- موضوعات متنوعة
- /
- ٠4موضوعات متفرقة
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، و على آله وأصحابه أجمعين.
وقوف متأن عند قصتي سراقة و أبي أيوب رضي الله عنهما :
و بعدُ فيا أيها الأخوة، لا زلنا في دروس السيرة، و لا زلنا في سيرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، و قد انتهينا في الدرس الماضي من وقائع الهجرة، و كيف وصل النبيُّ صلى الله عليه و سلم إلى المدينة، و استقبله أهلُها استقبالا حارًّا، و قبل أن نتابع موضوعات الهجرة نقف وقفتين؛ الوقفة الأولى عند سراقة بن مالك و قصته التفصيلية، و عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، عند سراقة بن مالك و عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما، لأن في قصتيهما دلالات كثيرة و استنتاجات رائعة، وهذا من السيرة، نحن ما خرجنا عن السيرة، و لكن أردنا أن نعمِّق و أن نفصّل في فقرتين من فقر الهجرة ؛ الأولى تتعلَّق بسراقة بن مالك، و الثانية تتعلق بأبي أيوب الأنصاري، مما يؤكِّد نبوَّة النبيِّ صلى الله عليه و سلم.
قصة النبي الكريم مع سراقة بن مالك :
سراقة تعلمون أنه كان فارساً من فرسان قومه، طويل القامة، عظيم الهامة، بصيراً باقتفاء الأثر، عنده قدرات خاصة، بصيراً باقتفاء الأثر، صبوراً على أهوال الطريق، و كان إلى ذلك أريباً لبيباً شاعراً، و كانت فرسُه من عِتاق الخيل، أي ستون حصاناً بالتعبير الحديث، كانت فرسه من عتاق الخيل، صفات رائعة، و قلَّما تجتمع في إنسان، هذا حينما سمع أن قريشاً رصدتْ مئة ناقة لمن يقبض على النبيِّ حيًّا أو ميِّتاً، و مئة ناقة أخرى لمن يقبض على سيِّدنا الصدِّيق حيًّا أو ميِّتا، مئتا ناقة تعدل كما قلنا في درس سابق ما يزيد عن ثلاثين مليوناً، أي ثروة ضخمة جدًّا، لذلك مضى سراقةُ يطوي الأرض طيًّا، لكنه ما لبث قبل أن يرى محمدًا، هو يسير باتِّجاه يلاحق النبيَّ عليه الصلاة و السلام، بعد أن تأكَّد ممَّن دخل عليه وهو في قومه أن ثلاثة يمرُّون إلى جانب الوادي و قد أشار القائلُ إلى أنهما النبيُّ عليه الصلاة و السلام و صاحبه، لكنَّه عمَّى عن ذلك و تجاهل ذلك، قال سراقة: هذا فلان ذهب ليبحث عن ناقته و أراد أن تبقى الجائزةُ له.
أولُ تنبيه من الله عز وجل، أحياناً الإنسان يكون مقدِمًا على عمل لا يرضي الله يقع و يُشجُّ رأسُه، و يمزق ثوبُه، و يفقد دراهمَه، هذه أشياء دقيقة جدًّا لعلَّها إشارات من الله، المؤمن أريب، إذا مضيتَ إلى عمل لا يرضي اللهَ، و رأيت بعض المنبِّهات و بعض المذكِّرات، بعض الذي يلفت النظرَ فانتبه، هذا من رحمة الله عز وجل، قبل أن يلقى النبيَّ عليه الصلاة و السلام عثرت به فرسُه و سقط عن صهوتها فتشاءم من ذلك، و قال: ما هذا! ليس هذا من عادته، تبًّا لكِ من فرس، و علا ظهرَها ثانية، غير أنه لم يمضِ بعيداً حتى عثرت به مرة أخرى، إشارة ثانية من الله عز و جل، أعرف رجلاً اغتصب محلاًّ تجارياً من إخوته، و المحلُّ انطلق انطلاقة عجيبة، هو يركب مركبته إلى جانب طريق الحجاز جانب البريد أُصيب بأزمة قلبية، و كانت إلى جانبه زوجته، و من غرائب الصُّدف أن صديقُه مرّ من ذلك المكان، فقاد السيارة و أخذه إلى غرفة الإنعاش في أقرب مستشفى بعد أن صحا قال: ائتوني بآلة تسجيل، جاؤوا له بآلة تسجيل فقال في هذه الآلة: هذه الدكان لي و لفلان و لفلان، صرَّح بالاغتصاب، ثم أُنعِش و بعدها صحا، و بعد أيام شعر أنه عوفي من مرضه فطلب الشريط و كسَّره و عاد إلى سابق سيرته، و بعد ثمانية أشهر وافته المنيَّةُ، ما تفسير هذه القصة؟ إشارة من الله و تنبيه، و المؤمن نبيهٌ، فسيدنا سراقة جاءته إشارة من الله، فازداد تشاؤماً و همَّ بالرجوع، فما ردَّه عن همِّه إلا طمعُه بالجائزة، ثم انطلق بفرسه ثانية باتِّجاه النبيِّ و صاحبه و مولى سيدنا أبي بكر، إلى أن أبصر النبيَّ عليه الصلاة والسلام و صاحبيه فمدَّ يده إلى قوسه من أجل أن يرميَ بقوسه و سهمه النبيَّ صلى الله عليه و سلم، لكنَّ يده جمدتْ في مكانها، ذلك لأنه رأى قوائم فرسه تسيخ في الأرض، و الدخان يتصاعد من بين يديه- أي الغبار- و يغطِي عينيه و عينيها، فدفع الفرس فإذا هي قد رسخت، جمدتْ في الأرض كأنما سمِّرت فيها بمسامير من حديد، فالتفت إلى النبيِّ صلى الله عليه و سلم و صاحبيه و قال بصوتٍ ضارع: يا هذان ادعوا لي ربَّكما أن يُطلق قوائم فرسي، و لكما عليَّ أن أكفَّ عنكما، فدعا له النبيُّ صلى الله عليه و سلم، فأطلق اللهُ له قوائم فرسه، لكن أطماعه بالجائزة ما لبثت أن تحرَّكت من جديد فدفع فرسَه نحوهما فساخت قوائمها هذه المرة أكثر من ذي قبل، فاستغاث بهما ثانية، و قال: إليكما، أول مرة توسَّل إليهما، والمرة الثانية قال: إليكما زادي و متاعي و سلاحي فخذاه، و لكما عليَّ عهدُ الله أن أردَّ عنكما من ورائي من الناس، هذا متاعي و هذا زادي و هذا سلاحي فخذاه و لكما عليَّ أن أردَّ عنكما من ورائي من الناس، فقالا له: لا حاجة لنا بزادك ومتاعك و لكن رُدَّ عنا الناسَ، ثم دعا له النبيُّ صلى الله عليه و سلم فانطلقت فرسُه، فلما همَّ بالعودة ناداهم قائلا: تريَّثوا أكلمكم، فو الله ما يأتيكم مني شيئا تكرهونه، اطمئِنوا، قالا له: ما تبتغي منا ؟ فقال: و اللهِ يا محمد إني لأعلم أنه سيظهر دينُك- أي أنت نبيٌّ- أول دليل، و الثاني و الثالث و الرابع و الخامس و السادس، ست إشارات من الله عز وجل، فقال: و الله يا محمد إني لأعلم أنه سيظهر دينُك، و يعلو أمرُك، فعاهدني إذا أتيتكَ في ملكِك أن تكرمني، اُكتُب لي بذلك وصيَّة، أنا الآن متأكِّد أنك نبيٌّ و سوف يظهر دينُك، و سوف يعلو شأنك، و لكن عاهدني يا محمد إذا أتيتك في ملكك أن تكرمني، اكتُب لي بهذا وثيقة، فأمر النبيُّ صلوات الله و سلامه عليه الصدِّيق فكتب له على لوح من عظم و دفعه إليه، و لما همَّ بالانصراف قال عليه الصلاة و السلام -هنا بيت القصيد -:و كيف بكَ يا سراقة إذا لبستَ سواريْ كسرى؟ أعرابي من أطراف البادية إذا قلنا له: كيف بك إذا ركبتَ طائرة بوش مثلاً، و ركبت يختَه و مركبته، و جلست في مكانه؟ يقول لك: لا بد لك من مشفى للمجانين، طبعاً نفس النسبة، إنسان ضعيف في صحراء يعاهده النبيُّ عليه الصلاة و السلام أن يلبس سواريْ كسرى، نبيٌّ عظيم لا ينطق عن الهوى، وهذا من معجزاته صلى الله عليه و سلم قال تعالى:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ﴾
قال سراقة في دهشة: كسرى بن هرمز ! الآن كسرى اسم، أما في وقته فيبدو أنه اسم كبير جدًّا، كيف هناك في العالَم دولٌ عظمى، و هناك رؤساء لدول عظمى، و هناك دول أعظم من دول، و أن رئيس أعظم دولة في العالم بالمقياس الحديث، قال له: كسرة بن هرمز ! يخاطب النبيَّ، قال: نعم كسرى بن هرمز، هنا دقِّقوا و لا تنسوا هذا الموقف، قال: عاد سراقةُ أدراجه، ووجد الناسَ أقبلوا ينشدون النبيَّ صلى الله عليه و سلم فقال: ارجعوا لقد نفضتُ الأرضَ نفضًا- بحثاً عنه-أبغي المحال، و أنتم لا تجهلون مبلغ بصري بالأثر فرجعوا، ثم كتم خبره مع محمد انظُر إلى الوفاء، و لمَّا يسلم بعد، كتم خبره مع محمد و صاحبه حتى أيقن أنهما بلغا المدينة و أصبحا في مأمنٍ من عدوان قريش، عند ذلك أذاعه، يا جماعة حدث لي مع محمدٍ كيت و كيت، فلما سمع أبو جهل بخبر سراقة مع النبيِّ صلى الله عليه و سلم و موقفه منه لامَه على تخاذله، و جُبنه، و تفويته فرصةَ القبض عليه، أنت جبان، فأجابه سراقةُ شعرًا، و كان شاعراً، قال له:
أبا حكَمٍ و اللهِ لو كنتَ شاهدًا لأمر جوادي إذْ تسوخ قوائمُه
علمتَ و لم تشكُك بأن محمداً رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
***
الموقف لم تذُقه.
وفاء النبي بعهده لسراقة بن مالك :
الأيام دارت و النبيُّ عليه الصلاة و السلام هاجر واستقرَّ بالمدينة، و علا شأنُه، و استقرَّ ملكُه، و حارب قريشاً في بدرٍ و أحد و الخندق، و فتح مكةَ المكرَّمة، و قال: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخٌ كريم و ابن أخٍ كريم، قال: فاذهبوا فأنتم الطلقاء ، و لما صار النبيُّ كما توقَّع سراقةُ في أعلى مركز، قال سراقةُ: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه و سلم بالجعرانة - مكان بين مكة و الطائف- فدخلتُ في كتيبة من الأنصار فجعلوا يقرعونني بكعوب الرماح و يقولون: إليكَ إليكَ ماذا تريد؟ و معه كتاب- معه العظمة- عهدُ النبيِّ، فما زلتُ أشقُّ صفوفهم حتى غدوتُ قريباً من رسول الله، وهو على ناقته، فرفعتُ يدي بالكتاب قلتُ: يا رسول الله أنا سراقة بن مالك، أتذكر؟
يا أخوان لا إيمان لمن أمانة له، و لا دين لمن لا عهد له، و اللهِ يا أخوان زوال الكون أهون على الله عز وجل من أن يضيِّع مؤمناً، و المؤمن ذهاب ماله كلِّه أهون عليه من أن يخلف عهداً، من أن ينقض عهده، أو يخلف وعده، الموقف الأخلاقي، قال: أنا سراقة بن مالك وهذا كتابك لي، فقال عليه الصلاة و السلام: ادنُ مني يا سراقة، هذا يومُ بِرٍّ ووفاء، فأقبلتُ عليه و أعلنتُ إسلامي بين يديه، و نِلتُ من خيره و برِّه، لم يمضِ على هذا اللقاء وقتٌ قصيرٌ حتى تُوُفِّي النبيُّ عليه الصلاة و السلام، نحن نريد أن نسمع و أن نرى ماذا حلَّ بهذا الوعد كيف بك يا سراقة إذا لبستَ سواريْ كسرى؟ قال: كسرى بن هرمز ! قال عليه الصلاة و السلام: كسرى بن هرمز، هبَّت الجيوشُ تتَّجه نحو فتح بلاد فارس، و كانت معركة القادسية، و في ذات يومٍ من أواخر أيام عمر قدِم على المدينة رسلُ سعد بن أبي وقَّاص يبشِّرون خليفةَ المسلمين بالفتح، هذه القادسية الأصلية، و يحملون إلى بيت مال المسلمين خمسَ الفيء الذي غنِموه، و لما وُضِعت الغنائمُ بين يدي عمر نظر إليها في دهشة، تاج كسرى و سواري كسرى و ثياب كسرى المنسوجة من خيوط الذهب، فقد كان في هذه الغنائم تاجُ كسرى المرصَّع بالدُّرِ، و ثيابه المنسوجة بخيوط الذهب، ووِشاحه المنظوم بالجوهر، و سواراه اللذان لم ترَ العينُ مثلَهما قط، و ما لا حصرَ من النفائس، فجعل عمر يقلِّب هذا الكنز الثمين بقضيب كان في يده احتقاراً له، ثم التفت إلى من حوله و قال: إن قوماً أدَّوا هذا لأمناءُ- ما هذه الأمانة ! لو أن إنساناً حامل تاج كسرى و شقَّ نحو إنطاكية و باعه هناك صار مليونيراً، لو حمل سواري كسرى و ذهب إلى بلد آخر القسطنطينية مثلاً- قال: إن قوما أدَّوا هذا لأمناء، كان إلى جانبه سيدنا عليٌّ رضي الله عنه قال: يا خليفة رسول الله أعجِبتَ من أمانتهم لقد عففتَ فعفُّوا، و لو وقعتَ لوقعوا، الطُّهرُ منك بدأ، العفةُ منك بدأت، الاستقامة منك بدأت، أتعجب يا أمير المؤمنين و يا خليفة رسول الله من أمانتهم؟ لا تعجب، قد عففتَ فعفُّوا، و لو وقعتَ لوقعوا، و هناك رواية أخرى لو رتعتَ لرَتعوا، وهنا دعا الفاروقُ رضوان الله عليه و قال: أين سراقة؟ فألبسه قميصَ كسرى و سراويلَه و قِباءه و خفَّيه و قلَّده سيفه و مِنطقته ووضع على رأسه تاجه و ألبسه سوارين، نعم سوارين، و تحقَّقت نبوءة النبيِّ صلى الله عليه و سلم، عند ذلك هتفَ المسلمون الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثم التفت عمرُ إلى سراقة و قال: بخٍ بخٍ، كلمة تعجُّب بخ بخ، أُعيْرابيٌّ أعيرابي تصغير أعرابي، تصغير، شويعر، قويئد، عُويلم، غويلم، شجيرة، كتيب، صيغة التصغير، قال: أعيرابي من بني مدلج على رأسه تاج كسرى و في يديه سواره؟ ثم رفع رأسه إلى السماء و قال: اللهم إنك منعتَ هذا المالَ عن رسولك- هنا النقطة الدقيقة- و كان أحبَّ إليك مني، وأكرم عليك مني، إذا الواحد آتاه اللهُ الدنيا فلا يفرح كثيراً، لأن الله عز وجل ما آتاها لمن هو أحبُّ إليه منكَ، هكذا قال سيدنا عليٌّ: فلينظر ناظرٌ بعقله أن الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا؟ فإن قال: أهانه فقد كذب و إن قال: أكرمه فلقد أهان غيرَه حيث أعطاه الدنيا و قال عليه الصلاة و السلام: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاء ))
هيِّنة على الله، رأى النبيُّ شاةً ميِّتة ألقاها أهلها خارج البيت فقال عليه الصلاة و السلام:عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:
(( كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَإِذَا هُوَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ شَائِلَةٍ بِرِجْلِهَا فَقَالَ أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا ))
كلام سيدنا عمر رائع :" اللهم إنك تعلم أنك منعتَ هذا المالَ رسولَك وهو أحبُّ إليك مني، و أكرم عليك مني، و منعته أبا بكر و كان أحبَّ إليك مني، و أكرم عليك مني، و أعطيتني إياه فأعوذ بك أن تكون قد أعطيتني إياه فتنة لي" الأنبياء كانوا فقراء، فإذا أنت كنت غنيًّا فلا مانع لكن إياكَ أن تظنَّ أنك مكرَّم بهذا المال، لا، هذا المالُ ابتلاء، فإن أنفقته في طاعة الله أصبح نعمةً، فإن لم تفعل هو بلاء، ابتلاء و بلاء هذه قصة سراقة بالتفصيل التي مررنا عليها في الدرس الماضي مروراً سريعاً.
قصة الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري :
أما الوقفة المتأنِّية الثانية عند قصة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه كلكم يعلم أن قدر هذا الصحابي الجليل في القسطنطينية، ما قصة هذا الصحابي الجليل؟ الدرس الماضي وجدت في الدرس موضوعين يحتاجان إلى تفصيل، إذًا هما من صلب السيرة النبوية، أما سيدنا أبو أيوب الأنصاري فتعلمون كيف أن النبي قال عن ناقته: دعوها فإنها مأمورة، و كيف أنها وقفت في ساحة، و كيف أن الوحي جاء النبيَّ كي يعلمه أن هذا المكان بأمر الله عز وجل هو مسجد رسول الله و حوله بيوته.
أبو أيوب الأنصاري، كيف وصل النبيُّ، و كيف بركت ناقتُه القصواءُ، و كيف قال: أي بيت أهلنا أقرب؟ و كيف كان بيت أبي أيوب أقرب البيوت إلى مكان استقرار الناقة، هذا مرَّ بنا في الدرس الماضي، و لكن الوقفة اليوم عند منزل أبي أيوب الذي اختارته العنايةُ الإلهية ليكون منزلَ النبيِّ صلى الله عليه و سلم في هذه الهجرة المباركة.
قال: كان منزلُ - أبي أيوب - يتألَّف من طبقة فوقها عُليَّة، أي فيه غرفة في الطابق الثاني، فأخلى العُليَّة من متاعه و متاع أهله لينزل فيها رسولُ الله، لكنَّ النبيَّ عليه الصلاة و السلام آثر عليه الطبقة السفلى، سيدنا أبو أيوب خطَّط أن هذه الغرفة العالية لرسول الله، أخرج منها متاعه وأثاثه و كلَّ شيء، أما النبيُّ عليه الصلاة و السلام فآثر الطبقة السفلى، فامتثل أبو أيوب لأمره و أنزله حيث أحبَّ، و لما أقبل الليلُ - انظُر إلى توقير النبيِّ عليه الصلاة و السلام، و انظر إلى محبَّة النبي، و انظر إلى هؤلاء الأصحاب الذين كانوا يغضُّون أصواتَهم عند رسول الله، الدين كلُّه أدب، الدين كلُّه أدب في أدب - و لما اقبل الليلُ و أوى الرسولُ صلوات الله عليه إلى فراشه، صعِد أبو أيوب و زوجه إلى العُليَّة، و ما أن أغلقا عليهما بابها حتى التفت أبو أيوب إلى زوجته و قال: ويحكِ ماذا صنعنا؟ أيكون رسول الله أسفل منا و نحن أعلى منه؟ أنمشي فوق رسول رسول الله؟ أنصير بين النبيِّ و الوحي؟ إنا إذًا لهالكون، بكل ما يملك من مشاعر، أنا أكون فوق النبيِّ؟ أنا أكون بين النبيِ و الوحي؟ أنا أمشي فوق النبيِّ؟ قال: ويحكِ ماذا صنعنا أنصير بين النبيِّ و الوحي؟ إنا إذًا لهالكون، و سُقِط في أيدي الزوجين وهما لا يدريان ماذا يفعلان، النبيُّ نام، دخل و نام، و لم تسكن نفساهما بعضَ السكون، إلا حين انحازا إلى جانب العُليَّة، توقَّعوا أن النبيَّ ينام في الوسط، فانحازا إلى طرف الغرفة، الذي لا يقع فوق رسول الله، و التزماه لا يبرحانه إلا ماشين على الأطراف متباعدين عن الوسط، أي تحرَّجوا حرجاً كبيراً أن يتحركَا وسط العلية، و تحركا إلى جانب العلية، فلما أصبح أبو أيوب قال للنبي صلى الله عليه و سلم: و اللهِ يا رسول الله ما أُغمِض لنا جفنٌ هذه الليلة، لا أنا و لا أم أيوب، فقال عليه الصلاة و السلام: و ممَّ ذلك يا أبا أيوب؟ خيراً إن شاء الله، النبيُّ كان بسيطاً، ليس فيه تعقيدات، ممَّ ذلك يا أبا أيوب؟ قال: ذكرتُ أني على ظهر بيتٍ أنت تحته، و أني إذا تحرَّكتُ تناثر عليك الغبارُ- لم يكن هناك إسمنت- فآذاك، ثم إني غدوتُ بينك و بين الوحي، فقال عليه الصلاة و السلام: هوِّن عليك يا أبا أيوب، القضية بسيطة جدًّا، إنه أرفق بنا، لكثرة من يغشانا، قال أبو أيوب: فامتثلتُ أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أن كانت ليلةٌ باردة فانكسرت لنا جرَّةٌ بالعُليَّة و أُريق ماؤها في العلية، و لا يوجد إلا لِحافٌ واحد يلتحفانه، فقمتُ إلى الماء أنا و أم أيوب و ليس لدينا إلا قُطيفةٌ كنا نتَّخذها لحافاً، و جعلنا ننشِّف بها الماءَ، بأبي أنت وأمي إني أكره أن أكون فوقك، و أن تكون أسفل مني، ثم قصصتُ عليه خبر الجرَّةَ فاستجاب لي، كذلك النبيُّ ليِّن، أخذ موقفاً و غيِّره، الآن ما الذي حدث؟ شعر النبيُّ أن أبا أيوب تحمّل ما لا يطيق، بالسكنى فوق، مع أنه في الطابق السفلي أهون للنبيِّ، و النبيُّ لما رأى أبا أيوب متحرِّجاً و متألِّماً و منكمشاً ماذا فعل النبيُّ؟ قال: فاستجاب لي و صعد إلى العلية و نزلت أنا و أم أيوب إلى الأسفل، الحمد لله، هنا مكاننا، أقام النبيُّ عليه الصلاة و السلام في بيت أبي أيوب سبعة أشهر حتى تمَّ بناءُ مسجده في الأرض الخلاء التي بركت فيها الناقةُ، ثم انتقل إلى الحجرات التي أُقيمت حول المسجد له و لأزواجه، فغدا جاراً لأبي أيوب أكرِمْ بهما من متجاوريْن.
أراد أبو أيوب مرَّةً أن يدعوَ النبيَّ على طعام نفيس فذبج ذبيحةً و هيَّأ خبزاً و هيَّأ تمراً و أُقطًا، من أطيب الطعام، فأخذ أبو أيوب جديًاً فذبحه و قال لامرأته: اِعجِني و اخبزي و أنتِ أعلم بالخبز، ثم أخذ نصف الجدي فطبخه، و عمد إلى نصفه الثاني فشواه، فلما نضج الطعامُ ووُضِع بين يدي النبي و صاحبيه، أخذ النبيُّ عليه الصلاة و السلام قطعة من الجدي ووضعها في رغيف و قال: يا أبا أيوب بادِر بهذه القطعة إلى فاطمة، فإنها لم تأكل مثلَ هذا منذ أيام، و كان يقول: " فاطمة بضع مني من أكرمها فقد أكرمني" .
البنت غالية جداً، قال: يا أبا أيوب بادِرْ بهذه القطعة إلى فاطمة فإنها لم تُصِب مثل هذا منذ أيام، هنا النقطة، فلما أكلوا و شبعوا قال عليه الصلاة و السلام: خبزٌ و لحم و تمرٌ و رُطبٌ و دمعتْ عيناه، ثم قال:
((و الذي نفسي بيده إن هذا هو النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة ))
هاتوا شايًا أخضر، هاتوا أرزًّا بحليب، هاتِ الفواكه يا ولد، هات الحلويات، قلْ: يا رب لك الحمد، تجده يشتري و يأكل و يُضيِّف و لا يشكر الله عز وجل، سيدنا عمر أكل خبزاً و ملحاً فقال: الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا - و شرب ماءً- والذي أسقانا فأروانا، الذي أطعمنا فأشبعنا و أسقانا فأروانا، إذا الإنسان صحَّته طيِّبة و عنده طعامه يأكل، يجب أن يذوب شكراً لله عز وجل، قال: و الذي نفس محمد بيده هذا هو النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة، فإذا أصبتُم مثلَ هذا فضربتُم بأيديكم فيه فقولوا: بسم الله، فإذا شبعتم فقولوا: الحمد لله الذي هو أشبعنا و أنعم علينا و أفضل.
حياة أبي أيوب الأنصاري بعد وفاة الرسول الكريم :
عاش أبو أيوب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم حياةً متَّبعاً سُنَّة النبيِّ عليه الصلاة و السلام، ما تخلَّف عن غزوة قط، و كانت آخرُ غزواته؛ الآن اسمعوا: الرجل بلغ الثمانين من عمره؛ و كانت آخر غزواته حين جهَّز معاويةُ جيشاً بقيادة ابنه يزيد لفتح القِسطنطينية، و كان أبو أيوب حينذاك شيخاً طاعناً في السِّن، يحبو نحو الثمانين من عمره، فلم يمنعه ذلك العمُرُ أن ينضويَ تحت لواء يزيد، و أن يمخُرَ عُباب َ البحر غازياً في سبيل الله، الآن رفعوا الخدمة الإلزامية من خمسة و أربعين إلى خمسة و خمسين، سن الإعفاء، ثمانون سنة ركب البحرَ غازياً يبتغي وجه الله عز وجل، ما هؤلاء الصحابة ! لكنه لم يمضِ غيرُ قليل على منازلة العدوِّ حتى مرِض أبو أيوب مرضًا أقعده عن مواصلة القتال، أي يبدو أنه أُصيب بالشلل، فجاء يزيدُ ليعوده و يسأله، هل لك من حاجة يا أبا أيوب؟ قال: اِقرأ عني السلام على جنود المسلمين و قل لهم - طبعاً وجودُ أبي أيوب معهم أعطاهم حماساً كبيراً جدًّا، صحابي جليل من أصحاب رسول الله، هو الذي نزل عنده - قال: اقرأ - إذا أنت لك جارٌ و تقدر بجاهك أن تنفع أخاك فلا تقصِّر، إذا وجودك بهذا المكان يحلُّ مشكلة أخيك، و إذا وجودك يحمِّس الآخرين، إذا مكانتك الاجتماعية تشجِّع الناسَ لطلب العلم، إذا كانت مكانتُك الاجتماعية تحضُّ الناس على بذل المال في سبيل الله، فلا تضن بهذه المكانة، فيبدو أن أبا أيوب وجوده في الجيش أكبر دافع للنصر فمضى في هذا الجيش وهو يزيد عن ثمانين عاماً، طاعن في السِّن، و أصابه مرضٌ عضالٌ أقعده عن متابعة القتال، و مع ذلك قال: يوصيكم أبو أيوب أن توغِلوا في أرض العدوِّ إلى أبعد غاية، و أن تحملوه معكم- من أغرب الغرائب أن أبا أيوب الأنصاري حمله المسلمون وهو مُقَعد في فتحهم للقسطنطينية- و أن تدفنوه تحت أقدامكم عند أسوار القسطنطينية، و لفَظ أنفاسَه الطاهرة، و فعلاً الجنود المسلمون استجابوا لهذه الرغبة المُلِحة و كرُّوا على جند العدوّ الكرَّة بعد الكرَّة حتى بلغوا أسوارَ القسطنطينية وهم يحملون أبا أيوب معهم، وهناك حفروا له قبراً ووارَوه فيه.
أخواننا الأتراك ؛ أين يقع قبر أبي أيوب؟ في حي أيوب هنيئاً لكم بهذا المقام الذي عندكم، و هنا حفروا له قبراً وواروه فيه، و قبر أبي أيوب الأنصاري الآن في استنبول.
أبرز حقائق الدّين :
أيها الأخوة الأكارم ؛ ذكرت هاتين القصَّتين لأنهما تفصيل للدرس الماضي، و أريد قبل أن ينتهيَ الدرسُ أن أطرح هذا السؤال، الحقيقة هناك سؤال كبير: المسلمون الآن ألف مليون مسلم، و بلغني آخرُ رقم ألف و مئتا مليون مسلم، و كان أصحابُ النبيِّ لا يزيدون عن عشرة آلاف صحابيٍّ، و قد رفرفتْ رايتُهم في أطراف الدنيا، الذي يجب أن نبحث عنه، ربُّنا هو هو، هل إلهُنا غيرُ إلههم؟ لا، لا إله إلا الله ربُّنا هو هو، و القرآن هو هو، و سنة النبيِّ هي هي، و طبيعة الإنسان هي هي، و الشهوات التي أودعها اللهُ فينا أودعها فيهم، و الرغبات التي زُرِعت فينا زُرِعت فيهم، ألا ينبغي أن نسأل هذا السؤال بإخلاص: ما الفرق بيننا و بينهم؟ كانوا صادقين مع الله، الإسلام له مظاهر و له حقائق، كانوا مع حقائقه، و من أبرز حقائق الدين أن تستقيم على أمر الله، من أبرز حقائق الدين أن تحبَّ اللهَ و رسولَه حبًّا يدفعك إلى طاعته، من أبرز حقائق الدين أن يكون اللهُ و رسولُه أحبَّ إليك ممَّا سواهما، من أبرز حقائق الدين أن تعرف لماذا أنت في الدنيا، ماذا بعد الموت، هذا الذي يؤدِّي الصلوات، و يصوم الصيام المفروض، و يحجُّ كما يحجُّ الناسُ، و يؤدِّي زكاةَ ماله، و يتحايل في ذلك ألف حيلة و حيلة، و يزعم أنه مسلم، و هو غارقٌ في الملذَّات التي لا ترضي اللهَ عز وجل، هذا محسوب على المسلمين و ليس منهم، لكن و اللهِ هناك واحد كألف و هناك ألف كأُف، و إذا الإنسان شعر أن بابَ الله مفتوحٌ، بابَ البطولة مفتوح، باب الطاعة مفتوح، و باب الإخلاص لله مفتوح.
الأعمدة الأساسية للإيمان :
1 ـ الاستقامة :
درس الجمعة الماضية ذكرت بعض الأعمدة الأساسية للإيمان؛ العمود الأول الاستقامة على أمر الله، أقول لكم كلاماً من قلبي: إذا أحدنا- أحد الإخوة الحاضرين- ليس مستعدًّا ليطبِّق الشرع تماماً لا يحزن إذا أمضى سنوات تلو السنوات و يقول بعد هذا: لم أستفِد شيئاً، لأن أحد الأعراب جاء النبيَّ عليه الصلاة و السلام و قال:
(( قل لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحداً بعدك؟ قال: قل: آمَنْتُ بالله، ثم استقم، قال: أريد أخف من ذلك؟ قال: إذاً فاستعد للبلاء ))
وجد الاستقامة صعبة عنده، قال: أريد أخفَّ من ذلك، قال: - إذا الاستقامة ثقيلة عليك - استعِدَّ للبلاء، وهذا أول طلب، أي الحلال بيِّن و الحرام بيِّن، و أنا و اللهِ لكم ناصحٌ أمين، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ))
أي إذا الإنسان ما استقام، الطريق مسدود، مهما تزيَّ بزيِّ المسلمين، ومهما تظاهر بمظاهر المسلمين، إن لم يستقم فالطريق مسدود، كلمة تصيب كبد الحقيقة، إن لم تضع شهواتِك تحت قدمك، إن لم تأتمر بما أمر اللهُ، و إن لم تنتهِ عما نهى اللهُ عنه فالطريق مسدود، تحضر مجلس علم، تقرأ الكتاب الفلاني، تسمع شريطاً، و تثني على الخطيب، و تمدح المدرِّس يقول لك: يا أخي مشاعري كلها إسلامية و الحمد لله، و عندك مكتبة إسلامية، كلُّه جميل، لكن مادام هناك معاص، و مادام هناك مخالفات، و مادام هناك تقصيرات، فالطريق إلى الله مسدود، و الأمر خطير، و الموت على الأبواب، و العمر قصير، و المهمَّة صعبة، جدِّدوا فإن البحر عميق، يا أبا ذر جدِّد السفينة فإن البحرَ عميق، الزوجة يا تُرى سافرة أم محجَّبة؟ أصلحها الله لم ترض أن تضع الحجاب هي حرة، ليس هذا المسلم، لا بدَّ لها من محاولات، هناك في البيت مخالفة، هناك في كسب المال مخالفة، هناك في إنفاق المال مخالفة، هناك في العلاقات الاجتماعية مخالفة، في الندوات و السهرات و النُّزهات هناك اختلاطات، هناك انحرافات، حتى تشعر أنك أنت مع الله، حتى تحسُّ أن قلبك موصول بالله، حتى تقطف ثمارَ الدين، أقول لكم هذا الكلام لأن إلقاء العلم من دون هذه التوجيهات قد يظنُّ الإنسان أنه تعلَّم، و أنه درس، و أنه فهِم السيرة، ما قيمة العلم كلّه إن لم يكن سلوكاً بيننا، إذًا أول سؤال: أحد الأعمدة الاستقامة، قال تعالى:
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
الاستقامة عين الكرامة، قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾
2 ـ طلب العلم و العمل الصالح :
العمود الثاني: انظر الاستقامة تحتاج إلى طلب علم حتى أنت بين طلب العلم و بين الالتزام، طلب العلم يعطيك أفقًا أوسعَ، و الاستقامة تجعل الطريق إلى الله سالكاً، و الحقيقة الاستقامة سلبية و العمل الصالح إيجابي، فأنت بين طلب العلم و بين العمل الصالح، لا بورك لي في يوم لم أزدد فيه من الله علماً و لا بورك لي في يوم لم أزدد من الله قرباً .
فأنت في صلاة الفجر، قل: " اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقرِّبنا إليك" اسأل نفسك هل لك عمل صالح؟ لك عمل يصلح للعرض على الله؟ أما هذا النشيد الذي ينشدونه:
"ما لي عمل يصلح للعرض عليك" ما معناه؟ ما لي عمل يصلح للعرض عليك، أي هذا المنشِد ظنَّ الشيء رائعاً جدًّا أن يكون هكذا، اِبحث عن عمل يصلح للعرض على الله، لك عمل و لك دعوة، هناك أخ هديته إلى الله، وهناك أخ عاونته، أقرضتَ فقيراً وأعنت مسكيناً، ماذا عملت؟ هناك أعمال تنتهي لمصلحتك، كلها تنتهي لصالحك، هذه الأعمال لا قيمة لها .
من استقام على أمر الله وضع يده على جوهر الدين :
أيها الأخوة الأكارم: عمود الاستقامة يجعل الطريق إلى الله سالكاً، و عمود العلم يوسِّع الأفق، و عمود العمل يدفعك نحو الله عز وجل، الطريق سالكٌ لكن لا بدَّ لك من محرِّك، و المحرِّك هو العلم و العمل، فهذا الذي يُجدي، الوقت ثمينٌ، و العمر قصير، و المواصلات صعبة، و حضور الأخ غالٍ عليَّ كثيراً، أنه يقعد سنة سنتين ثلاث وهو مازال مقيماً على خمس مخالفات؛ في بيته، و في عمله، يجد الطرق كلها مسدودة، و الله كلُّه سمعناه، و لو عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعمل، لو عمل بما علم، فنحن لا نريد كلاماً كثيراً، نريد كلاماً قليلاً و عملاً كثيراً، نريد أن يكون أحدُنا ذا عملٍ أكبرَ من علمه، لا علم غزير و عمل قليل، هؤلاء الصحابة هكذا فعلوا، أخلصوا، هناك موضوعات كثيرة المسلمون المتأخرون اشتغلوا، ومزَّقتهم هذه الموضوعات، و اختلفوا و أصبحوا فرَقاً و أحزاباً و شيعاً و طوائف، و تراشقوا التُّهم، كل هذه الموضوعات الصحابة ما طرقوها أبداً، وضعوا يدهم على جوهر الدين، لا أنسى هذا الموقف و أنا أقوله لكم كثيراً، سيدنا عمر عندما امتحن أحد الأعراب الرعاة، قال: بِعني هذه الشاة وخذ ثمنها؟ قال: ليست لي، قال: قل لصاحبك أكلها الذئبُ، قال: ليست لي، قال: خذ ثمنها، قال: و اللهِ إنني لفي أشدِّ الحاجة إلى ثمنها و لو قلتُ لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني، فإني عنده لصادق أمين، و لكن أين الله؟ هذه هي الدين كلُّه يتلخَّص في أين الله؟ ممكن أن تعصيه وهو يراقبك، ممكن أن تغشَّ مؤمناً، تغش إنساناً، تكذب على إنسان، تستبيح مال إنسان، تغتصب مال إنسان، تبتزُّ مال إنسان، تعتدي على إنسان، تغتاب إنساناً، من استقام على أمر الله وضع يده على جوهر الدين، و استقيموا و لن تُحصوا، و حينما تستقيمون تعرفون لذَّة القرب، تعرفون معنى أن الدين يسعد الإنسان إلى الأبد.