الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
تعريف اليتيم :
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني من دروس سورة النساء، ومع الآية الثانية من هذه السورة، وهي قوله تعالى:
﴿ وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا(2)﴾
أيها الإخوة الكرام، في الآية الأولى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءًۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبًا(1)﴾
اتقوا أن تعصوه، اتقوا أن تخالفوا أمره، اتقوا أن تحيدوا عن صراطه، ومن تفصيلات هذا الانحراف وهذا الحِياد، وهذا التقصير موضوع اليتامى.
﴿ اليتيم أيها الإخوة من فَقَدَ أباه أو أمه أو فَقَدَ كليهما، من كان بالغاً لا يسمى يتيماً، وشيء آخر، حينما يقول الله تعالى:
فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سَٰجِدِينَ(46)﴾
لا يمكن لساحر أن يسجد، فإذا سجد لم يكن ساحراً، بل هو عابد لله، يعني أُلقِيَ من كانوا من قبل سحرة، فإذا تحدّث الله عن الأيتام فهم مَن كانوا أيتاماً سابقين.
رعاية اليتيم واجب على كل مسلم:
أيها الإخوة الكرام، في قوله تعالى:
﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ(9)﴾
اليتيم فَقَدَ أباه، والأب أكبر دعمٍ للإنسان.
﴿ قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٍۢ فِى سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ(24)﴾
بدأ بالأب لأنه موطن اعتزاز، وموطن قوة، والأب يرعى ابنه، أودعَ الله في قلب الأب رحمة تكفي كي يرعى أولاده، لذلك ربما لا تجد في القرآن وصية للآباء بأبنائهم، لأن رعاية الابن طبعٌ في الإنسان، أو جزء من طبعه، فكأن الله سبحانه وتعالى من أجل أن تستمر الحياة، ومن أجل أن يُعتنى بالصغار، أودع في قلب الآباء والأمهات ابتداءً محبة أولادهم، فالأب المؤمن وغير المؤمن، والأم الفاسقة وغير الفاسقة، أيّة أم وأيّ أب في الأصل، وهذا في الأعم الأغلب عنده رغبة قوية أن يرعى أولاده، أما إذا فقد الابن أباه بموت أو شيء من هذا القبيل فقدْ فَقَدَ الدعم، فَقَدَ الإمداد، فَقَدَ الرعاية، فَقَدَ التوجيه، فَقَدَ العطف، فَقَدَ الحنان، فَقَدَ الإنفاق، لذلك أنت مكلف أن ترعى اليتيم، وأن تقدم له جزءاً مما فقَدَه من حنان الأب، وهذا واجب اجتماعي، وواجب على كل مسلم، وبيت فيه يتيم مُكرَّم هذا بيت يحبه الله عز وجل، لذلك ينبغي أن ترعى اليتيم، فإن لم ترْعَ اليتيم فأنت آثم، فإن آذيت اليتيم فأنت مجرم.
﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ(9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ(10)﴾
حضنا الإسلام والنبي الكريم على رعاية اليتيم واستثمار ماله بالمعروف:
قال تعالى:
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)﴾
أي يضربه ويؤذيه، وكأن الله سبحانه وتعالى أظهر أن من أشنع الأعمال عند الله أن تدفع يتيماً، أو أن تؤذيه، بل إنك إنْ لم تقدم له شيئاً فأنت آثم، فكيف إذا آذيته، فكيف إذا بالغت في إيذائه، لكنّ هذا اليتيم بعد أن يبلغ سن الرشد لا يبقى يتيماً، بل مِن حقه أن يأخذ ماله، والأموال كما تعلمون قد يرثها اليتيم عن أبيه، لكن لأنه صغير لا يستطيع أن يدير هذا المال، فقد نظّم الشرع نظاماً رائعاً، أن لكل يتيم وصيّاً يتولى أمره، وفي الأعم الأغلب ينبغي أن يكون هذا الوصي من أقربائه، ممن عُرِفوا بالصلاح والاستقامة والعدل والرحمة والورع، فما من وصي إلا وهو من الأقرباء إجمالاً، ويبالغون في هذا فيضعون ناظراً للوصي، وصي ومَن يراقب هذا الوصي، لحُرمة مال اليتيم، لكنّ هذا اليتيم لا يُعطى ماله، لأنه لا يستطيع أن يديره، وكذلك السفيه الكبير، السفيه الكبير أيضاً يُحجَر على أمواله، فالذي لا يستطيع إدارة أمواله، أو الذي ينفق ماله إنفاقاً عشوائياً فيه إتلافٌ للمال، فإذا كان كبيراً فهو سفيهٌ، والسفيه محظورٌ عليه أن يدير ماله، يُلقى ما يُسمّى بالحَجْر على تصرفاته، فلا يستطيع أن يبيع، ولا أن يشتري، والصغير كذلك لضعف إدراكه لا يستطيع، أما إذا كبر هذا اليتيم فينبغي أن يُدفَع إليه ماله، أما إذا كان صغيراً يُدفَع إليه مالٌ كي يأكل منه، وكي يكتسي منه، فمن كان دون سن الرشد ينبغي أن يُدفع إليه مال من رَيْعِ ماله.
﴿ وَلَا تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰمًا وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا(5)﴾
ينبغي أن تنفق عليه من ربح ماله لا من أصل ماله، كي تنمي ماله، والنبي عليه الصلاة والسلام بيَّن أننا إذا لم نستثمر مال اليتيم تأكله الزكاة، فلا بد من دفع زكاة مال اليتيم، فإن لم يكن في الاستثمار أكلته الزكاة، إذاً كأن النبي عليه الصلاة والسلام حضّنا على أن نستثمر مال اليتيم، بالمعروف طبعاً، إذاً اليتيم ما دام صغيراً، وله وصي معروف بالصلاح والورع والتدين والحرص والأمانة والنزاهة، هذا الوصي ينبغي أن ينفق على اليتيم من رَيْع ماله، هذا هو الصواب، فإن لم يكن، وأنفق من ماله المال صار في طريق النفاذ، وهذه مشكلة، وأكبر خسارة أن يخسر الإنسان رأس ماله، هنا أمر إلهي يقول الله عز وجل: ﴿وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ﴾ بعضهم قال: إذا كان اليتيم دون سن البلوغ معنى الإيتاء هنا أن تنفقوا عليهم نفقةً تُصلِح معاشهم، فيأكلوا ويشربوا ويلبسوا، أما إذا بلغوا سن الرشد ينبغي أن تمتحنوا هؤلاء اليتامى، أن تمتحنوا خبراتهم في الحياة، أن تمتحنوا دقتهم في التعامل، أن تمتحنوا عقلهم الراجح.
من بنود التقوى حسن التعامل مع مال اليتيم:
قال تعالى:
﴿ وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَٱدْفَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ ۚ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبًا(6)﴾
وقال بعض الفقهاء: إذا بلغ اليتيم خمساً وعشرين سنة ينبغي أن يأخذ ماله كله من دون قيد أو شرط ما لم يكن سفيهاً أو مجنوناً، إذاً كأن هذه الآية بعد الإيجاز الأول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ﴾ تفيد أن من بنود التقوى حُسن التعامل مع مال اليتيم، ولحكمة أرادها الله عز وجل هناك من يموت في سن مبكرة، هناك من يموت في الحرب أحياناً، هناك من يموت موتاً طبيعياً، وله أولاد صغار، هؤلاء الصغار من يرعاهم؟ من ينفق عليهم؟ من يدير شؤونهم؟ لا بد من أن يعيّن القاضي وصياً عليهم بمثابة أبيهم تقريباً، ولهذا الوصي أيضاً مَن ينظر أمره ويمتحن فعله فهنا الآية: ﴿وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ﴾ إن كان دون سن الرشد ينبغي أن تنفقوا عليهم، وإن بلغ سن الرشد ينبغي أن تمتحنوا هؤلاء اليتامى، امتحان رُشْدٍ، وامتحان عقل، وامتحان دقة، ﴿فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَٱدْفَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ﴾ إلا إذا كانوا سفهاء، لكن ما دام الله عز وجل قد وجهنا أن ننفق عليهم من رَيْع أموالهم، إذاً الأَولى أن نستثمر أموالهم، العلماء لهم وقفة لطيفة متأنّية، أنه في الأعمّ الأغلب إذا كان الذي يستثمر أموال اليتامى غنياً ينبغي أن يستعفف عن أن يأخذ شيئاً مقابل هذا الاستثمار، أما إذا كان فقيراً محتاجاً فله أن يأكل بالمعروف، والأكل بالمعروف حدّده العلماء بالقاعدة التالية؛ أن يأخذ أجر المثل أو حاجته أيهما أقل، لو أنّ يتيماً وضع مع إنسان مليون ليرة، وكان رَيع هذا المبلغ مئة ألف في العام، وكان هذا الذي يدير أمواله يكفيه خمسون ألفاً فرضاً، الأرقام لا تعني شيئاً، لو أنّ هذا الذي يدير أمواله يكفيه خمسون ألفاً ينبغي أن يكتفي بالخمسين، إن كان الربح أربعين ألفاً، وهو محتاج إلى خمسين ينبغي أن يكتفي بالأربعين، يأخذ حاجته، أو يأخذ أجر المِثل أيهما أقل، هذه قاعدة رائعة في أخذ الأجر على استثمار أموال اليتامى، وكل هذه المعاني لفظها الفقهاء في قوله تعالى: ﴿وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ﴾.
على الإنسان أن يتعامل مع مال اليتيم وكأنه مالك من أجل حفظه وصيانته:
تروي كتب التفسير أنه في الجاهلية كان هناك عادات سيئة؛ منها أنّ وصيّ اليتيم يأخذ بقرته الجيدة، ويعطيه بقرةً هزيلةً مكانها، يأخذ شاةً حَلوباً، ويعطيه شاةً عَجْفاء مكانها، يعني يأخذ من مال اليتيم جيّده، ويدفع إليه من ماله سيِّئه، والمشكلة أنّ الوصي هو وصي، وأمره نافذ، وهو مُوكَّل عن اليتيم فقد يبيع له بضاعته بأبخس الأثمان، إذا كان وصي اليتيم تاجراً فاشترى له من بضاعته، من نوع بضاعته لهذا اليتيم، هو وصيّ، هو وكيل، لو أنه اشتراها بثمنٍ بخْسٍ، يعني اشترى من نفسه، هو يمثّل التاجر ويمثّل الوكيل في آن واحد، فربنا عز وجل يقول: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ﴾ أن تأخذوا أطيب أموال اليتيم، وأن تدفعوا بدلاً منه أسوأ أموالكم، هذا أيضاً ممنوع، هذا يذكرني بقوله تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّآ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍۢ مُّبَيِّنَةٍۢ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَيْـًٔا وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا(19)﴾
قال بعض العلماء: ليست المعاشرة بالمعروف أن تمتنع عن إيقاع الأذى بها، بل أن تحتمل الأذى منها، لو طبقنا هذه القاعدة ليست الوصاية على مال اليتم تعني أن تمتنع عن إيقاع الأذى بماله، بل أن تتحمل بعض المتاعب من أجل صيانة ماله، ومن أجل تثمير ماله، ولا تنسَوا أيها الإخوة الآية الكريمة الرائعة:
﴿ وَلَا تَأْكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(188)﴾
الآية فيها ملمح رائع، لا تأكل مالك، مالي هو، لمَ لا آكله؟ هو في الحقيقة مال أخيك، وإنما وُصِف بأنه مالك من أجل أن تتعامل معه وكأنه مالُك من حيث حفظه وصيانته، يجب أن تتعامل مع مال اليتيم، وكأنه مالُك من أجل حفظه وصيانته، أو من زاوية حفظه وصيانته، أوضح مثل قد تعير إنساناً سيارتك، تقول له: اجعلها كأنها سيارتك، من أي ناحية؟ بالتملّك؟ لا، من حيث العناية بها، والحفاظ على جاهزيّتها، إذاً: ﴿وَلَا تَأْكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَكُم﴾ يعني هذا المال الذي هو مال اليتيم هو في الحقيقة مالك، من زاوية أنه يجب أن تحافظ عليه وكأنه مالك، فلأن تمتنع عن أكله بالحرام من باب أولى.
إن لم تحرص على مال أخيك نقص هذا المال وصار أخوك عبئاً عليك:
شيء آخر: أنك إذا حفِظتَ مال أخيك نما هذا المال، وكان أخوك مكتفياً، فإن لم تحرص على مال أخيك نقص هذا المال، وصار أخوك عِبْئاً عليك، المؤمن العاقل يرى في قوة المؤمنين قوة له، ويرى في ضعفهم ضعفاً له، فإذا قوّاهم قويَ معهم، وإذا أضعفهم ضعفَ معهم، إذاً: ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ﴾ لأنك أنت الوصي، وأنت المشتري، وأنت البائع، وأنت المجيب، وأنت القابض، فلذلك هناك خطورة أن تأخذ من أمواله ما ليس لك ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ﴾ .
ثم يقول الله عز وجل: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ﴾ تأكلوا هنا بمعنى تضمّوا، لا تضمّوا أموالهم إلى أموالكم، أي أنتم هنا أغنياء، وكأن الله سبحانه وتعالى نهانا عن أشنع صورة من صور الاحتيال؛ أن تأكل مال يتيم وأنت غني، هذه صورة لا توصَف، أن تأكل مال اليتيم الضعيف الفقير وأنت غني ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ إنه كان إثماً كبيراً، الحُوب هو الإثم، أي تأثمون إثماً كبيراً، ليس معنى ذلك أن تأكل ماله إذا كنت فقيراً، لأنّ الله جل جلاله قد يأتي بالحالة الدنيا لينهى عمّا فوقها.
محرم أن تجعل من مال اليتيم مجساً للسوق أو ذريعةً تحفظ بها مالك:
قال تعالى:
﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)﴾
هذه حال الدنيا، كلمة أفّ يَحرُم أن تقولها لأمك وأبيك، طبعاً أن تقسوَ عليهما بالكلام من باب أولى، أن تدفعهما بيدك من باب أولى، هنا معكوسة، هنا جاء الشّارع الحكيم بأشنع صورة أن تأكل ماله، وأنت غني، طبعاً هذه شناعة ما بعدها شناعة، ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ﴾ أي لا تضمّوا أموالهم إلى أموالكم، المشكلة أن الطفل الصغير ليس في قدرته أن يحاسبك، يعني مثلاً ماذا يفعل بعضهم؟ معه أموال يتيم، هو تاجر، البضاعة غير المعروفة وربحها غير معروف، يا ترى تُباع أو لا تباع؟ هذه في علم الله، يستثمر بها مال اليتيم، فإن خسر ماذا يقول؟ سبحان الله! هذا قدر الله وترتيبه، وإن ربحت جسّ بها السوق، أدخلَ ماله الذي يملكه هو في هذه الصفقات، فجعل مال اليتيم دريئة جسّ بها السوق، فإن ربحت هذه الصفقة أدخل ماله الأساسي، وإن لم تربح اعتذرت بالقضاء والقدر، يعني عرف على حساب غيره، عرف نوع هذه البضاعة، ومدى صلاحيتها، ورواجها على حساب اليتيم، هذا المعنى أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ولا تجعل ماله دون مالك، تجسّ به السوق، فإن ربحت هذه الصفقة أدخلت مالك الأساسي، وإن لم تربح اعتذرت بالقضاء والقدر، لكن ما الذي ينبغي أن تفعله في مثل هذه الحالة؟ ينبغي أن تستثمر مال اليتيم في صفقة ربحها شبه مضمون، كل تاجر عنده بضاعة تُباع بشكل مستمر وأرباحها ثابتة، وليس فيها إشكال إطلاقاً، ينبغي أن تستثمر مال اليتيم في مثل هذه الصفقات، الصفقات التي تباع بوقت قصير، وأرباحها مجزية، من يعرفها؟ الذي يستثمر يعرفها، لذلك مُحرَّم أن تجعل من مال هذا اليتيم مِجَسّاً للسوق، أو دريئةً تحفظ بها مالك، ولا تجعل ماله دون مالك، ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ إنه كان إثماً كبيراً، هذه القضايا المالية.
وهناك تفاصيل في كتب الفقه، كيف يُمتَحن اليتيم؟ وكيف يُدفع له ماله؟ وكيف على وصي اليتيم أن يُشهد على ماله الذي أخذه شهوداً عدولاً؟ وكيف ينفق على اليتيم قبل أن يبلغ سن الرشد؟ كيف ينفق؟ مستوى الإنفاق؟ حجم الإنفاق؟ كيف يعامل هذا اليتيم؟ كيف يؤدب هذا اليتيم؟ أيضربه؟
(( قال رجل: يا رسول الله إن في حجري يتيما أفأضربه؟ قال: نعم، مما كنت تضرب منه ولدك ))
إذا ارتكب ولدك إثماً يقتضي أن يُؤدَّب فينبغي أن تُؤدِّب هذا اليتيم، الآن هناك قضية اجتماعية دقيقة جداً مرتبطة بهذا الموضوع؛ أنت قريب وتحت وصايتك يتيمة، أعجبك جمالها، ولك أن تتزوجها، أو أعجبك وفرة مالها، ولك أن تتزوجها، من هو الذي يبُتُّ في قضية زواجها؟ أنت، أنت وكيل عنها، أنت وصيٌّ عليها، وأنت الطرف الثاني في آن واحد، فما الذي يحصل؟ عندك يتيمة أعجبك حُسنها، أو عندك يتيمة أعجبتك أموالها، فأنت الذي أجبت، وأنت الذي قبلت، وأنت زوّجت نفسك من هذه اليتيمة، من الذي يعرف ما إذا ظلمتها أو لم تظلمها؟ الله جل جلاله، أعطيتها حقها، أعطيتها مهر المِثل، إن كنت طامعاً في مالها، عاملتها كزوجة، أم أنك طمعت بمالها وأهملتها كزوجة؟
بعض المذاهب منع أن يبيع الإنسان نفسه:
قال الله عز وجل:
﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ(3)﴾
أي إن كانت عندك يتيمة، وأنت وصي عليها، وأردت أن تتزوجها هناك مزلقٌ خطير أن تظلمها؛ إما بعدم إعطائها المهر الذي يناسبها، والذي يكافئ مستواها، أو بعدم التفاتك إليها كزوجة إذا كنت طامعاً في مالها، هي ماذا تتمنى؟ تتمنى زوجاً يحبها، ويحترمها، ويكرمها، وإن توافر هذا في وصيها تتمنى أيضاً مهراً يتناسب مع قدرها، فحينما يبيع الإنسان نفسه هنا مشكلة كبيرة جداً.
أضرب لكم مثلاً يوضح هذه الفكرة؛ لو أن لك قريبة وضعت معك مالاً للاستثمار، وأنت عندك معمل نسيج، خبرتك الجيدة في الخيوط، فهذه القريبة أعطتك مبلغاً من المال بقصد أن تستثمره، وأن يكون الربح بينكما، اشتريت به خيطاً، في وقت ما أنت بحاجة إلى هذا الخيط كصاحب معمل نسيج، أنت الآن شخصية مزدوجة، أنت وكيل هذه القريبة التي وضعت معك مالاً للاستثمار، وأنت طرف آخر في شراء هذه الصفقة كصاحب معمل، ما الذي يمنع أن تشتري هذه البضاعة بثُلثَي قيمتها، التي أعطتك المال لا تعلم بالأسعار، وضعتْه عندك ووثقت بأمانتك، فأنت حينما تبيع نفسك أو تشتري من نفسك هناك مَزلَق خطير، لذلك بعض المذاهب منع أن يبيع الإنسان نفسه، ممنوع، لا ينعقد هذا البيع ما دمت أنت المشتري، وأنت البائع، فهناك مزلق خطير جداً؛ أن تشتريها بأبخس الأثمان، أو إن بعتها لهذه المستثمِرة أن تبيعها بأغلى الأثمان، تشتري بأبخس وتبيع بأغلى، لذلك بعض المذاهب منعت أن يبيع الإنسان نفسه، لكن بعض المذاهب الأخرى قالت: لو أنك أردت أن تبيع هذا الخيط الذي هو لقريبة لك تستثمر عندك مالها، لو سألت أسعار الخيط بالسوق الكيلو بمئة ليرة، وكتبت أن سألنا فلاناً، سألنا فلاناً، سألنا فلاناً، الكيلو بمئة ليرة، وأنت اشتريته منها بمئة وخمس ليرات، في معك استقصاء، معك معلومات مسجلة، وأنت ورَعاً ودفعاً للشبهة اشتريت بأغلى مما ينبغي، ما في مشكلة، طبعاً سُقت هذا المثل لأنه دقيق جداً، وهذا اليتيم الذي بيدك ماله هذه حالة مشابهة تماماً، أنت البائع وأنت المشتري، أن المجيب وأنت القابض، إذاً: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَٰمَىٰ﴾ إن رأيت أن هذه اليتيمة إذا تزوجتها هضمت حقها، أو إن رأيت أن هذه اليتيمة إن تزوجتها ربما لن تعاملها كزوجة، لأنه لا يعجبك حُسنها، لكنك طمعت بمالها، فأنت إذاً تظلمها، ماذا ينبغي أن تفعل ورعاً؟ أن تتزوج غيرها ممّن لها ولي، ممن يحاسبك إذا قصّرت، ممن يطلب منك إذا أقررت.
الله عز وجل سمح بالتعدد ولم يطالب ببيان السبب بل طالب بالعدل:
قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ﴾ والحقيقة موضوع التعدد، موضوع خاض فيه أناس كُثُر، فالذين عددوا يتوهمون أن التعدد هو الأصل، والذين لم يعددوا يظنون أن تبقى على واحدة هو الأصل، والحقيقة الدقيقة أن التعدد ليس إلزامياً، لكن الله سمح به، كلام دقيق واضح جداً، وسمح به لأسباب أساسية في الحياة، لكن الشيء الذي يدهش أن الله سمح به، ولم يطالبك ببيان السبب، بل طالبك بالعدل، فلو أن الله سمح لك بالتعدد، وطالبك ببيان السبب لاضطررت أن تفضح نفسك، ومن أشد العلاقات خصوصيةً ما كان بين الزوجين، فقد تقول: إنها لا تُحصِنني، اتهمتها، وقد تقول: إنها مريضة، وربما لا تكون كذلك، فحينما سمح الله لنا بالتعدد أعفانا من ذكر السبب، ولكن طالبنا بالعدل التام.
ذكرت لكم سابقاً أن برنامجاً حول التعدد، بُني هذا البرنامج على أسئلة لكبار المعنيين بهذا الأمر في الشرق، فجاء سؤال إلى أستاذة في الجامعة تُسأَل عبر الهاتف عن رأيها بالتعدد، بالفعل كانت إجابتها رائعة، قالت: كيف أدلي برأيي في التعدد، وقد سمح الله به؟ خالق السماوات والأرض سمح بالتعدد، ذلك أنه في دين الإسلام ليس هناك زوجة وخليلة، ليس هناك زوجة وعشيقة، ليس في الإسلام إلا زوجة، إنها علاقة واضحة وضوح الشمس، تكون تحت ضوء النهار دون خوف ولا وَجل، ولا تستّر ولا سرية ولا كتمان، الزواج من السنة أن يُشهَر، وهذا الذي يفعله الأزواج يوم عرسهم يُشهِرون هذا الزواج بأساليب عديدة، فنحن ليس في الإسلام شيء نستحي أن نفعله علناً، فإذا كان هناك أسباب تقتضي أن يكون لهذا الزوج زوجة ثانية، لو أن الأولى لا تنجب أنلقيها في الطريق؟ لا، نبقيها، ونعاملها أكرم معاملة، ونبحث عن زوجة تنجب، لو أن هذه الزوجة مريضة نلقيها في الطريق لأنها مريضة؟ لا، نبقيها أكرم زوجة، ونبحث عن زوجة صحيحة، هناك أسباب كثيرة.
العدل التام بين الزوجات لا العدل المطلق:
في أيام الحروب قد يفقد بلد مليون شهيد، فصار هناك نقص بالرجال، فهل يعقل أن تبقى امرأة لرجل فقط، ما الذي يمنع من التعدد في أزمات الحروب؟ فثمة ازمات الحروب، وثمة أمراض، وعقم، وعدم إحصان، ثمّةَ أسباب كثيرة، لكن عظمة الشرع أعفتك من بيان السبب، وأوجبت عليك العدل التام، والعدل التام أن تعدل بين الزوجتين، أو بين الثلاثة، أو بين الأربعة في الإنفاق، وأن تعدل في المنزل، في البيت، وأن تعدل في الوقت، وقت واحد، ليلة بليلة، ليلتان بليلتين، وبيت في مستوى واحد، وبيتان في مستوى واحد، ونوع الإنفاق واحد، أما حينما يشترط الزوج ألاّ ينام معها إطلاقاً، يأتيها من حين لآخر ظهراً، هذا مجانب للعدل، امرأة تتمتع بزوجها معها طوال الليل ومع أولادها، وامرأة لا يستطيع زوجها إلا أن يكون عندها ساعة في النهار، هذا ليس من العدل، لذلك طالبنا الشرع بالعدل التام، ولم يطالبنا بالعدل المطلق، المُطلق في الميل، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. ))
[ رواه الإمام احمد وأبو داود والدارمي عن عائشة ]
قلبك ليس بملكك، قد تميل لمن لها كلام طيب، من لها شكل مقبول، أو شكل جيد، من لها رقة، وقد تنفر ممن لها قَسوة في حديثها، وقد يعلو صوتها على صوتك، فأنت لم تطالَب بالعدل في المَيل، لكنك طُولِبت بالعدل في الإنفاق والمسكن والوقت لذلك: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَٰمَىٰ﴾ يعني تزوجت هذه اليتيمة فظلمتها من حيث المهر، أو ظلمتها من حيث الإنفاق، أو ظلمتها من حيث الحب، فإن خفت أن تحملك وصايتك لهذه اليتيمة على أن تظلمها فَدَعْها، وخذ مَن تأخذ حقها منك بالتمام والكمال.
قد يقول قائل: لو أن إنساناً توفي أخوه، فهؤلاء البنات هن بناته حكماً، بحكم وصايته عليهن، وخشي من التردد على بيت أخيه بعد موته، فيسيء الناس الظن به، ما الذي يمنع أن يتزوج أمهم؟ لا مانع، بالعكس هذا أَولى، يعني حسماً للقيل والقال، هو مُكلَّف أن يرعى هؤلاء البنات وأمهم أجنبية بالنسبة إليه، فإن تزوجها حل مشكلة كبيرة ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ﴾ هذا من يقول: إن مثنى اثنتان، وثُلاثاً ثلاث نسوة، مما يساوي خمساً، وإنّ رباعاً أربعُ نسوة فصاروا تسعاً، هذا كلام لا أصل له إطلاقاً، لك أن تتزوج امرأتين، أو ثلاث نساء، أو أربعاً.
من لم يأنس من نفسه العدل في معاملة زوجتيه فعليه أن يكتفي بواحدة:
تروي بعض الكتب أن امرأة جاءت سيدنا عمر تشكو زوجها بلطف بالغ، قالت: يا أمير المؤمنين إن زوجي صوّام بالنهار قوّام بالليل، يبدو أن سيدنا عمر كان مشغولاً، فقال لها: بارك الله لكِ بزوجك، فعنده أحد الصحابة، قال: يا أمير المؤمنين، إنها لا تمدحه، إنما تشكوه، ولكن بأدب، فَحَكَم بينها وبينه، وألزمه أن يتفرغ يوماً لها كل أربعة أيام، لو أنه تزوّج أربعة فلها حق في يوم، فحكم لها أن يكون معها لا صواماً ولا قواماً في هذه الليلة، وحينما رأت السيدة عائشة امرأة عثمان بن مظعون في صورة زريّة تهمل نفسها، سألتها، قالت: ما لي وله، هو صوام قوام، فاستدعاه النبي، وقال له: يا عثمان أليس لك بي أسوة؟ إنني أصوم وأفطر، أنام وأقوم، فتوجه عثمان بن مظعون إلى زوجته، وأعطاها نصيباً من اهتمامه، فجاءت في اليوم التالي عطِرةً نضِرة، فسألتها أخواتها، قالت: أصابنا ما أصاب الناس.
عن عائشة أم المؤمنين:
(( أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ بَعثَ إلى عُثمانَ بنِ مَظعونٍ فجاءَهُ فقالَ يا عُثمانُ أرغِبتَ عن سنَّتي قالَ لا واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ ولَكن سُنَّتَكَ أطلُبُ قالَ فإنِّي أنامُ وأُصلِّي وأصومُ وأُفطِرُ وأنكِحُ النِّساءَ فاتَّقِ اللَّهَ يا عثمانُ فإنَّ لأهلِكَ علَيكَ حقًّا وإنَّ لضَيفِكَ علَيكَ حقًّا وإنَّ لنفسِكَ علَيكَ حقًّا فصُم وأفطِرْ وصلِّ ونَمْ. ))
أيها الإخوة، من يظن نفسه لا يعدل بين زوجتيه ينبغي أن يبقى على واحدة، لأن هذا ظلم شديد، ويأتي يوم القيامة ليحاسَب عن عمله حساباً عسيراً، وأنا والله أصدقكم أنّ عدداً كبيراً ممن عدّد لا يطبق هذه التعليمات، واحدة مهضومة الحق، والثانية تأخذ كل شيء، وأكثر الذين عدّدوا ولم يعدلوا ندموا أشد الندم، ودائماً يشعر أنه ظالم، فإن استجاب إلى ضغوط الأولى أو الثانية وقع في ظلم الأخرى، فمن لم يأنس من نفسه العدل في معاملة زوجتيه فعليه أن يكتفي بواحدة.
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ﴾ أي ألّا تنحرفوا وتظلموا وتأتوا يوم القيامة في شكل مُحاسَبين عند الله أشد الحساب.
في درس آخر إن شاء الله تعالى نتابع هذه الآيات وهي قوله تعالى:
﴿ وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٍ مِّنۡهُ نَفۡسًا فَكُلُوهُ هَنِيٓـًٔا مَّرِيٓـًٔا(4)﴾
الملف مدقق