- موضوعات متنوعة
- /
- ٠4موضوعات متفرقة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أمة التبليغ و أمة الاستجابة :
أيها الأخوة الأكارم... يحتاج المؤمن أحياناً إلى أن يملك التفسير الصحيح، أن تملك التفسير الصحيح للأحـداث هذه نعمة كبرى ينعم الله بها على المؤمن، والنبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة وردت في باب الفتن له توجيهات نظرية، وله توجيهات عملية، ففي كتاب الفتن من قسم الأفعال من كتاب كنز العمال أحاديث كثيرة تلقي ضوءاً ساطعاً على بعض القضايا.
آحاد الأمة لها أحكام، ومجموع الأمة لها أحكام، فأنت كمؤمن إن آمنت بالله عز وجل، واستقمت على أمره، وأخلصت له، وعملت الصالحات، فلك بنص القرآن الكريم حياة طيبة، وبنص القرآن الكريم لك مودة مع الله، وبنص القرآن الكريم أن الله يدافع عنك، وبنص القرآن الكريم أن الله يحفظك وينجيك، هناك وعود كثيرة تزيد عن عشرين وعداً إلهياً وعد الله بها المؤمن، هذا الموضوع ليس بمشكلة فهو معروف عندكم جميعاً، ولكن أحياناً حينما تكون الأمة المنتمية إلى النبي عليه الصلاة والسلام في مجموعها مقصرة عندئذ قد ينشأ ظرف تحار في تفسيره.
كلنا يظن نفسه أنه من أمة نبينا محمد، توضيح دقيق: هناك من ينتمي إلى النبي انتماء التبليغ، وهناك من ينتمي إلى النبي انتماء الاستجابة، فأنت إما أن تكون من أمة التبليغ وإما أن تكون من أمة الاستجابة، فلأنك مسلم ومن أب مسلم ومن أم مسلمة، ولأنك نشأت في بيئة مسلمة، ولأنك تحضر خطب الجمعة، وفي منهاجك المدرسي مادة التربية الإسلامية، فأنت مسلم، وقد بلغت الإسلام من والديك، ومن أساتذتك، ومن علماء المسلمين، بحكم انتمائك إلى أب مسلم وأم مسلمة، وبحكم تلقيك الدروس الدينية إن في المدرسة، وإن في المسجد، فأنت أيها الأخ الكريم مصنف مع أمة التبليغ، لكنك إذا سمعت الحق، وفهمته، وتدبرته، ووعيته، واستجبت لله عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
فالآن أنت تنتقل من أمة إلى أمة، تنتقل من أمة التبليغ إلى أمة الاستجابة، عندئذ جميع الوعود التي وعد الله بها المؤمنين كجماعة لا كأفراد تنطبق عليك:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾
﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾
﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
وعود الله في القرآن موجهة إلى الأفراد و إلى المجموع :
إذاً هناك وعود في القرآن موجهة إلى الأفراد، ووعود متوجهة إلى مجموع الأمة، فأنت إذا كنت من أمة الاستجابة ينالك وعود الأفراد ووعود الجماعة، فإن كان مجموع الأمة في تقصير، في ضياع، في تهاون، في مخالفات، في إعراض، في تشتت، في حب للدنيا فعندئذ جميع الوعود التي وعد الله بها الأمة كمجموعة، هذه الوعود معطلة. فالإنسان حتى يبقى متوازناً، حتى يملك تفسيراً صحيحاً لما يجري، حتى يملك التفسير الصحيح لما يفعله الله عز وجل، القرآن حق، وكلام الله حق، وزوال الكون أهون من أن يُعطَلَ وعدُ الله لمجموع الأمة. عن سهل بن سعد الساعدي، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه:
((كيف أنتم إذا بقيتم في حثالة من الناس، مرجت أماناتهم وعهودهم وكانوا هكذا، ثم أدخل أصابعه بعضها في بعض ))
أي الأمانة معدومة، لا دين لمن لا أمانة له، ولا إيمان لمن لا عهد له، ليس هناك أمانة وليس هناك عهد.
((كيف أنتم إذا بقيتم في حثالة من الناس، مرجت أماناتهم وعهودهم وكانوا هكذا، ثم أدخل أصابعه بعضهــا في بعض، قالوا: إذا كان كذلك كيف نفعل يا رسول الله ؟ قال: خذوا ما تعرفون ودعوا ما تنكـرون، ثم قال عبد الله بن عمرو بن العاص: ما تأمرني به يا رسول الله ؟ قال: آمرك بتقوى الله وعليك من نفسك وإياك عامة الأمور))
وهذا حديث آخر: يقول عليه الصلاة والسلام:
(( .... قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ، قُلْتُ : فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ قَالَ : نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ : هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا، قُلْتُ : فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ : تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، ...))
أنت لك جماعة، لك إمام، أنتم على الحق، على منهج الله، على العقيدة الصحيحة، على الأسلوب الصحيح، على الطريق المستقيم. قال: قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال: اعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على غصن شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.
وعن حذيفــة بن اليمان قال: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"
" ليس بخيركـم من عرف الخير ولا من عرف الشر، لكن من عرف الشرين وفرق بينهما واختار أهونهما. فقلت يا رسول الله: إن كنا أهل جاهلية وشر فقد جاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر ؟- أي بعد النبي وأصحابه، بعد هذه الشعلة التي أضاءت العالم- هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعـم، قال: فقلت هل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه ؟ قال:
(( .... قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ ...))
بأعمالهم أشياء صحيحة وأشياء غير صحيحة، في عقائدهم عقائد صحيحة وغير صحيحة.
(( ...قَالَ : نَعَمْ، قُلْتُ : وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ، قُلْتُ : وَمَا دَخَنُهُ ؟ قَالَ : قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ، قُلْتُ : فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ قَالَ : نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا،.... ))
حق صراح بعده فتن، بعده خير فيه دخن، بعده شر دعاة إلى أبواب جهنم، هذا حديث آخر من أحاديث الفتن.
علامات آخر الزمان :
النبـي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عنه حذيفة بن اليمان: " كيف أنتم إذا كنتم بين عاجز وفاجر " مسلم عاجز، وإنسان آخر فاجر، القوي فاجر والمسلم ضعيف، هذه علامة من علامات آخر الزمان.
النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ))
لم يقل: القوي خير، لأن القوة من غير إيمان قوة غاشمة، قوة خطيرة، قيد القوة بالإيمان، فقال: المؤمن القوي خير.
وعن سهل بن سعد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( اللهم لا ترني زماناً لا يتُبعُ فيه العليم ))
أحياناً عامة المسلمين يرمون باللائمة على العلماء، العلماء ماذا يستطيعون أن يفعلوا غير أن يبينوا؟ لو أن الناس اتبعوهم لكانوا في حال غير هذه الحال، لو اتبعهم واحد أو اثنان أو عشرة أو مئة هؤلاء الذين اتبعوا الحق لهم عند ربهم وعدهم وتوفيقهم وحفظهم، ولكن لو أن مجموع الأمة اتبعت علماءها لكانت الأمة في حال أحسن، فلا رأي لمن لا يطاع.
فيقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( اللهم لا ترني زماناً لا يُتبع فيه العليم، ولا يستحيا فيه من الحليم ))
العليم لا يتبع، أي لا اتباع ولا حياء، الإنسان أحياناً يكون كثير العلم قليل الحياء، لا علم ولا حياء!! هذه أيضاً علامة من علامات آخر الزمان.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى عليه وسلم فتنة بين يدي الساعة، قال: قلت وفينا كتاب الله؟ قال:
((وفيكم كتاب الله))
فينا كتاب الله بين أيدينا نقرؤه صباحاً مساء، آياته واضحة جلية، أحكامه دقيقة، سبل النجاة فيه ميسرة، ومع ذلك فالناس لا يتبعونه، جعلوه وراء ظهورهم، أعرضوا عن تطبيقه، ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، ربّ تال للقرآن والقرآن يلعنه، فلذلك ذكر النبي عليه الصلاة والسلام فتنة بين يدي الساعة.
(( قلت: وفينـــا كتاب الله؟ قال: وفيكم كتاب الله، قلت: ومعنا عقولنا، قال: ومعكم عقولكم ))
فيكم أذكياء كثر، وفيكم عقلاء كثر، لكن هذا العقل مسخر للدنيا، هذا العقل مسخر لمصالح دنيوية لا لمعرفة الله عز وجل، فقد تكون فتنة كبيرة والذين وقعوا فيها بين أيديهم كتاب الله وعقولهم في رؤوسهم، ولكن كتاب الله مهجور وعقولهم معطلة، أيضاً هذه علامة من علامات آخر الزمان.
((يأتي عليكم زمان لا ينجو فيه إلا من دعا دعاء الغرق))
تصور إنساناً وقع في البحر، والأمواج طاغية، ولا يجيد السباحة، وليس له إلا الدعاء كيف يدعو! أظنه أنه يدعو بكل خلية في جسده، بكل عضو من أعضائه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((إنه سيصيــب أمتي داء الأمم، قالوا: يا نبي الله وما داء الأمم ؟ قال: الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي ثم يكون الهرج))
((أخاف عليكم فتناً كأنها الليل، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه ))
أي له قلب ميت لا يعي على خير، لا يفعل شيئاً ابتغاء وجه الله، لا يتحرك إلا بالمال، قلبه لا يرحم، يريد أن يحيا ويموت الناس، يبني مجده على أنقاض الناس، يبني غناه على فقر الناس، مثل هذا الإنسان مات قلبه وهو عند الله من الميتين، قال تعالى:
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾
الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا.
((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ))
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((تكون فتنة النائم فيها خير من المضطجع، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الراكب، والراكب فيها خير من المجري، قيل: ومتى ذلك؟ قال: ذلك أيام الهرج حين لا يأمن الرجل جليسه
((
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
((يأتي على الناس زمان المؤمن فيه أذل من شاته، أكيسهم الذي يروغ بدينه روغان الثعلب))
هذا الذي يستطيع أن ينجو بدينه على ذكاء شديد، وعلى براعة هائلة حتى ينجو بدينه.
و عن مرداس قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
((يقبض الصالحون، الأول فالأول، وتبقى حثالة كحثالة التمر والشعير، لا يعبأ الله بهم شيئا))
الوعود المتعلقة بمجموع الأمة لا تتحقق إلا إذا كان مجموع الأمة كما يريد الله :
كنت أقول لكم دائما:ً الإنسان إذا هان الله عليه هان على الله، إذا أردت أن تعرف مقامك فاعرف فيما أقامك، إذا أردت أن تعرف ما لك عند الله فاعرف ما لله عندك، هل أنت عند الأمر والنهي ؟ هل يراك حيث أمرك ؟ هل يفتقدك حيث نهاك ؟ هل شرعه معظم عندك ؟ هل تحرص أن تكسب مالك بالحلال ؟ هل ترعى حرمات الله ؟ هل تعظم شعائر الله ؟
أي الدخل حرام، وهناك اختلاط، ومنكر، وشرب خمر، وزنى، وبغي، وعدوان، وكبر، مجتمع غارق في الوحول والشهوات، هؤلاء حثالة كحثالة التمر أو الشعير لا يبالي الله بهم.
وكما قلت قبل قليل في مطلع الدرس: هناك وعود وعد الله بها المتقين كأفراد، وهناك وعود وعد الله بها المؤمنين كجماعة، فالفرد ما دام يؤمن بالله الإيمان الصحيح، ويطبق أمره التطبيق الصحيح، وله إخلاصه، فله عند الله مكانته، وحفظه، وله نجاته، وله معاملة إلى حدٍ ما خاصة، ما دام يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أما مجموع الأمة، حين يقول الله عز وجل:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾
﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾
﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
الوعود المتعلقة بمجموع الأمة لا تتحقق إلا إذا كان مجموع الأمة كما يريد الله عز وجل.
على المسلم تغيير ما يستطيع :
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((تكون فتن لا يستطيع أن يغير فيها بيد ولا بلسان ))
أي هناك فتن ضمن إمكانات المسلمين أن يغيروها، ولكن هناك فتن أخرى يقف المسلم إزاءها عاجزاً لا يستطيع أن يغيرها لا بيده ولا بلسانه.
(( قال رجل : يا رسول الله! وفيهم مؤمنون يومئذ؟ قال: نعم، قال: فهل ينقص ذلك من إيمانهم؟ قال: لا إلا كما ينقص المطر على الصفا ))
الضعيف ماذا يملك ؟ ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الطائف ؟ اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، إذا كان عنده إمكان فعليه ألا يدخر وسعاً، وإذا كان عنده إمكان أن يغير هذه الفتنة بيده أو بلسانه فعليه ألا يدخر وسعاً، ولكن إذا كان في زمن صعب وهو ضعيف فليقف مكتوف الأيدي، وليستنكر بقلبه.
عن علي رضي الله عنه قال:
(( سيأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه ))
الكتاب أي القرآن، فإذا كان مطبوعاً طباعة أنيقة، ويوضع في أجمل مكان في البيت، وللبيت مظاهر إسلامية، والمساجد فخمة مزخرفة، والناس يعتزون بأنهم مسلمون، ولكن حلقاتهم اليومية، دخلهم، حركاتهم، علاقاتهم بغيرهم، ليس أساسها الإسلام، أساسها ما تعارف عليه الناس من عادات وتقاليد فهم غثاء، ذات مرة والقصة قديمة جداً كنت أصلي في بعض المساجد، وخرجت مع بعض المصلين، فإذا رجل يتجه إلى سيارته، وفيها امرأة تبدو أنها زوجته وهي بمظهر فاضح جداً، ترتدي ثياباً مبتذلة، قلت هذا كيف يتوازن ؟ كيف يسمح لزوجته أن تكون بهذا الشكل وهو يدخل المسجد ليصلي؟ نقول له: نحن نصلي صلاة فرض ولكن ما هذا التناقض ؟ النبي الكريم يقول حديثاً لو فهمناه فهماً عميقاً لكان لنا شأن آخر.
لو أن في الأمة المحمدية أمة الاستجابة لا أمة التبليغ، لو أن فيها هذا العدد فلن نغلب من قلة، المسلمون يعدون ألف مليون، ألف مليون، لذلك يبدو أنه لم يبق من الإسلام إلا اسمه على مستوى المجموع ولا من القرآن إلا رسمه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى، وهم بعيدون عن الدين بعداً شديداً، فأنت تراهم كأنهم ليسوا من بني البشر لقسوة قلوبهم، ولغلظة طباعهم، ولأنانيتهم، ولأثرتهم، ولاتجاههم نحو الأذى والشر.
هناك بلاد متمدنة على مقياس العصر، يقول لك: راقية، ناطحات سحاب، عمارات، أبنية، حدائق، جمعيات الرفق بالحيوان، يقولون لك: أمة متحضرة، أمة متمدنة، حقوق الإنسان من أعلى مستوى، هؤلاء الذين تراهم أو تتوهمهم هكذا تفاجأ أنهم وحوش.
طبعاً هذه صفات وردت على لسان سيدنا رسول الله في الحديث الذي رواه عمر ابن الخطاب، وله طريق آخر من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر.
الصلح مع الله على مستوى المجموع :
الأحاديث الواردة كثيرة، أي قراءتها تكفي لا تحتاج إلى شرح، ولكن الإنسان حينما يرى المؤمن مستضعفاً، أو المسلم لا يرى وعود الله التي وعده إياها كمجموعة متحققة لأمته أما كأفراد فهذا موضوع آخر، المؤمن كآحاد، كفرد، موعود بحياة طيبة، موعود بطمأنينة، موعود بأن يدافع الله عنه، موعود بأن ينجيه الله من كل كرب، موعود بوعود كثيرة هذه كلها محققة على مستوى الأفراد، أما على مستوى الأمة فلا تتحقق وعود الله إلا إذا كانت الأمة بمجموعها كما أراد الله عز وجل، فإن كانت كما يريد الله جاء قول الله تعالى:
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
إن كانت الأمة بمجموعها كما يريد الله عز وجل يأتِ قول الله تعالى:
﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾
إن كانت الأمة بمجموعها كما يريد الله عز وجل يأتِ قول الله تعالى:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾
لذلك نحن في زمن صعب، وفي زمن فتن، والقابض على دينه كالقابض على الجمر أجره كأجر سبعين، قالوا منا أو منهم ؟ قال: بل منكم، قالوا: ولمَ ؟ قال: لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون، والحديث الذي تعرفونه جميعاً: قال صلى الله عليه سلم:
(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْل وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ ، وليقذفنَّ في قُلُوبكم الوَهْنَ قيل : وما الوْهنُ يا رسول الله ؟ قال : حُبُّ الدُّنيا وكراهيَةُ الموتِ ))
إذاً لن نفلح، ولن نقوى، ولن نعتز، ولن ننتصر إلا إذا اصطلحنا مع الله، لا كأفراد بل كمجموعة، إذاً كيف يكون هذا الصلح على مستوى المجموع؟ هذا يبدأ من كل واحد على حدة، اصطلح أنت مع الله، أقم الإسلام في بيتك، لو أن كل واحد منا فعل هذا لا يمضي زمن إلا وهذه البيوت المسلمة تتقارب، فإذا المجموع على حق عندئذ نستحق النصر من الله عز وجل. اسمع قول الله عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
وأخرى تحبونها، فالنصر محبب، وربنا عز وجل لما خاطب النبي قال:
﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ﴾
أي ما من شعور يصيب المؤمن مثل أن يشعر أن الله عز وجل كان معه.
الصلح مع الله طريق عزتنا وكرامتنا :
الشيء الذي تعرفونه جميعاً أن الله عز وجل له معيتان، معية عامة، وهو معكم أينما كنتم، ومعية خاصة هذه خاصة بالمؤمنين، بالصابرين، بالمتقين، فمعية الله الخاصة هي معية الحفظ، والتأييد، ومعية النصر، والتوفيق.
إذاً إذا أردتُ أن أضـع لهذا الدرس عنواناً فهو الصلح مع الله طريق عزتنا وكرامتنا، العودة إلى أوامر الله عز وجل، إذا عدت وحدك تأخذ وعود الله عز وجل لك، أما إذا عاد مجموع الأمة فتستحق الأمة في مجموعها وعد الله عز وجل، نبدأ من الأفراد، فلا بد أن يبدأ كل مؤمن بمحاسبة نفسه حساباً دقيقاً، هذا البيت بيته، هل يأمر أهله بالصلاة؟ هل يربي أولاده تربية صحيحة ؟ هل زوجته عندما تخرج من بيتها وتمشي بالطريق في زيّ يرضي الله عز وجل ؟ أما هذا الانفصام في الشخصية هو في وادٍ، وحياته الخاصة في وادٍ، ومشاعره في وادٍ، ومعاملته في وادٍ، وشروده في وادٍ، وانتماؤه في وادٍ، هذا الانفصام في الشخصية هو السبب في الهلاك، أي كما قلت قبل قليل: زوال الكون أهون على الله من أن يضيع على مؤمن عمله، زوال الكون أهون على الله من ألا تتحقق وعوده، كما جاء في العقيدة الصحيحة: وعد الله حق لا يتخلف، وعد الله للمؤمن حق لا يتخلف، ووعد الله للأمة المؤمنة حق لا يتخلف، فالطريق واضح، أي على الإنسان أن يبلغ، الطريق واضح، والكلام كله لا يجدي، المشاعر كلها لا تجدي، أي ما من إنسان إلا وله مشاعر، فإذا شعر أن الله أعزّ الإسلام يفرح، وإذا الإسلام تخلف يتألم، هذه المشاعر لا تقدم ولا تؤخر، أما الذي يقدم ويؤخر فأن تكون في المستوى الذي يريده الله عز وجل، لذلك إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماء أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، إذا كانت معرفة الإنسان بالله متينة وإيمانه قوياً فلو أن الأمور جاءت على خلاف ما يريد لا يتزلزل بل يقول: كل شيء وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة، وحكمته متعلقة بالخير المطلق:
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾
وهذه العقائد إذا ترسخت في النفس رأيت أن الله بيده كل شيء حقيقة.
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾
﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾
هذه الحقائق الثابتة تعينه على إلقاء الضوء على ما يظنه تخلياً من الله عز وجل عن عباده المؤمنين.
* * *
قصة الخيزران زوجة الخليفة العباسي المهدي مع زوجة الخليفة مروان بن محمد :
وإليكم قصة من قصص السلف الصالح، الخيزران زوجة الخليفة العباسي المهدي، وأم بنيه الهادي وهارون الرشيد، كانت ملكة حازمة متفقهة، يمانية الأصل، أخذت الفقه عن الإمام الأوزاعي، وكانت من جواري المهدي أعتقها وتزوجها، ولما مات وليَ ابنُها الهادي الخلافة، وهذه القصة جرت معها هي بالذات مع زوجة الخليفة الأموي مروان بن محمد، قال: كانت الخيرزان في دارها وعندها أمهات أولاد الخلفاء وغيرهن من بنات بني هاشم، فبينما هي كذلك إذ دخلت عليها جارية من جواريها فقالت: أعز الله السيدة بالباب امرأة يبدو أنها شريفة في أطمار رثة، وليس وراء ما هي عليه من سوء الحال غاية، تأبى أن تخبر عن اسمها، وهي تروم الدخول عليك، فقالت الخيزران: أدخليها، فإنه لابد من فائدة أو ثواب، فدخلت امرأة في أطمار رثة فوقعت بجنب عضاضة الباب، أي طرف الباب الملبن، ثم سلمت متضائلة، منكمشة، مستحية، كسيفة باللغة الدارجة، وتكلمت، فأوضحت ببيان ولسان، فقالت لها الخيزران: من أنت؟ قالت: أنا مزنة، زوج مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وقد أصارني الدهر إلى ما ترين، هذه حالتي، ووالله ما الأطمار الرثة التي عليّ إلا عارية، حتى هذه الأطمار البالية التي على جسدي استعرتها، وإنكم لما غلبتمونا على هذا الأمر وصار لكم دوننا لم نأمن مخالطة العامة، فقصدناكم لنكون في حجابكم على أية حال كانت، حتى تأتي دعوة من له دعوة أي الموت. فهذه زوجة خليفة في ثياب رثة تقف بباب الخيزران، وترجو أن تدخل عليها، فاغرورقت عينا الخيزران بالدموع.
ثلاثة أشخاص إن وقعوا في هذا الموقف يجب أن ترحموهم، غني افتقر، لذلك الفقهاء أوجبوا بل سمحوا أن تدفع زكاة المال لرجل فقير بإمكانه أن يعمل ولكن كان عزيز الشأن، فلو أجبرناه أن يعمل لعمل عملاً سحقه، وسحق كرامته، فليس ممكناً لإنسان أن يشتغل بمهنة متدنية اجتماعياً، وقد كان عزيزاً، فلذلك هذا الغني الذي افتقر، والذي يقوى على العمل يسمح له أن يأخذ من بيت مال المسلمين ما يقيم أوده من دون أن نلجئه إلى عمل يشعر به بالذل، فاغرورقت عينا الخيزران بالدموع، ونظرت زينب بنت سليمان بن علي، فقالت زينب: لا خفف الله عنك يا مزنة، أتذكرين وقد دخلت عليك وأنت على هذا البساط بعينه، نفس القاعة، فكلمتك في جثة إبراهيم الإمام فانتهرتني وأَمَرْت بإخراجي، وقلت: ما للنساء والدخول على الرجال؟ فو الله لقد كان مروان أرعى للحق منك، لقد دخلت عليه فحلف أنه ما قتله وهو كاذب، وخيرني بين أن يدفنه أو يدفع إلي بجثته، وعرض عليّ مالاً فلم أقبله، فانظر إلى الأيام كيف يداولها الله بين الناس.
العوام يقولون كلمة: الله كبير، كنت أروي قصة دائماً أن امرأة كانت في البيت مع زوجها يأكلان، طرق الباب فقامت لترى من الطارق فإذا رجل متسول يطلب منها شيئاً يأكله، وكان الطعام دجاجة، فهمت أن تأخذ بعض الطعام لتطعم هذا الفقير، فانتهرها زوجها وكان بخيلاً، وأمرها أن تطرده، وساءت العلاقة بين الزوج وزوجته الأمر الذي أدى إلى تطليقه إياها، وبعد حين خطبت و تزوجت من رجل ميسور الحال، وفي أحد الأيام كان هذا الرجل مع زوجته يتناولان طعام العشاء، فطرق الباب فقامت الزوجة لترى من الطارق، فإذا رجل يطلب طعاماً، فلما رأته ارتجفت وعادت مضطربة، قال لها: من الطارق؟ قالت: سائل، قال: ما القصة ؟ أراك مضطربة ! فلما ألح عليها قالت: السائل هو زوجي الأول، قال: أتعلمين من أنا ؟ أنا السائل الأول !!! فالعوام يقولون كلمة، لكن هذه الكلمة معبرة جداً وهي "الله كبير"، فالإنسان إذا تكبر، إذا كفر بالنعمة، إذا تجاوز الحد، إذا استعلى على خلق الله، قد يفقده الله النعمة كلها.
فالمؤمن أديب بأدب الإسلام لا يتكلم كلمة، أي لا يتكلم كلمة فيها صلف، أو كبر، أو غطرسة، قالت: لا خفف الله عنك يا مزنة، أتذكرين يوم دخلت عليك وأنت على هذا البساط بعينه فكلمتك في إبراهيم الإمام فانتهرتني وأمرت بإخراجي وقلت: ما للنساء والدخول على الرجال؟ فو الله لقد كان مروان أرعى للحق منك، لقد دخلت إليه فحلف أنه ما قتله وخيرني بين أن يدفنه أو يدفع إليّ به، وعرض علي مالاً فلم أقبله، قالت مزنة: والله ما أدّاني إلى هذه الحال التي ترينها إلا تلك الفعال، أي أن أفعالي سبب بؤس حالي.
واللهُ عز وجل غني عن تعذيبنا، غني عن ظلمنا، لا يظلم أحداً، وحينما ترى إنساناً في بؤس فقل: لعل الله يعالجه، لعل له ماضياً يستحق بسببه أن يكون في هذه الحالة من البؤس فالله عز وجل قال:
﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾
قالت مزنة: والله ما أداني إلى هذه الحال التي ترينها إلا تلك الفعال التي كانت مني، وكأنك استحسنتها، فحرَّضْتِ الخيزران على فعل مثله، إنما كان يجب عليك أن تحضيها على فعل الخير، وترك المقابلة بالشر، لتحرّز بذلك نعيمها، وتصون دينها، يا بنت العم كيف رأيت صنيع الله بنا في العقوق؟ أفأحببت التأسي بنا؟ ثم ولت باكية.
والإنسان أحياناً يبكي بكاء الرحمة، أو بكاء القهر، أو بكاء الخوف، أما أصعب بكاء فبكاء القهر، سيدنا علي سئل: ما الذل ؟ قال: أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يرده، والقول الشهير: " والله لحفر بئرين بإبرتين، وكنس أرض الحجاز في يوم عاصف بريشتين، ونقل بحرين زاخرين بمنخلين، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين، أهون عليّ من طلب حاجة من لئيم لوفاء دين. "
قال: فأشارت الخيزران إلى جارية من جواريها فعدلت بها إلى بعض المقاصير، وأمرت بتغيير حالها والإحسان إليها، فلما دخل المهدي عليها وقد انصرفت زينب قصت الخيزران عليه قصتها، وما أمرت به من تغيير حالها، فدعا المهدي بالجارية التي ردَّتْها إلى المقصورة وقال لها: لمّا رَدَدْتِها إلى المقصورة ماذا قالت ؟ فقالت الجارية: لحقتها وهي تبكي في خروجها وتقرأ قوله تعالى:
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
فهذه الآية لا أرتوي من تكرارها، أية أمة.. أي مجتمع.. أية مدينة.. أية جماعة كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله، واستعلت وبغت وطغت واحتقرت غيرها فأذاقها الله لباس الخوف والجوع بما كانوا يصنعون، فهذه مزنة دخلت مقصورتها باكية وهي تردد هذه الآية، فقال المهدي إلى زوجته الخيزران: والله لو لم تفعلي فيها ما فعلتِ ما كلمتك أبداً، وبكى بكاء كثيراً، وقال: "اللهم إني أعوذ بك من زوال النعمة"، هكذا كان النبي يدعو، أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، فإنسان في بحبوحة وعز وجاه وفجأة وبعد ساعة أصبح في الحضيض، أصبح جائعاً، أصبح مشرداً، وهذا شيء نراه بأعيننا، فجأة نقمة الله عز وجل، نعوذ بالله من هذا الحال والمآل.
هناك تفسير ديني لكل الأحداث، أنا أرى أن الإنسان يجب ألا يغفل عن التفسير الديني للأحداث، التفسير الديني الذي ورد في القرآن الكريم، فالنبي الكريم كان يقول: "أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك. "
قال: "اللهم أعوذ بك من زوال النعمة، ثم بعث لهذه المرأة من يخبرها، قال: أقرئي عليها السلام وقولي لها: يا بنت عمر إن أخواتك اجتمعن عندي، فلما جاءته قال: يا بنت العم والله لولا أني لا أريد أن أجعل لقوم أنت منهم في أمرنا شيء لتزوجتك، ولكن لا شيء أصون لك من حجابي، وكوني مع أخواتك في قصري، لك ما لهن وعليك ما عليهن، إلى أن يأتيك أمر من له الأمر فيما حكم فيه على الخلق، ثم أخدمها وأجازها فأقامت في قصره إلى أن قضى المهدي والهادي، ومضى صدر من أيام الرشيد في خلافته، فتوفيت وجزع عليها جزعاً شديداً.
طبعاً هذه قصة فيها عبرة، يا عائشة أكرمي جوار نعم الله، فإن النعم إذا نفرت قلما تعود.
نعوذ بالله من زوال نعمه، وفجأة نقمه، والله عز وجل أحياناً يستدرج الإنسان مهما كان ذكياً والإنسان مسير ومخير، بالأصل مخير لكن مسير ليحقق اختياره، ومسير مرة ثانية ليدفع ثمن اختياره، فإذا أراد ربك إنفاذ أمر أخذ من كل ذي لب لبه، مع الله لا ذكاء ينفع ولا عقل يجدي، إذا أراد أن يستدرجك أخذ لبك فتفعل شيئاً غير معقول ثم يعيد لك لبك فتندم على ما فعلت، فيكون هذا استدراجاً وعقاباً ودفعاً لثمن اختيارك.