وضع داكن
26-07-2025
Logo
الدرس : 69 - سورة النساء - تفسير الآيات 174-176 البرهان والاستفتاء وإرث الكلالة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم عَلِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، وأرِنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الكمال في الخلق يدل على الكمال في التصرُف:


أيُّها الإخوة المؤمنون: مع الدرس التاسع والستين والأخير إن شاء الله تعالى من دروس سورة النساء، ومع الآية الرابعة والسبعين بعد المئة، وهي قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (174)﴾

[ سورة النساء ]

برهانٌ ونور، الله عزَّ وجل خلق هذه الأكوان، وخَلق الإنسان، في خلق الأكوان إتقانٌ ما بعده إتقان.

﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)﴾

[ سورة النمل ]

الكمال في الخلق يدل على الكمال في التصرُّف، فما دام هناك إتقانٌ في خلق الأكوان لا بُدَّ من أن يكون مع هذا الإتقان وهذا الكمال، تصرفٌ كاملٌ مع الخلق.
إذاً من مُسلَّمات المنطق، أنَّ كمال الله عزَّ وجل يقتضي ألّا يدع عباده من دون منهجٍ يسيرون عليه، شيءٌ طبيعي.
أيُّها الإخوة الكرام: هل تجد أباً في الأرض يرى ابنه يقترب من مدفأةٍ مشتعلة ويبقى ساكتاً، يبقى جالساً، لا يتكلم، لا يتحرك، مستحيل! تقتضي رحمة الأب أن يُسارع إلى إرشاد ابنه، أو إلى دفعه عن المدفأة، إما إرشاد، أو أن يُمسكه وأن يُبعده عن المدفأة، هذا مما تقتضيه رحمة الأب. 
فما دام في الكون كمالٌ ما بعده كمال، وإتقانٌ ما بعده إتقان، يقتضي هذا الكمال وذاك الإتقان، أنَّ الله عزَّ وجل أن يُرسل لعباده منهجاً يسيرون عليه، أن يُرسل لعباده كتاباً يُنبئهم لماذا خلقهم؟ وماذا بعد الموت؟ وماذا عليهم أن يفعلوا؟ هذا الكتاب هو القرآن الكريم، لكن في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) .
بالمناسبة أيُّها الإخوة: التديُّن فطري، الإنسان خُلِق ضعيفاً، فلمّا خُلق ضعيفاً يحتاج إلى قوةٍ يحتمي بها، يحتاج إلى قوةٍ تدافع عنه، يحتاج إلى قوةٍ يَطمَئنُّ لها، يحتاج إلى قوةٍ تحميه، هذا أصل التديُّن، لذلك من لم يهتدِ إلى إلهٍ عظيم يعبده قد يتجه إلى شمسٍ، أو إلى قمرٍ، أو إلى حجرٍ، أو إلى وهمٍ يعبده من دون الله، حتى الذين يعبدون الأصنام هم يُحققون حاجةً خُلقوا فيها، وهي حاجة الضَعف، والضَعف يقتضي أن تلجأ إلى قويٍ وأن تحتمي بقوي، لذلك الديانات الأرضية لأنَّ فيها الولاء فقط، وفيها الطقوس، الطقوس حركات وسكنات وتمتمات لا معنى لها، ولاءٌ فقط من غير منهج، لكن الدين الإلهي، لكن دين السماء يقتضي منهجاً، يقتضي أمراً ونهياً، الإنسان أودِعَت فيه الشهوات:

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾

[ سورة آل عمران ]

هذه الشهوات حيادية، ويمكن أن تتحرك بدافعٍ من هذه الشهوات مئةً وثمانين درجة، إن من حيث النساء، إن من حيث كسب المال، إن من حيث العلوّ في الأرض، لكن منهج الله سمح لك بزاويةٍ مُعيَّنة، إذاً ما من شهوةٍ أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفة.

المعجزات براهين من الله عزَّ وجل على أن هؤلاء الأنبياء والرسل هم أنبياؤه ورسله: 


ليس في الإسلام حرمان، ولكن فيه تنظيم، فحينما يأتي نبيٌ من قِبَل الله عزَّ وجل، ومعه منهج، وهذا المنهج يُلزِم أتباعه أن يتقيدوا به، ففي المنهج حرام وحلال، ومكروه ومُسّتحب، وأمر، من أمرٍ واجبٍ، إلى مُسّتحبٍ، إلى إباحةٍ، إلى كراهةٍ، إلى حرامٍ، فهؤلاء الذين ألِفوا أن يتحركوا بلا قيدٍ ولا شرط، حينما يأتيهم منهج السماء يحدُّ من حريتهم، يحدُّ من حركتهم، فطبيعيٌ جداً أن يتَّهموا هذا الرسول بالكذب.

﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا ۚ قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)﴾

[ سورة الرعد ]

﴿ كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)﴾

[ سورة الذاريات ]

 وقالوا:

﴿ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)﴾

[ سورة الأنبياء ]

إذاً لا بُدَّ من تكذيب الأنبياء والمرسلين، فكيف يعطيهم الله البرهان على أنهم أنبياؤه؟ بالمعجزات، المعجزات هي براهينٌ من الله عزَّ وجل على أنَّ هؤلاء الأنبياء والرسل هم أنبياؤه ورُسُله.

تتميز معجزة النبي الكريم أنها عقلية:


سيدنا موسى: 

﴿ فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)﴾

[ سورة الأعراف ]

ضرب البحر فصار طريقاً يبساً: 

﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ (77)﴾

[ سورة طه ]

برهانه على أنه نبي، في العصا، ويده البيضاء، وجعل البحر طريقاً يبساً، منهجه التوراة.
سيدنا عيسى برهانه إحياء الميت، منهجه الإنجيل، لاحظوا البرهان غير المنهج، البرهان شيء، والمنهج شيءٌ آخر.
هؤلاء الأنبياء والمرسلون بُعثوا إلى أقوامهم فقط، إذاً:

﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۗ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)﴾

[ سورة الرعد ]

ومعجزاتهم حسّيةٌ، يعني شيءٌ حدث وانتهى، فأصبح خبراً يُصدِّقه من يُصدِّقه ويُكذِّبه من يُكذِّبه، انتهى.
أمّا النبي عليه الصلاة والسلام فلأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ولأنَّ رسالته خاتمة الرسالات يقتضي أن تكون معجزته مُستمرة إلى نهاية الدوران، إذاً تتميز معجزة النبي عليه الصلاة والسلام أنها عقلية، إذا كان النبي الكريم موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام معجزته العصا، ومنهجه التوراة، إذا كان سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام معجزته إحياء الميِّت ومنهجه الإنجيل، فإنَّ النبي عليه الصلاة والسلام معجزته عين منهجه، منهجه القرآن ومعجزته القرآن، إذاً القرآن الكريم كتابٌ مُعجِزٌ إلى نهاية الدوران، فكلما تقدَّم العِلم كشف عن جانبٍ من إعجاز القرآن الكريم، أقوى دليل على أنَّ هذا القرآن كلام الله هو إعجازه.
هناك إشاراتٌ كثيرةٌ جداً تصل إلى الألفين تقريباً، إشارات إلى حقائق علمية لم تكن معروفةً في عصر النبي عليه الصلاة والسلام، ثم كُشِفت تدريجياً، ففي كل عصرٍ كشوف ٌعلميةٌ تؤكد أنَّ الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام من وحيٍّ هو من عند الله عزَّ وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ) البرهان أي الذي يُثبِت أنَّ هذا الإنسان رسول الله، البرهان يعني المعجزة.

كل ما يتعلق بحركة الإنسان في الحياة فيه منهج:


 (مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) النور هو المنهج، البرهان هو المُعجزة، والنور هو المنهج، كيف المنهج؟ أنت تمشي في الطريق وجدت فرعين، في أي فرعٍ تتجه؟ قيل لك: اذهب إلى بلدك من هذا الطريق، هذا نور، كأن الأمور أظلمت عليك، وهذا التوجيه كأنه نور كشف الظُلمة، العِلم نورٌ، ماذا أفعل؟ تزوج، إذا تزوجت وأصبحت الحياة لا تُطاق، طلِّق، كيف أُطلِّق؟ ثلاث مرات، في تفاصيل حياتك، تفاصيل كسب المال، تفاصيل إنفاق المال، تفاصيل الزواج، الخطبة، والزواج، والطلاق، والنفقة، وتربية الأولاد، وما إلى ذلك، العمل، الشراكة، الكفالة، الحوالة، كل ما يتعلق بحركة الإنسان في الحياة فيه منهج.
أيُّها الإخوة: ما من حركةٍ يتحركها الإنسان مهما تكن ضئيلةً إلا ويغطّيها حكمٌ شرعي، نبدأ من الفرض، ثم الواجب، ثم المُسّتحب، ثم المُباح، ثم المكروه كراهةً تنزيهيةً، ثم المكروه كراهةً تحريميةً، ثم الحرام، ما من حركةٍ ولا سكنةٍ ولا موقفٍ، إلا وينبغي أن يُغطّى بأحد هذه الأحكام الستة: فرض، واجب، مُسّتحب، مُباح، مكروه تنزيهاً، مكروه تحريماً، حرام، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) .
إلا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لأنه خاتم الأنبياء، ولأنَّ رسالته خاتمة الرسالات، ولأنه للعالمين جميعاً، فكانت معجزته عين منهجه، منهجه القرآن ومعجزته القرآن، معجزات الأنبياء السابقين حسّيةٌ، بينما معجزة النبي عليه الصلاة والسلام عقليةٌ علمية.

النبي عليه الصلاة والسلام معجزته في القرآن الكريم وفي أحاديثه الصحيحة:


حينما أُنزِل هذا القرآن ورد في بعض آياته أنَّ الإنسان كما قال الله عزَّ وجل:

﴿ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)﴾

[ سورة الأنعام ]

الآن بعد أن رَكِب الإنسان الطائرة، في أعالي الجو يقلّ الضغط الجوي، وإذا قلَّ الضغط الجوي ظهرت أعراضٌ خطيرة، وقد تكون مُميتة، لذلك هذه الطائرات التي نركبها يُضخ هواؤها ثمانية أمثال الهواء الذي على سطح الأرض، من أجل أن تركب الطائرة دون أن تشعر، فلو تعرَّض جهاز ضخ الهواء إلى خطرٍ وجب أن يهبط الطيار هبوطاً اضطرارياً، وإلا يموت الركاب، فمَن أنبأ النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ الصعود إلى أعالي الجو يصيب الإنسان بضيقٍ شديدٍ في صدره؟ إنه القرآن الكريم.
الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة التي تحدثت عن الجنين، جاءت مطابقةً لأدق البحوث العلمية في علم الجنين، مَن أنبأ النبي عليه الصلاة والسلام؟ 
أضرب مثلاً: النبي عليه الصلاة والسلام أمر أن تُذبح الدَّابة من أوداجها دون أن يُقطع رأسها، لا في عهد النبي، ولا في أي مركزٍ علميٍ في الأرض في عهد النبي، ولا بعد عهد النبي بمئة عام، ولا بمئتي عام، ولا بألف عام، ولا بألفٍ وأربعمئة عام، ليس هناك في الأرض كلها جهةٌ علميةٌ يمكن أن تُفسِّر هذا التوجيه النبوي، اذبح الدابة من أوداجها دون أن تقطع رأسها، إلى أن اكتُشف أن القلب فيه مركزٌ كهربائيٌ يأمر القلب بالنبض ذاتياً، لأنَّ القلب أخطر جهازٍ في الإنسان، أخطر عضو، لا يتعلق بالكهرباء العامة كهرباء الشبكة، له مولدة خاصة، له ثلاث مولدات: مولدة رئيسية، ومولدة احتياط، ومولدة احتياط للاحتياط، أرأيت إلى إتقان صنعة الله عزَّ وجل! لكن هذا الأمر الكهربائي الذاتي الداخلي، يعطي أمراً بالنبض النظامي ـ ثمانين نبضةً في الدقيقة ـ أمّا إذا احتاج الإنسان إلى أن يرفع النبض، خائف، يركض، يجري، لا بُدَّ من أن يأتي أمر نبض استثنائي من الكظر عن طريق الدماغ، أو يبدأ من الدماغ إلى الكظر إلى القلب، مهمة القلب بعد الذبح إفراغ الدم من جسم الدَّابة، لأنَّ الدم بؤرةٌ صالحةٌ جداً للجراثيم والأوبئة، النبض الطبيعي لقلب الدَّابة لا يُخرِج إلا ربع الدم، فإذا بقي الرأس متصلاً بجسم الدابة، يأتي الأمر الاستثنائي، يأتي من الدماغ عن طريق الكليتين إلى القلب فيرتفع النبض إلى مئةٍ وثمانين، عندئذٍ يخرج الدم كله من جسم الدابة، فيغدو اللحم وردي اللون شهياً.

﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)﴾

[ سورة النجم ]

إذاً النبي عليه الصلاة والسلام معجزته في القرآن الكريم وفي أحاديثه الصحيحة.

الرحمة مُطلق عطاء الله عزَّ وجل:


﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا  مُّسْتَقِيمًا (175)﴾

[ سورة النساء ]

وقع أحدهم في حفرةٍ، وجدران هذه الحفرة ملساء، موته مُحقَّق، فإذا أدليت له بحبلٍ فتمسَّك به وأنقذته من هذه الورطة، معنى ذلك أنه اعتصم بهذا الحبل، أي اعتصم بشيءٍ ينقذه.
إنسانٌ كاد أن يغرق، أرسلت له شيء يُعينه على أن ينجو من الغَرق، هذا اعتصام، فأصل تعبير الاعتصام أن تتعلق بشيءٍ، أن تتمسك بشيءٍ يُنجّيك من بلاءٍ كبير، فهذا المؤمن فضلاً عن أنه آمن بالله، اعتصم به، أي أنَّ الله عزَّ وجل، نجّاه من الشقاء النفسي، نجّاه من حياةٍ لا معنى لها، نجّاه من ضيقٍ، نجّاه من كربٍ، نجّاه من سوداويةٍ، نجّاه من إحباطٍ، اعتصموا به لأنهم طبَّقوا تعليمات الصانع، إذاً نجّاهم الله بهذا.
(فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ) الرحمة مُطلق عطاء الله عزَّ وجل، مُطلق عطاء الله رحمته، فالصحة من الرحمة، وراحة البال من الرحمة، وطمأنينة النفس من الرحمة، والتوفيق في الحياة من الرحمة، والبيت السعيد من الرحمة، والأولاد الأبرار من الرحمة، والسكينة التي تُلقى على قلب المؤمن من الرحمة (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ)

سلعة الله غالية ومن السذاجة بمكان أن نطلبها بعمل يسير:


إنسان يكون ضيفاً على مُضيفٍ من أعلى مستوى، تجد الإكرام فنوناً، الاستقبال، والغرفة، والطعام، والمُقبِّلات، والعصير، والفواكه، والحلويات، والقهوة، والشاي، والترحيب والتكريم، والمجلس المريح، ألوان ملونة، وأنواع منوعة من الإكرام، هذا للتقريب، كلمة فلان في رحمة الله أي في حِفظه، في تأييده، في توفيقه، في إسعاده، في ملء قلبه غنىً، أي في إلقاء الأمن في قلبه، في إنزال السكينة على قلبه، في تيسير شؤونه، في كسب رزقه، في إنفاق ماله، في علاقاته الإيجابية، رحمة الله واسعةٌ جداً، إذا منحك الله رحمته سعدت بها ولو فقدت كل شيء، وإذا حجب عنك رحمته، شقيت بحجب هذه الرحمة ولو ملكت كل شيء ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ) .
ولعلَّ البدايات تحتاج إلى جهدٍ، جاءت سين الاستقبال (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ) أي نجد في البدايات صعوبة، لأنَّ سلعة الله غالية، يقول لك: فلان يحمل دكتوراه فرضاً، أنت هل تعلم هذا اللقب العلمي الذي يتميز به هل تعلم كم كتابٍ قرأ؟ وكم فحصٍ أجرى؟ وكم أزمةٍ نفسيةٍ أصابته؟ وكم ليلٍ سهِر؟ وكم أستاذٍ صعبٍ صبر عليه؟ وكم كتابٍ صعبٍ فهمه واستعان على فهمه بأشياءٍ كثيرة؟ ما وصل إلى هذا اللقب حتى كاد يموت من التعب، ومن الهمّ، ومن القلق والخوف والامتحانات، فسلعة الله غالية، من السذاجة بمكانٍ أن تطلبها بعملٍ يسير، ما من إنسانٍ في الأرض يُقدِّم طلباً وهو لا يقرأ ولا يكتب، يُقدِّم طلباً للحكومة للتعليم العالي، يرجى منحي دكتوراه، التوقيع فلان، هو لا يقرأ ولا يكتب، هذا طلب يستحق الابتسامة الساخرة، لا بُدَّ من عملٍ دؤوب لا من أجل الآخرة، من أجل الدنيا، من أجل أن يضاف لاسمك حرف الدال ونقطة فقط، يقول لك ثلاثة وثلاثين سنة دراسة من أجل هذه الدال فقط.

طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب واستخفاف بالجنة:


هكذا الحياة، من أجل أن يقال لك دكتور تبذل هذا الجهد، ومن أجل أن تدخل الجنَّة تطمع أن تكون بلا عمل، وطلب الجنَّة من غير عملٍ ذنب من الذنوب، استخفافٌ بالجنَّة.

(( من خاف أَدْلَجَ، ومن أَدْلَجَ بلغ المنزلَ، أَلَا إن سِلْعَةَ اللهِ غاليةٌ، أَلَا إن سِلْعَةَ اللهِ الجنةُ ))

[ أخرجه الترمذي ]

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾

[ سورة العنكبوت ]

هكذا تقول: آمنت، هناك إغراءات، هناك امتحانات، المؤمن لا يتأثر بأنه آمن بالله واعتصم به، وأصرَّ على نَيل رضوانه، لا يتأثر لا بسياط الجلادين اللاذعة، ولا بسبائك الذهب اللامعة، لا يؤثر فيه إغراء ولا تهديد، إنه مع الله عزَّ وجل (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ) رحمة، سعادة، فضل، يُجري على يديك عملٌ صالح، إنسانٌ بلا عمل هذا ليس مؤمناً، إنسان ليس له عمل؟! فقط إيمان سكوني، يقول لك: يا أخي دين عظيم، الإسلام دين الفطرة، الإسلام، وبعد ذلك ماذا؟!
مثلاً لو أنَّ إنساناً عنده مرضٌ جلدي لا يُشفى إلا أن يتعرَّض لأشعة الشمس، هذا الإنسان جالس في غُرفةٍ مظلمة، وفي الخارج شمسٌ ساطعة، لو قعد في هذه الغرفة المظلمة، وقال: يا لها من شمسٍ ساطعة، إنها شمسٌ مُشرقة، إنها شمسٌ مُنيرة، يا لها من شمسٍ في كبد السماء، يا لها من شمسٍ مُشرقةٍ في رابعة النهار، لو أتى بكل ألفاظ الأدب في الحديث عن الشمس، وهو لم يتعرَّض لها، لا ينتفع بكل هذه العبارات الطنانة، لا بُدَّ من أن يُعرِّض جلده لأشعة الشمس.

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾

[ سورة الكهف ]

الله عزَّ وجل إذا أحبك أنطقك بالحق وأجرى الهدى على يديك:

﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19)﴾

[ سورة الإسراء ]

أي إسلام سكوني، إسلام تأملي، هكذا معظم الناس، مرتاح، يتابع الأخبار، يوزِّع تُهماً على الناس، لا يُقدِّم شيئاً، أعجبني قول أحدهم، قال لي: أنا أُعَظِّم شخصاً إلى درجة أنني لا أرى فوقه إنساناً في الأرض، إنه رسول الله، لا يُخطئ معصوم، قال لي: وأحتقر إنساناً لا يُخطئ أيضاً، هو الذي لا يعمل، الذي لا يعمل لا يُخطئ، ما قدَّم شيئاً، ما عمل أي محاولة، ما ضحّى بشيءٍ، ما غامر إطلاقاً، ما تحرَّك، ما فعل شيئاً، من لا يعمل لا يُخطئ، لكن من يعمل يُخطئ. 

(( كلُّ بَني آدَمَ خَطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائين التَّوابُون ))

[ أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه  ]

فيدخلهم برحمةٍ منه، هذا العطاء النفسي، الشعور بالأمن، الشعور بالسكينة، التوازن، الثقة بالمستقبل.

﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾

[ سورة التوبة ]

وفضلاً عن ذلك عمل صالح، لعلَّ الله عزَّ وجل إذا أحبك أنطقكَ بالحق، أجرى الهدى على يديك، وظَّفك جندياً تدافع عن هذا الحقِّ العظيم، هناك رحمة وهناك فضل، الفضل عمل صالح.
 (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا  مُّسْتَقِيمًا) يعني يمشي على طريقٍ واضح، أحياناً تجد سائقاً على خطٍ ما، يحفظ الطريق متراً متراً، وهناك أماكن في يمين الطريق فيها حُفَر، تجده انتقل إلى اليسار وتلافى الحُفَر، حفظها عن غيبٍ، كيف أنَّ هذا السائق لشدة مِراسه في هذا الطريق تجنَّب كل الحُفَر، كذلك المؤمن طريقه واضح تماماً، الحلال واضح، والحرام واضح، والأعمال الصالحة واضحة، والوسائل أمامه واضحة، والأهداف واضحة.

لا يمكن للإنسان أن يستوعب الباطل لأنه مُتعدد:


(وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا  مُّسْتَقِيمًا) المستقيم، أقرب خط بين نقطتين هو الخط المستقيم، استيعاب الباطل فوق طاقة البشر، لو أردت أن تستوعب فكر فرقة ضالة، تحتاج إلى عشر سنوات، تقرأ الكتب كلها، والخلفيات، والمُلابسات، والوقائع، والأحداث، والمعارك، والحروب، والنتائج، وما قيل، وما كُتب، والمُعلقين، والمؤرخين، إذا كانت فرقة ضالة تحتاج إلى عشر سنوات لتستوعب، يقول لك دكتوراه بالفرقة الفلانية، أي خمس أو ست سنوات تأليفاً، وتصحيحاً، وتعقيباً، وتنقيحاً، لذلك لا يمكن للإنسان أن يستوعب الباطل لأنه مُتعدد.

﴿ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ   تَتَّقُونَ (153)﴾

[ سورة الأنعام ]

بين نقطتين لا يمكن أن أُمرِّر إلا خطاً مستقيماً واحداً، الثاني يأتي فوقه، الثالث، ارسُم نقطتين، وائتِ بالمسطرة، ضع المسطرة على جانب النقطتين وارسُم خطاً، الثاني فوق الأول، والثالث فوق الثاني، بين نقطتين لا يمر إلا خط واحد، هذا الحق، الحق لا يتعدد، لكن الباطل يمر بين نقطتين مليون خطٍ منحني، ومليون خطٍ منكسر، ومليار خط يمر، انحناءٌ صغير، انحناءٌ أشد، انحناءٌ أشد، انحناءٌ أشد، انكسارٌ قليل، انكسارٌ كبير، لذلك الباطل لا يُستوعَب، والطريق مسدود، استوعِب الحق والحق مقياس، وفَّرت وقتك، وفَّرت جُهدك (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا  مُّسْتَقِيمًا) .

الفرق بين السؤال والاستفتاء:


وآخر آيةٍ في هذه السورة المُباركة:

﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ۚ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ۚ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ۚ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۗ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)﴾

[ سورة النساء ]

(يَسْتَفْتُونَكَ) الاستفتاء أن تطلب الحُكم الشرعي لحالةٍ لا تعرف فيها هذا الحُكم، أمّا السؤال يقتضي أي شيء، السؤال أوسع من الاستفتاء، الله عزَّ وجل قال: 

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿  وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)﴾

[ سورة طه ]

 (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ) هناك أسئلة وهناك استفتاء، الاستفتاء أن تطلب الحُكم الشرعي لحالةٍ أو لواقعةٍ لا تعلم أنت ما حُكم الشرع في هذا، هذا الاستفتاء.
ماذا يُفهَم من هذه الآية؟ يُفهَم أنَّ الذي يستفتي، وأنَّ الذي يسأل، أراد أن يبني حياته على منهج الله، من هو الذي لا يسأل؟ لأنه لا يسأل لا يعبأ بهذا الدين، وبالتعبير العامي يقول لك: "ضع بالخرج"، لا، المؤمن يسأل لأنه يتمنّى رضى الله عزَّ وجل، لأنه أخذ قراراً مصيرياً أن تكون حركته في الحياة وفق منهج الله إذاً يسأل، فهذا الذي يسأل هو إنسانٌ له عند الله مكانة كبيرة جداً، والذي لا يسأل إمّا أنه يعرف الحُكم فلا يسأل، وإمّا أنه لا يعبأ بهذا الموضوع كله، الذي لا يسأل إمّا أن يكون عالماً، أو أن يكون شارداً عن الله كُليّاً، أمّا الذي يسأل فهو إنسانٌ ورِع، والسؤال مفتاح العلم، وأنت حينما تستشير الرجال تستعير عقولهم.
أنت لا تستطيع أن تدخل إلى عيادة طبيب، وليس في جيبك الأجرة، لا تستطيع أن تدخل مكتب محامٍ، وليس في جيبك مُقدَّم الأتعاب، لا تستطيع أن تدخل إلى أي بائعٍ إلا وفي جيبك الثمن، لكنك تستطيع أن تسأل كل داعيةٍ إلى الله بلا ثمن، تسأله: ما حكم الشرع في هذا؟ هو يتقرب إلى الله بتوضيح الحقّ، وأنت تتقرب إلى الله بهذا السؤال، تبحث عن حُكم الله عزَّ وجل، وهو يُقدِّم لك هذا الحُكم، لذلك السؤال علامة الورَع.

الأصل في الأشياء الإباحة ولا يحرم شيء إلا بالنص:


اسألوا، قال تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾

[ سورة النحل ]

أهل الذِكر هُم أهل القرآن والسُنَّة، يا أخي حُكم الله في هذا حرام، قال لي إنسان اليوم: هل يجوز أن أؤجِّر بيتي لبنك؟ قلت له: لا يجوز، قال لي: ما الدليل، قلت: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)﴾

[ سورة المائدة ]

ألا يجري في هذا البنك معاملات ربوية؟ أنت ماذا فعلت؟ قدمت له البيت، قدمت له المكان، هل بإمكانك أن تخيط مثلاً ثياباً فاضحة ترتديها النساء في الطرقات مثلاً؟ فيها إشكال، هل بإمكانك أن تُزوُّد ملهى بأجهزة صوت من أعلى مستوى؟ عملٌ متقن، أين؟ بالملهى، الله يعطيك العافية (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) .
أيُّها الإخوة: يقول عليه الصلاة والسلام: 

((  ذَروني ما تَرَكْتُكم، فإنَّـما هلَكَ مَن كان قَبْلَكم بكَثْرَةِ سُؤالِـهم واخْتِلافِهم على أَنْبِيائِهم، ما نَهَيْتُكم عنه فانْتَهُوا، وما أَمَرْتُكم فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُم. ))

[ أخرجه البخاري ومسلم ]

هناك حكمةٌ بالغةٌ بالغةٌ من الأمر الإلهي، وهناك حكمةٌ بالغةٌ بالغةٌ من النهي الإلهي، وهناك حكمةٌ بالغةٌ بالغةٌ بالغةٌ من الذي سكت عنه الشرع.
قال لي أحدهم: جاءتني كنزة صُنِعت في بريطانيا، يجوز أن ألبسها؟ قلت له: يجوز، قال: أليست من عمل الكفَّار؟ قلت له: لا تلبسها، انتهى، كما ما تريد.
الأصل في الأشياء الإباحة، ولا يُحرَّم شيء إلا بالنص، والأصل في العبادات الحظر، ولا تُشرَّع عبادةٌ إلا بالدليل.

الأصل في العبادات الحظر فلا تُشرَّع عبادة إلا بالدليل:


العبادات الأصل فيها الحظر، لا يجرؤ إنسانٌ في الأرض أن يُحدث عبادة إلا بالدليل، أمّا الأشياء الأصل فيها الحظر، مادام ليس فيها نص.
مثلاً: ما حكم أكل الخضار مع الحلويات معاً؟ هذه ليس فيها حكمٌ شرعي، الأصل في الأشياء الإباحة، أمّا الحظر في العبادات، فالذي أمر الله به ائتِ منه ما استطعت، أمرك بالصدقة، أمّا الذي نهاك عنه يجب أن تدعه كُليّاً، كلامٌ دقيقٌ جداً، أنت هيأت مستودعاً للوقود السائل، هذا المستودع فيه عمليَتَين: إحكام وإملاء، إملاءه ما استطعت، يتَّسِع ألفي لتر، لا تملِك ثمن الألفين، املأه مئة لتر، أمّا الإحكام ليس فيه حلٌّ وسط، الإحكام حدّي، أمّا الإملاء نسبي، ليس هناك مستودع مُحكم نوعاً ما، ليس هناك نوعاً ما، مُحكم أو غير مُحكم، مُحكم إلى حدٍّ، ليس هناك إلى حدّ، مُحكم بين بيْن، ليس هناك مُحكم بين بيْن، ولا نوعاً ما، ولا إلى حدّ، مُحكم يعني مُحكم، أمّا إملاؤه فبقدر ما تستطيع، فإذا هناك أمرٌ بالصدقات، بخدمة الخَلق، فبقدر ما تستطيع.

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾

[ سورة البقرة ]

أمّا إذا نهاك الله عن أكل الرِبا، فليس بقدر ما تستطيع، هذا النهي حدّي، فالنهي حدّي، والأمر نسبي.
والذي سكتَ الله عنه الأصل في الأشياء الإباحة، أنا لا أبحث عن شيءٍ سكتَ الله عنه، الأصل الأشياء مُباحة، لا يُحرَّم شيء إلا بالدليل، الأصل في العبادات الحظر لا تُشرَّع عبادة إلا بالدليل:
 (ذَروني ما تَرَكْتُكم، فإنَّـما هلَكَ مَن كان قَبْلَكم بكَثْرَةِ سُؤالِـهم واخْتِلافِهم على أَنْبِيائِهم، ما نَهَيْتُكم عنه فانْتَهُوا، وما أَمَرْتُكم فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُم) دعوه كُليّاً.

حُكم الله في الكلالة:


الآن: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) الْكَلَالَةِ يعني إنسان ليس له ولد وليس له أب، العادة أنَّ الأب يرعى الابن، والإنسان إذا كبر في السن يرعاه ابنه، أنت بين رعاية أبٍ ورعاية ابنٍ، إنسان توفي ليس له ابن وليس له أب، كيف يرثه من حوله؟!
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ۚ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) .
  بالمقابل: (وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) ليس له أولاد، وليس له أب، ترك أختين فلهما الثلثان.
(وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ) رجال ونساء، للذكر مثل حظ الأنثيين، ترك أُختان فلهما الثلثان، ترك أختاً واحدة لها النصف.

بقدر طاعتك لله تُنفِّذ أمر الله في الميراث:


(يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي يُبيِّن الله لكم لئلا تضلوا المعنى (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
بالمناسبة أيُّها الإخوة: الله عزَّ وجل ما سمح لسيد الخلق وحبيب الحقّ أن يوزِّع الميراث، تولاه بذاته، الفرائض من قِبَل الله بالذات، لماذا؟ الإنسان أحياناً يجتهد، مثلاً يقول: هذا غني ليس بحاجةٍ احرمه، هذا فقيرٌ ضاعف له، تدخل الأهواء، والمنازعات، والخصومات، لا، هذا الشرع أحقُّ أن يُتَّبَع، فلذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((  إنَّ الرجلَ ليعملُ والمرأةُ بطاعةِ اللهِ تعالى ستينَ سنةً، ثم يحضرُهما الموتُ فيضارانِ في الوصيةِ، فتجبُ لهما النارُ ))

[ أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد ]

 البنات لا نورِّثهم، لماذا؟ ذهَبَ المال من بيت فلان للأصهار، هذا كلام الشيطان، البنت لها الحق في الإرث بالتمام والكمال، فبقدر طاعتك لله تُنفِّذ أمر الله في الميراث، هذا حُكم الله في الكلالة، إنسان توفي ليس له أولاد وليس له أب، الأب كان يرعاه، والابن يرعاه في شيخوخته، فماله يذهب إلى أخته النصف، إلى الأختين الثلثان، إن كانوا ذكوراً وإناثاً: (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ)
 أيُّها الإخوة الكرام: بفضل الله تعالى تمَّ تفسير سورة النساء في تسعٍ وستين درساً، وفي تسعٍ وستين شريطاً، وهذا من فضل الله علينا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقنا جميعاً لمُدارسة هذا الكتاب. 

(( ما اجتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ مِن بُيوتِ اللهِ تَعالى، يَتلُونَ كِتابَ اللهِ، ويَتَدارَسونَه بَينَهم، إلَّا نَزَلتْ عليهمُ السَّكينةُ، وغَشيَتْهمُ الرَّحمةُ، وحَفَّتْهمُ المَلائِكةُ، وذَكَرَهمُ اللهُ فيمَن عِندَه ))

[ أخرجه مسلم  وابن ماجه وأحمد وأبو داوود ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين  

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور