- موضوعات متنوعة
- /
- ٠4موضوعات متفرقة
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علَّمتنا و زدنا علماً، وأرنا الحق حقاً و ارزقنا اتِّباعَه، وأرنا الباطلَ باطلاً و ارزقنا اجتنابه، و اجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتَّبعون أحسنَه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.
من نعم الله على المؤمن أن له إخواناً يعيش معهم :
أيها الأخوة المؤمنون؛ مازلنا مع دروس السيرة العطرة، و ما دام العام الهجري الجديد قد أقبل فلنقِف قليلاً عند موضوع الهجرة، و لنحاول أن نستنبط منها الدلائل و العبرَ التي تلقي ضوءًا على سلوكنا، و على ما ينبغي أن نفعله في المستقبل القريب.
أيها الأخوة الأكارم؛ لما أذِن الله تعالى لرسوله في الحرب و بايعه الأنصارُ على الإسلام أمر النبيُّ صلى الله عليه و سلم أصحابَه من المهاجرين و ممن معه بمكة بالخروج إلى المدينة و الهجرة إليها، و اللحوق بإخوانهم الأنصار، و قال: " إن الله قد جعل لكم إخوانا و دارًا تأمنون بها".
أقف وقفةً قصيرة عند هذه الكلمة؛ إن الله قد جعل لكم إخواناً، أي من نعم الله الكبرى على المؤمن أن له إخواناً يعيش معهم، و يبثُّهم مشاعره، و يجدهم عند الشِّدة، يصغي إليهم بمشكلاته، و يأخذ من علمهم، و يأخذ من حكمتهم، و يأخذ من مسيرتهم، يقدِّم لهم ما عنده، و يأخذ ما عندهم، هذه الحياة التي بين المؤمنين فيها من المودَّة و التناصح و المحبَّة و السعادة ما لا سبيل إلى وصفه، فلذلك لا ينبغي للمؤمن أن يتَّخذ أولياء من دون المؤمنين، و لا ينبغي أن تقيم علاقات حميمة مع غير المؤمنين، لا ينبغي أن تشارك غير المؤمنين، و لا ينبغي أن تعامل غير المؤمنين، المؤمنون بعضهم لبعضٍ نصحةٌ متوادُّون و لو ابتعدت منازلهم، و المنافقون بعضهم لبعض غششَة متحاسدون و لو اقتربت منازلهم، و قد لا تصدِّقون أن نجاح هذه الدعوة الإسلامية كان بسبب هذا التعاون المتين بين المهاجرين و الأنصار، المهاجرون في مكة ضيَّق الكفارُ عليهم، و قيَّدوا حركتهم، و ائتمروا عليهم، و عذَّبوهم، و نكَّلوا بهم، و أصبح الطريق مسدوداً، و أصبح الأملُ مفقوداً، جاء الأنصارُ آمنوا بالنبيِّ عليه الصلاة و السلام، و جعلوا أرضهم أرضاً للمهاجرين، و قاسموهم أموالهم، و قاسموهم بيوتَهم، و قاسموهم بساتينهم، و قاسموهم أعمالَهم، فأصبح للإسلام أرض هي أساسُ كيان المجتمع، أو أساس كيان الدولة، إذًا قد لا نصدِّق أن هذه الدعوة الإسلامية العظيمة سببها هذا التعاون، فلذلك ما قيمة أن تعتقد اعتقاداً صحيحاً و بيننا التحاسد، و بيننا التنابز، و بيننا التباغض.
أساس الدعوة الإسلامية مبني على المحبة بين المؤمنين :
أنا أريد من هذه الحقيقة و حقيقة السيرة موضوعاً خطيراً جدًّا، و اللهِ الذي لا إله إلا هو لو فهمنا أبعادَ السيرة النبوية لكنا في حال خيراً من هذا الحال، أساس الدعوة الإسلامية مبني على المحبة بين المؤمنين، مالك تجد في آخر الزمان هؤلاء مؤمنون و هؤلاء مؤمنون و الهدف واحد، و القرآن واحد، و النبيُّ واحد، مالك تجد عداءً و اتِّهاماً و معركة قذرة بين الجماعات الإسلامية، هكذا كان المسلمون ؟ لن يصلح هذا الدين إلا بما صلُح به أوَّلُه، بدأ هذا الإسلام غريبا و سيعود غريباً فطوبى للغرباء، أنا الذي أقرأه في هذه السيرة عن المودَّة بين الأنصار و المهاجرين شيء يفوق التَّصوُّر، إذًا نحن علينا أن نقلِّد، إن لم كذلك علينا أن نقلِّد، هكذا علَّمنا النبيُّ، قال:
((إنما الحلم بالتحلم))
إن لم تكن حليما تصنَّع الحلمَ، إن العلم بالتعلُّم، و إنما الكرم بالتكرم، أي إن لم تكن تشعر بهذه المحبَّة الجارفة، هذا الحبُّ لأخيك المؤمن فلا أقلَّ من أن تقلِّد الأنصار في خدمة إخوانك، و في التَّودُّد لهم، و في التعاون معهم، و في إعطائهم النصيحة، إن لم تكن كذلك فقلِّد.
الحقيقة نحن مقياسُنا بالممارسة اليومية، مقياسنا بالعمل، كلُّ هذه المحاضرات و كل هذا الإنصات، و اللهِ لا قيمة له إن لم تكن في بيتك و في عملك مع أخيك ذا ودٍّ، و ذا محبَّة :
((إن الله قد جعل لكم إخواناً و داراً تأمنون بها ))
فخرج أصحابُ النبيِّ عليهم رضوان الله إلى المدينة أرتالاً و أقام صلى الله عليه و سلم بمكة ينتظر أن يأذن الله له في الخروج إلى المدينة.
نحن بدأنا الهجرة من هذه المرحلة، أن هناك أمراً إلهياً وجِّه إلى النبيِّ في ضوئه أمرَ أصحابَه أن يهاجروا، فهاجر أصحابُه زرافاتٍ ووحدانا، و سوف نرى في هذا الدرس كم تحمَّل أصحابُه مشقة في سبيل الهجرة، إنسان في بلدة حمص أراد أن يبيع أرضًا إلى رجل غير مسلم، فسأل أحدَ العلماء، قال له: و اللهِ اسأَل سيِّدنا خالد بن الوليد كم بذل جهداً حتى فتح هذه البلاد؟ و أنتم الآن ترون كم بذل أصحابُ النبيِّ عليهم رضوان الله من جهد حتى هاجروا و حتى أسَّسوا في المدينة كياناً، و حتى بدأ هذا الكيانُ يقوى، و حتى انتهى هذا الكيان بأن فتح الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها.
هجرة أصحاب رسول الله :
1 ـ قصة هجرة أم سلمة و زوجها و ابنها إلى المدينة :
من قصص الهجرة أصحاب رسول الله، من قصصهم هجرة أصحاب رسول الله، فيما رواه ابنُ إسحاق قال: حدَّثتْ أمُّ سلمة لما كان من أمرها و أمر زوجها من هذه الهجرة فقالت: لما أجمع أبو سلمة - زوجها و كان من أصحاب رسول الله - الخروجَ من المدينة إلى مكة رحَّل لي بعيراً - أي جهَّز لي بعيراً - ثم حملني عليه و جعل معي سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج يقود بعيري، فلما رآه رجالُ بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك، من هم بنو المغيرة ؟ لما رآه قومُ أم سلمة قد جهَّز بعيراً ليهاجر به مع زوجه و ابنه إلى المدينة اعترضه أهلُ زوجته، هذه نفسُك غلبتَنا عليها، أرأيتَ صاحبتنا هذه لن نتركك تسير بها في البلاد ؟ قالت أمُّ سلمة: فنزعوا خطامَ البعير من يده، خطام البعير أي زمام البعير، أو عقال البعير، و أخذوني منه، قالت: و عندئذٍ غضب بعد ذلك بنو عبد الأسد، من هم بنو عبد الأسد ؟ أهلُ أبي سلمة، أي ظهر نزاعٌ بين أهل زوجته و بين أهله، و غضب بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة و قالوا: و اللهِ لا نترك ابننا عندكم إذْ نزعتموهما من صاحبنا، ما رضي أهلُ أبي سلمة أن يبقى ابنُ أبي سلمة مع أمه، فتجاذبوا سلمة بينهم، تجاذبوا سلمة هذا الطفل الصغيرَ بينهم حتى خلعوا يدَه، و انطلق به بنو عبد الأسد، و حبسني بنو المغيرة عندهم، في وقت قصيرٍ أصبح الابن مخلوع اليد عند أهل أبيه، و أصبحت المرأةُ محبوسة عند أهلها، و انطلق أبو سلمة إلى المدينة.
و انطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، ففُرِّق بيني و بين ابني و بين زوجي، قالت: فكنتُ أخرج كلَّ غداة فأجلس في الأبطح- و الأبطح مكان إلى جانب الكعبة- الآن إذا الإنسان في طريقه من منًى إلى مكة يجد لوائح كثيرة، الأبطح قرب الكعبة، فكنتُ أخرج في كل غداة فأجلس في الأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي، زوجها في جهة و هي محبوسة و ابنُها عند أهل زوجها و قد خُلِعت يدُه، بقيتُ هكذا سنة تقريباً حتى مرَّ بي رجلٌ من بني عمِّي أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة: ألا ترحمون هذه المسكينة ؟ أنتم جئتم في عصرٍ الإسلام منتشر، و الشعائر تُقام بكل راحة، تأتون إلى المساجد و تصلّون و لا أحد يعترضكم، هذه نعمة لا يعرفها إلا من فقدها، من أجل أن تذهب أمُّ سلمة إلى النبيِّ عليه الصلاة و السلام أو من أجل أن تلتحق بزوجها، بنو عبد الأسد و بنو المغيرة تصارعا فيما بينهما و كان الطفلُ ضحيَّةً، و كانت هي ضحية، و توجَّه أبو سلمة إلى المدينة، قال: ألا ترحمون هذه المسكينة ؟ فرَّقتم بينها و بين زوجها و بين ولدها، قالت: فقالوا لي: اِلحقي بزوجكِ إن شئتِ، بعد عام بأكمله قالوا: الحقي بزوجكِ إن شئتِ، فردَّ بنو عبد الأسد إليَّ ابني فارتحلتُ بعيري - بعد ذلك تصوَّروا بين مكة و المدينة أربعة و خمسمئة كيلو متر، لا توجد سيارات و لا طائرة و لا كرنك، لا يوجد إلا هذه الناقة تركبها امرأةٌ و معها ابنُها، و هي تيمِّم وجهها شطرَ المدينة، لا بدَّ من أن تسير خمسة عشر يوماً بلياليها وحدها، كم كان الثمنُ باهظاً؟ كلمة هجرة، و اللهِ النبيُّ الكريم هاجر مع أصحابه، أنت ما ذقتَ الهجرة أبداً، أنت تعرف الهجرة كفكرة، كموضوع يُلقى عليك، أو كخطبة تسمعها، أو كمقالة تقرؤها، أما أن تعانيَ في هذه الشروط القاسية، قال: ثم أخذت ابني فوضعتُه في حِجري ثم خرجتُ أريد زوجي بالمدينة، و النبيُّ الكريم لما سُئل: من أعظم الرجال حقاً على المرأة؟ قال: زوجها، فلما سئل: من أعظم النساء حقًّا على الرجل؟ قال: أمُّه، زوجها في المدينة و هي مؤمنة، قالت: و ما معي أحد من خلق الله، ما هؤلاء النساء؟ الآن المرأة تخاف من صرصورٍ و تخاف من فأرة و ترتعد خوفًا و تصيح، قالت: حتى إذا كنتُ بالتنعيم- التنعيم مكان يحرُم منه المعتمرون هناك مسجد الآن ضخم جدًّا الآن للسيدة عائشة، من هذا المكان يحرم المعتمرون إلى مكة المكرمة- قالت: حتى إذا كنتُ في التنعيم- و الإنسان عندما يحجُّ أو يعتمر هذه الأماكن المقدسَّة تأخذ من قلبه حظًّا كبيراً يراها رأيَ العين، هذا التنعيم، و هذا غار حراء، و هذا غار ثور، و هنا بيعة الرضوان، و هنا موقعة بدر، و هنا أحُد، لا شكَّ أن المسلم إذا زار هذه الأماكنَ يجد قلبُه يضطرب- قال: حتى إذا كنت بالتنعيم لقيتُ عثمان بن طلحة بن أبي طلحة - اسمعوا أيها الأخوة ماذا حدث لها في التنعيم مع رجل مشرك- لقيتُ عثمان بن طلحة أخا بني عبد الدار فقال لي: إلى أين يا بنة أبي أمية ؟ قلت: أريد زوجي بالمدينة، قال: أو ما معكِ أحد؟ قلت: ما معي أحد إلا الله و بُني هذا، بعض العارفين بالله قال: إذا كنتَ في كل حالٍ معي فعن حمل زادي أن في غِنى، أي أنا حينما كنتُ في الديار المقدسة ما تمكنتُ من الذهاب إلى غار حراء، و لكن سمعت أن شاباً جلْداً قوياً مفتول العضلات لا يستطيع أن يصل إليه قبل ثلاث ساعات، من أقرب نقطة طريق معبَّد ثلاث ساعات، تسلُّق جبال، و هناك مكان في الجبال كالجدار قلت: عليه الصلاة و السلام وصل إلى هذا المكان، و بقي فيه الليالي ذوات العدد، أحدُنا أيجرؤ أن يذهب إلى جبل قاسيون و أن يقبع في مغارة؟ الآن طبعا هناك أنسٌ و هناك سيارات، لكن تصوَّر الجبلَ قبل السيارة و قبل الطرق المعبَّدة، تسلَّق جبلاً موحشاً قبَعْ به أياماً ثلاثة ألا تخاف؟ ما تفسير ذلك ؟ أُنسُ النبيِّ عليه الصلاة و السلام بالله كان أقوى من وحشة المكان، أنس النبي عليه الصلاة و السلام بربه كان أقوى من وحشة المكان، و من أقبل على الله عز وجل شعر بطعم القربِ فألقى اللهُ في قلبه الطمأنينة و السكينة، أيْ إذا كنتَ في كل حالٍ معي فعن حمل زادي أنا في غنى.
قال: أو ما معك أحدٌ ؟ قلت: ما معي أحد إلا الله و بنيَّ هذا، فقال: و الله ما لكِ من متَّركٍ، أي لا يجوز أن تُتركِي وحدكِ، هذا مشرك، قال: فأخذ بخطام البعير.
من عرف الله كان على جانب كبير من الخير :
أنا كنتُ أفحص طلاَّبا في هذه الأيام فسألتُ أحدَهم أعندك حديث يلخِّص أهداف الدعوة الإسلامية، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ ))
أيها الأخوة الأكارم كلام دقيق جدًّا، النبيُّ عليه الصلاة و السلام يحدِّد عن طريق " إنما" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ:
(( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ بَعْضِ حُجَرِهِ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِحَلْقَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ اللَّهَ وَالْأُخْرَى يَتَعَلَّمُونَ وَيُعَلِّمُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلٌّ عَلَى خَيْرٍ هَؤُلَاءِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ اللَّهَ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ وَهَؤُلَاءِ يَتَعَلَّمُونَ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا ))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:
(( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ ))
كلام النبي دقيق جدًّا، ما قال: لأبثَّ مكارم الأخلاق، ما قال: لأدعو إلى مكارم الأخلاق، ماذا قال ؟ قال: "لأتمم" ماذا يعني هذا الكلام ؟ أي أن في الإنسان جانباً خيِّرا، يؤكِّده قولُه صلى الله عليه و سلم: عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا ))
و أنتم أيها الأخوة الأكارم بعد أن عرفتم اللهَ عز وجل، و بعد أن اصطلحتم معه، أنا أؤكِّد لكم و وواثق بكلامي أن الخيرَ الذي فيكم الآن له جذورٌ قبل معرفة الله، أحدكم بعد أن عرف اللهَ، و استقام على أمره، كان قبل أن يتوب، و قبل أن يصطلح مع الله على جانب كبير من الخير هكذا.
كرم أخلاق عثمان بن طلحة قبل الإسلام :
فهذا عثمان بن طلحة قبل الإسلام و قبل أن يسلم و هو مشرك كبُر عليه أن تنتقل هذه المرأةُ وحدها في هذه الصحارى و الفيافي، قال: فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي به، فو اللهِ ما صحبتُ رجلاً من العرب قط أرى أنه أكرم منه، كان إذا بلغ المنزلَ ؛ مكان الاستراحة أناخ لي ثم استأخر عني حتى إذا نزلتُ استأخر ببعيري فحطَّ عنه ثم قيَّده في الشجرة، ثم تنحَّى إلى شجرة أخرى فاضطجع تحتها، أي ينيخ البعيرَ و يبتعد عن البعير حتى أنزل، ثم يأتي فيأخذ البعيرَ إلى مكان بعيد فينيخه ويريحه، و يستقلُّ شجرةً بعيدةً يستريح تحتها، فإذا دنا الرَّواحُ قام إلى البعير فقدَّمه و رحَّله ثم استأخر عني و قال: اركبي، فإذا ركبتُ و استويتُ على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ينزل بي، قال: فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينةَ، أي تبرَّع في خدمة هذه المرأة و هو مشرك أكثر من خمسة عشر يوماً و ليلة يقود بعيرَها، و ينيخ البعيرَ، و يستأخر عنها فتنزل، و يأخذ البعير و ينيخه تحت الشجرة، و يستقِلُّ في شجرة بعيدة، فإذا حان الرَّواحُ عاد إلى البعير فقدَّمه إلى أم سلمة، و استأخر عنها، فإذا ركبت و استوت عليه عاد إلى البعير فأخذ بخطامه، و قاده إلى مرحلة أخرى، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباءٍ قال: زوجكِ في هذه القرية و كان أبو سلمةَ بها نازلاً فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعاً إلى مكة.
لكن و اللهِ الذي لا إله إلا هو الذي أعتقده أنا إن رأيتُ عملاً طيِّباً أخلاقياً، و إن رأيتُ تضحيةً من إنسان لم يهتدِ إلى الله بعد، أنا أشعر أن هذا الإنسان لا بدَّ له من نهاية طيِّبة، لا بدَّ من أن يتعرَّف إلى الله في القريب العاجل، لأن هذه الأخلاق أخلاق مؤمنين، أحياناً أنت تواجه مشكلة، تواجه إنساناً لم يهتد إلى الله بعد، لا يزال شارداً، و لا يزال غيرَ مستقيم، لكن ترى منه نبلاً، و أخلاقا طيَّبة، و تضحية، و مؤاثرةً، و بذلاً، و كرماً، اِعتقِد معي جازماً أن هذا الذي يفعل هذه الأفعال الطيِّبة و يكون بهذه المروءة لا بدَّ من أن تكون له نهاية طيِّبة، لقول النبي عليه الصلاة و السلام:
(( خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا ))
و قال:
(( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ ))
فكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب بني سلمة، و ما رأيتُ صاحباً قد كان أكرم من عثمان بن أبي طلحة.
طريق الإيمان يحتاج إلى بذل و تضحية :
على كلٍّ النقطة المهمة أن أحدنا- نحن جئنا في آخر الزمان- إذا خفَّ البيعُ يتبرَّم، و إذا تأخَّر زواجُه يتبرَّم، و إذا لم يُوفَّق إلى عمل يتبرَّم و كأنه يعاتب اللهَ عز وجل، أنا مؤمن يا رب، لماذا تفعل بي هكذا ؟ الجواب هذه قصة، اللهُ عز وجل يريد أن يمتحن المؤمنين، و يريد أن يعليَ قدرهم، و يريد أن يراهم في الشدائد ماذا يقولون، هناك عطاء كبير، لا يمكن أن يناله المؤمن وهو في الراحة، و هو في درب محفوفة بالورود، طريق الإيمان يحتاج إلى بذلٍ، و إلى تضحية، و إلى صبر، و إلى جلَد، هذه قصة.
2 ـ هجرة صهيب بن سنان :
قصة أخرى من قصص الهجرة ؛ صهيب بن سنان أحدُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أراد الهجرةَ قال له كفَّارُ قريش: أنت يا صهيبُ أتيتنا صعلوكاً حقيراً - معنى صعلوك هنا يعني فقير، كلمة مستعملة في الجاهلية- أتيتنا صعلوكاً حقيراً، أي من الطبقة الدنيا في المجتمع، وفقير، فكثُر مالُك عندنا، و بلغتَ الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك و نسمح لك نحن؟ لا، أنت أصبحت غنيًّا جدًّا اغتنيتَ في بلدنا و تأخذ مالك و ترحل هكذا ببساطة؟ أنسمح لك بذلك؟ ثم تريد أن تخرج بمالك و نفسك، و اللهِ لا يكون ذلك أبداً، هذا شيء مستحيل، فقال لهم صهيبُ - اسمعوا كم هي قيمة الدين عند أصحاب رسول الله، كم هي قيمة الإيمان عندهم - قال: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتُخلُّون سبيلي؟ إن أعطيتكم مالي كلَّه، إنسان جمَّع ثروةً لا بأس بها يقول لكفار قريش: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، خذوا كلَّ مالي و لكن هل تخلُّون سبيلي ؟ تسمحون لي، إذاً ما بال أناسٍ اليوم يضحُّون بدينهم من أجل دريهمات؟ يحلف يميناً كاذبة ليربح مئة ليرة و ليربح قطعة قماش، لذلك حينما ترى المسلمين ألف و مئتي مليون و هم يبيعون دينَهم بعرض من الدنيا قليل، هؤلاء لا شأن لهم عند الله، فعلى قدر تضحيتك لك عند الله شأن، لما رأوا المالَ كلَّه قالوا: نعم، قال: فإني جعلتُ لكم مالي كلَّه، صهيب بن سنان وصل إلى النبيَّ عليه الصلاة و السلام و أبلغه، النبيُّ عليه الصلاة و السلام يُروى أنه بكى، لماذا بكى ؟ أكبر فيه هذا الإيمان، إنسان يضحِّي بكل ماله من أجل إيمانه، و ضحَّى بكل ثروته و بكل ما جمعه من مالٍ من أجل أن ينجوَ إلى رسول الله، و الإنسان أحياناً يلغي درسَ علم لبيعة يربح فيها عشر ليرات، هذا الصحابي الجليل ترك مالَه كلَّه على أملِ أن يلتحق برسول الله، النبيُّ الكريم بكى، أنا أرجِّح أنه بكى تقديراً لهذه التضحية، ثم تبسَّم، و قال: ربِح البيعُ أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى، قالها ثلاث مرات، أي ربحت لذلك: ما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوَّضه اللهُ خيرًا منه في دينه و دنياه، اِسأل نفسَك بماذا ضحَّيتَ ؟ هل ضحَّيت بوقتك؟ و هل ضحَّيت بخبرتك؟ و هل عرضتْ لك امرأةٌ ذاتُ منصب و جمال فقلت: إني أخاف اللهَ رب العالمين؟ هل عرض لك عملٌ ذو دخل كبير لكنك رأيتَه لا يرضي اللهَ فقلت: إني أخاف اللهَ رب العالمين؟ هل عرضت لك رحلة ممتعة جدًّا و لكن لا ترضي اللهَ فقلت: إني أخاف الله رب العالمين؟ أنت بماذا ضحَّيت؟ و ماذا قدَّمته لله عز وجل؟ أنفقت كذا و أوقفت مالي على كذا هكذا، ربح البيعُ أبا يحيى، وكان اسمُه أبا يحيى، قال له ثلاثاً: " ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى".
3 ـ قصة عيَّاش بن أبي ربيعة :
قصة ثالثة من قصص الهجرة ؛ قال عيَّاش بن أبي ربيعة لما هاجر إلى المدينة خرج إليه أبو جهل بن هشام، و أخوه الحارث بن هشام، و كان عيَّاشُ أخاهما، أخاهما من أبيهما، و كان أصغرَ ولد أمه فأخبراه - الآن أبو جهل سيتآمر على عياش بن أبي ربيعة - أخبراه أن أمه نذرت ألا تغسل شعرَها، و ألا يمسَّ الطيبُ رأسها، و ألا تستظلَّ من شمس حتى تراه عائداً لها، هو أزمع أن يهاجر، أبلغاه - أبو جهل و أخوه - أن أم عياش نذرت ألا تغسل شعرها، و ألا ينال شعرَها المشطُ، و ألا تستظل من شمسٍ حتى تراه، ثم قالا له: و أنت أحبُّ ولد أمِّنا إليها، و أنت أصغر أولادها، و أحب أولادها إليها، و أنت في دينٍ - انظُروا إلى الذكاء و الخبث - و أنت في دين منه برُّ الوالدين، أحياناً أهلُ الدنيا يستغلُّون دينَك، أنت مؤمن هذه ممنوعة في دينك، ألم تقرأ عن برِّ الوالدين؟ قالا له: و أنت في دين منه برُّ الوالدين فارجِع إلى أمك، و اعبُد ربَّك في مكة، اعبُده في مكة، كما تعبده في المدينة، فرقَّت نفسُه و صدَّقهما و هي مؤامرةٌ، فقال له عمرُ بن الخطاب: يا عياش و اللهِ ما يريدان إلا فتنتك عن دينك فاحذَرهما، فو الله لو قد آذى أمَّك القملُ لامتشطتْ،و لو اشتدَّ عليها حرّ الشمس لاستظلَّت، فقال عياش: أبرُّ أمي، و لي مالٌ هناك آخذه، قال عمر: خذ نصفَ مالي و لا تذهب معهما، فأبى إلا أن يخرج معهما، إذا الإنسانُ أراد أن يقدِم على بلاد المشركين و استُنصِح و استنصح إخوانَه فنصحوه، اِبقَ في بلد المسلمين هناك تُفتن في دينك، و هناك تبيع دينك بدنياك، و هناك تترك الصلاة، وهناك ترى ابنتَك تمشي مع رجل شاب في مقتبل الحياة ليس في إمكانك أن تمنعهما، قد ترى ابتنك قد أحبَّت شخصاً غيرَ مسلم، و قد جاءت معه بعد منتصف الليل ماذا تفعل ؟ أعجبتك البلاد، و نسيتَ مستقبل أسرتك، إذا الإنسان قيَّد اللهُ له من ينصحه فلا يركب رأسَه، فسيِّدنا عمر نصحه أول مرة و ثاني مرة و ثالث مرة حتى بذل و قال له: خذ نصف مالي و لا تذهب معهما، قال: فأبى إلا أن يخرج معهما، مالتْ نفسُه أن يعود إلى مكة، قال له عمر: أما إذا أبيتَ إلا ذلك فخذْ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلولٌ، أي سرعتها عاليةٌ فالزَم ظهرَها فإن رابك من أمرهما ريبٌ فانجٌ عليها، إن رأيتَ أنهم قد احتالوا عليك، و قد مكروا بك، هذه ناقتي نجيبة سريعة فالزم ظهرها، و إياك أن تنزل عنها، إن رابك من أمرهما شيءٌ فانجُ عليها، و عُد إلينا، فخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي و اللهِ لقد استغلظتُ بعيري هذه، أي بعيري حرونٌ أفلا تعقبني - و معنى تعقبني أي أتناوب أنا وإياك على بعيرك، مرة أنت و مرة أنا، قال: بلى فأناخ بعيرَه و أناخا ليتبادلوا فلما استووا بالأرض عدوَا عليه و أوثقاه بالحبال، و جلداه نحو مئة جلدة، ثم دخلا به مكة موثقاً في ضوء النهار و قالا: يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفهائنا، نصحه سيِّدنا عمر، قال له: خذ نصف مالي، و قال له: الزم ظهر هذه الناقة إن رابك من أمرهما شيء فانجُ عليها، أحيانا تأتي النصيحة كأنها من عند الله عز وجل، إذا أنت صادق في شيء و سألت إنساناً تثق بعلمه و إخلاصه و فهمه للشرع فإذا نصحك فاقبل نصيحته.
الدّين النّصيحة :
يُروى أن رجلاً له جارٌ عالِم أقدم على عمل تجاري لا يرضي اللهَ عز وجل، أي تجارة محرَّمة، فهذا الجار العالم نصحه كثيراً فأبى إلا أن يقدم على هذا المشروع، بعد سنوات وافته المنيةُ، و مات على معصية رُئِيَ في المنام يرتدي ثياباً خشِنة، أي كيس خيش، فتح طرفاه و اخرج منهما يديه، و على خصره حبلٌ خشن يدور حول بحرة و يقول: فلان نصحني و ما انتصحتُ، يا ليتني انتصحتُ، إذا نصحتكم فاقبلوا النصيحة، النصيحة أحياناً ثمينة جدًّا، انظُر إلى النصيحة، أخذا ناقته و قيَّداه و منعاه من الهجرة، فالإنسان دائماً يستنصح من يثق بعلمه و خبرته، و من يثق بدينه و إخلاصه، و النبيُّ علَّمنا الاستخارة و الاستشارة، الاستخارة لله عز وجل و الاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين، دائماً أنا لا أنسى أن أحد أخوتي الأكارم قلتُ له: اِسأل أهل هذه السوق عن هذه المصلحة جيِّدة؟ قال لي: سألتُهم واحداً واحداً كلُّهم أجمعوا على أن هذه المصلحة سيِّئة جدًّا، و كاسدة، و لها مشاكل، و اللهِ ما أعجبتني هذه الأجوبة، قلت له اسألْ فلاناً، أعرف رجلاً مؤمناً في المصلحة، فذهب إليه و قال له كلاماً على عكس كلامهم، قال له: و اللهِ مصلحة جيِّدة جدًّا و رائجة و بيعها محقَّق و ربحها وفير، المؤمن نصوح، إذا الإنسان اسمه نصوح فلا يغشَّ الناسَ، يتمثَّل باسمه، الأنبياء كانوا نصحةً، المؤمنون نصحةٌ و اللهِ إذا قال لك أحدهم: انصحْني، و أنت بائع شهد اللهُ لو وجَّهتَه توجيهاً خلاف مصلحته خُنتَ اللهَ و رسوله، قال لك: انصحني، إن كنت طبيباً، و إن كنت محامياً، وإن كنت بائعاً، و إن كنت تاجراً، قال لك: انصحني، و اللهِ لو تعرف معنى انصحني صار اللهُ وكيلَه، صار اللهُ عز وجل خالقُ الكون وكيلاً له، تفضَّل فانصحه، لون كاسد تقول له: هذا أحسن لون، هذا المؤمن نصوح، يفضِّل كسادَ بضاعته، وأن يرى بضاعته للسقف في المستودعات و ألا يغشَّ بها مؤمناً، أما إذا ذكر عيبَها فلا شيء في ذلك، و إن كان أعطاها سعراً مناسباً و ذكر العيبَ فهذا عمل طيِّبٌ، قال لي أحد أخواننا يبيع قطعاً: طُلِب مني قطعة صعدتُ إلى السُّلم لآخذها من على الرَّفِّ، و أنا في أعلى درجة قال لي الزَّبونُ: أصلية، قلتُ لا: و الله ليست أصلية، قال: هاتها، كلمة هاتها و كلمة ليست أصلية أصبح البيعُ مشروعاً تماماً، هناك بضاعة مقلَّدة، تقول له: هذه أصلية و ليست أصلية، فأنت تكلَّم الحقيقةَ و لا تخشى في الله لومة لائمٍ، لا تصدِّق قول التُّجار: إذا ما كذبنا لا نربح، هذا كلام الشيطان، و أنت في الصدق تربح أرباحاً جيِّدة، كن صادقاً و عامل ربَّك عز وجل.
4 ـ هجرة سيدنا عمر بن الخطاب :
من قصص الهجرة سيِّدنا عمر؛ قال: أما عمرُ بن الخطاب، هذا الموضوع دقيق جدًّا، تسأل سؤالاً مهمّاً، يا تُرى أيُعقل أن يكون عمر أشجعَ من رسول الله ؟ و اللهِ مستحيلٌ، تكلَّمت عن هذا في الخطبة، مستحيل، سيدنا رسول الله استخفى، و هيِّأ راحلةً، و هيَّأ خبيراً للطريق، ووضع عليَّ بن أبي طالب سجَّاه في سريره و ألبسه بردَته، و خرج من خوخة بيته، و توجَّه إلى غار ثورٍ، في جنوب مكة، على عكس طريق المدينة، و كلف إنساناً لتقصِّي الأخبار، و إنساناً لمحو الآثار، و إنساناً لتأمين الزاد، أي رسم خطَّةً دقيقة جدًّا و محكمة، سيدنا عمر ماذا فعل ؟
قال: رُوِي عن علي بن أبي طالب أنه قال: " ما علمتُ أحداً من المهاجرين هاجر إلا متخفياً إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه لما همَّ بالهجرة تقلَّد سيفَه و تنكَّب قوسَه - ومعنى تنكَّب وضعه على منكبه - و انتضى في يده أسهمًا - الجعبة للسهام - و اختصر عنزتَه - معه حربة صغيرة وضعها على خاصرته- و على كتفه القوس، و في يديه السهام، و وضع السيف على جنبه الآخر، و مضى قِبَل الكعبة، ذهب إلى الكعبة و الملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً ثم أتى المقامَ فصلَّى ركعتين ثم وقف على الحلَق - الحلق جمع حلقة و هي الجماعة متحلِّقون حول بعضهم بعضاً، حِلق الذكر، طبعا كفار قريش في فناء الكعبة حلقاً حلقاً، و جماعات جماعات - وقف على الحلق واحدة واحدة فقال: شاهت الوجوهُ، لا يُرغِم اللهُ إلا هذه المعاطسَ أي أذلَّكم اللهُ، شاهت وجوهكم - هكذا قال - من أراد أن تثكله أمُّه أو يُؤَتِّم ولدَه أو تُرمَّل زوجتُه فلْيَلْقني وراء هذا الوادي، فقال عليٌّ: فما تابعه أحدٌ، ثم مضى لوجهه"
سيدنا عمر هذا تصرُّف شخصي، و اختار هذا الطريق، فلو قُتل كان دفع الثمن، نجا، أي الله عز وجل كتب اللهُ له النجاةَ، أما سيدنا النبي فمشرِّع، أنا لستُ مضطراً أن أقتديَ بعمر، مع أني أكبِر شجاعته، و أكبر بطولته، و لكنني ملزَم من عند الله عز وجل أن أتَّبع النبيَّ، النبيُّ أخذ بالأسباب، لو كان عمرُ مشرِّعا لكان اقتحامُ الأخطار واجباً، و لكان أخذُ الحيطة حراماً، و لكان إلقاءُ النفس في المهالك سنة، عندئذ تهلك أمَّتُه، فالنبيُّ عليه الصلاة و السلام كما يروي سيدُنا علي: " كنا إذا احمرَّت الحِدقُ و حميَ الوطيسُ لُذنا برسول الله، فلم يكن أقربَ إلى العدوَّ منه" مرة سمع أهلُ المدينة جلبةً و ضجيجاً فظنوا أن غزواً قد قدم المدينة، فخرجوا من بيوتهم حذرين خائفين فإذا بالنبيِّ عليه الصلاة و السلام قد سبقهم إلى موطن الخطر وعاد يطمئنهم، فَعَنْ أَنَسٍ قَالَ:
(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ يَقُولُ: لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ ))
سبقهم و عاد يطمئنهم، كان عليه الصلاة و السلام أشجع الناس، و بالمناسبة كما قال حسَّان بن ثابت رضي اله عنه:
و أجمل منك لم تر قط عيني وأكمل منك لم تلِد النسـاء
خُلِقتَ مبرَّءاً من كل عيــــــــــــب كأنك قد خلقتَ كما تشـاء
***
و مع ذلك النبيُّ عليه الصلاة و السلام مشرِّع، و مادام مشرِّعاً علَّمنا أن نأخذ بالأسباب، و أن نكثر الحيطة، و ألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة، و أن نعِدَّ لكل احتمال ما يغطِّيه، و أن نغطِّيَ كلَّ الثغرات و، بعد ذلك نتوكَّل على ربِّ الأرباب.
قد يسأل سائلٌ: النبيُّ عليه الصلاة و السلام حينما أخذ كلَّ هذه الاحتياطات في الهجرة، لماذا أخذ بها ؟ هل أخذ بها عن خوف ؟ لا و اللهِ، أخذ بها تطبيقاً لتوجيهات الله عز وجل، قال تعالى:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً ﴾
و الدليل، لو أن النبي عليه الصلاة و السلام أخذ بكل هذه الاحتياطات، لو أنه أخذ بها عن خوف حينما فوجِئ بأن كفار قريش وصلوا إلى غار ثور و لو نظر أحدُهم إلى موطن قدمه لرآه، يجب أن ينهار النبيُّ، كلُّ هذه الخطَّة، و كلّ هذا الإحكام، و كلُّ هذا الإعداد، و كلُّ هذا الاحتياط انكشف النبيُّ عليه الصلاة و السلام، لأنه أخذ بالأسباب تطبيقاً لأمر الله عز وجل، أما اعتمادُه على ربِّ الأرباب، فقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا، قال:
((يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما ؟ ))
هذه الكلمة اترُكها في بالك، إذا كان اللهُ معك فمن عليك؟ أيَّة قوة في الأرض تجرؤ على أن تمدَّ يدَها إليك؟ أيَّة قوة في الأرض مهما كبُرت في الأرض، و إذا كان الله عليك فمن معك؟ زوجتك أقرب الناس إليك تعاملك أقسى معاملة، قال تعالى:
﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾
فلذلك دائماً اعتمِد على الله عز وجل، دائماً ثق بالله، دائماً قل كما قال صاحبُ هذا المقام:
كن مع الله ترَ اللهَ مــــــــــــــــــــعك و اترُك الكلَّ وحاذِرْ طمعَك
وإذا أعطاك من يمـنعـــــــــــــــــــــــه ثم من يعطي إذا ما منعـك
كيفما شاء فكــــــــــن في يـــــــــده لك إن فرَّق أو إن جمــعـــك
في الورى إن شاء خفظاً ذقته و إذا شاء عليهم رفعـــــــــــك
***
هكذا، إذًا سيدنا عمر مثَّل شخصَه حينما هاجر، أما النبيُّ عليه الصلاة و السلام فمشرِّع، هكذا علَّمنا، علَّمنا أن نأخذ بالأسباب، و لكن الصحابة الكرام أنواع، أي موقفه رائع جدًّا، يثلِج القلبَ، و ينتشي الإنسانُ له، من أراد أن تثكله أمُّه أو أن يؤتِّم ولده - أن يجعل ولده يتيماً - أو أن تُرمَّل زوجتُه فلْيَلقني وراء هذا الوادي، قال عليٌّ: فما تبعه أحدٌ، ثم مضى لوجهه.
خلو مكة من أصحابها بعد الهجرة :
الحقيقة بعد الهجرة بيوت في مكة أصبحت فارغة، و صار فيها أزمة سكن معكوسة، بيوت كثيرة أصبحت فارغة، و ذكر ابنُ إسحاق أن عتبة بن ربيعة و العباس بن عبد المطَّلب و أبا جهل بن هشام مرُّوا و هم مصعِدون إلى أعلى مكة بدار بني جحش، فنظر إليها عتبةُ تخفِق أبوابُها يباباً ليس فيها ساكنٌ، فلما رآها كذلك تنفَّس الصُّعداءَ و قال:
و كلُّ دارٍ و إن طالتْ سلامتُها يوماً ستدركها النَّكباءُ و الحوب
***
و هناك بيتان من الشعر على شاكلة هذا البيت:
كلُّ ابنِ أنثى وإن طالت سلامته يومًا على آلةٍ حدباءَ محمولُ
فإذا حملتَ إلى القبورِ جنـــــــازةً فاعلم أنك بعدهـــــــــــا محــمولُ
***
تجد بيتاً عامرةً، الحفلات و التزيينات و السهرات و الأصوات و الضحك و الولائم، يموت صاحبُ البيت، يختلف الأولادُ فيأخذونها للبيع، تجد محلاًّ فخما جدًّا عرض للبيع، هكذا، الناسُ خلائف، قال تعالى:
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾
هذا أحد الشعراء زار قصرَ كسرى بن أنوشروان يصفه وصفاً رقيقاً جدًّا أي شاهد هذه الدار و كيف كانت عامرةً بكسرى، و حوله الحشودُ و الحاشية و الولائم، كيف أصبحت داراً خربةً ماذا قال عندها؟ قال أبو جهل: أصبحت دارُ بني جحشٍ خلاءً من أهلها، قال أبو جهل و هو يشير إلى العبَّاس عمِّ رسول الله، قال: هذا عملُ ابن أخي هذا، هذا عمل ابن أخيك، فرَّق جماعتنا، و شتَّت أمرنا، و قطَّع بيننا.
و الحقيقة لولا أن النبيُّ عليه الصلاة و السلام جاء بهذه الدعوة لما كنا نحن الآن مسلمين، و لما عرفنا ربَّنا سبحانه و تعالى، لو أن الإنسانَ طبَّق أمرَ الله عز وجل ما كان هناك اختلاط، و ما كان هناك مرح، و ما كان هناك سهرات مختلطة، بعدما آمن هذا الشاب و استقام على أمر الله، لم يعُد عنده اختلاط، فيأتي الأهلُ و يقولون: ما كنا هكذا كنا مؤتلفين، و كنا مبسوطين، و كنا مع بعضنا، و أنت فرَّقت العائلةَ، عملتَ لنا نساء و رجالاً، و سفرتين في رمضان، ما هذا الدين الذي معك؟ و من أين أتيت به ؟ يعيشها كلُّ شابٍ مؤمن إذا أراد أن يطبِّق دينَه، فلو أن هناك سهرات و فرح و مرح و احتفالات، طبعاً التقوى أقوى، و العاقبة للمتقين، و شرعُ الله أحقُّ أن يُطبَّق، وما زال المسلمون يتلاحقون بالمدينة حتى لم يبق بمكة إلا رسول الله و أبو بكر و علي، و إلا من اعتُقل مكرهاً، اعتُقل اعتقالاً مكرهاً، من مفتون أو محبوس أو مريض أو ضعيف، و هم المستضعفون الذين قال الله فيهم:
﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ﴾
من طبق سنة النبي في حياته سعد و أسعد :
طبعاً إن شاء الله في درس قادم نتحدَّث عن هجرة النبي صلى الله عليه و سلم.
ومرة ثانية أقول لكم: واللهِ في سيرة النبيِّ عليه الصلاة و السلام من الدروس و العبر و من الدلائل ما لو طبَّقنا هذه السنة في حياتنا لسعَدنا و أسعدنا، القضية ليست قصة، العملُ أخطر بكثير من قصة، أكبر من قصة، أكبر من سيرة، العمل أنك أمام إنسان كامل، و كلُّ أفعاله تشريع، و كلُّ أفعاله نصائح، و كلُّ أفعاله إضاءة لطريقك المعتِم، فنحن إن شاء الله إذا تابعنا سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم، القصد أن نستنبط الدلائل و العبر، و البطولة أن نطبِّقها في حياتنا، و البطولة أيضاً أن ترى هؤلاء الأصحاب الكرام كيف بذلوا، و كيف ضحُّوا بالغالي و الرخيص، و النفس و النفيس من أجل دينهم، البطولة أن تكون قوياً في دينك، و أن تضحِّيَ بكلِّ شيء إلا دينك، إلا صلتك بالله عز وجل.
أرجو اللهَ عز وجل أن يوفِّقنا لمتابعة سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم، و لا يزال درسُ الأحد درس حديث شريف، لأن السنة هي الأقوال و الأفعال و الإقرار، أمضينا سنوات طويلة في الأقوال، و ها نحن الآن في الأفعال، السيرة النبوية أفعال النبي عليه الصلاة و السلام.