وضع داكن
24-04-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 010 - منزلة اتخاذ الأسباب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة الأخذِ بالأسباب:


 أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس العاشر من دروس منازل السالكين في مراتب إياك نعبد وإياك نستعين.
يا أيها الإخوة الأكارم؛ منزلة اليوم لستُ مُبالغاً إذا قلت: إنها من أخطر المنازل، بل إنها من أشدِّ المنازل حاجةً إليها، أي ما مرَّ على المسلمين في تاريخهم وقتٌ هم في أمسّ الحاجةِ إلى هذه المنزلة منهم في هذا الوقت، وقد تعجبونَ من عنوانها، إنها منزلة الأخذِ بالأسباب، أو كما سمّاها ابنُ القيم: إنها منزلة رعاية الأسباب، وقبلَ أن أُفصّلَ في هذه المنزلة، أتمنى أن أُوفقَ إلى مقدمةٍ قصيرةٍ تلقي ضوءاً على هذه المنزلة.
 

النجاح في الحياة يُعزى إلى صِحة التصور:


الشيء الذي يُلفتُ النظر أنَّ النجاحَ في الحياة يُعزى إلى صِحة التصور، وأنَّ الإخفاقَ فيها يُعزى إلى سوء التصور، فلو أنَّ طالباً حققَ نجاحاً عالياً في امتحانٍ ما، هذا النجاح يُعزى إلى حُسن تصور الطالب لضبطه للوقت، ولاستخدامه للوقت، ولإتمامِ ما يجبُ أن يُتِمه، فإذا أخفق فيجب أن نتساءل: لعلَّ هناكَ خطأً في تصوره؟ يوجد عندنا سؤال كبير جداً: ما الذي جعلَ المسلمين في فجر الإسلام وفي عهود الازدهار يتفوقون والله سبحانه وتعالى يُمكّنهم ويستخلفهم وتُرفرف راياتهم في مشارق الأرض ومغاربها؟ وما الذي جعلهم بعدَ وقتٍ معين في مؤخرةِ الأمم؟ لماذا كانت كلمتهم هي العليا وليست كلمتهم عُليا في وقتٍ آخر؟ لماذا كانوا أقوياء في وقت وليسوا كذلك في وقتٍ آخر؟ لماذا كانوا دُعاة ورُعاة للأمم فلماذا أصبحت الأمم ترعاهم وتتولى الوصاية عليهم؟ هذا سؤالٌ كبير، القرآن هو هوَ، والسنّة هي هيَ، والعلم بالعكس هناك ازدهار في العلم، هناك ازدهار في نشر العلم، ما الذي جعلَ المسلمين السابقين في القِمة وما الذي جعلَ بعضهم في الحضيض؟ لماذا كانت كلمتهم هي العليا؟ لماذا كانت مكانتهم عالية؟ لماذا كانوا متحدين؟ لماذا كانوا مُثلاً عُليا؟ لماذا فتحوا البلاد؟ لماذا رحموا العباد؟ هذه أسئلة كبيرة.
لاشك أنَّ أصحاب النبي عليهم رِضوان الله، لاشك وهذا شيء قطعي أنهم فَهِموا الإسلام فهماً صحيحاً، ولاشك أنَّ الرعيلَ الأخير الذي جاء في آخر الزمان فَهِمَ الإسلامَ فهماً سيئاً، لو فرضنا-من باب التوضيح-إنساناً عنده شركة سيارات كبيرة جداً، معقول كل يوم ينفجر بسياراته مئة إطار يومياً؟ لماذا؟ ما السبب؟ شركة أخرى لا ينفجر الإطار ولا في الشهر مرة مثلاً، ماذا نقول؟ نقول: لعلَّ مديرَ هذه الشركة أعطى تعليمات إلى جعل ضغط الهواء ضغطاً عالياً لا يتناسب مع الجو، فكلما أسرعت هذه المركبة تمدد الهواء وانفجرَ الإطار، إذاً الخطأ أين؟ في الأطر أم في عقل مدير هذه الشركة؟ الخطأ في عقل هذا المدير الذي أعطى هذه التوجيهات بشكلٍ مغلوط فكان هذا الإطار بضغط عال جداً، الأمر الذي أدى إلى انفجار الإطار، فكلما انفجر إطار يأتي هذا المدير ويوبخ صاحبَ المركبة، العاقل والعالِم يقول: هناك خطأ استراتيجي، هناك خطأ في المنهج، هناك خطأ في الفهم، هناك خطأ في التصور، هذا المدير العام لهذه الشركة الضخمة يجب أن يعلم أنَّ الإطار يجب أن يكون له ضغط للهواء في الصيف في هذه الدرجة، نحن حينما نرى أخطاء كثيرة، هناك تمزق، هناك تبعثر، هناك ضعف، هناك ركون للدنيا، هناك رغبة في مُتع الحياة، هناك عِداء، هناك تباغض، هناك تحاسد، هناك ضعف عام، هناك خطأ في التصور.
أي كأنَّ هذا الدرس أو تلك المنزلة التي نحن في صدد الحديث عنها كأنها إجابةٌ شافيةٌ لِما يعاني المسلمون من مشكلات، هناك مشاعر عاطفية إسلامية هذه نحترمها، ولكن لا تكفي، هناك شعور إسلامي جيد، كل مسلم يتمنى أن يكون المسلمون بوضع مقبول، بوضع ممتاز، بوضع عزيز، بوضع قوي، بوضع فيه تفوق، لاشك، هذه العواطف نحترمها، ولكن هل تكفي العواطف؟ هل يكفي أن أتعاطف مع الإسلام والإسلام يُعاني ما يُعاني؟ أينَ الخطأ؟ أينَ الخلل؟ أينَ الضعف؟ أصحابُ النبي من طينةٍ أخرى؟ من بُنيةٍ أخرى؟ لا والله، أي الإله تغيّر؟ لا والله، هو هو, الله سبحانه وتعالى أسماؤه حُسنى, وصفاته فُضلى, وهو معنا أينما كُنّا، معنا من قبل، ومعنا الآن، ومعنا من بعد, الإله هو هو، القرآن هو هو، الحق هو هو، ما الذي جعل أصحاب النبي يتفوقون؟ ترفرف راياتهم في مشارق الأرض ومغاربها؟ وما الذي جعل المسلمين في عصورهم المتأخرة متمزقين؟ ضعفاء؟ ليست كلمتهم هي العليا؟ هذا السؤال؟ ما الذي جعل هذه الشركة تعاني من هذا الضعف أو هذه الانفجارات في إطاراتها؟ أليس هناك خطأ في عقل مدير الشركة؟ أليس هناك سوء لتقدير الضغط المناسب لهذه الإطارات؟ فنحن لا يعنينا أن نعاتب كل سائق لماذا انفجر الإطار عندك، يجب أن نعاتب هذا الرأس المفكر، أي تصور العلماء للدين شيء مهم جداً، فكانت هذه المنزلة، اسمها: منزلة رعاية الأسباب، وأقول لكم دائماً قوله تعالى:

﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾

[ سورة المائدة ]

إذا أنتَ أمكنك أن تُقنع الآخرين أن هكذا الصواب كان بها، وإن لم يكن بإمكانك أن تُقنعهم افعل أنت ما أنتَ قانعٌ به، إن فعلت ما أنت قانع به نلت من الله كلَّ الوعود، وقطفتَ كلَّ الثمار، وإن أقنعتَ الناس بأن يفعلوا ما هوَ صواب كان الفرجُ عاماً. 
 

أسباب تفوق الصحابة والتابعين:


الموضوع دقيق جداً، الموضوع يشمل كل مسلم، في كل مهنة، في كل حِرفة، هذه المنزلة اسمها: منزلة رعاية الأسباب، هذا السؤال الكبير: لماذا تفوقَ أصحاب النبي؟ لماذا تفوقَ التابعون؟ لماذا كانوا مستخلفينَ في الأرض؟ لماذا كانت كلمتهم هي العُليا؟ لماذا كانوا مُمكنين؟ ولماذا نحن متخاذِلون؟ لماذا نحن ضعفاء؟ لماذا كلمتنا ليست هي العُليا؟ ما السّر؟ أقول لكم بكل تأكيد هناك خطأ في التصور، مثلاً لو أوهمنا سائق مركبة، أن هذا الضوء إذا تألق فهذا الضوء قد وُضِع من أجل أن يسليك في الطريق، ضوء الزيت إذا تألق، إذا أوهمناه أو إذا هو توهم أنه كلما تألق من أجل أن يكون تسلية لك، وهو في الحقيقة أنه إذا تألق هذا الضوء فهناك خطر على المُحرك، فالذي فَهِمَ سِرَّ هذا الضوء الأحمر في العدادات التي أمامه يقف فجأة ويضيف الزيت، والذي ظنَّ أنَّ هذا الضوء للتسلية يتابع السير، فإذا بالمركبة يحترق مُحركها، ويدفع المبالغ الطائلة لإصلاحها.
أنا أبسط، أحياناً لا يهمني الخطأ بالواقع، يهمني الخطأ أين؟ في التصور, عندما المُحرك احترقَ احترق، ما السبب؟ لِظنِّ السائق أن ضوءَ الخطر الذي تألق ليُسلّيهُ لا ليُنذرهُ، إذا كان كل يوم يوجد انفجار مئة عجلة بشركة سيارات ضخمة، هذا الخطأ ليس في العجلات وليس عند السائقين ولكن في عقل مدير الشركة، لأنه متوهم أن هذا الضغط مناسب.
 

الأخذ بالأسباب والتوحيد:


في ضوء هذا التمهيد نشرحُ هذا الموضوع، تجد مسلمين يتوكلون على الله في أعمالهم، لا يُتقن عمله ويتوكل، لا يأخذ بالأسباب ويتوكل، وقلوبهم مشركة، بقلبه يعتمد على زيد أو عُبيد, وبعمله متوكل، هذا خطأ مزدوج، والعكسُ هوَ الصواب، يجب أن يتوكلَّ بقلبه، وأن يسعى بعمله، والأحداث والظروف والصدامات في العصور الحديثة تؤكد هذه المقولة.
قال: من منازل إيّاكَ نعبد وإيّاكَ نستعين منزلة رعاية الأسباب، ذلكَ أنَّ التوحيد، ما تعلمت العبيد أفضلَ من التوحيد. 
التوحيد أن تقول: لا إله إلا الله، لا مُسيّر، لا ربَّ إلا الله، لا خالِقَ إلا الله، لا معطيَ إلا الله، لا مانعَ إلا الله، لا مُعز إلا الله، لا مُذل إلا الله، لا باسطَ إلا الله، لا قابضَ إلا الله، هذا التوحيد، والتوحيد له مستويان، مستوى قولي لساني، وهذا سهل جداً، ومستوى نفسي، فكم من موحدٍ مُشرك؟ كم من موحدٍ بلسانه مشركٍ في قلبه في جنانه؟ يقول: لا إله إلا الله بلسانه، وكلُّ اعتماده على فلان، وكلُّ ثِقته بماله، كلُّ اعتماده على قوته، كلُّ اعتماده على أولاده، كلُّ اعتماده على أهله، هذا موحد مُشرك بآن واحد، يؤكد هذا قول الله عزّ وجل:

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)﴾

[ سورة يوسف ]

يا ليت هذا الخطأ في التصور أو في العقيدة يبقى في العقيدة، هذا ينعكس في السلوك، ينعكس في حياتنا العامة، قال: من منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة رعاية الأسباب، ذلكَ أنَّ التوحيدَ يقتضي القيامَ بالأسباب الظاهرة.
أخي ابنك مريض، يقول: سلّمته لله، هذا الكلام هوَ الجهلُ بعينه، أنت بالرياضيات مُقصّر، يقول: أنا الله عزّ وجل يُكرمني كل سنة، أدعو دعاءً حاراً ويوفقني، هذا هو الجهلُ بعينه، هذه البضاعة لا تُباع معك، ما صار جبر سبحان الله! أنت عندما اشتريتها كنت دقيقاً بشرائك لها؟ درست السوق؟ درست النوعية؟ درست السعر؟ أخذت بضاعة سيئة بسعر مرتفع، وقلت: الله ما جبرها، هذا الموقف الذي فيه جهل، فنحن مادام المسلمون في هذا الجهل يعزون أخطاءهم إلى القدر، كلما وجدَ مشكلة بحياته يقول لكَ: أخي الله لم يسمح، الله لم يرد، الله لم ييسر، الله لم يجبر، هذا الموقف الذي كانَ الصحابة على عكسه.
قال: التوحيد إذا كنتَ موحداً، إذا رأيتَ يدَ اللهِ لا يدَ غيرها، إذا رأيتَ أنَّ الأمر كله بيد الله، إذا رأيت أنَّ الله هو كلُّ شيء، قال: يجب أن تأخذَ بالأسباب،  كالحركات والأعمال، ويجب أن تعتبرها، أي أن تحترمها، أن تهتمَّ بها، ويجب ألا تُهملها، ويجب ألا تُعطلها، الأسباب، النجاح في الامتحان يحتاج إلى دراسة، النجاح في التجارة يحتاج إلى دراسة السوق، نوع البضاعة، وأسعار البضاعة، والكمية المناسبة، والتصنيف المناسب، وعرض البضاعة بشكل جيد، كلٌّ شيء يجب أن تأخذَ بأسبابه، إذا أردتَ أن تنتمي إلى أمةٍ كانت فيما مضى أمةً رائدةً للأمم، إذا أردتَ أن تنتمي لأمةٍ كانت في مقدمة الأمم، هذه الأمة بدأت كما فعلَ النبي عليه الصلاة والسلام، مَثَل تعرفونه دائماً؛ هل في الأرضِ كلها إنسانٌ يستحقُ النصرَ والتأييد والعون كرسول الله؟ أكمل إنسان، رسول الله، يوحى إليه، جاء بالإسلام، ومع ذلك ما فرّطَ في الأخذِ بالأسباب قيدَ أنملة، أبداً، إذاً التوحيد، الآن كل كلمة لها معنى، التوحيد إذا كنتَ موحداً, كله شغل سيدك، لا إله إلا الله، إذا كنت موحداً قال: يجب أن تأخذَ بالأسباب, وألا تهملها, وألا تُعطلها, وأن تعتمدها, تعتمد أن تأخذها, لأنَّ هذا من لوازم التوحيد، أما إذا عزلتها, وأهملتها, واحتقرتها, وتجاوزتها, فأنتَ لستَ موحداً، فموقف الاستكانة، موقف التقصير، موقف الكسل، موقف التسيب، أخي أنا مسلم، أنا قلبي معلق بالله عز وجل، كله شغل سيدك، كله ترتيبه، تأكل قتلاً وكله ترتيبه، هذه تخسر معك، وهذه تقصر معك، ما هذا؟ هنا خسران, وهنا وضعك سيئ، ليسَ هذا موقفاً صحيحاً إسلامياً, الموقف الإسلامي ابنكَ مريض, يجب أن تأخذه إلى الطبيب, وأن تختار أفضل طبيب, وأن تشتري الدواء الصحيح, وأن تعطيه الدواء بعنايةٍ فائقة, وأنتَ في كلِّ هذه الحركات تقول: يا رب لا شافي إلا أنت, أنا أُبسط الأمر هكذا، كل الأسباب، يجب أن تأخذه إلى الطبيب في الوقت المناسب، وعند الطبيب المناسب، وأن تشتري الدواء المناسب، وأن تعطيه بشكل مناسب، وأنت في كل هذه الحركات معتمد على الله لا على هذه الأسباب، بهذا تُوفق، بهذا يُصبحُ حالُكَ طيباً، بهذا تقوى، بهذا ترقى، بهذا تستحقُ تأييد الله، بهذا تستحقُ نصرَ الله، بهذا تستحقُ إكرامَ الله عزّ وجل.
 

الموقف البطولي أن تكونَ في الوقت نفسه مرغوباً ومرهوباً:


أما البطولة الحقيقة هناك نقطة دقيقة، دائماً التطرف سهل، مثلاً أب سهل جداً أن يكون ليّناً, ضعيف الشخصية، لا يحتاج هذا إلى ذكاء, كل قضية ساكت، ابنه تطاول، ساكت، ابنته تأخرت، ساكت، ابنته وضعها لا يناسب، ساكت، صهره مقصر، ساكت، زوجته مهملة، ساكت، الزوج ممتاز، وسهل أن تكون عنيفاً, كل غلطة تضرب، كل غلطة تسب، الموقف العنيف سهل, واللين سهل، أما الموقف البطولي أن تكونَ في الوقت نفسه مرغوباً ومرهوباً، أن يرجوكَ من معك, وأن يخافَ منك، حقيقة دقيقة؛ المواقف الحادة سهلة، بإمكان كل إنسان أن يفعلها، أما البطولة أن تجمع بين المتناقضات، ألا تكونَ ليّناً فتُعصر, وألا تكونَ قاسياً فتُكسر, ألا تُؤلّه الأسباب.
طبيب مثلاً سمعتُ عن قصته، طبيب اكتشف أن الجري شيءٌ له آثار في صحة القلب لا يعدلها شيء، هو يجري كلَّ يوم, ويكتب المقالات, ويتحدث, وينصح, لكنه اعتمد على الجري وحده، وظنَّ أنَ الجري هو كلُّ شيء، وظنَّ أنَّ الذي يجري لا يموت، وأنَّ الذي يجري لا يمرض، وأنَّ الصحةَ كلها في الجري، ودبّجَ المقالات، وكتب الأحاديث، ونصح الناس، وكان يجري كلَّ يوم ساعتين فأكثر، وماتَ وهو يجري, وكان في ريعان الشباب, ماذا فعل هذا الطبيب؟ ألّهَ الأسباب، هذه حالة، وهناك إنسان يتوكل على الله, ويهمل الأسباب, ويتوكل على الله بسذاجة، فالتوكل مع إلغاء الأسباب سذاجة وجهل، وتأليه الأسباب جهل، هذه غلط وهذه غلط، لا ترقى إلا بأخذكَ بالأسباب, وبتوكلكَ على ربِّ الأرباب, هذا الكلام دقيق جداً, يمس كل مسلم، يمس كل صاحب مصلحة، كل صاحب مهنة، كل صاحب معمل، كل تاجر، كل مدرّس، كل مهندس, كل طبيب, كل أب، كل أم، كل زوجة، هذا يمسُّ كلَّ الناس، لن تكتحلَ عيناك برؤية المسلمين أقوياء, لهم الكلمة العُليا، رعاة للأمم بعدَ أن كانوا رعاة للغنم, لن ترى المسلمين قادة، لن تراهم في الصدارة, إلا إذا طبقوا هذا الموقف الدقيق, من السهل أن تأخذَ بالأسباب وتعتمدَ عليها وتؤلهها، ومن السهل أن تدعها وأن تعتمدَ على الله ساذجاً, ولكن البطولة أن تأخذَ بالأسباب وأن تتوكل على الله، هذا محور الدرس وإليكم التفصيلات.
 

الأخذ بالأسباب والتوكل على رب الأرباب:


قال:

(( عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَارِبُوا وَسَدِّدُوا, وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يُنْجِيَهُ عَمَلُهُ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْتَ؟ قَالَ: وَلا أَنَا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ. ))

[ ثابت في الصحيح ]

هل هناك أوضح من هذا الحديث؟ ((اعمَلُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يُنْجِيَهُ عَمَلُهُ)) طبّق كلَّ القواعد الصحيّة، أما إذا طبّقتها, واستغنيتَ بها عن الله, وألهتها, لن تنجوَ من المرض, يجب أن تأخذَ بها, وأن تعتمدَ على الله عزّ وجل, وأن ترجوَ الله، هذا أول حديث، ((اعملوا واعلموا)) ادرس وتوكل، انتق البضاعة الجيدة بالسعر المناسب, ثم توكل في بيعها على الله عزّ وجل, أقم كلَّ الأسباب, وتوكلّ على ربِّ الأرباب, هذه منزلة رعاية الأسباب، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا, وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ, فَرَفَعَ رَأْسَهُ, فَقَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ إِلا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَلِمَ نَعْمَلُ أَفَلا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ , ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ إِلَى قَوْلِـهِ: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ .))

[ صحيح الجامع ]

اعمل واعلم أنكَ مُيسرٌ لِما خُلقتَ له, لماذا خُلقتَ؟ خُلِقت ليرحمكَ الله عزّ وجل, إذاً حينما تعمل الطاعات فقد حققتَ المُراد الإلهي، فإذا عَمِلتَ المعاصي, وأنتَ قد خُلقتَ للرحمة والإكرام إذاً فلابد من العِلاج.
رجل من أصحاب النبي عليهم رضوان الله سأله قال: يا رسول الله-اسمعوا الكلام الدقيق، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، هذا الذي لا ينطقُ عن الهوى, كلام النبي يُمثل تعليمات الصانع- أرأيتَ أدويةً نتداوى بها، ورُقى نسترقي بها، وتُقاةً نتقي بها، هل تردُ من قدر الله شيئاً؟ أحياناً يوجد مُحاكمة ساذجة، أخي أنا إذا أخذت دواء, والله كتبَ لي أن أمرض يُفيدني؟ قلتَ له: لا، إذا الله عزّ وجل كتبَ ليَّ الشفاء, هو يشفيني؟ لا, إذاً اترك الدواء, هذه محاكمة الجهلة، قال: يا رسول الله أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا, وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا, وَتُقًاة نتقي بها, هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ فقَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ، هي أيضاً من قدرِ الله، إنكَ إذا استخدمتَ الدواء فررتَ من قضاء الله وهو المرض إلى قضاء الله وهو الشِفاء، المرض قضاء الله, والشفاء قضاء الله, فررتَ من قضاء الله إلى قضاء الله, هذا الموقف الدقيق, لن نقوى، لن نرقى، لن نعلو، لن نُعز، لن نُستخلف، لن نطمئن، إلا إذا كُنّا هكذا.
القصة الشهيرة التي حدثتكم عنها كثيراً وهيَ أنَّ سيدنا عمر رضي الله عنه حينما سافرَ إلى الشام, وقفَ على أبواب الشام, وكانَ فيها الطاعون, فرجعَ عمر, خافَ أن يدخلَ بأصحابِ رسول الله إلى الشام, فقال له أبو عُبيدة: يا أمير المؤمنين أتَفِر من قَدَرِ الله؟ فقال عمر: لو غيركَ قالها يا أبا عُبيدة, أفِرُ من قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله، الطاعون قدر الله والشفاء قدر الله, وأنا فررتُ من قدر الله إلى قدر الله, ثمَّ نادى في الجيش: هل فيكم من سَمِعَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً في الطاعون؟ انظر لهذا الأدب, قال: هذا تعليم لنا، ممكن أكون أمير المؤمنين, وسأل أصحابه: هل سَمِعَ أحدكم عن رسول الله شيئاً في هذا الموضوع؟ أجيبوني، أي أنتَ إذا كُنتَ لكَ مكانة علمية لا تستنكف أن تسألَ الآخرين، تزدادُ عندهم مكانةً, ليسَ هذا طعناً في عِلمك, اسأل، سيدنا عمر, عِملاق الإسلام, أمير المؤمنين, قال لأصحابه: هل منكم من سَمِعَ شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً في الطاعون؟

(( عَنْ أُسَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ رِجْزٌ, سُلِّطَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ, أَوْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ, فَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ, وَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ فَلا تَدْخُلُوهَا. ))

[ تخريج المسند لشعيب: صحيح ]

هذا موقف علمي، أحد العلماء كان في بلد أجنبي, والتقى مع عالِم من كِبار عُلماء الجراثيم, وسأله هذا السؤال: أي إذا كان في بلدة فيها مرض سارٍ, ماذا يجب أن نفعل؟ عالِم بعيد عن الإسلام بُعدَ الأرضِ عن السماء, ولا يعلم ما الإسلام؟ ولا ما القرآن؟ ولا ما حديثُ النبي العدنان؟ سُئل هذا السؤال، مرض سارٍ وبائي في بلد ماذا ينبغي أن نفعل؟ قالَ: أولاً: نضربُ حولَ هذا البلد نِطاقاً، نمنع الدخول إليه، واضح من أجل العدوى، فالخطر لا في المرضى، في حَمَلةِ هذا الجرثوم, كيفَ كشفَ النبي هذه الحقيقة؟ طبعاً إذا كانَ الطاعون في بلد فلا تدخلوه, واضح لأنَّ فيه عدوى, أما لا تخرجوا منه؛ هذه لا تُعرف إلا بالمخابر، لا تُعرف إلا بعد تحليل دم إنسان صحيح سوي, يقول لك: هذا حامل جرثوم.
 

التأدب مع سنن الله عز وجل:


الآن سوف أسمعكم مجموعة آيات؛ مثلاً:

﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)﴾

[ سورة الحجر ]

﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)﴾

[ سورة الحجر ]

﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)﴾

[ سورة القمر ]

﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)﴾

[ سورة يس ]

﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)﴾

[ سورة المزمل ]

﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)﴾

[ سورة الطلاق ]

﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)﴾

[ سورة الفرقان ]

﴿ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)﴾

[ سورة عبس ]

﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)﴾

[ سورة المؤمنون ]

﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)﴾

[ سورة الشورى ]

كم آية؟ كُلها بقدر، بقدر، بقدر، قال: المعنى في كلِّ هذا أن خلقه بنظام وترتيب، خلقه بقدر, خلقه بنظام، هناك سٌنن، هناك أسباب، هناك مُسببات، هناك نتائج، فإذا كانَ تصميم الكون وفق الأسباب والنتائج, وفقَ التقدير الدقيق، وفق الحساب الدقيق، وفق النظام الرائع، أنتَ أيها المؤمن؛ يا من تدّعي أنكَ مؤمنٌ بالله، أيها المؤمن؛ يا من تدّعي أنك على أمر الله سائر، وعلى منهج الله تعمل هل يليق بك أن تُهملَ نظام الله عزّ وجل؟ أن تُهملَ هذه السنن؟ أن تُهملَ هذه المعطيات؟ ألا تبالي بهذه القواعد؟ ألا تبالي بهذا التقدير؟.
أنا أصدقكم القول كلُّ مؤمنٍ يستخفُ بالأسباب, فهو سيئ الأدب مع الله عزّ وجل، كلُّ مؤمنٍ يستخفُ بالأسباب، ويحتقرها, ولا يبالي بها, ولا يأخذُ بها, فهو يُسيء الأدبَ مع الله عزّ وجل، لو أنَّ إنساناً ركبَ مركبته, ولم يُراجعها قبلَ السفر, لعل هناك قطعاً تالفة، لعل هناك حاجات ناقصة، لعل هناك خللاً في المِكبح، إن لم تُراجع هذه المركبة, وفوجئتَ بحادث, أو بطارئ, أو بانقطاع, فأنتَ لم تأخذ بالأسباب, ولم تتأدب مع الله عزّ وجل، لا نرقى، ولا نقوى، ولا نستحقُ نصر الله عزّ وجل, ولا نستحق تأييده وعونه وحِفظه, إلا إذا تأدبنا مع سُننه، أي أنت عندك مدرسة, فيها نظام دقيق, قلت: الدخول الساعة الثامنة، جاءك طالب ابن صديقك الساعة التاسعة, ما الذي صار بك؟ غض البصر، لا يصح هذا نظام عام، ما دام المدير نظّم هذا النظام, قال: يُغلق الباب الساعة الثامنة, وعلى المتأخر أن يبقى خارج المدرسة, هذا نظام, إذا كنتَ تُقدّر صاحبَ هذه المدرسة تُجِلُّ هذا النظام, وتتقيد به, وتحترمه، هكذا.
 

عدم الأخذِ بالأسباب هو سببُ تخلف المُسلمين وضعفهم وتخلي الله عنهم:


 الآن اسمعوا الكلمة الدقيقة ما من مؤمنٍ يُهمل الأسباب, ويستخفُ بها, ولا يعبأ بها, ولا يعتني بها, ويُهملها, ويدّعي أنه متوكل, فهو كاذب, وهو مسيءٌ للأدب, ولا يستحقُ نصر الله, ولا تأييده, ولا حِفظه, لا أقول لكَ: يجب أن تأخذَ بالأسباب الكاملة, قد تكون الكاملة ليست في مقدورك, الابن مريض وأنت بقرية, لا يوجد غير طبيب واحد، طبعاً يوجد أطباء  بالعاصمة أعلم بكثير, لكن ليس بإمكانك، لا يوجد مواصلات، أن تأخذ هذا الابن إلى هذا الطبيب المتواضع, هذه كلُّ أسبابك, هذا الذي تملكه، أنا أقول: يجب أن تأخذ بالأسباب المتاحة لكَ, أنا لا أطالبك أن تأخذ بالأسباب المُطلقة، بالأسباب المتاحة, إن أخذتَ بالأسباب المتاحة فقد تأدبتَ مع الله عزّ وجل.
سؤال؛ السقوط له قانون معروف, كل إخواننا الطلاب درسوه بالفيزياء, قانون السقوط, أنت تقدر أن تُلقي بنفسكَ من طائرة متوكلاً بدون مظلة؟ أخي أنا مؤمن والحمد لله، أنا مؤمن ومع الله دائماً، يا الله يا رب افتحوا هذا الباب، انزل لنرى، لا تعمل هذا، هناك قانون للسقوط تطلب مظلة، هذه نقطة مهمة جداً, كما أنك لن تلقي بنفسك من طائرة بلا مظلة لأن هناك قانوناً للسقوط، هذا النظام قائم، فهمته أو لم تفهمه, بجّلته أو لم تُبجله، صدقته أو لم تصدقه، كذلك في كل شيء آخر لا ينبغي أن تُقدمَ عليه من دون أن تأخذَ بالأسباب، عدم الأخذِ بالأسباب هو سببُ تخلف المُسلمين، عدم الأخذِ بالأسباب هو سببُ ضعفهم، عدم الأخذِ بالأسباب هو سبب تخلي الله عنهم، دققوا في مثل المدرسة، مدير مدرسة وضع نظاماً دقيقاً, يأتي ابن صديقه مُخالفاً لهذا النظام, أليست في مخالفة هذا النظام احتقار لهذا المدير؟ أليسَ من سوءِ الأدب ألا تُبالي بهذا النظام؟ فكل إنسان يهمل الأخذ بالأسباب, ويفعل ما يحلو له؛ بلا تروّ، بلا دقة، بلا حسابات، بلا دراسات، فهو إنسان بعيد عن الدين، ودائماً أعداء الدين يتهمون المسلمين بأنهم متواكلون، بأنهم حالمون، بأنهم طوبائيون، بأنهم عاطفيون, بأنهم يُثَارون لأتفه الأسباب، وتضعف هِممهم لأتفه الأسباب, أنتم على حق, الأولى بنا أن نأخذ بالأسباب, أن نقوى، الكلام لطالب ادرس جيداً، تفوق، لمدرس، لمهندس، لعامل، لصانع، لتاجر، يجب أن تكونَ في عملكَ الأول، إذا فعلنا كلنا هذا نرقى.
 

نفي العلة الغائية عن الله عز وجل:


الآن اسمعوا آيات ثانية: 

﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)﴾

[ سورة الأعراف ]

الله عزّ وجل هل هو بحاجة إلى المطر كي ينبت الزرع؟ الآن الحديث عن الله عز وجل، الله عز وجل إذا أراد إنباتَ الزرع هل هوَ مضطرٌ كما هو الإنسان إلى إنزال المطر؟ عبّرَ عن هذا علماء العقيدة بنفي العِلةِ الغائية عن الله عزّ وجل, بمعنى أنك أنتَ كإنسان إذا أردتَ أن تأكلَ خبزاً, لا يمكن أن تأكل هذا الخبز إلا إذا زرعت القمح, ونبتَ القمح, وحصدت القمح, وطحنتَ القمح وخبزته، فأنتَ كإنسان مقهورٌ بالأسباب، عندك إمكانية تأكل رغيف خبز من دون ما تشتريه أو تخبزه أو تطحنه أو تزرعه؟ لا تقدر, إلا أنَّ الله سبحانه وتعالى يجب أن ننفيَ عنه العِلة الغائية: 

﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)﴾

[ سورة يس ]

الآن كل الآيات خِلاف هذه الفِكرة, اسمع: 
﴿فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ قال تعالى:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾

[ سورة المائدة ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾

[ سورة المائدة ]

﴿ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)﴾

[ سورة يونس ]

﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)﴾

[ سورة آل عمران ]

هذه كلها باء السببية, أي هذا بما قدمت أيديكم، الأرض أحياها بالأمطار، الأشجار أثمرت بالماء, كيف نوّفق بين أن الله سبحانه وتعالى يجب أن ننفي عنه العلة الغائية؟ بمعنى أن الله عز وجل ليسَ مقهوراً بالأسباب, وهذه الآيات كلها تؤكد الأسباب، هذا نظام الكون, هو إذا أرادَ شيئاً يقول له: كُن, ولكن جعلَ إنباتَ النبات عن طريق المطر, والمطر عن طريق السحاب, والسحاب عن طريق الشمس, والشمس عن طريق البحر، مُسطح مائي كبير، أشعة شمس مُسلطة, تبخر، تكاثف السحب، تأتي الرياح تُحرك السحب، هذه السحب مشحونة بِقوى كهربائية معينة، هذه السحب لها درجة حرارة معينة، تدخل في منطقة باردة تبرد, إذا بردت بخار الماء يحمل بدرجة ثلاثين فرضاً خمسة غرامات ماء، المتر المكعب من الهواء يحمل بدرجة ثلاثين خمسة غرامات بخار ماء, فإذا برّدتَ هذا الهواء يتخلى عن نصف الماء، فكل طبقة هواء مُحملة ببخار الماء إذا دخلت في منطقة باردة تتخلى عن جزء من بخار الماء, ينعقد على شكل حبات مطر, يكون المطر، المطر يحيي الزرع، كل الحياة أسباب، هذا المولود بسبب زواج فلان من فلانة، هذه المزرعة بسبب زرع البذور، إذاً ربنا عزّ وجل نظّمَ الكون وفق الأسباب, وأودعَ فيكَ عقلاً, لا يفهم الشيء إلا بسببه، بالعقل هناك مبدأ السببية والكون أساسه الأسباب، بالعقل هناك مبدأ الغائية والكون أساسه الغايات.
 

التعامل مع الله سهل جداً:


قال: والقرآن مملوءٌ كله من ترتيب الأحكام الكونية والشرعية, والثواب والعقاب على الأسباب بطرقٍ متنوعة, فيأتي مثلاً بباء السببية، مرة باللام لام التعليل، مرة بأن التعليلية، مرة بكي التفسيرية، مرة بذكر الوصف، مرة بالتعليل الصريح, أي آيات لا تعد ولا تُحصى تُرينا أنَّ الله عزّ وجل حينما خلقَ الكون نظّمه، أنت مثلاً لا يمكن أن تجد ابنك بالثامنة عشرة مهذباً راقياً, أخلاقه عالية، عنده حياء وخجل, من دون تربية, هناك كثير من الآباء يقول لك: سلّمته لله, يتركه، يتفاجأ بعد فترة أنَّ ابنه سيئ الخُلق، منحرف الطِباع، عنده انحراف خطير، هذا كلام لا يعني شيئاً، هناك أسباب، الخُلق والاستقامة تحتاج إلى تربية، تحتاج إلى اهتمام، تحتاج إلى رعاية، يجب أن تكون فوق رأسه دائماً، يجب أن تأخذه معك دائماً، يجب أن تراقبه دائماً، يجب أن تنصحه, مرة بالإكرام، مرة بالشدة، مرة بالتهديد، مرة بالوعيد، مرة بالوعد، مرة بالمكافأة، مرة بالعقاب، مرة بالهجران، تسأل متى جاء؟ ومتى ذهب؟ ومن صديقه؟ ومع من يمشي؟ وأين كنت تسهر؟ أريد أن أرى بيتَ صديقك, تريده وأنت غافل عنه, وأنت تاركه ومهمله، تريد أن تفتح عينيك تجد ولداً ذا أخلاق، على علم، على فهم، مستحيل هذا الكلام, هذا كلام السذج، كلام الجهلة، لأن هناك أسباب.
يا إخوان, كلما تركنا الأسباب تقهقرنا، كلما تركنا النظام الذي خلقه الله عزّ وجل تراجعنا، كلما أهملنا هذه السنن والنواميس تخلّفنا، قال تعالى: 

﴿ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)﴾

[ سورة المائدة ]

معنى هذا الجزاء يوجد ظلم، هناك سبب ومُسبب، قال تعالى: 

﴿ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)﴾

[ سورة المائدة ]

﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)﴾

[ سورة سبأ ]

هناك نظام, التعامل مع الله سهل جداً، يوجد قواعد عامة, مثلاً: مدير عام بمؤسسة, بمعمل, بمدرسة, بمستشفى, وضع نظاماً, قال: كلّ إنسان يمضى عليه سنة, لا يتأخر إطلاقاً, له كتاب شكر، إذا مضى سنة ولم يأخذ ولا تقرير طبي له كتاب شكر ثانٍ، إذا مضى سنة مثلاً ولا يوجد بحقه عقوبة له كتاب شكر ثالث، إذا مضى سنة ولم يأخذ بحقه مثلاً تقصير أو تقرير تفتيشي, كتاب شكر رابع، الآن حينما يُتاح لنا أن نُرسل إنساناً في بعثة خارجية نقول: من الذي معه خمسة كُتب شكر؟ أعطاك نظاماً دقيقاً هذا المدير؛ لا يوجد عنده محاباة, ولا قرابة, ولا واسطة, ولا زُلفى, يمشي على نظام كل إنسان هاتوا إضبارته، يوجد عنده عقوبة، انتهى، عنده كذا، فالتعامل مع هذا المدير مريح أم غير مريح؟ مريح جداً لا يوجد عنده أحد أفضل من أحد, كلهم سواء, وفق نظام دقيق، لكن لو كان هناك محاباة, وهذا ابن عمه, وهذا أخوه, وهذا ابن حارته, وهذا يقدّم له الهدايا, وضع هذا, وأقالَ هذا, التعامل مع هذا الإنسان صعب جداً, شخص مزاجي, أو مصلحجي، أما لو كان هذا الشخص له قواعد عامة، ما قولك أنك إذا أردتَ أن تتعرف إلى الله عزّ وجل, الخلقُ كلهم عِندَ الله سواء، أبداً، لا أنسى هذا القول لسيدنا عمر, قال له: يا سعدُ, سعدُ بن أبي وقاص هذا الذي ما فدى النبي صلى الله عليه وسلم إنساناً غيره,

(( عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما سمعتُ النبي صلَّى اللَّه عليه وسلم يفدي أحدًا بأبويْهِ إلاَّ لسعدٍ فإني سمعتُهُ يقولُ يومَ أحدٍ : ارمِ سعدُ فداكَ أبي وأمي. ))

[ صحيح الترمذي ]

هذه قليلة من سيدنا رسول الله؟! أن يقول لك النبي: فداك أبي وأمي يا فلان، ((ارمِ سعدُ فداكَ أبي وأمي)) سيدنا عمر قال له: يا سعدُ لا يُغرّنكَ أنكَ خالُ رسول الله, وفداك بأُمه وأبيه, فالخلق كلهم عِندَ الله سواسية, ليسَ بينه وبينهم قرابةٌ إلا طاعتهم له, أنا ابن فلان، بالحي الفلاني، ابن العائلة الفلانية، دخلي كذا, حجمي كذا، شكلي كذا، كلام فارغ، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾

[ سورة الحجرات ]

هذه المعاني رائعة جداً، التعامل مع الله مريح, لأن فيه قوانين: ﴿إنَّ أكرمكم عِندَ الله أتقاكم﴾ أقرب إنسان من الله من أطاعه كائناً من كنت,

(( عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، تولى عليكم، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ. ))

[ حسن صحيح : الترمذي ]

عبد مستقيم على العين والرأس.
سيدنا بلال قال له أحد أصحاب النبي بساعة غضب:

(( عن الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ: يا ابن السوداء، فما كان من نبيِّنا عليه الصلاة والسلام إلا أن قال له : إنك امرؤٌ فيك جاهلية. ))

[  متفق عليه ]

فهذا الصحابي الجليل وضع خده على الأرض, وقال: يا بلال, طأ على خدي بقدمك كي يرضى رسول الله، ضع قدمكَ فوقَ خدي حتى يرضى عني رسول الله، لا أحد أفضل من أحد، سيدنا بلال يأتي إلى المدينة, فيخرج عمر لاستقباله، أبو سفيان زعيمُ قريش, يقف بباب عمر ساعات, من دون أن يؤذنَ له, وهو يرى بلالاً وصُهيباً يدخلان ويخرجان بلا استئذان, هذا غير معقول, فلما دخلَ عاتبه, قال له: زعيم قريش, سيد قريش, يقف ببابك ساعات طويلة, وصهيب وبلال يدخلان بلا استئذان!؟ قال له: أنتَ مثلهما؟ بالإسلام لا يوجد أحد أحسن من أحد، أنتَ وطاعتك، أنتَ واستقامتك، أنتَ وإخلاصك، أنتَ وعملكَ الصالح، هكذا، فالتعامل مع الله مريح جداً لأن هناك قوانين.
 

قوانين القرآن:


﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾

[ سورة فصلت ]

لذلك التعامل مع الله, لا تحتاج إلى يمين تحلفه له, لله عز وجل، ولا تحتاج إلى شهادة, قال له: والله يا ربي لم أعمل أنا شيئاً, شاهدتك لم تعمل شيئاً, ولا تحتاج إلى وصل، ما أعطوني وصل، الله يشاهد كل شيء، فالتعامل مع الله عزّ وجل مريح, لأن هناك قواعد دقيقة، والقرآن قواعد، قال تعالى:

﴿ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)﴾

[ سورة يونس ]

قال: ﴿ذلك جزاء الظالمين﴾ ، ﴿ذلكَ جزاء المحسنين﴾ ،﴿هل نجازي إلا الكفور﴾ الآن اسمعوا بعض الكلمات الدقيقة لبعض العلماء, قال: الموحد المتوكل لا يطمئن إلى الأسباب، لا يعتمد عليها؛ ولكن يعتمد على الله عزّ وجل، لا يطمئن إليها, ولا يرجوها, ولا يخافها, ولا يركن إليها, ولكن يكون قائماً بها, ناظراً إلى الله عزّ وجل, تقدر أن تعمل هذا؟ أن تقوم بأعلى أنواع الأسباب.  

اعتماد النبي في هجرته على الأسباب:


اللهم صلِّ عليه هاجر خبير بالطريق، إنسان يأتيه بالزاد، إنسان لمحو الآثار، إنسان للأخبار، سارَ مُغرّباً, اتجه مُساحِلاً، دخلَ في غار ثور، أخذَ بالأسباب كُلِها، وبعدها توكل على الله، قال له: لقد رأونا, قال له: يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى: 

﴿ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)﴾

[ سورة الأعراف ]

قال له: لو نظرَ أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا، قال له: يا أبا بكر ما ظنكَ باثنين الله ثالثهما؟ أخذَ بكل الأسباب وتوكل على الله.
أتمنى على إخواننا الكرام، كل إنسان بعمله، بمهنته، باختصاصه، بدراسته، بوظيفته, بمصنعه، بمعمله، بدكانه، لا يوجد تسيب، جهل، إهمال، اتركها لسيدك، توكل على الله عز وجل لا يصير شيء، أبسط شيء يأكل تفاحة لا يغسلها, يقول لك: سمِّ بالله وكُل, هذا هو الجهل بعينه، قيل: من أكلَ الترابَ فقد أعانَ على قتل نفسه، أي من أكلَ فاكهةً من دونِ أن يغسلها فقد أعان على قتل نفسه، فاسمعوا: الموّحد المتوكّل لا يطمئن إلى الأسباب، ولا يرجوها, ولا يخافها, ولا يركن إليها, ولكن يأخذُ بها. 
 

المفهوم الصحيح للتوكل:


قال: فلا يصحُّ التوكلُ شرعاً وعقلاً إلا عليه سبحانه وحده, فليسَ في الوجود سببٌ تامٌ مُنجٍ إلا مشيئته وحده, أي لا يُنَجيكَ من أيِّ شيء إلا أن يشاء الله لكَ النجاة, كلمة دقيقة جداً، لا يُنجيكَ من كلِّ شيء إلا أن يشاء الله لكَ النجاة, أما أنت يؤتى الحَذر من مأمنه, يا ربي لا ينفعُ ذا الجد مِنكَ الجد، أصحاب العقول، الأذكياء, لا ينفعهم ذكاؤهم مع الله، أحياناً التجار يُعبّرون عن هذا الكلام, يقول لك: مع الله لا يوجد ذكي،  تاجر أربعون سنة بالتجارة, خمسون سنة, عنده خبرات طائلة, يشتري صفقة خاسرة, يُفلّس من ورائها، يقول لك: مضيئة، من أين مضيئة؟  معتمة، إذا أراد ربكَ إنفاذَ أمرِ أخذَ من ذوي العقول عقولهم ثمَّ ردها لهم فَنَدِموا.
مع الله لا يوجد ذكي، يؤتى الحذر من مأمنه، لا ينفعُ حذرٌ من قدر، ما الذي ينجيك إذاً ملخص الدرس؟ في كل شيء ما الذي ينجيك؟ أن يشاء الله لكَ النجاة، ما أسباب النجاة؟ أن تأخذَ بالأسباب.
درسنا عبارة عن كلمتين، يجب أن تأخذ بالأسباب ويجب ألا تعتمد عليها، وألا تركن إليها، وألا تطمئن إليها، وأن تعتمد وأن تتوكل على الله عز وجل، في كل شيء حتى في الصلاة، أنا مستقيم استقامة تامة, لم ترف عيني على امرأة, ولا تكلّمت بكلمة, الآن سأصلي وأبكي, لا تبكي, أنتَ لا تقرأ قوله تعالى:

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾

[ سورة الفاتحة ]

الله يسد عليك، معجب، يوجد عُجب سدّ عليك، لن تستطيع أن تفعلَ شيئاً إلا بمعونة الله عزّ وجل، ولن يقبلكَ بلا أسباب، لن يعينك إلا أن تأخذَ بالأسباب وأن تعتمدَ عليه، هذا شيء دقيق جداً يدور مع الناس في كل شيء، في دينهم، في عباداتهم، حتى في أعمالهم، في مهنهم، في زواجهم، قالَ له: يا رب أنا بالجبر قوي, لكن بالهندسة ضعيف، يا رب بالهندسة، فرسبَ بالجبر, قالَ له: يا ربي الجبر والهندسة عليك.
دخل طالب إلى الامتحان, السؤال: مؤتمر برلين أين عُقد؟ بقي ربع ساعة, أين عُقد؟ مكتوب مؤتمر برلين أينَ عُقد؟ الله عزّ وجل طمس على قلبه، الآن بالدراسة, بالطب, بالهندسة, كل إنسان مُعتد بنفسه, متكل على علمه, على خبرته, تجده يرتكب حماقات, يقول لك: كيفَ فعلتَ هذا؟ هذا من العُجبِ بالذات.
قال: ليسَ في الوجود-كلام دقيق-سببٌ تامٌ موجِبٌ إلا مشيئته وحده, فهو الذي سببَ الأسباب, وجعلَ فيها القِوى والاقتضاء، فإذا جمعتَ بينَ التوحيد وبينَ إثباتِ الأسباب استقامَ قلبك على السير إلى الله، ووضحَ لكَ الطريق الأعظم الذي مضى عليه جميع الأنبياء والرسل, وهو الصراطُ المستقيم, صراط الذينَ أنعمتَ عليهم يا رب.
إن شاء الله، قيمة هذا الدرس ليسَ في معلوماته، في تطبيقه, أتمنى من كل أخ من إخواننا الكِرام في عمله, في دراسته, أبداً هذا الموقف الذي ينجي، أن تأخذَ بالأسباب وأن تعتمد على الله سبحانه وتعالى. 

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور