الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم عَلِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، وأرِنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
العقل توصل إلى أن هذا الكون يحتاج إلى قوة في الحكمة والخبرة والتسيير والتنظيم:
أيُّها الإخوة الكرام: مع الدرس الرابع والستين من دروس سورة النساء، ومع الآية الخمسين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (151)﴾
الكُفر أيُّها الإخوة هو السَتر، والإنسان حينما يستر شيئاً يؤمن به أولاً ثم يستره، فهذا الذي يكفُر يحاول أن يستُر شيئاً آمن به، القضية أيُّها الإخوة أنَّ هذا العقل البشري، إذا جال جولةً في الكون، يعود من جولته مُتيقناً أنه لا بُدَّ لهذا الكون من خالق، لا بُدَّ لهذا النظام من مُنظِّم، لا بُدَّ لهذا التسيير من مُسيِّر، لا بُدَّ لهذا العلم الذي يشفُّ عنه الكون من عليم، لا بُدَّ لهذه الخبرة من خبير، لا بُدَّ لهذه الرحمة من رحيم، كطائر يقف على قدميه، ويحمل بيضةً له، لا يتحرك، ولا يأكل، ولا يشرب أربعة أشهر، حِفاظاً على هذه البيضة، لأنه يعيش في القطب الجنوبي، فإذا لامست هذه البيضة الثلج هلكت.
في هذا الكون رحمة، مَن أودع هذه الرحمة حتى في الحيوانات؟ فهذا العقل يصل إلى أنَّ النظام يحتاج إلى مُنظِّم، والتسيير يحتاج إلى مُسيِّر، الحكمة تحتاج إلى حكيم، الخبرة تحتاج إلى خبير، انتهى دور العقل، مَن هو هذا الحكيم وهذا الخبير وهذا القوي؟ توجد قوة في هذا الكون، قوة خلق، قوة نظام، قوة حكمة، قوة تسيير، الرُسل عليهم صلوات الله مهمتهم أن يأتوا بإسم هذه القوة.
فحوى رسالات الرسل أن يكملوا تفكير العقل:
قال تعالى:
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ۚ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)﴾
فحوى رسالات الرُسُل أن يُكمِّلوا تفكير العقل، العقل توصل إلى أنَّ هذا الكون يحتاج إلى قوة في الحكمة، والخبرة، والتدبير والتسيير، والتنظيم، ويوجد رحمة، الرسول يقول لك: هذه القوة اسمها الله، هذا الإله ما مُراده منّي؟ لماذا خلقني؟ لماذا جاء بي إلى الدنيا؟ لماذا كان العمر قصيراً؟ لماذا هناك مصائب، هناك بلاء؟ لماذا هناك حروب؟ لماذا هناك موت؟ ما مُراده منّي؟ الرسول يقول لك: (اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) هذه القوة التي توصَّل إليها عقلك هي الله، ما مُراده منّي؟ مُراده أن تعبُده، أن تُطيعه في هذه الدنيا المحدودة، كي تسعَد بجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، مُراده أن تعبُده، مراده أن تتوب إليه، مُراده أن تستغفره، مُراده أن تدعوه، مُراده أن تتوكل عليه، مُراده أن تُصلّي لأنَّ الصلاة في حقيقتها، صِلةٌ بين هذا المخلوق الفاني، وبين القوة الأزلية الأبدية، فالإنسان يُلغى ضَعفُه إذا اتصل بالقوي، ويُلغى خوفُه إذا اتصل بالقوي، ويُلغى قلقُه إذا اتصل بالقوي، فالرسول مهمته ما مُراد الله من خَلقِه، الآن كيف يستطيع هذا الإنسان أن يُطبِّق هذا المنهج؟ يقول الله عزَّ وجل في القرآن الكريم:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾
البيئة مهمة جداً:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾
لا يصح الإيمان بالله إلا من خلال الإيمان برسل الله:
لا يمكن أن نَفصِل الإيمان بالله عن الإيمان برُسل الله، لو أنك تملِك عقلاً وأمامك الكون مظهرٌ لأسماء الله الحُسنى وصِفاته الفُضلى، قمت بجولةٍ فكريةٍ في هذه الآيات، توصلت منها إلى الحقائق التالية:
لا بُدَّ لهذا الكون من خالق، لا بُدَّ لهذا الكون من مُربٍّ، لا بُدَّ لهذا الكون من مُسيِّر، انتهت مهمة العقل، يأتي الرسول بما معه من كتاب، يُخبرك أنَّ هذا الذي أيقنت بوجوده هو الله، وأنَّ الله مُراده منك أن تعبُده، وأنه خلقك لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، لذلك أيّةُ محاولةٍ للتفريق بين الإيمان بالله والإيمان برُسلِه، محاولةٌ تُضعِف الإيمان، لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، لا إله إلا الله أي لا مُسيِّر لهذا الكون إلا الله، لا رافع ولا خافض، ولا مُعطي ولا مانع، ولا معزَّ ولا مذلَّ إلا الله، ما مُراده منك؟ محمدٌ رسول الله، هناك إنسان يوحى إليه، معصوم، معه كتاب، في حديثه تبيانٌ لهذا الكتاب، لذلك الكفار يريدون أن يُفرِّقوا بين الله ورُسُلِه: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) وأحياناً يأتيك بأدلةٍ على أنَّ الله موجود ولكن لا يؤمن برسالة الرسل، إذاً هذا نوعٌ من الكُفر أيضاً، لأنه فَرَّق بين الله ورُسله.
أيُّها الإخوة: الرُسُل عقيدتهم واحدة، جاؤوا بكلامٍ واحد:
﴿ وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)﴾
هذه الآية وردت على ألسنة عددٍ كبير من الأنبياء: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ) .
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
تعددت الشرائع ولكن الدين واحد :
فحوى دعوة الأنبياء واحدة، الأنبياء والرُسل جاؤوا بعقيدةٍ واحدة، لذلك هذا دين الله، دين الله لا يتعدد، ولكن كل أُمةٍ بحسب ظروفها، وبحسب مشكلاتها، وبحسب أمراضها، لها تشريعٌ خاص، الشرائع تتعدد، ولكن الدين واحد، كلمة أديان غير صحيحة:
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)﴾
إلهٌ عظيم، وكونٌ عظيم، وفكرٌ دقيق، هذا الكون يحتاج إلى خالق، هذا الخالق له مُراد، طاعة الخالق هو الدين (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ) يعني حقيقة الدين عند الله أن تعرفه، وأن تخضع له، هذا جوهر الدين.
فلذلك أيُّها الإخوة: لو قرأتم القرآن الكريم ما من نبيٍ في القرآن على الإطلاق، إلا ووصفه الله بأنه مسلم، لكن كل قوم لهم تشريع، الشرائع تتعدد وتتبدل، ولكن لماذا كانت شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام خاتمة الشرائع؟ لأنَّ الله عَلِم أنَّ هذه الكرة الأرضية بقاراتها الخمس المُترامية، سوف تصبح بلدةً واحدة، أو قريةً واحدة، بل بيتاً واحداً، لذلك المساوئ سوف تُعمَّم، بهذا التواصل المذهل، المشكلات التي تعاني منها بلادٌ بعيدة نعاني منها نحن، الانحرافات نعاني منها، أكثر القضايا التي يقلق لها الناس أصبحت في كل العالم، مرضٌ صغير يظهر في أقصى الصين ينتقل إلى أبعد بلد غربي، فلأنَّ العالم بعلم الله المُسبق سوف يغدو غرفةً واحدة عن طريق التواصل، فالأمراض واحدة، الأخطاء واحدة، المشكلات واحدة، الانحرافات واحدة، الإنسان المُطّلع على الوسائل الحديثة في التواصل يُذهَل، أي كأن الذي يجري في الأرض كله واحد، لذلك لعِلم الله المُسبَق بهذا التواصل الشديد، كانت رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام خاتمة الرسالات، وتشريعه لكل البشر.
معجزة النبي عليه الصلاة والسلام معجزة عقلية وهي هذا الكتاب الذي بين أيدينا:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)﴾
والنبي عليه الصلاة والسلام بعثَه الله رحمةً للعالمين، لذلك كل نبيٍ معه مُعجزة تتناسب مع عصره، بل إنَّ معظم مُعجزات الأنبياء السابقين كانت حسّيةً، وهذه المُعجزات متعلقة بما تفوق الناس به، إذا كان هناك تفوُّقٌ في الطب، فمُعجزة السيد المسيح إحياء الموتى، هذا شيءٌ فوق الطب، وإذا كان التفوُّق في السحر، فمُعجزة سيدنا موسى أنَّ عصاةً تُصبح ثعباناً مبيناً، وهذا فوق السحر، ما من نبيٍ إلا جاء بمعجزةٍ حسيةٍ فيما تفوُّق قومه به، وفيها تحدٍّ لهم ما بعده من تحدّي.
لكن لأنَّ البشرية ارتقت، وتطورت، ونَمَت مداركها، وتراكم علمها، فكانت مُعجزة النبي عليه الصلاة والسلام مُعجزةً عقلية، هذا الكتاب الذي بين أيدينا مُعجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، كلما تقدَّم العِلم، كشف عن جانبٍ من الإشارات التي جاء بها القرآن قبل ألفٍ وأربعمائة عام، وأضرب لكم مثلاً بسيطاً، وهو من دلائل نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام، في حديثٍ مقتضب يوجّه النبي أصحابه إلى أنَّ ذبح الدابة ينبغي أن يكون من أوداجها فقط دون أن يُقطع رأسها، ولم يكن في عهد النبي ولا في أي مركزٍ علمي في عصره، كالصين والهند والإغريق وأثينا، ولا بعد مئة عام، ولا بعد مئتي عام، ولا بعد خمسمئة عام، ولا بعد ألف عام، ولا بعد ألفٍ وأربعمئة عام، في الأرض من مؤسساتٍ علمية يُمكن أن تكشف حكمة هذا التوجيه النبوي، لماذا نقطع أوداج الدابة دون أن نقطع رأسها؟
مع أن مسالخ الأرض، وهذا يُرى رأي العين من خلال الصور، تُعلَّق الدابة من أرجلها، ويُقطع رأسها كُليّاً، لكن النبي نهانا عن قطع رأسها كيف؟ الآن كُشِف أنَّ قلب الإنسان وقلب الدابة فيهما تشابه كبير، هذا القلب يتلقى أمراً لكي ينبض، من مركزٍ كهربائيٍ مستقلٍ عن الشبكة العامة لخطورة القلب، كما لو أنَّ مستشفى تجري عمليات قلب، لو أنَّ الكهرباء في هذه المستشفى مرتبطة بالشبكة العامة، وانقطعت الكهرباء فجأةً لمات المريض، لذلك لا بُدَّ للمستشفى من توليدٍ ذاتي، والقلب كذلك يتلقى الأمر بالنبض من مركزٍ كهربائيٍ في القلب ذاته، فإذا تعطل هذا المركز، هناك مركزٌ احتياطيٌ ثانٍ، فإذا تعطل الثاني فهناك مركزٌ احتياطيٌ ثالث، إلا أنَّ هذا المركز يُمدُّ القلب بالضربات النظامية، بالنبض النظامي، ثمانين نبضة في الدقيقة فقط، الإنسان قد يواجه خطراً، قد يلحقه عدوّ، قد يواجه ثعباناً، فلا بُدَّ من جُهدٍ عضليٍ استثنائي، هذا الجُهد يحتاج إلى كمية دم ترد إلى العضلات أكبر من الكمية الطبيعية، لا بُدَّ من أن ينبض القلب نبضاً أسرع، ليكون جريان الدم في الأوعية أسرع.
لذلك إذا رأى الإنسان الخطر بشبكية العين، ثم أدركه بدماغه بحسب المفهومات السابقة، والدماغ ملِك الجهاز العصبي يأمر ملكة الجهاز الهرموني وهي الغدة النخامية، أن تواجه الخطر، الخطر تقوم غدتان فوق الكليتان اسمهما الكظر، الكظر يعطي خمسة أوامر فورية، يعطي أمراً إلى القلب برفع النبض، فقد ينبض قلب الخائف مئةً وثمانين نبضة، ليس هناك مُحرِّك في الأرض استطاعته تتبدل من حصانين إلى خمسين حصاناً لا يوجد، القلب تتبدل قدرته من ثمانين ضربة إلى مئة وثمانين ضربة! الكظر يُعطي أمراً آخر للرئتين لرفع وجيبهما، فالخائف يرتفع نبض قلبه ويلهث، ثم إنَّ هذا الكظر يُعطي أمراً للأوعية المحيطية بأن تضيق لمعتها كي يُوفَّر الدم للعضلات، لا ليكون جسم الإنسان وردي اللون، هذا أمرٌ ثالث، فالخائف يصّفر لونه، ثم إنَّ هناك أمراً إلى الكبد، بإطلاق كميةٍ كبيرةٍ جداً من السُكَّر، كي يكون وقوداً لهذه الحركة الاستثنائية، هذا أمرٌ رابع، ثم إنَّ هناك أمراً خامساً للكبد يُفرِز هرمون التجلُّط كي يكون الدم أقرب إلى اللزوجة منه إلى التميُّع، حتى لا يخرج الدم كله من ضربةٍ واحدة.
يعنينا من هذا، أنَّ الأمر الاستثنائي برفع النبض إلى مئةٍ وثمانين نبضة، لا يأتي من المركز الذاتي للقلب، بل يأتي من الدماغ إلى الكظر إلى القلب، فلا بُدَّ من وجود الرأس موصولاً مع الدابة، الآن القلب مهمته بعد الذبح إفراغ الدم كله، فعلى ثمانين نبضة يخرج ربع الدم من الدابة، أمّا إذا بقي الرأس وقُطِعت الأوداج وجاء الأمر الاستثنائي إلى الكظر ثم إلى القلب، يرتفع النبض إلى مئةٍ وثمانين نبضة، عندئذٍ يخرج الدم كله خارج الدابة وهذه مهمة القلب بعد الذبح، هذا ليس من عند النبي عليه الصلاة والسلام، ولا من ثقافة النبي، ولا من بيئة النبي، ولا من مُعطيات بيئة النبي إنما هو:
﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)﴾
القرآن يشهد لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أنه رسول الله:
لذلك هذا الصحابي الجليل سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حينما قال: << ثلاثةٌ أنا فيهن رجُل، وفيما سوى ذلك أنا واحدٌ من الناس، ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حقٌّ من الله تعالى>> ، فالنبي حينما يحتجم ليس معنى ذلك أنها طريقةٌ بدائيةٌ كانت في عصر النبي عليه الصلاة والسلام، لا هذا كلام غير مقبول إطلاقاً، النبي عليه الصلاة والسلام توجيهاته الصحيّة ليست من عنده (وَحْيٌ يُوحَىٰ) ومُعجزة هذا النبي الكريم مُعجزةٌ عقلية، ففي القرآن ألفٌ وثلاثمئة آيةٍ في كتاب الله، هذه كلها تتحدث عن الكون، عن المجرات، عن الشمس، عن القمر، عن الليل، عن النهار، عن الأطيار، عن الأسماك، عن النبات، عن خلق الإنسان، هذه مُعجزة النبي عليه الصلاة والسلام.
وبشكلٍ أدق يأتي رسول الله، أيُّ رسول بمنهج افعل ولا تفعل، ما الذي يؤكِّد لهؤلاء الناس أنَّ هذا الإنسان الذي يقول: أنا رسول الله هو في الحقيقة رسول الله؟ لا بُدَّ من أن يشهد الله له، وكيف يشهد الله له؟ يُجري على يده خرقاً للعادات، وخرقاً للمألوف لا يستطيعه البشر مجتمعين، فإذا جاء هذا الإنسان بهذا الخرق، إذاً هذه شهادة الله لهذا الإنسان أنه رسوله، الآن الذي يشهد لنبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام أنه رسول الله هذا القرآن، فيه إشارات مستحيل وألف مستحيل أن تُعرَف قبل هذا الوقت.
مرةً أستاذ علم الأجنَّة في بريطانيا، يُملي على طلابه بأنه من الثابت خلال مئة عام، بأنَّ العضلات تُشكَّل أولاً، ثم تُشكَّل العظام ثانياً، وله كتابٌ يُسمّى في أوربا "إنجيل عِلم الأجنَّة"، لقوته ولعراقته، يدخل على طلابه مرةً ويقول: هناك حقيقةٌ اكتشفتها تُناقِض ما في كتابي، ألا وهي أنَّ العظام تتشكل أولاً، ثم تُكسى بالعضلات، وعنده طالب باكستاني، قال له: هذا الكلام موجود في كتابنا المُقدَّس، صُعِق الأستاذ، مستحيل! حقيقةٌ أنا كشفتها بعد حين، وبعد أن استقرَّت هذه المقولة التي قالها في أرجاء العالم، جاءه في اليوم التالي بالقرآن الكريم مُترجماً مع شرحه، فلمّا قرأ قوله تعالى:
﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾
سمعت أنه أسلم، هذا كلام الله، إعجاز القرآن شيءٌ دقيقٌ جداً، فلذلك الأنبياء جاؤوا بمعجزات، هذه المُعجزات شهادة الله لهم أنهم أنبياءٌ ورُسُل، والأنبياء جميعاً من مشكاةٍ واحدة، لو استطعنا أن نصل إلى الكتب المُقدَّسة السابقة كما نزلت، لرأيتها متوافقةً مع القرآن الكريم مئةً بالمئة، لأنه:
﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)﴾
فهذا الذي يؤمن بهذا النبي ويكفر بهذا النبي، هذا نوعٌ من الكُفر.
الإسلام منهج كامل لا يقبل أن تأخذ بعضه وأن تدع بعضه الآخر:
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ) إخواننا الكرام الآن هناك دعواتٌ مشبوهة، تريد أن تُفرِّق بين الله ورُسُلِه، نؤمن بالقرآن فقط ولا نؤمن بالسُنَّة، مع أنَّ السُنَّة مُتمِّمةٌ للقرآن، مع أنَّ السُنَّة تفصيلٌ للقرآن، تبيانٌ للقرآن.
﴿ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)﴾
مع أنَّ القرآن يقول:
﴿ مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)﴾
هؤلاء الذين يؤمنون بالقرآن ولا يؤمنون بالسُنَّة وهُم كُثُر، هذا الإسلام منهجٌ كامل، لا يقبل أن تأخذ بعضه وأن تَدع بعضه الآخر، إمّا أن تأخذه كله أو دعه كله، هذا المذهب الانتقائي، آخذ من الدين ما يُعجبني وأَدَع ما لا يُعجبني، هذا مذهبٌ خطيرٌ جداً، اسمه المذهب الانتقائي، أنتقي من الدين الشيء الذي له سُمعة، لا يُكلِّف شيئاً أُؤمِن به، والشيء الذي يُكلِّفني أن أضبط شهوتي لا أُصدِّقه، بل أكفُر به، فلذلك الله عزَّ وجل يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) قضية الدين لا تتجزأ، قضية الدين قضيةٌ واحدة لا تتجزأ، إمّا أن تأخذه كله، أن تأخذ الكتاب والسُنَّة، أو لن تنتفع بهذا الدين.
قضية الإيمان بالله فطرية أما قضية أن تنفذ مراده منك فهذا هو التدين:
(وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ) التفريق نوعان:
إمّا أن تؤمن بالله، ولا تؤمن بالرسُل، علماء كُثُر في العالم الغربي، أينشتاين من أكبر علماء الفيزياء الذي جاء بالنظرية النسبية قال: كل إنسان لا يرى في هذا الكون قوةً هي أقوى ما تكون، عليمةً هي أعلم ما تكون، رحيمةً هي أرحم ما تكون، حكيمةً هي أحكم ما تكون، هو إنسان حيٌّ ولكنه ميِّت، هل آمن بالمنهج؟ لا، هل صدق المنهج؟ لا، أن تؤمن بالله، الكون كله ينطق بوجود الله، بل حتى الكفار يعتقدون أنَّ لهذا الكون إلهاً، حتى الذين عبدوا الأصنام ماذا يقولون؟
﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)﴾
قضية الإيمان بالله قضيةٌ فطرية، لكن قضية أن تُنفِّذ مُراده منك فهذا هو التديُّن، أن تقول لهذا الكون إله، قضيةٌ فطرية لا يختلف فيها اثنان، حتى الذين كفروا، كَفَر أي ستَرَ، أحياناً يكون في البيت شيء حريص ألا يراه الضيف، تستره، كأنك تكفُر به، ولكنه موجود، أنت ما سترته إلا لأنك مؤمنٌ به بشكلٍ أو بآخر، أذا أحب الإنسان أن ينحرِف يحتاج إلى غطاءٍ إيديولوجي، غطاء عقائدي، فمثلاً عند المسلمين الغطاء الذي يُغطي الانحراف هو الشفاعة بمعناها الساذج، أي افعل ما شئت، نحن من أُمة محمد عليه الصلاة والسلام، أُمة محمدٍ مرحومة، هذه عقيدةٌ فاسدة، أنا أقول: مفهوم الشفاعة الساذج غير صحيح، أهل الكتاب قالوا:
﴿ وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)﴾
فالإنسان حينما ينحرِف يحتاج أن يبقى متوازناً، إذاً يبحث عن عقيدةٍ فاسدة تُغطّي انحرافه، أمّا إذا أراد أن يقتل شعوباً بأكملها، يحتاج إلى عقيدة الإلحاد، يحتاجها مع أنه ليس مؤمناً بها.
إنسان يبني مجده على أنقاض البشر! يبني حياته على موتهم وعلى قتلهم! ويبني غِناه على إفقارهم! يبني عزته على إذلالهم! هذا الانحراف الشديد والإجرامي، لا يحتاج إلى مفهوم الشفاعة الساذج، ولا إلى مفهوم أنه (لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً) يحتاج إلى إنكار وجود الله كُليّاً، إنكار مُفتعَل، والدليل يوم القيامة يقول هؤلاء وهُم في النار:
﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ۚ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)﴾
أنت لمُجرَّد أن تكفُر ـ لا سمح الله ولا قدَّر ـ حينما تكفُر أنت مؤمن في الأصل، تُغطي شيئاً مؤمناً به، فقضية الإيمان بوجود الله قضيةٌ لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر، حتى الذين عبدوا الأصنام، حتى الذين قصفوا هؤلاء المقهورين في أطراف الدنيا، والحرب كانت في رمضان، فلمّا سُئل وحيد القرن: كيف تقصِف في رمضان؟ قال: بدر كانت في رمضان، هناك من يفهم الدين لمصلحته، قضية الإيمان بالله وحدها من دون أن تُنفِّذ مُراده منك لا قيمة لها إطلاقاً، وأنَّ الله مُراده منك كذا وكذا، وأنك لن تستطيع تنفيذ مُراده إلا بالشروط التالية:
(اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) .
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) .
﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)﴾
المحاور الثلاث الدقيقة التي جاء بها الأنبياء:
ثلاثة محاور دقيقة جداً جاء بها الأنبياء:
أول محور: مَن هذه القوة الكبيرة؟ يعني مثلاً لو التقيت بعلماء غربيين لقالوا: الطبيعة، أي أنتم سمّيتموها الطبيعة، نحن نُسمّيها الله، يوجد قوة حكيمة أحكم ما تكون، رحيمة أرحم ما تكون، عليمة أعلم ما تكون، هذه القوة سمّاها الغربيون الطبيعة، وسمّاها المسلمون الله جلَّ جلاله.
المهمة الثانية: يُخبرك أنك مخلوقٌ للجنَّة، وهذه الدنيا مكانٌ وزمانٌ تدفع فيهما ثمن الجنَّة، وأنَّ أساس سلامتك وسعادتك تطبيق تعليمات الصانع، وأنَّ سعادتك بالاتصال به فكانت الصلاة، وأنَّ هذا الجسم يحتاج إلى صيانةٍ فكان الصيام، هناك عبادات منها الصيام والزكاة، ومنها الصلاة، وهناك انضباط أخلاقي، لا كذب، ولا غيبة، ولا نميمة، ولا غشّ، ولا احتيال، ولا أكل أموال الناس بالباطل، وهناك مصدر لسعادتك الحقيقية:
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾
هذا مُراده منك، فحينما لا تُنفِّذ مُراد الله منك، فأنت لست مسلماً، ولست ديّناً، أن تقول: أنا مسلم، الله موجود، هذا كلام قاله الشيطان، قال:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾
قال له الشيطان: خلقتني، آمن به خالقاً، آمن به ربّاً، آمن به عزيزاً، وآمن باليوم الآخِر:
﴿ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)﴾
فلذلك الذي يُفرِّق بين الله ورُسُله، يؤمن بالله خالقاً لهذا الكون، ولا يستجيب لمُراد الله منه، مُراد الله أن تعبُده، والعبادة طاعةٌ طوعية، ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية، أساسها معرفةٌ يقينية تفضي إلى سعادةٍ أبدية، مُراده منك أن تعبُده، ولكن لا تستطيع أن تعبُده إلا بشروطٍ إذا تحقَّقت، قال لك: كُن مع الصادقين، مستحيل أن تجلس مع أُناسٍ مُتفلّتين، زُناة، شاربي خمر، يُحبّون الحياة الدنيا، دينهم مصلحتهم، أن تعيش معهم، وأن تُحبَّهم، وأن تتجانس معهم، ثم تقول: أنا مُقصِّر! طبعاً مُقصِّر: (اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) .
هناك توجيهاتٌ قرآنية، كيف تستطيع أن تصِل إلى هذا المستوى؟ أنا أقول لك مثلاً: هذا هو الكتاب المُقرر، عليك أن تأتي بثمانين علامة من مئة مثلاً، فتقول: كيف أدرس؟ أقول لك: لا بُدَّ من تفرُّغ، لا بُدَّ من عشر ساعات في اليوم، لا بُدَّ من أستاذ، لا بُدَّ من كتُب أمامك، قواميس، وكتُب، وما شابه ذلك.
فيوجد مع الأنبياء ثلاثة توجيهات: اسم هذه القوة المُطلقة، ثم مُرادها منك، ثم الشروط التي إذا حقَّقتها وصلت إلى تطبيق مُراده منك.
الإسلام لا يفتقر إلى من يمجد به بل يحتاج إلى من يُطبِّق منهجه:
الكُفّار نوعان: نوعٌ يؤمن بالله فقط، ولا يعبأ برسالات الأنبياء، وأصبح لدينا شيء اسمه إسلام فكري، باعتبار كل المذاهب الوضعية سقطت في الوحل، ليس هناك مذهبٌ وضعي إلا وأصبح في الوحل، ساحة القيَم فارغة إلا من قيَم الدين الإسلامي، ساحة المبادئ فارغة، إلا من مبادئ الدين الإسلامي، باعتبار كل شيءٍ سقط وأصبح في الوحل، ولم يبقَ إلا الإسلام، فهؤلاء الذين يريدون التألق يتكلمون بالإسلام، لكنه كلام فكري فقط، سمّاه بعضهم إسلام صالونات، تجد أحدهم لا يُصلّي ولا يصوم، يتكلم عن أحقّية هذا الدين، وعن أنَّ هذا القرآن عظيم، وعن أنَّ الإسلام منهج للبشرية، أين أنت؟! وأصبح هناك خلفية إسلامية، وأرضية إسلامية، وتوجه إسلامي، وعاطفة إسلامية، ومُنطَلق إسلامي، وهموم إسلامية، ولكن لا يوجد إسلام إطلاقاً.
العِبرة من هذا الدرس أيُّها الإخوة: إن لم تُحقِّق مُراد الله منك فلست مسلماً، أن تقول: الإسلام دينٌ عظيم، الإسلام غني عن أن تُعظِّمه هو عظيم، إن قلت: إنه عظيم فهو عظيم، وإن قلت: ليس عظيماً هو عظيم، الإسلام لا يفتقر إلى من يُمجِّد به، الإسلام يحتاج إلى مَن يُطبِّق منهجه.
(وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) يعني مثلاً: مَلِك عيَّن رئيس وزارة، وهذا الوزير مع وزراء، ومؤسّسة تابعة للوزير، المَلِك بعد سنتين أو ثلاث سنوات غيّر الوزارة، أقال رئيس الوزارة والوزراء، وعيَّن رئيس وزارة جديد ووزراء، فتغيَّر الوزير الذي تتبع له هذه المؤسسة، قال المدير: لا، أنا لا أعترف بهذا الوزير الجديد، أنا علاقتي مع السابق، فأنت مُستعصي، أنت بهذا تكفُر بحكمة المَلِك، تكفُر بأمر المَلِك، تكفُر بتوجيه المَلِك، المَلِك غيَّر الوزارة، يعني هذه المرحلة تحتاج إلى وزارةٍ جديدة، فهذا الذي يؤمن برسول ويكفُر بالثاني، هذا أيضاً كُفر، قال: (وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ) .
حينما ينتفع الإنسان من مبدأ، من الغباء أن تناقشه لأنه لا يُناقَش:
الدين أرادوه ورقةً رابحةً في أيديهم، الحقيقة هذا الذي يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، أنا أضرب مثلاً صارخاً: أحدهم وجدَ أمامه على الطاولة ورقة فارغة، مستطيلة الشكل، فاستخدمها كمسّودة، جمع، وطرح، وضرب، ثم مزَّقها وألقاها في المُهملات، لكن تمزيق كامل، أو فرمها بآلة الفرم، ثم اكتشف أنَّ هذه الورقة شيك بمليون دولار، هو استخدمها، ولكنه لم يستخدم المليون دولار، استخدمها كورقة مسودة، انتفع بها واحداً من مليار المليار المليار من قيمتها، فهذا الذي يتعامل مع الدين كورقةٍ رابحة بيده، هذا يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً، فهؤلاء لماذا يؤمنون بهذا الرسول ويكفرون بهذا الرسول؟ ليتخذوا بين ذلك سبيل إلى أهوائهم، وإلى حظوظهم من الدنيا، كل إنسان مُنتفِع لا يُناقش أساساً.
أنا كنت أضرب مثلاً، وهو مثلٌ طريف، أنَّ إنساناً يعمل في حمل الأشياء، وعنده دابَّة، وقد ماتت هذه الدابَّة، فقَدَ مورِد رزقه كُليّاً، وكاد يموت من الجوع، هذه الدابَّة دفنها في مكان، وأقام عليها أربعة جدران وقبة خضراء، وسمّاها بإسم ولي، وجاء الناس إلى هذا المقام، وأغدقوا عليه من أُعطياتهم، ومن السمون واللحوم والخرفان، فعاش حياةً تفوق حدَّ الخيال في البحبوحة، هل يمكن لجهةٍ في الأرض أن تقنعه أنَّ المدفون هنا دابَّة، هو دفنها بيده، لكن المُنتفع لا يُناقش، فالإنسان أحياناً ينتفع من مبدأ يعيش في بحبوحةٍ كبيرةٍ جداً، ما من قوةٍ تُقنعه أنَّ المبدأ غلط، مستحيل، فأحياناً الإنسان ينتفع بدعوةٍ مُعيَّنة، فإذا رأى الحقّ يتمسك بالباطل حفاظاً على مصالحه، قال: (وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا) لتحقيق مصالحهم، نؤمن بهذا الرسول وبهذا لا نؤمن، فلذلك حينما ينتفع الإنسان من مبدأ لا يُناقش، ونوعٌ من الغباء أن تناقشه، المُنتفع من مبدأ لا يُناقش، قال:
﴿ أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (151)﴾
كلمة (الْكَافِرُونَ حَقًّا) أي كفرهم هذا أشدُّ أنواع الكُفر، كيف؟ إذا كَفر الإنسان بالأنبياء جميعاً، ولم يعتقد أنَّ لهذا الكون إلهاً، ولم يعبأ بهذه الرسالة، أمّا هو مؤمن بدين مُعيَّن، مؤمن بشيءٍ اسمه إله، وجنَّةٍ، ونار، ووحيٍ، وكتابٍ مُقدَّس، ونبي، ثم هو يكفُر بنبيٍ آخر، هو ليس بعيداً عن هذه الأجواء.
إنسان فرضاً أستاذ جامعي، فحينما يرتكب خطأً علمياً كبيراً جداً، هو ضمن العِلم وضمن الأسباب والمُسببات، ضمن الأدلة والبراهين، ليس بعيداً عن الأدلة والبراهين، فإذا جاء بشيءٍ ليس له برهان إطلاقاً ولا دليل، فالعمل غير مقبول منه إطلاقاً.
لا يُقبل إسلام مسلم إن لم يؤمن بجميع الأنبياء السابقين:
فيا أيُّها الإخوة: إذا كفَر الإنسان بكل الأنبياء، لعلَّ كُفره أقل من أن يكون على اطلاعٍ بتفاصيل الدين، والوحي، والرسول، والكتاب المُقدَّس، ثم يكفُر بدينٍ فيه أدلته، وفيه معجزاته، وفيه تأكيداته، وهو من الناموس الأكبر الذي جاء به الأنبياء كلهم، قال تعالى: (أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) هناك عذابٌ عظيم، وهناك عذابٌ أليم، وهناك عذابٌ مهين، لأنه لم يعبأ بالرسالات كلها: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) .
أساساً لا يُقبَل إسلام مسلمٍ إن لم يؤمن بجميع الأنبياء السابقين، والله عزَّ وجل يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) .
أيُّها الإخوة الكرام: يقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (152)﴾
كانت الآيات التي قبلها تتحدث عن التفريق بين الله عزَّ وجل وبين رُسُلِه، إمّا بين الله ورُسُلِه مجتمعين، أو بين رُسُلِه مُتفرقين، يعني لا يمكن أن تُفلِح إلا إذا آمنت بالرسول، ولا يمكن أن تُفلِح إلا إذا آمنت بكل الرُسُل، لأنَّ مهمة الرسول كما ورَدَ في الآيات السابقة، أنه يُعرِّفك بمُراد الله منك، يُعرِّفك لماذا خَلَقَك، وما مطلوبٌ منك في الدنيا، وماذا بعد الموت، هذه المنظومة من النظرة الفلسفية لحقيقة الكون والحياة والإنسان، إنما يأتي بها الرُسُل، فمَن آمن بالله ولم يَعبأ بمُراد الله منه، ولم يَعبأ بكلام الرُسُل، فهذا احتال على الدين ليكفُر به لكن بطريقةٍ مقبولةٍ عند الناس، الإنسان حينما لا يستطيع أن يكفُر بالله جِهاراً يُفرِّق بين الله ورُسُله، يدّعي أنه مؤمنٌ بالله ولكنه لا يعبأ بالسُنَّة، لأنَّ بعضها غير صحيح، هذا في كل مكانٍ وفي كل زمان، لذلك هذا الدين كامل، إمّا أن تأخذه كله، أو لن تستطيع أن تقطف ثماره لو أخذت بعضه، لكن الله سبحانه وتعالى يُبيِّن (آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) .
الحقيقة أنت حينما لا تستطيع أن ترُدّ القرآن الكريم تخوض في تفسيراته، وتأتي بتفسيراتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، وأنت حينما لا تستطيع أن ترُدّ حديثاً صحيحاً، تحاول أن تجرَّه إلى معنىً ما أرداه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني هناك من يواجه الدين فلا يستطيع، إذاً يحاول أن يُفجره من داخله، وهذا الذي يجري في آخر الزمان، حينما ييأس الطرف الآخر من مواجهة الدين جِهاراً ماذا يفعل؟ يحتال فيُفرِّق بين الله وبين رُسُلِه، أو يُفرِّق بين الرُسُل نؤمن بهذا الرسول ولا نؤمن بهذا الرسول، هو في الحقيقة يتَّبِع هواه، لكن الإنسان حينما يتَّبِع هواه لا بُدَّ من غطاءٍ عَقَدي، فتارةً يدّعي أنًّ الله عزَّ وجل أنزل هذا القرآن ولا نحتاج إلى غير القرآن إطلاقاً، هو فرَّق بين الله ورسوله، وتارةً يؤمن بهذا الرسول ولا يؤمن بذاك، فلذلك هذا الدين وحدة متكاملة، ينبغي أن تؤمن بالله خالقاً وربّاً ومُسيِّراً، ينبغي أن تؤمن بالله موجوداً وواحداً وكاملاً، ينبغي أن تؤمن بجميع أسمائه الحُسنى، وصفاته الفُضلى، ينبغي أن تؤمن بجميع الرُسُل والأنبياء، ينبغي أن تؤمن أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مُشرِّع:
﴿ مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)﴾
ينبغي أن تؤمن أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم معصوم في أقواله، وأفعاله، وإقراره، وصفاته، هذا هو الإيمان الذي يُنجّي، ولن يُفلح أحدٌ مع هذا الدين، إلا إذا أحاطه من كل جوانبه، لكن الله سبحانه وتعالى يُبشِّر أولئك الذين آمنوا بالله ورُسُلِه (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) .
الملف مدقق