- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (004)سورة النساء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
هذه النفس التي هي ذات الإنسان هي أمانة بين يديه :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس السادس والأربعين من دروس سورة النساء، ومع الآية السابعة والتسعين، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾
أيها الأخوة، اللَّهُ عز وجل يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها، أي أن هذه النفس التي هي ذات الإنسان وضعت في أمانته في الحياة الدنيا، وكلف أن يعرفها بربها، وأن يحملها على طاعته، وأن يطهرها ويزكيها بالقرب منه، وقد قال الله عز وجل:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
إلا أن هذه الأمانة ليست إلى أبد الآبدين، هي أمانة بين يديك إلى وقت معلوم، النجاح كل النجاح، والفلاح كل الفلاح، والفوز كل الفوز، والتفوق كل التفوق، في أن تزكيها، أي أن تعرفها بربها، وأن تحملها على طاعته، وأن تسعدها بالقرب منه:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
هذه النفس أمانة لا إلى أبد الآبدين ولكن إلى وقت معلوم :
من تركها جاهلة غير منضبطة بمنهج الله، تملؤها الشهوات والأدران هذه أشقى النفوس، لكن الإنسان لا بد من وقت تسترد فيه الأمانة، ولعوام الناس كلام يقترب من هذا المعنى يقولون: صاحب الأمانة أخذ أمانته، نفسك أمانة بين يديك، كل بطولتك أن تزكيها، أما هي أمانة لا إلى أبد الآبدين، إلى وقت معلوم، الله عز وجل قال:
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين ﴾
﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾
نعود إلى الوفاة، الذي يأمر بالوفاة هو الله، الآمر الأعلى، والأمر يتوجه إلى ملك الموت:
﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾
الله عز وجل هو الذي يأمر وملك الموت مشرف على التنفيذ وله أعوان :
الله عز وجل إذا قال:
﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ﴾
أي هو الذي يأمر، وإذا قال الله عز وجل:
﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾
أي هو المنفذ، وإذا قال الله عز وجل:
﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾
هؤلاء أعوان ملك الموت، الحقيقة الله عز وجل هو الذي يأمر، وملك الموت مشرف على التنفيذ، وله أعوان أشير إليهم في قوله تعالى:
﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾
على كل هذه النفس التي أودعت في الجسد، والتي خلق لها الكون من أجل أن تعرف الله، والتي أعطيت العقل من أجل أن تهتدي إليه، والتي فطرت فطرة تتوافق مع منهج الله، وقد أودعت فيها الشهوات لترقى بها إلى رب الأرض والسماوات، وقد أعطيت حرية الاختيار، وقد وضع لها منهج قويم تسير عليه هذه النفس البشرية المعنية بالخطاب.
من ظلم نفسه ضيع عليها الأبد و سعادة الآخرة :
قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ﴾
أي جاءهم ملك الموت وهم ظالمو أنفسهم، الإنسان متى يظلم نفسه؟ حينما يضيع عليها خيراً كثيراً، هي خلقت للأبد، خلقت للجنة، فغفلت عن الله عز وجل، واهتممت بالدنيا، والدنيا محدودة، الدنيا أمدها قصير مركبة على المتاعب، أما الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴾
هؤلاء هم الخاسرون. فمن هم الذين ظلموا أنفسهم؟ هم الذين قهروا على أن يعصوا الله عز وجل، أي وضع استثنائي، وقد مر في التاريخ الإسلامي حالات كثيرة جداً أن بلداً من البلدان لا يستطيع فيه المؤمن أن يطيع الله عز وجل، يجبر على معصية الله، هذا الإنسان إذا بقي في هذا البلد، في البلد الذي يجبر فيه على معصية الله، ولا يتاح له أن يطيع الله، ولا أن يعبده إذا بقي في بلد، وضحى بالجنة من أجل أن يبقى فيه، آثر ماله، آثر من حوله، آثر بلداً ألف فيه، هذا يموت ظالماً لنفسه، لأنه استعجل العاجل، وضيع الآجل، لأن هذه الآية جاءت في سياق الجهاد، فالبلد الذي لا تستطيع أن تعبد الله فيه ينبغي ألا تبقى فيه، لأنك مخلوق في الدنيا من أجل العبادة، كلام دقيق، لأن علة وجودك في الأرض من أجل أن تعبد الله، فإذا حيل بينك وبين أن تعبده، إذا حيل بينك وبين أن تؤدي الغاية التي خلقت من أجلها، إذا حيل بينك وبين أن تطيعه، لا شيء يعذرك يوم القيامة، ينبغي أن تهاجر، هذه الهجرة في سبيل الله، هذه الهجرة فراراً بدينك، هذه الهجرة صون لعرضك، هذه الهجرة ضمان لمستقبل أبنائك، كلام دقيق واضح كالشمس، أي بلد في الأرض حال بينك وبين أن تعبد الله ينبغي ألا تبقى فيه، وبقاؤك فيه تعرض دينك، وتعرض أهلك، وتعرض من حولك للشقاء في الدنيا والآخرة.
فهؤلاء الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم أي ضيعوا على أنفسهم الآخرة، ضيعوا على أنفسهم سعادة الآخرة، ضيعوا على أنفسهم الأبد، هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم فأقاموا في بلد لم يستطيعوا أن يطيعوا الله فيه، أي أقاموا في بلد لا يستطيع أن يمنع ابنته أن تتزوج بفاسق، إذا وجد مع ابنته شاباً في السرير، وعنفه يقاد إلى المخفر ليوقع تعهداً أنه لم تكن حضارياً في تعامله مع صديق ابنته، في مثل هذا البلد الذي ترتكب فيه الفواحش على قارعة الطريق، ولا يستطيع الإنسان أن يضمن مستقبل أبنائه، ولن يكون أبناؤه مسلمين، لذلك قال بعض العلماء، وأنا معه بهذا القول: إن لم تضمن أن يكون ابنَ ابنِ ابنك مسلماً فلا يجوز أن تبقى في بلاد الكفر، ومن أقام مع المشركين برئت منه ذمة الله، والقصص التي يعاني منها أبناء الجاليات في بلاد الغرب أكثر من أن تحصى، لأن أثمن شيء في حياة الإنسان أولاده، ولن يكون قرير العين على مستقبل أولاده إذا أقام في بلاد يعبد فيها الدرهم والدينار، وتعبد فيها الشهوات، ويضام الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
من يضحي بدينه ودين أولاده من أجل دخل أكبر فهذه بمثابة هجرة في سبيل الشيطان:
أيها الأخوة الكرام، من أقام مع المشركين برئت منه ذمة الله، ولا أطمئنكم بل أقرر حقيقة أن النبي عليه الصلاة والسلام في أكثر من ثلاثين حديثاً صحيحاً دعا المسلمين في آخر الزمان إلى السكنى في الشام فقال: هي خير بلاد المسلمين للمسلمين يومئذ. وقال:
((رأيت عمود الإسلام قد سلّ من تحت وسادتي فأتبعته بصري فإذا هو بالشام))
طوبى لمن له فيها مربط شاة، الداخل إليها برضائي والخارج منها بسخطي، إذا كان لك في الشام مربط شاة فطوبى لك، إن كان لك في الشام مورد رزق يكفيك طوبى لك، وترون هذا التجمع في مسجد، في درس ربما لا يوجد في بلاد أخرى، في بلاد أخرى قد تسأل سؤالاً إذا دخلت المسجد مرة واحدة، نحن والحمد لله كما ترون الجوامع مكتظة بالمصلين، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يضاف إلى هذا التجمع التقوى والصلاح، فلذلك هذا الذي يؤثر بيتاً مريحاً، ومركبة فارهة، وحديقة غناء، ومسبحاً خاصاً، ودخلاً فلكياً، ولا يهتم لدين أبنائه، ولا لإسلامهم، ولا لمستقبلهم فهذا إذا توفته الملائكة فهو ظالم لنفسه، لأن أثمن شيء في حياة الإنسان أولاده، وكنت أقول دائماً: لو بلغت أعلى منصباً في العالم، ولو جمعت أضخم ثروة في العالم، ولو نلت أعلى شهادة في العالم، ولم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس، لأن ابنك امتداد لك، لأنك لن تسعد إلا إذا قرت عينك بأولادك، ولو فرضنا جدلاً أنك نجوت بدينك في بلاد الغرب فلن ينجو أبناؤك، أبناؤك سوف يكونون ويشكلون تشكيلاً آخر لا ترضى عنه، أي هذه الآيات يمكن أن تفهم في هذه المعطيات التي نجدها في عالمنا المعاصر:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ﴾
من أجل الدنيا أنا أسميها دائماً هجرة في سبيل الشيطان، تضحي بدينك، أو تضحي بدين أولادك، أو تضحي بأهلك، وقد قال الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾
بعض من علامات آخر الزمان :
من أجل دنيا عريضة، من أجل دخل كبير، من أجل أن تركب كل عام مركبة فارهة، من أجل أن تجلس، وأن ترى العالم كله على الشاشات، هناك متع كثيرة في بلاد الغرب، إنها على شبكية العين جنة الله في الأرض، ولكنك إذا نقلت هذه الصورة إلى الدماغ وجدتها جهنم، وقد ورد في بعض الأحاديث أن الأعور الدجال الذي يرى الدنيا ولا يرى الآخرة، والذي يكذب ويدجل، ناره جنة وجنته نار، من علامات آخر الزمان أن الرجل يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:
((بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ، فِتَناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً، وَيُمْسِي كَافِراً، أَو يُمْسِي مُؤْمِناً، وَيُصْبِحُ كَافِراً، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا))
كل المتاعب التي تعاني منها في بلد من العالم الثالث ليست بشيء أمام نار جهنم، كل المتاعب التي تعاني منها في بلد من العالم الثالث ليست بشيء أمام ضياع الجنة، كل المتاعب التي تعاني منها في بلد من العالم الثالث ليست بشيء، كل المتاعب التي يعاني منها من كان في العالم الثالث ليست بشيء أمام أن ترى أبناءك ليسوا مسلمين، والله ذهبت إلى بلاد الغرب مرات عديدة، والله استمعت إلى الآباء كلاماً يعتصر القلب من الألم، شيء يقلقهم إلى حد لا يوصف، أن أولادهم على شيء آخر، لا ينتمون لا إلى أمتهم، ولا إلى عروبتهم، ولا إلى دينهم، ولا إلى قيمهم، شكا لي أحد الآباء أنه كلما عنف ابنه على خلق لا يرضي الله عز وجل سخر من أبيه.
فيا أيها الأخوة الكرام، الإنسان أحياناً يتخذ قراراً مصيرياً، فأن تعقد العزم على أن تقيم إقامة دائمة في بلاد يفتخر علية القوم أنهم شاذون، مدينة بأكملها من أجمل مدن العالم ثلاثة أرباع سكانها من الشاذين، حاكم ولاية، قاض كبير، مدير شركة، ويكفي أن سفير إحدى هذه الدول عندما حضر حفل إعطائه أوراق اعتماده ليقدمها إلى رئيس البلد الذي عين فيه كان في رفقته شريكه الجنسي، أي الفاحشة هناك لا وزن لها إطلاقاً، يمكن أن ترتكب الفواحش كلها، ولك مكانة علية في القوم، بعيدون عن الله بعد الأرض عن السماء، لكن لا يمنع هذا، وأنا أتكلم بشكل واقعي، أن تسافر إلى هناك لتأتي بشهادة تنفع بها المسلمين، لا يمنع أن تذهب إلى هناك لتأتي بخبرة تنفع بها المسلمين، أنا أتحدث عن الإقامة الدائمة، أنا أتحدث على أن تقيم إقامة دائمة، هذا الذي حظره النبي، من أقام مع المشركين برئت منه ذمة الله.
الفرق بين أن تحس بالضعف دعوى وأن تحس به حقيقة :
يوجد شيء آخر أن هذا اللحم الذي نبت في كتفك هو من بلادك، من بلاد المسلمين، ألا ينبغي أن تعود خبرتك على المسلمين؟ ألا ينبغي أن يكون طبك للمسلمين؟ ألا ينبغي أن يكون ذكاؤك للمسلمين؟ ألا ينبغي أن تكون إمكاناتك بين أيدي المسلمين؟ ولن تستطيع أن ترى توافقاً بين بلاد نامية وبين بلاد نعمت بالاستقرار مئتي عام، هناك مسافة كبيرة، لكن ألا تستحق الجنة أن نعاني بعض المتاعب من أجل ضمان سلامة دين أولادنا؟ ألا تقتضي الآخرة أن نعاني بعض المتاعب من أجل سلامة دين أهلنا؟ هذا معنى الآية الكريمة:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ﴾
إما أنهم في بلد فيه حريات تفوق حد الوصف إلى درجة التفسخ والإباحية، أو فيه قهر إلى درجة الظلم كلاهما واحد، في حالة القهر والقمع لا تستطيع أن تقيم شعائر دينك، وفي حالة الانحلال لا تستطيع ذاتياً أن تقيم شعائر دينك، المحصلة واحدة إن كنت في بلد يحول بينك وبين أن تصلي، يحول بينك وبين أن تحجب ابنتك، يحول بينك وبين أن تطلب العلم الشرعي، يحول بينك وبين أن تدخل المسجد، هذا البلد حال بينك وبين عبادة الله، وإن كنت في بلد آخر فيه من الحريات ما لا يوصف، لكن هذا البلد الآخر لا يستطيع ابنك أن يستقيم على أمر الله، لأن البيئة فاسدة، ولأن المعصية ضمن يديك، في متناول يديك، أينما توجهت ترى المعصية على قدم وساق، أي سواء أكان الذي منعك من أن تعبد الله قوة قاهرة أو انحلال وحرية فالمحصلة واحدة:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
أيها الأخوة، قال بعض العلماء: أن تكون مستضعفاً، هما حالتان؛ أن تحس بالضعف دعوى، وأن تحس بالضعف حقيقة، إذا كنت ضعيفاً حقيقة لا تستطيع أن تغادر، ولا يسمح لك أن تغادر، وليس معك مال يعينك على المغادرة فهذه حالة أخرى هذا ضعف حقيقي، أما يوجد ضعف دعوى، أي ألفت حياة ناعمة، ألفت بيتاً واسعاً، ألفت دخلاً كبيراً، ألفت تيسيرات في الحياة لا توصف، ألفت أن الحياة رغيدة ناعمة كل شيء تناله باتصال هاتفي، ويمكن أن تحل كل مشكلاتك وأنت على الشاشة، ويمكن أن تسافر، وأن تعقد الصفقات، وأن تجدد جواز السفر بسهولة ما بعدها سهولة.
جواب الله عز وجل على من آثر الدنيا على الآخرة :
قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾
هل قبل الله حجتهم؟ لا، هل نجاهم الاستضعاف من عذاب النار؟ لا:
﴿ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾
كلما التقيت بإنسان مقيم هناك ويشكو تفلت أولاده؛ انحرافهم، وانغماسهم في محرمات يحرمها الشرع، وهم متألمون أشد الألم أقول لهم: غادروا، عودوا إلى أوطانكم، عودوا إلى بلدكم، يقول: لا يعاش في بلدنا، البيوت غالية جداً، يوجد أزمة مواصلات، أزمة ركوب، ويوجد أزمة سكن، ويوجد جو ملوث، إذاً أنتَ آثرت الدنيا على الآخرة:
﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ﴾
هذا جواب الله عز وجل:
﴿ فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾
أرأيتم إلى هذا الحكم الشرعي؟ أرأيتم إلى مصير هؤلاء الذين طابت لهم السكنى في بلاد الأرض، ومدحوا جمالها، ومناخها، وأمطارها، ولونها الأخضر، ورخص أسعارها، وسهولة التعامل مع بعض الناس، قال:
﴿ فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾
لا توازن بين بلد متقدم وبلد في الشرق الأوسط ولكن وازن بين الدنيا والآخرة :
كلما ألتقي مع إنسان، وأحضه أن يعود ليسهم في بناء وطنه يقول: الحياة هنا مريحة جداً، أقول له: لا توازن بين هذا البلد الذي أنت فيه، وبين بلدك في الشرق، وازن بيد الدنيا والآخرة، هذه الموازنة خطأ كبير، طبعاً لو أردت أن توازن بين بلد متقدم جداً، وينعم بالاستقرار أكثر من مئتي عام، وقد جمع أموال الدنيا عنده، طبعاً لا يوازَن مثل هذا البلد مع بلد نامٍ يعاني من مشكلات لا تنتهي، صنعها له الطرف الآخر، أقول له: لا توازن بين بلد متقدم وبلد في الشرق الأوسط، ولكن وازن بين الدنيا والآخرة، فالذي يهاجر من بلد يستطيع أن يعبد الله فيه كما ترون يوجد شيء اسمه خجل، حياء، يوجد بقية وفاء، يوجد بقية تماسك أسرة، الأب عندنا مقدس، همه الأول تزويج أولاده، الأم عندنا أم، أي هناك صفات في الأسرة في الشرق تتمتع بها لا نراها هناك إطلاقاً، مرة وقف رئيس دولة عظمى هي قطب العالم غير الذي هو على كرسي الحكم الآن، قال: إننا نعاني من مشكلات مدمرة، قفز إلى ذهني ما المشكلات المدمرة التي يعاني منها؟ بلد يتربع على عرش القوة في العالم، تصورت الصين أو أوربا فالمفاجأة كانت أن أضخم هذه المشكلات تفكك الأسرة، والمخدرات، وشيوع الجريمة، إذاً يوجد إيجابيات في بلادنا أيها الأخوة من الصعب جداً أن يكتشفها الإنسان إلا إذا غادر بلده إلى بلد آخر، يوجد إيجابيات كثيرة، والإنسان المنصف ينبغي أن يكشف الإيجابيات والسلبيات، أما أن يبقى في السلبيات، وأن يكثر التشكي ليس هذا من الإنصاف في شيء:
﴿ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾
هذا كلام من؟ كلام خالق الأكوان، كلام رب العالمين، أي إذا طابت لك الحياة في بلد، ولم تطب لك العبادة، أولم تستطع أن تعبد الله إما قهراً أو إغراء، الإنسان تحت ضغطين قد يضغط، وقد يغرى، كلاهما يخرجانه عن استقامته.
الله سبحانه وتعالى يرحم أولئك الذين كانوا مستضعفين حقاً لا دعوى بل حقيقة :
لكن الله سبحانه وتعالى يرحم أولئك الذين كانوا مستضعفين حقاً، لا دعوى بل حقيقة، قال:
﴿ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً* فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُو عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً﴾
أي يوجد إنسان لا يستطيع، إما لا يسمح له، أو لا يملك ثمن السفر، أو لا يملك موافقة الإقامة في بلد آخر، الأمور معقدة جداً، ربما لا يستطيع أن يغادر، أو لا يملك ثمن المغادرة، أو لا يسمح له أن يقيم هناك، هذا معذور عند الله، أما إنسان بإمكانه أن يعود إلى بلده، بإمكانه أن يخدم أمته، بإمكانه أن يضع علمه وخبرته في خدمة المسلمين، لأن الحياة راقت له هناك، يأبى أن يعود هذا الإنسان توعده الله بجهنم والتي وصفها بأنها ساءت مصيراً، لكن هذا الكلام لا ينسحب على كل من أقام في بلاد الغرب، قد يقيم أحدهم مضطراً، وربما لا يستطيع أن يعود شيء آخر، أنا أتكلم عن إنسان بإمكانه أن يعود، وأن يضع علمه في خدمة أمته، بإمكانه أن يخفف من أخطار تفلت أولاده، لا أمدح البلاد الأخرى، لأن الفساد عمّ الأرض كلها:
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾
لكن يوجد بيئات أفضل من بيئات، يوجد بيئات احتمال الانحراف أقل من بيئات أخرى.
يجب على المؤمن أن يقيم في بلد يستطيع أن يعبد الله فيه :
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾
ذكرت في مقدمة هذا الدرس هناك هجرة في سبيل الشيطان من أجل الدرهم والدينار، من أجل التمتع، من أجل الحرية بمعنى التفلت هذه هجرة في سبيل الشيطان، ومن كان في بلد لا يستطيع أن يعبد الله فيه إما إغراء، وإما قمع، وكلاهما سيان، ينبغي أن يغادر إلى بلد يستطيع أن يعبد الله فيه قال:
﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾
أي فراراً بدينه، أو صوناً لدينه وإنقاذاً لأهله وأولاده:
﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً﴾
المراغم: جمع، وهو اسم مفعول، وهو من مادة رغم، والرغام هو التراب، رغم أنفه أي لامس التراب، مراغماً كثيرة أي إذا هاجر في سبيل الله، وأقام في بلاد المسلمين، وصان دينه وعرضه يكون قد أرغم عدوه، ومرغ أنف عدوه في التراب، لأنه نجا بدينه، لأنه ضمن آخرته، لأنه أصلح حاله.
أيها الأخوة الأكارم، أخوة كثر أخذوا قراراً مصيرياً بالعودة إلى بلادهم وخدمة أمتهم، في البدايات عانوا من بعض المتاعب امتحاناً لهم، وتأكيداً لإخلاصهم في قرارهم، لكن بعد حين وفقوا في حياتهم، وهم يلهجون بالشكر دائماً على أن الله مكنهم وأعانهم على أن يعودوا إلى بلادهم، هذا كلام دقيق أقوله.
أهمية الهجرة في سبيل الله :
قال تعالى:
﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾
كلام خالق الكون:
﴿ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً ﴾
أي يجد إلى البلد الذي هاجر إليه في سبيل الله ما يرغم عدوه على احترامه، أو ما يجعل أنف عدوه يلامس التراب، لأن عدوه أراد أن يضيع عليه آخرته، الطرف الآخر أراد أن يضيع دينه، أراد أن يجعل أولاده متفلتين، أراد أن يعيشوا إباحيين، كلام دقيق أي حينما يؤسس مدرسة في بلاد الغرب لا تعلم فيها الدين، ولا اللغة القومية، يعطون على كل طالب مبلغاً فلكياً، أما إذا علمت اللغة القومية، وعلمتهم الدين لا تأخذ شيئاً كمساعدة، إذاً حينما يريد الطرف الآخر أن يكون أبناؤك إباحيين، وأن يقيموا علاقات محرمة في الإسلام من أجل تأخير سن الزواج، وحينما تعقد المؤتمرات؛ مؤتمرات السكان بأن يعود الإنسان إلى حيوانيته تماماً، أنت حينما تعود إلى بلدك، وتصون أهلك وأولادك تكون قد أرغمت أنفه، تكون قد انتصرت عليه:
﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً﴾
والله أيها الأخوة، أخ كريم أرسل لي رسالة قال: أنا سمعت أشرطة كثيرة في بلاد الغرب، هذه الأشرطة ملخصها بأن أعود إلى بلدي، واتخذ قراراً بطولياً، وأنهى علاقاته، وعاد إلى بلده ليضمن دينه، بعد أيام من عودته توفاه الله بحادث، سبحان الله:
﴿ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ﴾
أخذ نيته.
ملخص لما ورد في درس اليوم :
أي أخ جاء من بلاد الغرب، وحدثني عن قصته، وقرأ رسالته، استمع إلى أشرطة كثيرة وجد أن هذا الكلام كلام دقيق وخطير، فلا بد من أن يكون له موقف، فالموقف الذي يرضي الله أن يعود إلى بلاد المسلمين لينجو بدينه، ليفر بدينه أولاً، ليضمن دين أهله ثانياً، بعد عودته بأيام مات بحادث، سبحان الله هذه الآية تشير إلى هذه الحالة:
﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾
أيها الأخوة، هاتان الآيتان المتعلقتان بالهجرة أحكام عامة، وتوجيهات عامة لكن لكل إنسان مقيم أو مسافر، مهاجر أو غير مهاجر، حالة يعلمها الله، فأنا أضع قواعدَ عامة لا يعقل أن تأتيني حالات كثيرة، ويوجد إنسان ليس بإمكانه أن يعود إلى بلده لسبب أو لآخر، هذا لا تنطبق عليه هذه الآيات، أو إنسان لا يستطيع أن يغادر بلداً حال بينه وبين طاعة الله، هذا ورد ذكره في القرآن الحكيم، والسفر إلى هناك من أجل طلب العلم، أو كسب الخبرة لتقوية المسلمين لا شيء فيه، أنا أتحدث عن الإقامة الدائمة، ولا أتحدث عن سفر طارئ، ولا عن بعثة، ولا عن طلب علم، ولا نيل شهادة، ولا كسب خبرة، هذا كله مباح، أنا أتحدث عن إنسان راقت له الحياة هناك فنسي دينه، ووطنه، وأمته، ونسي مستقبل أولاده، ونسي دين أهله، وراقت له الحياة فآثرها عن الآخرة، هذا الذي أتحدث عنه، أما قد ينشأ من هذا الدرس آلاف الأسئلة أنا لا أتحدث عن حالات خاصة، أتحدث عن معنى آيتين وردتا في القرآن الكريم حول الهجرة في سبيل الله، وفي سبيل الشيطان، أما هناك أسئلة وردتني لتوها، هذه الأسئلة كل حالة تعالج على حدة، هذه أحكام عامة، وكل إنسان له وضع، وله أعذار، وله معطيات، لعل الله يقبلها منه. بالمناسبة الله عز وجل استثنى فقال:
﴿ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ﴾
أيها الأخوة الكرام، من كان مقيماً في بلد يستطيع أن يطلب العلم الشرعي، وأن يحضر مجالس العلم، ويوجد بقية حياء، ويوجد بقية خجل، ويوجد بقية حجاب عند النساء، وبقية دين، أقول: بقية، فهو بخير، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه: إذا فسدت الشام فسدت الأرض، أي آخر البلاد فساداً بلاد الشام، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا أن نكون في رضوان الله عز وجل.