة قطْعِيَّة أجازوا سِتَّ حالاتٍ للغيبة.
1 ـ التَظَلُّم إذْ يجوز للمَظْلوم أن يتَظَلَّم للقاضي :
أوَّلُ شيء قال: يجوز التَظَلُّم في باب التظَلُّم، إذْ يجوز للمَظْلوم أن يتَظَلَّم للقاضي، فإذا سألك القاضي ماذا فعل لك؟ لا تقل له: أخافُ أن أغْتَابَهُ!! اغْتِصب بيْتك، أكل مالك، فالُتَظَلِّم يجوز له أن يتَظَلَّم للقاضي ممَّن له وِلايةٌ، وله قُدْرةٌ على إنْصافِهِ، إلا أنَّهُ لا تتَكلَّم في موضوع الظُّلم إلا لِمَن له السلْطة كالقاضي مَثَلاً، فيقول: فلان ظَلَمني وفعل بي كذا وكذا أو نحو ذلك، أحْياناً يُظْلَمُ الإنسان فإذا به قد أقام إذاعة على ما حَدَث له، لا يتْرك واحداً إلا ويحكي له، هناك فَرْق بين التَظَلُّم وبين التَّشْهير ! فرْقٌ بين أن تقول فلان ظَلَمني وبين أن تفْضَحَهُ بين الناس.
2 ـ الاستعانة على تغْيير مُنْكر :
الشيء الثاني: أن تسْتعين على تغْيير مُنْكر، أحْياناً إنسان بِمَكان مُعَيَّن يُسيء إساءة مُعَيَّنة، فإذا سَكَتَّ فالإساءة في اسْتِمرار، ومُتنامِيَة، ومُتفاقمَة، وتُؤْدي جميع المُسْلمين، فأنت إنْ ذَهَبْت لِمَن بِيَدِه تقْويمُه وقلتَ له: فلان يفعل مع الناس كذا وكذا، والله جاءَتني رِسالة من أُخْتٍ كريمة: أنَّ طبيباً في بلَدٍ عربي أنَّهُ اشْتُهِرَ عنه أنَّهُ مُتَفَوِّق في مُعالجَةِ العُقْم عند النِّساء، ثمَّ تَبَيَّن أنَّ هذا الطبيب إذا أيْقَنَ أنَّ العِلَّة من الزَّوْجة فإنَّهُ يقوم بالاعتِداء عليها، فجاءَتْني ورقة، وهذا أمْرٌ مما ينْبغي أنْ نعْرِفَهُ، أحْياناً تكون امْرأة طاهِرَة وتذْهب من بلَدٍ إلى بلدٍ كي تُعالِج نفْسَها عند طبيب مُخْتَصّ بالعُقْم، فإذا هو يسْتخْدِم الفاحِشَة من أجل أن تلِد، ويظنّ الزَّوْج أنَّ هذا الابن منه، إنْسانٌ مثل هذا ينبغي أنْ يُشَهَّرُ به ويُذْكَر اسمهُ، لأنَّ هذه جريمة، وبالمناسبة المجالس بالأمانة إلا مجْلِساً انتُهِكَت فيهِ حُرْمة الله عز وجل؛ مَجْلس فيه انتِهاك للأعراض والأموال والدِّماء فهذا المَجْلس لا أمانة فيه، وينبغي أن تنْقل لِمَن بِيَدِه الأمْر ما قيل في هذا المجْلس، إذاً الأمْر الثاني الاسْتِعانة على تغْيير المُنْكر فإذا كان المنْكر مُتفاقِماً فيجب التبْليغ، أحْياناً تجد معْمَلاً يضَعُ مواد سيِّئَة أصْبِغَة بِلاط لِسَكاكِر، إذْ الأصْبِغَة الغِذائِيَّة مُنْعَدِمة!! وأحْياناً يوضَع في هذه اللُّحوم المُصَنَّعَة أشْياء مُحَرَّمة، فإن عَلِمْتَ بِهذا وجب عليك التبْليغ، وهذا شيء لا علاقة له بالغيبة إطْلاقاً، مَصْلَحَةُ المُسْلمين مُقَدَّمَة على مصْلحة فرْد مُنحرِف، وهناك أشخاص أينما وجدوا خروفاً ميِّتاً من يوم يَفْرُمونه ثمَّ يجْعلونه صَفائِح للأكْل، فإذا عَلِمْت وجب التبْليغ.
أحدُ أخْواننا قال لي: هناك معامِل للطحينة يَضَعون مواد خطرة جِداً من أجلْ أن يَبْيَضَّ لونها، فإذا ابْيَضَّ زاد سِعْرُها! فهذه الأمور لا غيبة فيها على الإطلاق، صِحَة المُسلمين أمانة في أعْناق كُلّ مسلم، وهذه المواد الحافِظَة تحوي مادَّة اسمها بنزوات الصُّوديوم مَسْموحٌ بها واحد بالألف، يَضَعون أحياناً خمسة بالألف اِحْتِياطاً كي إذا رُدَّت تُباع، وهناك مواد مُخَرْشِنَة، ومواد لها تراكمات في الجِسْم، فإذا الواحد لم يَخَفِ الله عز وجل فعل العجيب! فالبند الثاني الاستِعانة على تغْيير المنكر، ومن باب الإنْصاف أصبح لدينا جِهات رَسْمِيَّة لها مُواصَفات دقيقة للصناعات، فأيّ عَيِّنَة مُخالفة لهذه المواصفات فهذا المَحَلّ يُخْتَم بالشَّمْع الأحْمر، ويُشَهَّر بالجريدة، فَصِحَّةُ المسلمين أمانة في يَدِ المَسؤولين، فهذه الجِهَة القائِمَة بالتَّشْهير بِهؤلاء ليْست مُرتكبة للغيبة إنما الواجب.
في بلَدٍ عربي لا أذكر اسْمه، اشْترى تاجِر لُحوماً لا تُطْعَم إلا للكلاب، جمع كلاباً وقِططاً ووضَعَها بآلة بِجِلْدها وشَعْرها ورَوْثِها، ثمَّ وضعها في عُلب بلغني - وهي فضيحة لهذا البلد العربي - أنَّ هذا الجاهل اسْتَوْرد البضاعة وغيَّرَ اللُّصاقة ووضَعَها للبشر! فلابدّ على الإنسان أن يكون يَقِظاً، ودقيقاً، فإذا كان كُلُّ مواطن كذلك فالباطل يضيق، طبْعاً وِفْق الشرْع والقانون والأصول، فأنت لا تسْمح لأيٍّ كان أن يُخَرِب الآخرين، فالإبلاغ بهذا الصِّنْف ليس غيبة، وليس ذنباً، إنما النصيحة والأمانة، إذْ هناك مفهوم ساذج؛ دَعْني وشأنهم، أنا لا أحبُّ أنْ أؤذي أحداً.
3 ـ الاسْتِفتاء :
الشيء الثالث: الاسْتِفتاء، فالمُستفْتي ينبغي أن يسأل المُفْتي عن كل حالةٍ، فلان يفعل معي كذا وكذا، وهذا اغتَصَب مَحَلي التِّجاري، وذاك منَعَني من حقِّي، فإذا كان هذا ظلماً صار الأمر دَعْوى، أما إذا كان فَتْوى فصار اسْتفْتاءً، لكنّ الإمام النووي رحمه الله فَضَّل أن تقول: يا سيِّدنا المُفْتي ما تقول في رَجُلٍ اغْتَصَب داراً ليْسَت له؟ فالقاضي غير المُفْتي، فالقاضي يجب أن يُصدِر حُكماً في ادِّعاء شَخْصي واسم وخانة وَهَوِيَّة ومَحْضر، لكن المُفْتي لا علاقة له بِمَعْرِفَة الأسْماء، لذلك أكْمَلُ فَتْوى أن تقول: ما تقول فيمن فَعَلَ كذا وكذا؟
وهناك نقطة ثانية وهي أنَّ الإنسان إذا ارْتَكَبَ حماقة في بيْتِه، وحلف بالطلاق لأسباب تافِهَة، فهل لازمٌ عليه أن يفْضح نفْسهُ أمام المُفْتي؟ له أن يقول: لي صديقٌ فَعَلَ كذا وكذا، ما تقول في هذه المسألة يا سيِّدي؟ فالله تعالى يُحِبُّ السِّتْر، وكذا إذا غلط الإنسان فما عليه أنْ يفْضحَ نفْسه فلك أن تسأل المُفْتي من دون ذِكْر الأسْماء، لكِنَّ النبي الكريم أجاز هذا النَّوْع من الغيبة، وهي الغيبة عند الاسْتِفتاء.
تحذير المسلمين من الاغْتِرار بإنسان يترتَّبُ على الاغْترار به ضَرَرٌ كبير :
الآن، لك أن تُحَذِّر المسلمين من الاغْتِرار بإنسان مُعَيَّن، إنسانٌ يُرَوِّج فِكْراً مُنْحَرِفاً، وليس له أصْل من الدِّين، ويَدَّعي أنَّهُ يفْهم كِتاب الله فهْماً عَصْرياً، وهو في الحقيقة يفهمُهُ فهْماً مقْلوباً، وما فَهِمَهُ أحدٌ من قبل، ويفهَمُه بحيث يجْعل هذا الكتاب المُقَدَّس يتماشى مع المفهوم العصْري الإباحي، والعنوان براق، يقول لك: أنا لا أحبُّ أن أغْتاب أحداً! بل اغْتابهُ ونبِّهِ الناس عليه، جاء رجل من بلاد الغرْب بعد أن أسْلم وكان حديث عَهْدٍ بالإسلام، فاسْتَنْصَحَ أحداً أن يُقَدِّمَ له كتاباً يُعينُه على فَهْم دينه، فإذا به يُقَدَّم له كتاب القرآن وقراءته المُعاصِرَة، وهو كِتاب مُدَمِّر في الدين والعقيدة، فإذا كان الكتاب مُنْحَرفاً، وفيه قَلْب للمفاهيم، وتَزْوير للحقائِق، فهذه ليسَتْ غيبة، لك أن تحذر المسلمين من الاغْتِرار بإنسان مُعَيَّن يترتَّبُ على الاغْترار به ضَرَرٌ كبير بالعقيدة، فالتَّحْذير هنا ضرورةٌ وواجب.
أحْياناً حديث موضوع يروج بين الناس، قُلْ له: راوي هذا الحديث وضَّاع وكذاب ومُتَّهَم، هذه ليْست غيبة، هذا هو الدِّين.
بما أنّ الدِّين نقْلٌ فأخْطر ما في النَّقْل صِحَّةُ النَّقْل، فلك أن تجْرح الرواة والشُّهود، شاهد زور ومُزَوِّر، وأنَّهُ لم يكن وقْتَ الحادِثَة ويحْلِفُ على كتاب الله أنَّه حضَرَها وتعلم عنه ذلك فقلْ عنه إنَّه شاهد زور.
بيتٌ لا أساس له، مُبَلَّغٌ صاحبه أن يُخْلِيَهُ لِعِلَّة الخطر، جاء شار مُغَفَّل فيَجِب أن تنْصحه، إنسان يَتَصَدَّر للعِلْم وتعْليمه وهو لا يعْلم شيئاً، وللفَتْوى وهو لا يعْلم، فيجب أن تُبَلِّغ عنه، لأنَّ فَتْوَتَهُ جِسْر إلى جَهَنَّم، لي كلمة أقولها من باب الدُّعابة: كُلُّ معصية لها فَتْوى، لا تغْترّ بالفتوى فقد أوْدع الله فيك مُفتياً صغيراً قال عليه الصلاة والسلام لوابصة:
(( جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟ قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ فَضَرَبَ بِهَا صَدْرَهُ وَقَالَ: اسْتَفْتِ نَفْسَكَ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ ثَلَاثًا الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ ))
فأنت من أجل بيتٍ كي تبيعَهُ تتَحَقَّق، وتسأل الدلال، فما بالك من أجل دينك والحياة الأبدِيَّة، هل تقْبل بِهذه الفتوى؟ لستَ مقْتَنِعاً، يقول لك: هناك فتوى، وأنا سألْتُه وهو الذي قال هكذا! هذه هي السذاجة! اسْتَفْتِ قلبك وإن أفْتاك الناس وأفْتَوْك، أحد العلماء كان بِبَلدٍ عربي إسلامي وكان في بيت رجل يحْتلّ منْصباً عالياً في هذا البلد، وهو على فِراش الموت، فجْأةً رفع يدَيْه إلى السماء وقال: يا ربّ إنِّي أبْرأُ إليك مِن كُلِّ فَتْوى أفْتَيْتُها في تثمير المال، والناس سمعوا الفتوى وعملوا بها وغاب عنهم أنّ الذي أفْتى بذلك تبرَّأ منها وهو على فِراش الموت، وقال العلماء: هناك فَتْوى وهناك تَقْوى، في بعض البلاد يضعُ في جَيْبِهِ عدداً من أسنان الثوم، فإذا أحبّ ألا يُصلي الجمعة يضع في فمه سنّاً، من أكل الثوم فلا يقربنَّ مُصَلانا!! معه فَتْوى !! تَزْوير الدِّين.
قال: هذه نصيحة واجبةٌ للمسلمين، وإلا ضاعتْ الحقائق، ودخل في الأمْر ما ليس أهْلاً، وضَلَّ المسلمين وأضلوا، في أمور العقيدة والدِّين لا توجد مُجاملة وغيبة، لكن ليس لك الحقّ أنْ تتكَلَّم كلاماً من دون دليل، وليس لك حق أن تُعالِج موضوعاً خطيراً مع أشْخاص لا يَعْنيهم هذا الأمْر.
4 ـ طلب الإعانة في إزالة المنكر :
هناك بند آخر وهو من اسْتشارَك في مُصاهَرَة أو مُشاركة أو إيداع مال أو معاملةٍ، فإذا طرق بابك إنسان وقال لك: فلان خطب ابِنتي هل أُعْطيه؟ وكنت تعرف أنَّ هذا الخاطب سيئ ولا دين له، وقوله كذب فماذا تقول له؟! لا، والله هو ليس أهْلاً للزواج بابْنَتِك، بعد أسبوع يقول الخاطب: ما رأيكم؟ فيقول الأب: والله سألنا فلاناً وقال: والله أنت لا تنفع!! هذه تُسَبِّب مُشْكلات وعداوات، وأموراً غير معْقولة، قال لي أخٌ يعْمل في المالِيَّة: جاءَتني شَكْوى على إنسان مُتَهَرِّب من الضريبة، وهذا الإنسان طبيعي ومقَدِّم ِبَياناً، فإذا بالشَّكْوى الثانِيَة والثالثة وشكاوى لا تُعَدّ ولا تُحْصى! بعدها اضْطرّ أن يعْمل كَشْفاً فلم يجِد شيئاً، بعدها وجدوا أنّ المُشْتكى عليه سُئل عن تزْويج ابنة المُشتكي فقال: ليْست كذلك! فالكَيْد بدأ بإخبار المالِيَّة أنَّ فلاناً له بِضاعة مُهَرَّبة و... كُلَّ ما في الأمر أنَّه قال في ابنته أنها ليست كفْئاً وبَقِيَتْ العداوة سنة ونِصْف تقْريباً! فمن اسْتشارَك في مُصاهَرَة أو مُشاركة أو إيداع مال أو معاملةٍ، وأخذت الجواب سلبياً فيجب ألا تُشَهِّر بالذي نصَحَك، وما عليك إلا أن تُعْطي عُذْراً مقبولاً؛ ليسَتْ راغِبَة ابنتي بالزواج وما شابه ذلك، هناك حماقات تُرْتَكب تُسَبِّب عداوات وخراب بُيوت، هل تُصَدِّقون أنَّ امْرأةً سُئلَتْ عن قريبٍ لها فمِن أجل جوابها السلبي طُلِّقَت!! انتقَمَ منها زوْجها، وهذا مِن حُمْق السائِل ولُؤمَهُ، أنت شَرَّدْت أُسرة وخَرَّبْت بيت امْرأة، فأنا أُدَقِّقُ على هذا: من اسْتشارَك في مُصاهَرَة أو مُشاركة أو إيداع مال أو معاملةٍ وأخذْت جواباً سَلْبياً فلا ينبغي أن تذكر السَّبب حين الرَّفْض، لأنَّ هذا مَجْلس أمانة.
سألت امْرأة النبي عليه الصلاة والسلام فقالت:
((معاوية وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَكَرِهْتُهُ ثُمَّ قَالَ انْكِحِي أُسَامَةَ فَنَكَحْتُهُ فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ ))
نبَّهَها أنه يُكْثر الضَّرْب، قال: ومن هذا إنْ رأيت من يشْتري سِلْعَةً فيها عيباً وجَبَ عليك بيان هذا العَيْب للمُشْتري إن لم يعْرِفْهُ، يقول لك: فقَدْتُ البيع! لا، هذا هو الدِّين.
وإذا رأيتَ مُتَفَقِّهاً يتردَّدُ على مُبتدِعٍ أو فاسِق يأخذ عنه العِلْم، فينْبغي أن تُنَبِّهَهُ وأن تُحَذِّرَهُ، وهذه كُلُّها من النصيحة، فقد ذكر لي البارحة إنسان أنَّ إمام مسْجد يسْكن في بيْت في المَسْجد ولا يُصلي الفجْر، ولا المغرب ولا العِشاء، فهل يُعْقل أن يُسكت على هذا؟ يجب أن تذْكر، فالذي يأكل أموال الناس بالباطل ويكْذب عليهم يجب التبْليغ عليه.
الآن لدينا سؤال دقيق: قال لك إنسان أريد أن أُشارك فلاناً فما قوْلك؟ فتقول هو: قليل الأمانة، ثمَّ هو قصير! سبحان الله: ما دَخْل القِصَر بالموضوع؟! لا تذْكر من العُيوب ما لا علاقة له بالسؤال، وله زَوْجة سيِّئَة و... ما دخْل هذا الموضوع بِالخوض في الكلام الباطل؟ يجب أن تُجيب بِقَدْر السؤال، دون زِيادة.
5 ـ الفاجر و المجاهر بفسقه :
الشيء الخامس: أن يكون هذا الذي تغْتابه فاجِراً، يُدَخِّن في الطريق بِرَمَضان، فالفاجِر لا غيبة له، وكذا الفاسق الذي يُظْهِرُ فِسْقه، إنسان يعْمل في عَمَل سيِّئ جداً؛ في تَرْويج الباطل، ويعمل في الدعارة والنوادي الليليَّة، ومُهِمَّتُهُ خاصَّة بالجِنْس فهذا لا غيبة له إطْلاقاً، إذْ الحِبر يُؤَثِّر بالثَّوْب الأبْيض، أما الثوب الذي بقِيَ سَنَتَيْن لم يُغْسل فهذا تأثير آخر عليه، فَمَن كان مُجاهِراً بِفِسْقِه أو بِدْعَتِه فلا غيبة له، لذلك من الذي ينبغي ألا تغْتابه؟ الذي إذا عصى الله تعالى تسَتَّر، معنى ذلك أنَّهُ يعْلم أنَّهُ على العِصْيان، ولعَلَّهُ يتوب، فلا تفْضَحْهُ، ثمَّ الإنسان غير الناضِج لا وَسَط له، فإذا كَرِه إنساناً قَطَعَهُ مُباشَرَةً، غَلِط وأصبح سيِّئ الخلق ولا أمانة له، واتَّهَمْتَهُ بأمانته وأخْلاقه؛ فهذا العمل غير لائِق، إذْ المَوْضوعِيَّة قيمة أخْلاقِيَّة، وقيمة عِلْمِيَّة، فأنت دائِماً اذْكر الشيء بِحَجْمه دون الزيادة، هناك مَوْقف للنبي عليه الصلاة والسلام يأخذ بالألْباب وهو يسْتَعْرض أسْرى المُشْركين بِبَدْر، فإذا هو أمام صِهْره مع المُشْركين جاء لِيُحارب ويقْتل، فنظر إليه فقال: "والله ما ذَمَمْناهُ صِهْراً"، فقد كان مَوْضوعِياً صلى الله عليه وسلَّم، مع أنَّهُ مُشْرك ويُحارب رسول الله ووالد زوْجَتِه، وإذا اسْتطاع قَتَله! أليس كذلك؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام كان مُنْصِفاً، فحتى لو ذَكَرْت إنساناً لِضَرورة شَرْعِيَّة فابْقَ في حُدود السؤال، ولا تُبالِغ، لأنَّ المُبالغ جاهِل دائِماً.
عن عبد الله بن مسْعودٍ رضي الله عنه قال:
((قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ يَرْحَمُ اللَّهَ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ))
و عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ كُنْتُ فِي غَزَاةٍ فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ:
((لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ وَلَئِنْ رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِهِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي أَوْ لِعُمَرَ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَبْد ِاللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَهُ فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ فَجَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ لِي عَمِّي مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَتَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ) فَبَعَثَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ ))
فالله أثْبت أنَّهم قالوا ذلك، وقال عليه الصلاة والسلام: "أتَرْعَون عن ذِكْر الفاجر؟ اذكروه حتى يعرفه الناس"
6 ـ الأسماء لا غيبة فيها :
آخر شيء بالغيبة، إنسان معْروف اسمُهُ الأعْمش، والأعْرج، والأصمّ، والأعْمى، والجاحِظ، والأحْدَب، هذه كُلُّها أسْماء، ولا غيبة فيها، فإذا قلت: ما اسم فلان؟ فلا تقل: لا أقول لأنَّها غيبة! لذلك أحد الشعراء جمَعَ هذه الدواعي وقال:
الذَمُّ ليس بِغيبةٍ في سِتَّــةٍ مُتَظَلِّمٍ ومُعَرِّفٍ ومُحَـــذِّر
ولِمُظْهِرٍ فسْقاً ومُسْتَفْتٍ ومن طلب الإعانة في إزالة المنكر
***
لكن الرجاء أيها الأخوة، هذه الأعذار التي شُرِعَت للغيبة لا تجْعلوها مَطَّاطِيَّة إنَّما بِقَدَرِها، وعند الضرورة، وقَدْر السؤال، ولِمَن بِيَدهِ الأمْر، أما أن تُوَسِّعَها لأيٍّ كان لِمَن يعْلم ولا يعْلم، ولِمَن بِيدِه الأمْر ومن ليس بِيَدِه، ولِمَن يسْتفيد ومن لا يسْتفيد، فهذا ليس في الحِكمة من شيء، فهذه الأعذار السِتَّ أو الرُّخَص السِتَّة التي أُبيحَتْ للغيبة ينبغي أن نتقَيَّد بها، وأن نتَشَدَّدَ في اسْتِعْمالها، وحين الشِدَّة، في الطائِرة هناك مِطْرقة صغيرة أنَّهُ إذا كان هناك خطر اِكْسر الزجاج! فهل يُعْقل إن وجَدْت الازدحام على الباب تكْسِر الزجاج! هذه موضوعة للطوارئ كالحريق، كذلك الغيبة تُسْتخْدم عند الضرورة القُصْوى وبالقدْر المناسب، ومع الرجل المعْني بالأمر.
التوبة من الغيبة، الغيبة أيها الأخوة من حقوق العباد، وحقوق العباد مَبْنِيَّةُ على المُشاححة، وحقوق الله تعالى مَبْنِيَّة على المسامحة، فلا تُقبلُ تَوْبَتُك من الغيبة إلا إذا سامَحَكَ الذي اغْتَبْتَهُ، فإن كنت جالساً بِمَجْلس وتكلَّمْت عن إنسان بِكلام لا أصْل له فهذا البُهْتان أما الغيبة فلهُ أصْل، لا تُقْبلُ توبة البُهْتان إلا أنْ ترْجع إلى القوْم أنفسِهم وأنْ تذكر لهم أنَّ ما ذَكَرْتَهُ غير صحيح، وأنَّك كنت مُفْترِياً، أما المُغتاب فيَكْفي أن تذكر ما قلتَ فيه وأن تطلب منه العَفْو، والتوبة من هذا الفِعْل وعدم الرجوع إليها وإصْلاح ما مضى، وإذا لم يُسامِحْك فهذه مُشْكِلة.