الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
إذا تعرف الإنسان إلى الله يتفانى في طاعته ويبحث عن أمره ونهيه:
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السابع والخمسين من دروس سورة النساء ومع الآية السابعة والعشرين بعد المئة وهي قوله تعالى:
﴿ وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمًا(127)﴾
أيها الإخوة، الحقيقة الأولى من هذه الآية: أنه إذا تعرّفت إلى الله تشعر بدافع كبير أن تبحث عن أمره ونهيه، وهذا منطلق هذه الآية، مَن هذا الذي يسأل ما حكم الشرع في هذا الموضوع؟ ما الفتوى في هذا الموضوع؟ هل هذا حرام أم حلال؟ هل هذا يرضي الله أم لا يرضيه؟ هذا الإنسان بعد أن عرف الله عز وجل نوعاً من المعرفة يندفع قطعاً إلى التقرب إليه بالائتمار بأمره واجتناب نهيه، وما لم تكن هذه المعرفة فالإنسان لا يعبأ أكان دخله حراماً أو حلالاً، أكان هذا العمل يرضي الله أو لا يرضيه، من الذي يعبأ بمراد الله منه؟ هو الذي آمن بالله، لذلك أنت حينما تؤمن تسأل، والسؤال علامة طيبة، أنك تخاف أن تعصي الله، تخاف أن تُغضِبه، تخاف ألّا يأتي عملك مطابق لمنهج الله، منطلق هذه الآية أن الإنسان إذا تعرّف إلى الله تفانى في طاعته، وإن لم يتعرّف إليه تفنّن في معصيته.
الفرق بين السؤال والاستفتاء:
الصحابة الكرام بعد أن رباهم النبي عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاماً يعرِّفهم بخالق السماوات والأرض ويُعرِّفهم بأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، الآن بدؤوا يسألون!
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219)﴾
﴿ وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِى ٱلْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ(222)﴾
مرحلة السؤال مرحلة طيبة، مرحلة أن هذا الإنسان بدأ يعرف الله ويفكر في التقرب منه، وبدأ يسأل عن أمره وحُكمه الشرعي، عن الذي يرضيه والذي لا يرضيه، عن الذي يسخطه والذي لا يسخطه.
﴿وَيَسۡتَفۡتُونَكَ﴾ لكن العلماء فرقوا بين السؤال والاستفتاء، السؤال أن تسأل عن مجهول، لكن الاستفتاء الحكم معروف، لكن هذه الحالة التي أنا فيها أيّ حكم يناسبها؟ الاستفتاء يتجه لتطابق الحكم مع الواقعة، هل هذا الدخل شرعي أم ربوي؟ حكم البيع والشراء معروف وثابت، وحكم الربا حرام، أنا إن اشتريت جزءاً من بيت هل لي أن أتقاضى أجرة هذا الجزء؟ الربا حُكمه معلوم، حرام قطعاً، والآجار حكمه معلوم حلال قطعاً، أنا حينما أسهم مع إنسان في شراء بيت هل لي أن أتقاضى أجرة هذا البيت عن حصتي فيه؟ إن ضمنتَ المبلغ الذي ساهمت فيه فالأجرة ربا! دفعت معه مليون وضمن لك في أية لحظة تريد أن يعطيك المليون، وطلبت على هذا المبلغ أو على هذه الحصة أجرة هذه ربا، أما إن لم يضمن لك المبلغ بعد حين، بعد عام، بعد عامين قُيِّم البيت هبط سعره أو ارتفع الذي أعنته على شراء هذا البيت إن لم يضمن لك المبلغ لك أن تتقاضى أجرة، فالاستفتاء حكم البيع والشراء معروف، وحكم الآجار وحكم الربا معروف، أما أن أشتري مع إنسان بيتاً هل لي أن أتقاضى أجرة على حصتي؟ هل ينطبق عليها حكم الإيجار أم حكم الربا؟ فالسؤال عن مجهول، أما الاستفتاء عن معلوم.
الاستفتاء مدى علاقة الأحكام الشرعية بهذه الحالة، هذا هو الاستفتاء ﴿وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ﴾ طبعاً حينما يستفتونك هم مؤمنون، أرادوا التقرب إلى الله عز وجل، أرادوا أن تكون علاقاتهم بالنساء علاقات شرعية، جيد.
﴿قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ﴾ لكن الله سبحانه وتعالى في سورة سابقة حدّثكم عن هذا الموضوع ﴿وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ﴾ هذه "ما" معطوفة على لفظ الجلالة: ﴿قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ﴾ والكتاب الذي بين أيديكم يفتيكم أيضاً، إنسان عنده يتامى جميلات غنيات يتمناهن لنفسه، أو يتمنى منهن واحدة لنفسه، ولأنه وكيلها ووصيها ووليّها قد لا يعطيها حقها، فالإنسان حينما يكون وكيلاً أو وصياً على فتاة وهضَمها حقها وقع في معصية كبيرة، لذلك ورد في سورة سابقة في آل عمران أنك إذا خفت ألا تعطيها حقها تزوج غيرها! كأن هناك ردْعاً شديداً أن تُظلَم المرأة، هي لأنها في حِجرك وتحت وصايتك وتحت وكالتك وتخجل أن تطالبك بحقها، أنت استفدت من هذه الوِصاية فلم تعطِها حقها وقعت في ظلم شديد، فالله عز وجل أشار أنك إذا أردت أن تتزوج فتاة تحت وصايتك، أو كانت جميلة فطمعت بها، لعلك لا تعطيها حقها، أو لعلك تنتفع بمالها، أنت إذاً ظلمتها، فالله عز وجل أشار لهذا.
أخطر شيء في حياة الإنسان أن يستقل بالفتوى عن العلماء:
هناك أناس كثيرون يتوهمون أنهم يقيمون العدل، لكن العدل الذي يتصورونه هم، أخطر شيء في حياة الإنسان أن يستقل بالفتوى عن العلماء، يتوهم مصلحته شرعاً أو يتوهم هواه منهجاً، أما الإنسان حينما يحضر مجالس العلم ويسأل ويستفتي في الأعم الأغلب لا يقع في خطأ كبير، كم من إنسان وضع أمواله عند أناس يقولون نحن لا نجري حسابات على الألف كذا بالشهر؟ يقول الحساب صعب ولست متفرغاً لأدقق في الحساب! هذا الربا بعينه! إذا لم يكن حساب أرباح حقيقية ولا يوجد عقد واضح بينك وبينهم، ولا يوجد اتفاق على نسبة ثابتة بينك وبينهم هذا المبلغ المقطوع شهرياً هو الربا بعينه دون أن تشعر، فأكبر خطأ ألّا يسأل الإنسان، أو يستقل بوجهة نظره عن الذين أوتوا العلم، والله عز وجل يقول:
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِىٓ إِلَيْهِمْ ۚ فَسْـَٔلُوٓاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾
إنسان تحت يده يتيمة، هو وصيٌّ عليها ومُكلَّف بإدارة شؤونها، لها مال وفير تزوجها طمعاً في مالها، أو على جانب من الجمال تزوجها طمعاً في أن يصل لمبتغاه من دون أن يتكلف ما تستحقه مثلاً، وقع في ظلم شديد! ﴿قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمًا﴾
أحياناً طفل يتيم ماله في حَوزتك، ماذا يفعل بعضهم؟ يجعل مال اليتيم درْءاً لماله أي صفقة مجهولة، يستخدم مال اليتيم لهذه الصفقة فإن ربحت أرباحاً طائلة أنزل أمواله في هذه الصفقة، وإن خسرت يقول لك: لا يوجد نصيب سبحان الله قضاء وقدر! النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى هذا، ولا تجعل مالك دون ماله، لا تجعل ماله دريئة لمالك، لا تجعل ماله جساً لنبض السوق أو تجربة، مالك لا تستخدمه إلا في صفقة ربحها بنسبة عالية جداً، لكن مال اليتيم تجعله جساً لنبض السوق أو امتحاناً لهذه الصفقة، هذا أيضا يعلمه الله عز وجل.
لذلك العلماء حينما تحدثوا عن مال اليتامى قال: إن كنت غنياً ينبغي أن تستعفف أن تأخذ نصيبك من الربح وإن كنت فقيراً ينبغي أن تأكل بالمعروف، وما هو الأكل بالمعروف؟ أن تأخذ حاجتك أو أجر المِثل أيهما أقل، عُرْف السوق للمضارِب نصف الربح، فإذا كان الربح لا يغطي مصروفك ينبغي أن تأخذ نصف الربح فقط، وإن كانت حاجتك أقل من نصيبك من الربح ينبغي أن تأخذ حاجتك، هذا معنى أن يأكل بالمعروف.
﴿ وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَٱدْفَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ ۚ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبًا(6)﴾
هذا هو الحكم الشرعي.
الله عز وجل أرادنا ألا نخلط مصالحنا ببنود الشرع، نزِّه نفسك عن أن تستغل إنساناً أو طفلاً يتيماً قاصراً أو أن تستغل فتاة يتيمة في حِجرك أو مُستضعَفاً، هذا المُستضعَف وهذا اليتيم وتلك اليتيمة الله جل جلاله هو الذي يدافع عنهم.
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)﴾
مَن يكشف أن هذا التاجر اتّجر بمال اليتيم ليمتحن هذه البضاعة أتربح أم لا تربح؟ إن ربحت أدخل ماله الشخصي في هذه التجارة، وإن لم تربح قال لليتيم: هذا الربح نصيب من الله لم نُوفَّق، لا يوجد قسمة ونصيب، ويستخدم ألفاظ الشرع ليغطي خيانته لمال اليتيم، لكن الله يعلم وأنت حينما تعلم أن الله يعلم تستقيم على أمره.
كلما شعرت أن الله لا تخفى عليه خافية تكون قد استقمت على أمره:
أمثلة كثيرة جداً أضعها بين أيديكم، يوجد حالات ليس على سطح الأرض إنسان واحد بإمكانه أن يكشف انحرافك إلا الله، الذي تفكر فيه يعلمه، والذي تصبو إليه يعلمه، والذي بعثك لهذا العمل يعلمه، والمغالطة التي تفعلها يعلمها، وإيهامك الناس بكذا وكذا يعلمه ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ كلما كنت واضحاً وأمام الله بريئاً، وكلما شعرت أن الله لا تخفى عليه خافية تكون قد استقمت على أمره.
أضرب لكم بعض الأمثلة: إنسان له أخت توفي عنها زوجها وترك لها مبلغاً من المال وضعته عند أخيها لتستثمره فهي واثقة به، جيد! أخوها خبرته بالخيوط، وعنده معمل نسيج اشترى لها بهذا المبلغ كذا طن من الخيوط، الآن احتاج أخوها لخيوط ماذا يفعل؟ الآن هو من جهة وكيل أخته، ومن جهة مشترٍ، يشتري من نفسه كوكيل، ويشتري لنفسه كأصيل، صفقة داخلية، يضع السعر، من الذي يعلم علم اليقين أن هذا السعر فيه إنصاف؟ الله عز وجل، لا تستطيع أخته أن تحاسبه، هذا السعر يا أختي، لكن الله يحاسبه، فإذا تقصّى الأسعار وأخذ الوسطية منها، وأضاف قليلاً تبرئة لذمته رضي الله عنه، العلاقة مع الله سهلة جداً، إذا كنت بريئاً الله عز وجل يرضى عنك، الله ما حمّلك فوق ما تطيق، أنت بحاجة لطنين خيوط سألت خمسة مصادر أخذت الأسعار الخمسة، أخذت السعر الوسطي وأضفت بالمئة اثنين احتياطاً واشتريت هذا الخيط من أختك، من نفسك يعني، فأنت عند الله بريء، لكن هناك من يحتال ويكذب ويدلّس، ويخلق ظرفاً للبيع، يوجد بيع شكلي مهمته أن تنزل الأسعار، الله عز وجل يعلم، فهذه الآية تشير إلى أنه من جهة طيبة أنك إذا سألت أو استفتيت فهذه علامة طيبة للإنسان، هو تعرّف إلى الله ويتقصى إرضاءه، وعليه أن يتقصّى حدود الشرع في ذلك، فيسأل أو يستفتي، يسأل فيما هو مجهول ويستفتي فيما هو معلوم، ولكن حينما يستغل وكالته أو ولايته لصالحه فالله عز وجل عليم بانحرافه وباستغلاله لمهمة أُوكِلت إليه.
الطفل الصغير مستضعَف واليتيم كذلك واليتيمة أشد ضعفاً وأنت الوكيل، لذلك أعظم ما في هذا الدين أن الله بين كل رَجُلين وبين كل شخصين.
الله جلّ جلاله حينما قرب المؤمنين منه ما قربهم إلا لأنهم منصفون محسنون:
مرة كنت عند قصاب والله أثني عليه، جاءه طفل عمره خمس سنوات طلب منه قطعة لحم من نوع نادر جداً لمريض، أعطاه هذه القطعة بحسب طلبه تماماً ثم فرمها بالآلة، وهذا القصاب يستطيع أن يعطيه أسوأ أنواع اللحم والطفل لا يعلم، طفل صغير طلب قطعة من الخروف مفيدة جداً للمريض وهي قطعة محدودة وقليلة، فهذا القصاب خاف من الله، أعطاه ما طلب بشكل دقيق جداً هذا المؤمن، لا يهمه الطرف الثاني، حاسبه أو لم يحاسبه، الله يحاسبه، أعظم ما في الدين أن الله بين كل شخصين، فكل طرف يخشى اللهَ أن يظلم الطرف الآخر، وكل طرف يرجو رحمة الله بخدمة الطرف الآخر، أما إذا لم يكن هناك دين القوي يأكل الضعيف، والغني يبتلع الفقير، والذكي يحتال على المحدود، صراعٌ بين ذكي ومحدود، وبين قوي وضعيف، وبين غني وفقير، وهذا الذي يجري في العالم، القوي يفعل ما يريد والناس كلهم معه خوفاً منه، والمستضعَف لا أحد يلتفت إليه، أعور لا يرى إلا عدوه، يرى شوكة في عين عدوه ولا يرى جذعاً في عينه، هذا بالتعبير المعاصر الكيل بمكيالَين، لكن الله جل جلاله حينما قرّب المؤمنين منه ما قرّبهم إلا لأنهم منصفون محسنون.
بالمناسبة الفرق كبير جداً بين هؤلاء الأقوياء الذين يقرّبون إليهم كل من والاهم وبين الذات الإلهية التي لا تقرّب عبداً إلا إذا كان كاملاً.
أعظم ما في حياة المؤمن أنه منضبط، ويخاف من الله عز وجل، ولو كنت مستضعفاً ومهزوماً في معركة، سيدنا علي كرم الله وجهه له قول رائع قال: "لا أدخل معركة المنتصر فيها شرٌّ من المهزوم" ، المنتصر ربح الدنيا، لكن المنهزم إذا بذل كل وسعه ولم يستطع، أعد الإعداد الأقصى ولم يستطع مات مؤمناً ربح الآخرة.
سمعت أن شاباً في العراق يشير لمكان مات فيه عدد كبير من الذين جاؤوا يبتغون وجه الله في قتال المعتدين، قال هذا الشاب: أنه يوجد إنسان أقسم بالله أربعة أيام والحر شديد وكأنه نائم، فقال: حفرتُ حفرة ودفنته بها وقبّلته قبل أن أُهِيلَ التراب عليه، كل إنسان له عمله، هو أراد أن يموت في سبيل الله، ليس له علاقة بما يجري، هو ابتغى وجه الله عز وجل، فكل إنسان له عمله، وكل إنسان له نيته، قال: أربعة أيام وهو مُلقى في مكان مع عدد كبير من الذين قُتِلوا وجاؤوا من بلاد متعددة لعلهم يلقون الله عز وجل، فقال: أربعة أيام كأنه نائم، حفرَ له حفرة وقبَّله ثم أهالَ التراب عليه، فالله عز وجل رب النيات.
في الآية شيئان؛ حينما تسأل أو تستفتي هذه بادرة طيبة، أردت أن تحاسب نفسك وأن تعرف ما الذي يرضي الله عز وجل، وحينما تكون وكيلاً أو وصياً ينبغي أن تكون الأمور واضحة جداً فلا تُدخِل مصلحتك بمهمتك.
التنازل من صفات المؤمن والتشبث والعناد من صفات المعرض:
ثم إن الله عز وجل يقول:
﴿ وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنۢ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ ٱلْأَنفُسُ ٱلشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(128)﴾
الحياة قصيرة وليست لا نهائية، وهذه المرأة التي كانت شريكة حياتك وعشت معها ردْحاً من الزمن لو حصل مشكلة وانتهت هذه المشكلة بالصُّلح، فالله عز وجل يحب الصلح، هي خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً، أو هو خاف من زوجته نشوزاً أو إعراضاً فأصلح أموره وأصلحت أمورها، تنازل قليلاً وتنازلت قليلاً، التقيا في منتصف الطريق فاصطلحا، المشكلة أن الإنسان يقف دائماً في موقع ويريد من الطرف الآخر أن يأتي إليه، والطرف الآخر تأخذه العزة، يتشبّث في موقعه ويطلب من الطرف الآخر أن يأتي إليه، لا يأتيان ولا يلتقيان، التنازل فضيلة فإذا تنازلتَ قليلاً وانتهى هذا التنازل بصلح بينهما، أو لو تنازلتِ قليلاً وانتهى هذا التنازل بصلحٍ بينكِ وبين زوجكِ هذا الذي يرضي الله عز وجل، وحينما تضع نفسكَ مكان الآخر تكون منصفاً، وحينما تضعين نفسكِ مكان زوجكِ تكونين قد أنصفت.
﴿وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنۢ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ الإنسان دائماً لا يقبل الحقيقة، يقفز عليها، لكن المؤمن يقبل الحقيقة المُرة، مثلاً: إنسانة لا تنجب والعلة منها برأي الأطباء، فإذا قبلت من زوجها أن يتزوج بأخرى لأنه يريد أن يرى له ذرية هذه امرأة عاقلة مؤمنة، لأنها قبلت هذه الحقيقة المُرّة أنها عقيم، وسمحت لزوجها أن يتزوج بأخرى ينال منها الذرية، فالتنازل دائماً من صفات المؤمن، والتشبث والعناد وركوب الرأس من صفات المُعرِض.
حينما يكون الإنسان موصولاً بالله تأتيه الحكمة كهدية من الله عز وجل:
قال تعالى: ﴿وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنۢ بَعْلِهَا نُشُوزًا﴾ أي انحرافاً، لو أنه تزوّجها زواج مصلحة والآن مُخيَّر بين أن يعصي الله -لا سمح الله ولا قدّر- وبين أن يبقى معها فسمحت له أن يبقى في منهج الله لا مانع، هذه امرأة بطلة لأنها حفظت دين زوجها، وبالمقابل أنا لا أقول عن جهة واحدة، فإذا كان في هذا البيت مشكلة، فالمرأة حينما تعقل أن هناك مشكلة وأن هذه المشكلة لا بد أن تُحَلّ وقدّمت بعض التنازلات هذه التنازلات هي عند الله أمر كبير جداً، والرجل حينما يعاين مشكلة في البيت ويقدّم بعض التنازلات حفاظاً على هذه الأسرة وعلى راحة أولاده النفسية، وحفاظاً على التئام الزوجين أيضاً هذا شيء عظيم عند الله، لكن دائماً الحُمق يأتي من التشبث والعناد ومن الشيطان، وكلمة باللغة الدراجة، الإنسان حينما ينقطع عن الله يرتكب حماقات ما بعدها حماقات ولو كان ذكياً، وحينما يكون موصولاً بالله تأتيه الحكمة كهدية من الله عز وجل.
﴿ يُؤْتِى ٱلْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ(169)﴾
﴿وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنۢ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ أحياناً يتناطح اثنان في المحاكم، عشر سنوات أعصاب الطرفين مشدودة، عشر سنوات لا ينامون الليل، وتحت رحمة المحامين والقضاة، وكم من دعوة تبدّل فيها القضاة عشرات المرات، وعشر سنوات كلام يُقال لهما كذب في كذب، فلو جمعا المبلغ الكبير الذي أُنفِق في هذه الدعوى، وسامحا بعضهما بقدر هذا المبلغ لعاشا حياة مريحة، الإنسان أحياناً لا يضع ثمناً للقلق، القلق متعب جداً، أجمل كلمة قالها سيدنا معاوية لسيدنا عمرو بن العاص قال له: يا عمرو ما بلغ من دهائك؟ قال: والله ما دخلت مُدخلاً إلا أحسنت الخروج منه، فقال له معاوية: لست بداهية، قال له: أما أنا فو الله ما دخلت مُدخلاً أحتاج أن أخرج منه!
الشح مركب في أصل طبع الإنسان:
كلما كنت موفَّقاً أو عاقلاً تستفيد من خبرات الآخرين أو تستفيد من حقائق الشرع: ﴿وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنۢ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ ٱلْأَنفُسُ ٱلشُّحَّ﴾ كل إنسان عنده نوع من الشح، أيها الإخوة، حينما قال الله عز وجل:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلْأَنْعَٰمِ وَٱلْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ ٱلْمَـَٔابِ(14)﴾
محبة المال مركوزة في أصل طبع الإنسان، هو حريص على ما في يديه.
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً(20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً(21)﴾
إذا مسّه الخير منوع هذا معنى الشح، وهذا مُركَّب في أصل طبع الإنسان، لكن الإنسان المؤمن الذي آمن بالله خالقاً وربّاً ومسيراً، وآمن بالآخرة ينتصر على بشريته فيعطي كل ذي حق حقه، وإذا كان مستواه أرقى يُحسِن، فالإنسان حينما يعطي حقوق الآخرين وهي في يده وبإمكانه ألّا يعطي يرقى عند الله، وإذا زاد على ذلك فكان محسناً يرقى عند الله عز وجل، فالناس جميعاً متساوون في حبهم للمال وفي حبهم للنساء وفي حبهم لكل شهوات أُودِعت فيهم، من هو النبي؟ هو الذي انتصر كلياً على دوافعه الأرضية، من هو المؤمن؟ هو الذي انتصر في الأعم الأغلب على دوافعه الأرضية.
الإنسان لا يرقى إلا عندما يغلب حظوظ نفسه:
قال تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ ٱلْأَنفُسُ ٱلشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ﴾ أن تعصوا الله عز وجل ﴿فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ إذا أدى الإنسان ما عليه من حقوق كمثال: أب ترك بيتاً في حي راقٍ في الشام والورثة ابن وابنة، البنت متزوجة ولها زوج، وزوجها له بيت، وهذا البيت الذي تُرِك للأخ وأخته، والأم معهما، كم أخاً يقول لأخته: هذا بيت العائلة تعالي اسكني معنا، يسكن فيه وحده مع زوجته، ويتمتع فيه وهو في حيٍّ راقٍ والبيت غالٍ جداً، ويقول لأخته: هذا بيت العائلة، كم إنساناً يقيِّم البيت فارغاً ويعطي أخته حقها الكامل من ثمن هذا البيت؟ فكل إنسان حريص على بيت أو على مبلغ كبير من المال، أو على اقتناء أشياء ثمينة، أما حينما ينتصر على بشريته فيعطي كل ذي حق حقه ثم يحسن له عند الله مقام رفيع.
﴿وَأُحْضِرَتِ ٱلْأَنفُسُ ٱلشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ لذلك الآية الكريمة:
﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ (9)﴾
أنت لا ترقى إلا حينما تغلب حظوظ نفسك.
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41)﴾
أنت لا ترقى عند الله إلا عندما تغلب حظوظ نفسك.
﴿ وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِنۢ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ ٱلْأَنفُسُ ٱلشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(128) وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا(129)﴾
العدل نوعان؛ عدْلٌ مطلق وعدل تام، العدل المطلق في مَيل القلب، الذي عنده زوجتان أو ولدان لا بد أن يميل لأحدهما أكثر من الآخر، وهذا الذي قال عنه النبي الكريم:
(( عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ. ))
[ سنن الترمذي عَنْ عَائِشَةَ ]
قضية الميل أن يعدل في الميل لا يستطيعها إنسان، لكن الذي طالبك الله به العدل التام في المسكن والإنفاق والإكساء وحسن المعاشرة، لك أن تبتسم للاثنتَين ولك أن تجلس مع الاثنتين، ولك أن تؤانِس الاثنتين، ولك أن تُسكِن كلًّا منهما في بيت يليق بها، ولك أن تنفق على الاثنتين هذا مطالب به، أما ميلك لهذه لأنها أذكى أو أجمل هذا لا تُحاسب عليه لذلك: ﴿وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ﴾ هذا العدل المطلق، هذا مَيل القلب، لكنكم مُكلَّفون أن تعدلوا العدل التام في المسكن والإنفاق والمبيت وحسن المعاشرة.
لك أن تحب وتبغض ولكن إياك أن يحملك حبك على معصية وبغضك على ظلم:
لذلك قال تعالى: ﴿فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ﴾ المعلقة ليست بلا زوج فتتزوج، وليست تأخذ نصيبها من الزواج، حالة صعبة جداً لا سلم ولا حرب، ليست متزوجة فتنعم بالزواج، وليست بلا زوج فتتزوج، هذا أشد أنواع الظلم، قال تعالى:
﴿ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍۢ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْـًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِۦ ۗ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ(229)﴾
﴿فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ﴾ لك أن تحب ولك أن تبغض، لكن إياك ثم إياك ثم إياك أن يحملك حبك على معصية، وإياك ثم إياك ثم إياك أن يحملك بغضك على ظلم، أحِبَّ من تشاء وأبغِض من تشاء، ما دام الحب والبغض لا يحملانك على معصية أو ظلم فلا مانع، سيدنا عمر دخل عليه قاتل أخيه قال له: "اجلس لا تُرِني وجهك، فقال قاتل أخيه: أتحبني؟ قال: والله لا أحبك، لكن ما الذي فعله هذا القاتل؟ أسلم، فلما أسلم أنهى المشكلة، انتهى الأمر، لم يبقَ مشكلة، لكن قال له: لا ترني وجهك، قال له: هل يمنعك بغضك لي أن تعطيني حقي؟ قال: لا والله، فقال هذا الإنسان بلا حياء: إنما يأسف على الحب النساء"، هذا منهج، أحببته أو لم تحبه حقه واصل، نحن على توهم البغض نحرمه كل شيء، إنسان أحياناً يعبد الله ستين عاماً فيضار في الوصية فتجب له النار! عنده اثنتان الجديدة أصغر وسيطرت عليه أكثر طلبت منه أن يكتب بيتين باسم أولادها الصغار، والقديمة لها أولاد حرمهم تجب له النار!
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ. ))
[ سنن الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]
فالحقيقة هنا لك أن تحب وتبغض، ولكن إياك أن يحملك حبك على معصية، ثم إياك أن يحملك بغضك على ظلم.
فساد البين بين الإخوة أخطر من الكفر:
قال تعالى: ﴿وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُواْ وَتَتَّقُواْ﴾ ذكرت كم بند؟ ذكرت أن تعدل بين الزوجتين في السكنى ثم في الإنفاق، ثم في المبيت في الوقت، ثم في حسن المعاشرة ﴿وَإِن تُصۡلِحُواْ﴾ تعدلوا ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ أن تعصوا الله عز وجل ﴿وَإِن تُصۡلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ مرة ثانية: الإنسان له ميول فطرية، من هو البطل؟ الذي ينتصر على ميوله الفطرية، فاتقى أن يعصي الله وأصلح قال:
(( عَنْ سَلْمَانَ قَال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا سَلْمَانُ لَا تَبْغَضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَبْغَضُكَ وَبِكَ هَدَانَا اللَّهُ؟ قَالَ: تَبْغَضُ الْعَرَبَ فَتَبْغَضُنِي. ))
دققوا في هذا الحديث:
(( إيَّاكُم وسوءَ ذاتِ البينِ فإنَّها الحالِقةُ. ))
إذا إنسان كره مسلماً، والمسلم لم ينصفه وكان قاسياً والله لا أبالغ قد تنقلب هذه الكراهية للإسلام، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن تحلق الدين. ))
[ رواه أبو داود والترمذي ]
لذلك فساد البين بين الإخوة الكرام أخطر من الكفر تنتهي بهم لكراهية الدين، فإذا كنت منتمياً إلى مسجد فانتبه، أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يُؤتَيَنَّ من قبلك.
المحبة لا تكون إلا بالكمال والعدل والإحسان:
ذكرت مرة أن الأب يُحترم دائماً لأنه أب، لكن لا يُحَب دائماً إلا إذا كان كاملاً! لا تقل: أنا أب يجب أن يحبني أولادي، لا يحبونك غصباً، يحبونك إذا كنت عادلاً بينهم ومحسن، ينبغي أن تُحترَم لأنك أب، فقط احترام، أما محبة لا تكون إلا بالكمال والعدل والإحسان. قال:
﴿ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغۡنِ ٱللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيمًا(130)﴾
الله عز وجل كريم، أنا والله أبغض شيء إليّ التفريق بين الزوجين، حينما أحضر –ولست أنا السبب، ولست أنا الذي أفتى بذلك- فُرقَة بين زوجين لي كلمة مشهورة أقول: هيّأ الله لك أيها الشاب خيراً من زوجتك هذه التي افترقت عنها، وأقول لأبيها هيّأ الله لابنتك زوجاً خيراً من هذا الذي تركها.
﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغۡنِ ٱللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِۦ﴾ الله عز وجل قدير! تروي الكتب قصة ذات مغزى فقط: أن إنساناً كان يجلس مع زوجته طرق سائل الباب وهما يأكلان الدجاج فهمَّت أن تعطيه بعض الطعام لأنه فقير، فنهرها وعنّفها وقال: اطرديه، بعد حين العلاقة ساءت بينهما فطلقها، تزوجها رجل سعدت بقربه كثيراً، وهما يجلسان ويأكلان الدجاج طرق طارق، فلما فتحت الباب عادت مضطربة قال: من طرق الباب؟ قالت: سائل، قال: من هو هذا السائل؟ قالت: زوجي الأول! قال: هل تدرين من أنا؟ أنا السائل الأول! أحياناً الإنسان يكون متجبراً والله يذله، وأذلّ الله الأمريكان الآن، يكون متجبراً جداً ومتغطرساً هذا عقابه عذاب مهين.
﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغۡنِ ٱللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِۦ﴾ أجمل كلمة حكتها امرأة زوجة شُريَح قالت له: "يا أبا أمية لقد كان لي من رجال قومي من هو كُفءٌ لي وكان لك من نساء قومك من هي كفء لك، ولكن كنت لك زوجة على كتاب الله وسنة رسوله، فاتقِ الله فيّ وامتثل قوله تعالى: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" .
تقول: لا يوجد غيري! يوجد مليون مثلك، تقول هي كذلك يوجد مليون مثلها، التواضع سبب الوِفاق، تجد العي بين الأزواج يقول لها: اعرفي من تزوجتِ، وهي ترد: وأنت اعرف من تزوجتَ!
﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغۡنِ ٱللَّهُ كُلّٗا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيمًا﴾ الله عز وجل قادر بأي لحظة أن يعطي كل طرف أحسن من زوجته الحالية بمليون مرة، لكن الله امتحنك بهذه الزوجة، إنسان له زوجة سيئة جداً قيل له: طلِّقها، قال: والله لا أطلقها فأغش بها المسلمين.
الملف مدقق