وضع داكن
26-02-2025
Logo
الدرس : 27 - سورة النساء - تفسير الآيات 49-54 أدب التزكية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.

خبر الله عز وجل أصدق من رؤية العين:


 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السابع والعشرين من دروس سورة النساء، ومع الآية التاسعة والأربعين، وهي قوله تعالى: 

﴿ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا (49) ٱنظُرۡ كَيۡفَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَكَفَىٰ بِهِۦٓ إِثۡمًا مُّبِينًا50)﴾

[ سورة النساء ]

 أيها الإخوة، الحقيقة أن قول الله عز وجل: ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ يعني ألم تعلم، ولكن لمَ قال الله: ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ ولم يقل ألم تعلم؟ قال بعض علماء التفسير: إذا أخبرك الله بخبر ينبغي أن تأخذه وكأنك تراه رأيَ العين، بل إنّ خبر الله عز وجل أصدق من رؤية العين، من هذا المنطلق يقول الله عز وجل: 

﴿  أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيل(2)﴾

[  سورة الفيل ]

 أي ينبغي أن تأخذ هذا الخبر من الله عز وجل، وكأنك تراه رأي العين، يُستنبَط من هذا أن القرآن الكريم له مصداقية لا تعدِلها مصداقية في الأرض، كيف لا وهو كلام خالق الأكوان، كيف لا وهو كلام رب العالمين، كيف لا وهو كلام أحكم الحاكمين، كيف لا وهو كلام أعلم العالمين، هكذا ينبغي أن تكون مع القرآن الكريم، ينبغي أن تأخذ خبر الله عز وجل وكأنه شيء تراه بعينيك، مَن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم؟ نموذج، الحقيقة ليس متلبِّساً بأهل الكتاب فحسب بل هذا نموذج تجده في كل مكان، وفي كل زمان، وفي كل عصر وكل مصر.

المؤمن مع المنعم بينما الكافر مع النعمة:


 الإنسان إما أن يعبد الله، وإما أن يعبد ذاته، فإذا لم يكن عابداً لله، لا شك أنه يعبد ذاته أو يعبد جهةً في الأرض، فمِن دأبِ النفس أن تمجّد الذي تعبده، فإن كان الذي يعبد ذاته لا بد أن يمجدها، لذلك اجلس في مجلس، وافحص قول مَن حضر المجلس، فمن دعا إلى الله إذاً هو يعبد الله، وضع ذاته في التعتيم، من هو؟ اللهم إني تبرّأت من حولي وقوتي والتجأت إلى حولك وقوتك، يا ذا القوة المتين، المؤمن يرى أنه لا شيء، وأن الله هو كل شيء، وأن كل خصائص المؤمن مِن فضل الله عز وجل، ومن نعمة الله عز وجل. 

﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍۢ فَمِنَ ٱللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْـَٔرُونَ(53)﴾

[  سورة النحل ]

 النعمة أنك تتحرك من الله، نقطة دم لا تزيد عن رأس إبرة لو تجمدت في أحد شرايين المخ لأصبح الإنسان مشلولاً، فالحركة نعمة من الله، لأنك متوازن وتنطق بالكلام المناسب في الوقت المناسب، فأنت تتمتع بعقل، ولمئة ألف سبب قد يفقد الإنسان عقله، فيصبح سخرية بين الناس، إذاً نعمة العقل، نعمة الحركة، نعمة البصر، نعمة السمع، نعمة الإدراك، نعمة عمل الأجهزة بالغة الدقة ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍۢ فَمِنَ ٱللَّهِ﴾ يكاد يكون هذا الفرق حاسماً بين المؤمن وغير المؤمن، المؤمن مع المنعم بينما الكافر مع النعمة، قد يستخدم النِّعم استخداماً مخيفاً، يستمتع بالدنيا أشدّ أنواع الاستمتاع، لكنه كافر بالله، بينما المؤمن يذوب محبةً لله على أن أوجده، يشكر الله على نعمة الإيجاد، وعلى نعمة الإمداد، وعلى نعمة الهدى والرشاد، فقد كان عليه الصلاة والسلام، وهذا من شمائله أنه تعظُم عنده النعمة مهما دقت، الإنسان حينما يفرغ مثانته هذه نعمة لا تعدلها نعمة.

هذا الذي يزكي نفسه مذموم عند الله:


 من أشد خصائص المؤمن أنه مع المنعم، ومن أشد صفات المعرض أنه مع النعمة، فأنت حينما تعبد الله تثني على الله، وتمجد الله، وتسبح الله، وتحمد الله، وحينما تعبد نفسك من دون الله تُثني على نفسك، وتمدح نفسك، فحينما تتكلم عن نفسك، وعن باعك الطويل في كسب الأموال، وعن باعك الطويل في إيقاع المكر والخديعة بين الناس، وعن باعك الطويل في المصاولة على خصومك، فهذا الذي يزكي نفسه في نص هذه الآية مذموم عند الله، لا تزكي نفسك، لأنك إن زكيت نفسك، فالذين من حولك يصدقونك، لكن الله: 

﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾

[  سورة طه ]

 يعلم ما أنت عليه، ويعلم ما خفي عنك، علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون: ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ يخاطب الله عز وجل نبيه الكريم: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ﴾ بربك هل وجدت في الأرض إنساناً شارداً عن الله إلا ويزكي نفسه، بحق أو بباطل، بكلام مقبول أو غير مقبول، يزكي نفسه، يمدح ذكاءه، يمدح عقله، وعامة الناس يمدحون أولادهم مديحاً غير معقول، والنساء يمدحنَ بناتهن مديحاً غير معقول، نوع من نمو الذات، نوع من الكِبر، نوع من الغطرسة، نوع من الاستعلاء، نوع من التعالي.

من صفات المؤمن الدقيقة أنه متواضع لله عز وجل:


 قال تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ﴾ ما رأيت إنساناً موصولاً بالله إلا وكان متواضعاً، ما رأيت إنساناً يعرف الله عز وجل إلا وهو متواضع، يُقدّم كل شيء ولا يدّعي أنه يقدم شيئاً، يقول: هذا من فضل الله علي، لذلك من علامة المؤمن أنه لا يذكر نفسه بشيء إلا ويقول: مِن فضل الله علي، لولا أن الله منَّ علي لكنت من الهالكين. 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَإِنَّهُۥ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21)﴾

[  سورة النور ]

 لذلك الله عز وجل يخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام يقول له: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ﴾ معنى يزكّون أي؛ ينفون عن أنفسهم النقائص أولاً، ثم يدّعون الكمالات ثانياً، هو لا يخطئ، وهو إنسان عظيم، بينما يقول الله عز وجل: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ﴾ من باب التوبيخ، من باب الانتقاص، من باب الذم، يقول عليه الصلاة والسلام: 

((  كُلُّ ابَنِ آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ. ))

[ أخرجه الترمذي  ]

 حينما يتواضع الإنسان يزداد رِفعة عند الله، وعند الناس، وحينما يتكبر يفقد مكانته عند الله، قال الشاعر:

انظر إلى الأكحالِ وهي حجارةٌ    لانت فصار مقرُّها في الأعين

[ محمد الهلالي ]

أنت حينما تتواضع لا يعني ذلك أنك وضيع أبداً، قد تكون عند الله عظيماً، لكن من صفات المؤمن الدقيقة أنه متواضع لله عز وجل.

الإنسان حينما ينجح في الحياة أمامه مزلق خطير هو مزلق الغرور والكبر:


 ما من قائدٍ فتح بلداً إلا ودخلها متغطرساً متكبّراً مستعلياً، إلا النبي عليه الصلاة والسلام حينما دخل مكة فاتحاً دخلها مُطأطئ الرأس، كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله عز وجل، لذلك حينما ينجح الإنسان في الحياة أمامه مزلَق خطير هو مزلق الغرور، ومزلق الكبر، ومن أروع ما في القرآن الكريم في هذا الموضوع قوله تعالى: 

﴿ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍۢ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍۢ وَٱجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَٰنًا نَّصِيرًا(80)﴾

[  سورة الإسراء ]

 قد يقول قائل: لمَ لمْ يقل الله عز وجل: ربي اجعلني صادقاً، لمَ هذا التفصيل؟ لأنه قد تدخل في مجالات كثيرة مُدخل صدق ولا تخرج من هذه المجالات مُخرج صدق، قد تُغويك الدنيا، قد تأخذك الدنيا، قد يأخذك العجب، كان بعض العلماء الأجلاء إذا دخل على إخوانه يقول: "اللهم لا تحجبني بهم، ولا تحجبهم عنك بي" ، أن نبقى موحدين، أن نبقى عابدين لله عز وجل، ألا تُحجَب عن الله بإنسان، وألا يُحجَب الإنسان عن ربه بمجموع: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ﴾ معنى يزكون؛ أي يبرّئون أنفسهم من العيوب، وقد قيل: رقصت الفضيلة تِيهاً بفضلها فانكشفت عورتها. لمجرد أن تتيه بفضلك فهذه نقيصة، المؤمن الصادق يفعل الخير مع كل الناس وينساه كلياً، أما إذا فعل معه أحد الخير لا ينساه مدى الحياة، إذا فُعِل معك الخير ينبغي ألا تنساه، أما إذا فعلت الخير ينبغي إذا كنت مؤمناً صادقاً أن تنساه، أن ترى أن الله سمح لك، وسخّرك، وأمدّك، وألهمك، لذلك قالوا: "إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك" ، وكلما أتيت الله من باب التواضع، ومن باب الانكسار، ومن باب التذلل، كنت من أفضل الناس عند الله لأن العبد عبد ولأن الرب رب. 

(( الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِداً مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ ))

[ سنن أبي داود  ]


الكبر يفسد العمل كما يفسد الخل العسل:


 قد يأتيك الضيوف، وليس عندك شيء، عندك كمية من اللبن لا تكفي واحداً منهم، قد تضيف لهذا اللبن خمسة أضعاف حجمه ماء، وتجعله شراباً سائغاً، ويبيضّ وجهك، أما إذا أضفت إلى هذا اللبن قطرة من البترول لا يمكن أن يُستخدَم إطلاقاً، فالكِبر يُفسِد العمل كما يُفسِد الخل العسل: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ﴾ لمجرد أن تسلط الأضواء على ذاتك، لمجرد أن تجعل الحديث محوره مديح ذاتك، لمجرد أن تعيش مقدِّساً لذاتك، وأنت تنسى الذي منحك نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، فأنت في بُعدٍ عن الله عز وجل.
 لا أعتقد أن في الأرض إنساناً هو أشد تواضعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل عليه أحد الناس وقد أخذته رِعدة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام من شمائله أنه شديد الهيبة، فمن رآه بديهة هابه، ومن عامله أحبه، فأخذته رِعْدة، قال: 

(( هَوِّن عليك فإني لستُ بملِكٍ، إنما أنا ابنُ امرأةٍ من قريش كانت تأكل القَديدَ. ))

[ أخرجه الطبراني ]

 هو سيد الخلق، وحبيب الحق، وسيد ولد آدم، أقسم الله بعمره الثمين. 
وفي معركة بدر الرواحل ثلاثمائة، والجنود يقتربون من الألف، فقال عليه الصلاة والسلام: كل ثلاث على راحلة وأنا وعلي وأبو لبابة على راحلة، فركب النبي الراحلة في نوبته، فلما جاء دوره في المشي توسل صاحباه إليه أن يبقى راكباً، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنتما بأقوى مني على السير، ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر.

(( كنَّا يومَ بَدرٍ كلُّ ثلاثةٍ على بَعيرٍ، كان أبو لُبابةَ وعليُّ بنُ أبي طالبٍ زَمِيلَيْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: وكانتْ عُقْبةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: فقالا نحن نَمشي عنك، فقال: ما أنتما بأقْوَى منِّي، ولا أنا بأغْنَى عن الأَجرِ منكما! ))

[ تخريج المسند لشعيب ]

 ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ﴾

المؤمن متواضع لله عز وجل يمرغ جبهته في أعتاب الله ولكنه عزيز النفس:


 سيدنا عمر أيها الإخوة أحد العشرة المبشرين بالجنة، في حياة المسلمين مِن بعثة النبي إلى يوم الدين هناك عشرة رجال هم في الجنة يقيناً، لأن النبي بشّرهم، والنبي كما قال الله تعالى: 

﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)﴾

[ سورة النجم ]

 ومع ذلك من شدة تواضع عمر، ومن شدة خوفه من الله، ومن شدة هيبته لله سأل حذيفة ابن اليمان، وكان أمين سر رسول الله، قال: بربك اسمي مع المنافقين؟ هذا هو الإيمان، الإيمان تواضع، الإيمان تذلُّل لله، لكن هذا المستكبر، هذا المستعلي، هذا المتغطرس، لو رأيته أمام من هو أقوى منه رأيته كالطفل يتذلل أمامه، لكن المؤمن متواضع لله عز وجل، يمرِّغ جبهته في أعتاب الله، ولكنه عزيز النفس، يقول: لا، حيث لا يستطيع أن يقولها أحد.
 دخل أبو حنيفة النعمان على أبي جعفر المنصور، وكان عند أبي جعفر أحد القضاة الذين هم من أعداء أبي حنيفة، أراد هذا القاضي أن ينتقم من أبي حنيفة، فقال: يا إمام إذا أمرني الخليفة -وعلى مسمع من الخليفة- بقتل امرئ أأقتله أم أتريث؟ ماذا يقول له؟ قال له: الخليفة على الحق أم على الباطل؟ قال له: على الحق، قال له: كن مع الحق، فلما خرج قال: أراد أن يقيدني فربطته. 

﴿ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ(39) وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٍۢ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ(40)﴾

[  سورة الشورى ]

 أيها الإخوة، الله عز وجل يذم أولئك الذين يمدحون أنفسهم، والأَولى ألّا تزكي نفسك، وألّا تزكي على الله أحداً، لأن الجهة الوحيدة التي تعرف كل شيء تعرف الظاهر، وتعرف الباطن، وتعرف السر، وتعرف ما خفيَ عن صاحبها، هي الله جل جلاله، لا تخفى عليه خافية، كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ من خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، قد تكون في موقف لا يستطيع أحد على وجه الأرض أن يحاسبك، لكن الله معك ويحاسبك، فالذي يخشى الله فيما بينه وبين الله هذا من قوة إيمانه، ومن شدة توحيده لله عز وجل.

على الإنسان أن يبتعد عن مدح ذاته لأن الله متكفل أن يجعله في حجمه الحقيقي:


 إذاً يزكون؛ ينفون عن أنفسهم المعايب، ويُلبِسونها الفضائل، وكله كلام بكلام، ألا تعلمون أنّ شعر الفخر في الجاهلية كلام بكلام، ألم يقل المتنبي: 

أنَا الذي نَظَـرَ الأعْمَـى إلى أدَبـي    وَأسْمَعَتْ كَلِماتـي مَنْ بـهِ صَمَـــمُ

أنَامُ مِلْءَ جُفُونـي عَـنْ شَوَارِدِهَـا     وَيَسْهَـرُ الخَلْـقُ جَرّاهَـا وَيخْتَصِـمُ

وَجـاهِلٍ مَـدّهُ فِي جَهْلِـهِ ضَحِكـي     حَتَّـى أتَتْــه يَـدٌ فَـرّاسَـةٌ وَفَـــــــــمُ

إذا رَأيْـتَ نُيُـوبَ اللـّيْـثِ بــارِزَةً     فَــــلا تَظُـنّـنّ أنّ اللّيْـــثَ يَبْتَســـِـمُ

الخَيْـلُ وَاللّيْـلُ وَالبَيْـداءُ تَعرِفُنـي     وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَـمُ

[ المتنبي ]

 كلام بكلام، كان في طريقه من البصرة إلى حلب فجاءه بعض الأعداء فولى هارباً، قال له غلامه ألم تقل: 

الخَيْـلُ وَاللّيْـلُ وَالبَيْـــــداءُ تَعرِفُنـي    وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَـمُ

* * *

 قال له: قتلتني قتلك الله، فعاد وقاتل حتى قُتِل.
 أي تجد الإنسان يتبجح ويفتخر ويتحدث، أما في المِحَكّ العملي، أما عند الضرورة تجده جباناً متخلفاً بخيلاً، فهذا الذي يمدح نفسه لو أن الله يمدحه لانكشف، على كلٍ اعلموا علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يُحجِّم خلْقه، لا بد أن يمتحنهم، تكلم ما شئت، أثنِ على نفسك بما شئت، أعطِ نفسك الحجم الذي تشاء، اجعل نفسك قُطب الرَّحى، اجعل نفسك محور العالم، تكلم، تحدث، امدح علمك، وفهمك، وحكمتك، وغناك، ومالك، وقدرتك لكن الله سبحانه وتعالى متكفِّل أن يجعلك في حجمك الحقيقي وهذا هو الابتلاء، لذلك الأفضل أن تبتعد عن مدح ذاتك كلياً. 

﴿ ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَٰٓئِرَ ٱلْإِثْمِ وَٱلْفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ ۚ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ ۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ(32)﴾

[  سورة النجم ]


حينما تتواضع تزداد رفعةً:


 نهيٌ إلهي بآية ثانية: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ﴾ أحد الأصحاب مدح سيدنا الصديق رضي الله عنه، فتوجه إلى الله، وقال: "يا رب أنت أعلم بي من نفسي، أنا لا أعلم، ولكنك تعلم، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يقولون -كان طموحاً- واغفر لي ما يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون" ، هذا أكمل موقف لمن أثنى عليك.
 عالم جليل سافر إلى بلد غربي للمعالجة، انهالت الرسائل والاتصالات بشكل غير طبيعي، أُجريت معه مقابلة بالإذاعة، فسألوه عن هذه المكانة التي حباه الله بها، تواضع لله عز وجل، فلما ألحوا عليه قال: لأنني محسوب على الله، هناك من هم محسوبون في الأرض على جهة، أو على فئة، أو على طائفة، أو على حزب، قال: لأنني محسوب على الله.
 حينما تتواضع تزداد رِفعةً، النبي عليه الصلاة والسلام توفي ابنه إبراهيم، ولحكمة أرادها الله انكسفت الشمس في يوم وفاته، فالصحابة الكرام ببراءة عجيبة ربطوا بين كسوف الشمس وبين موت إبراهيم، وظنوا أن هذه لكرامة النبي عند الله، أي معجزة، موت إبراهيم رافقه كسوف الشمس، فلما علم ذلك، وكان بإمكانه أن يسكت، جمع أصحابه وقال: 

(( إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ لا يَخْسِفانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَياتِهِ، ولَكِنَّهُما آيَتانِ مِن آياتِ اللَّهِ، فإذا رَأَيْتُمُوهُما فَصَلُّوا. ))

[ صحيح البخاري ]

 أنقذ التوحيد (إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ لا يَخْسِفانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَياتِهِ، ولَكِنَّهُما آيَتانِ مِن آياتِ اللَّهِ)
﴿بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي﴾ أنت حينما تزكي نفسك، أنت نفسُك لا تعلم ماذا تفعل لو كنت في ظرف آخر، إن الله وحده يعلم، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، أنت الآن مستقيم جيد، قل: أرجو الله أن يثبتني، لو وُضِعت في مكان آخر، لو وضعت في مركز قوي، أو وُضعت في ثروة طائلة هل تبقى هكذا؟ الله يعلم، أنت لا تعلم، لذلك ليس في الإمكان أبدع مما كان، الله وحده يعلم للذي لم يكن لو كان كيف يكون، كيف أنت تكون مع الذي لم يكن ﴿بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ﴾ الله عز وجل وحده يعلم، يعلم ما يبدو للناس، ويعلم ما يستتر عن الناس، ويعلم ما يخفى، ويعلم ما يظهر، ويعلم ما يخفى عنك، كيف هو.

الذي يرفعه الله لا يستطيع أحد أن يخفضه:


 الصحابة الكرام بأمر الله عز وجل مُنِعوا من العُمرة في مكة، ووقعوا صلح الحديبية، واشتد الألم اشتداداً كبيراً عند أصحاب رسول الله، لأنهم كانوا يحلمون أن يطوفوا حول الكعبة، فمُنعوا، وعقدُ الصلح سمح لهم في العام القادم بالعمرة، قال الله عز وجل: 

﴿ هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُۥ ۚ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَٰتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَـُٔوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌۢ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ ۖ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِى رَحْمَتِهِۦ مَن يَشَآءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(25)﴾

[  سورة الفتح ]

 أي في مكة أناس آمنوا بالله وأسلموا ولكن سراً، فلو دخلوا مكة عُنوة لقاتلوهم. 

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيْـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾

[  سورة البقرة ]

﴿بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ﴾ إن الله عز وجل إذا زكّى إنسان أظهر فضله للناس، فالذي يرفعه الله لا يستطيع أحد أن يخفضه، ألم يقل الله عز وجل: 

﴿  أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)﴾

[  سورة الشرح ]

 إذا زكى الله إنساناً فإنها تزكية صاعدة إلى ما شاء الله، أما إذا زكّى الإنسان نفسه قد يُفتَضح.

إذا أراد الله إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك:


 جرت مناظرة بين عالم إسلامي، وعالم آخر من دين آخر، الحديث كان طويلاً، فقال الطرف الآخر: لأنني متخلِّق بفضائل الأخلاق فكلامي حق، فكان الذي حصل بعد حين أنه ضُبِط في فضيحة جنسية شاذة، هذا الذي زكّى نفسه، وأنت حينما تزكّي نفسك دون أن تشعر قد تُجَرّ إلى موقف تُفتضَح فيه، حينما تزكي نفسك تزكية باطلة منهياً عنها قد تُستدرَج إلى موقف تُفتضَح فيه، فلذلك كن متواضعاً، وكن موحداً، ولا ترَ لك فضلاً، وإذا أراد الله إظهار فضله عليك خلقَ الفضل ونسبه إليك.
 النبي عليه الصلاة والسلام حينما بلغه أن بعض الأنصار وجدوا عليه في أنفسهم، قال: يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم من أجل لعاعة تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، يا معشر الأنصار، لو شئتم لقلتم فلصَدقتم ولصُدقتم به، أتيتنا مكذباً فصدقناك، طريداً فآويناك، عائلاً فأغنيناك، يا معشر الأنصار ألم تكونوا ضلالاً -ما قال فهديتكم- قال: فهداكم الله بي، ألم تكونوا عالةً فأغناكم الله، ألم تكونوا أعداء فألف بين قلوبكم، إلى آخر القصة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((  يا مَعشرَ الأنصارِ مَقالةٌ بلغَتْني عنكُم، وجِدةٌ وجدتُموها في أنفسِكُم، ألَم آتِكُم ضُلَّالًا فَهَداكمُ اللَّهُ، وعالةً فأغناكمُ اللَّهُ، وأعداءً فألَّفَ اللَّهُ بينَ قلوبِكُم؟ قالوا: بلِ اللَّهُ ورسولُهُ أمَنُّ وأفضَلُ. قالَ: ألا تُجيبوني يا معشرَ الأنصار؟ قالوا: وبماذا نُجيبُكَ يا رسولَ اللَّهِ، وللَّهِ ولرسولِهِ المنُّ والفَضلُ.  قالَ: "أما واللَّهِ لو شئتُمْ لقلتُمْ، فلَصَدقتُمْ وصُدِّقتُمْ أتَيتَنا مُكَذَّبًا فصدَّقناكَ ومَخذولًا فنصَرناكَ وطريدًا فآويناك، وعائلًا فأغنَيناكَ.  أوجَدتُمْ في أنفسِكُم يا معشرَ الأنصارِ في لُعاعةٍ منَ الدُّنيا تألَّفتُ بِها قَومًا ليُسلِموا، ووَكَلتُكُم إلى إسلامِكُم.))

[ صحيح المسند ]

إذاً ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا﴾ من بيئة العرب في الجاهلية النخيل، والتمر من ثمر النخيل، والتمرة لها نواة، والنواة فيها فتيل، وفيها نقير، وفيها قِطمير، فالنقير: نتوء مُؤَنَّف في أحد زوايا النواة، نتوء مُدبَّب مُؤَنّف كالإبرة تماماً، تُحِسه بلسانك، هذا هو النقير، وبين فلقتيها فتيل، ولها غشاء رقيق هو القِطمير، فهذه الأشياء الثلاثة ليس لها قيمة إطلاقاً ليس الحديث عن النواة، عن نتوء في النواة، وعن خيط بين فلقَتي النواة، وعن قشرة رقيقة في النواة، هذه الأشياء الثلاثة لا يمكن أن تُظلَموا بمستواها. 

﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾

[  سورة النساء ]

 لذلك الله عز وجل حينما يزكي مَن يشاء لا يظلم عبده إطلاقاً، يعطيه حقه، أما إذا تواضعت لله يرفع الله لك ذكرك، يُعلي قدرك، يرفع شأنك.

ما أخلص عبد لله إلا جعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودة والرحمة:


 قال: 

﴿ أَنِ ٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ فَلۡيُلۡقِهِ ٱلۡيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأۡخُذۡهُ عَدُوّٞ لِّي وَعَدُوّٞ لَّهُۥۚ وَأَلۡقَيۡتُ عَلَيۡكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ(39)﴾

[  سورة طه ]

 من أدق تفسيرات هذه الآية أن الله إذا أحب عبده ألقى محبته في قلوب العباد، وإذا أبغض عبداً له ألقى بُغضه في قلوب العباد، فالعبد المنحرِف عن منهج الله مهما حسّن صورته، ومهما لمّع شكله، ومهما تجمّل أمام الناس يُبغضه الناس، والمؤمن الذي اتصل بالله، وأخلص له، وخطب ودّه، مهما قصّر في تحسين صورته فالناس يحبونه، وما أخلص عبد لله إلا جعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودة والرحمة. 
﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي﴾ دعِ التزكية لله، أنت حدِّث عن الله، أنت أثنِ على الله، أنت مجِّد الله، سبح الله، كبِّر الله، وحِّد الله، عرِّف الناس بالله، اذكر الله للناس، وعتِّم على نفسك، ضع نفسك في التعتيم، مَن أنت؟ أنت حسنة، أنت من فضل الله، أنت من حسنة الله، أنت من توفيق الله.

كن مع الله تـرَ الله معـــك    واترك الكلّ وحاذِر طمعَك

وإذا أعطاك مَـــن يمنعـــه    ثم مَن يعطي إذا ما منعَــك

كيفما شاء فكن فـــي يـــده    لك إن فرَّق أو إن جمعــك

كنت لا شيء وأصبحت به    خير شيء بشراً قد طبعك

[ عبد الغني النابلسي ]


عتِّم على نفسك ولا تبرز فضائلك وتحدث عن الله ودع أمر تزكيتك لله يعطيك حقك:


﴿وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا﴾ حينما تسكت ولا تزكي نفسك الله عز وجل هو الذي يرفع قدرك، ويعلي شأنك، ويلقي محبتك في قلوب الخلق، لا تخف لن تُظلَم، أما إذا زكاك الله عز وجل لا تستطيع جهة في الأرض أن تخدش مكانتك، وأما إذا أهان الله عبداً لو فعل المستحيل فهو في الوحل، هو في مزبلة التاريخ، وقد ترَون أناساً كانوا أقوياء وأذكياء، لكنهم كانوا أعداء لله عز وجل هم الآن في مزبلة التاريخ، هؤلاء الذي عارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا سادة قريش، كانوا زعماء قريش، كانوا أبطالاً صناديدَ، أغنياء، هم في مزبلة التاريخ، وأما الذين نصروه وهم ضِعاف فخلَّد الله ذكرهم.
 ماذا يقول الصحابة عن بلال الحبشي؟ كانوا يقولون عن الصديق: "هو سيدنا، وأعتقَ سيدَنا" يعني بلالاً، من هذا العبد الحبشي الذي يخرج سيد قريش أمير المؤمنين عمر لاستقباله في ظاهر المدينة، من هذا؟ ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ*وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ*الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ*وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ إذا رفع الله عز وجل لك ذكرك فلا تستطيع الأرض بأكملها أن تحطّ من هذا القدر، لذلك أنت عتِّم على نفسك، ولا تبرِز فضائلك، وتحدث عن الله، ومجِّد الله، وسبِّح الله، وكبِّر الله، ووحِّد الله، ودع أمر تزكيتك لله، يعطيك حقك ﴿وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا﴾

الكذب والافتراء والفرق بينهما:


 أيها الإخوة، الآيات الكريمة لها سِياق، ولها سِباق، ولها لِحاق، فلو نزعت الآية وحدها لكانت حكمة رائعة خالدة فوق المكان والزمان، ولو أرجعتها إلى سياقها لكان لها معنى آخر، فالله سبحانه وتعالى يتحدث عن أهل الكتاب. 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا(47)﴾

[ سورة النساء ]

 بهذا السياق يقول: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ﴾ أي بسياق الآيات هؤلاء الذين يزكّون أنفسهم هم أهل الكتاب، يكابرون، يرفضون الحق، يرفضون بعثة النبي، يرفضون وحي السماء، يزكّون أنفسهم ويبخِّسون بهذه الدعوة الإلهية الإسلامية، لذلك يقول الله عز وجل: ﴿ٱنظُرۡ كَيۡفَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ﴾ الإنسان يكذب وربما لا يشعر، فإذا كذب وهو لا يشعر فهو يكذب، أما إذا كذب متعمداً فهو يفتري، الافتراء؛ الكذب المتعمَّد، لذلك قد يفتي الإنسان بلا علم، يُحاسَب عند الله حساباً عسيراً، لكن المجرم هو الذي يفتي بخلاف ما يعلم، أي يفتري الكذب: ﴿ٱنظُرۡ كَيۡفَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَكَفَىٰ بِهِۦٓ إِثۡمًا مُّبِينًا﴾

أشد أنواع الكذب أن تكذب على الله:


 قد تكذب على إنسان، والإنسان الذي تكذب عليه لا يملك أن يرد عليك، أو ليست عنده وسائل أن يكشف كذبك، لكن أشد أنواع الكذِب أن تكذب على الله الذي: 

﴿  يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)﴾

[  سورة غافر ]

 الذي يعلم حقيقة كل شيء، الذي لا تخفى عليه خافية، هذا إنْ كذبت عليه فهذه جريمة ما بعدها جريمة، هم يعلمون أنه رسول الله، بل إنهم: 

﴿ ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَعْرِفُونَهُۥ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146)﴾

[  سورة البقرة ]

 بل إنّ كتابهم لَيذكر صفات النبي بدقة بالغة، لكنهم يفترون ويكذبون متعمدين، ليس هذا النبي الذي ورد اسمه في التوراة، قال تعالى: ﴿ٱنظُرۡ كَيۡفَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ﴾ لأنه افتراء على الله ﴿وَكَفَىٰ بِهِۦٓ إِثۡمًا مُّبِينًا﴾ أي إثماً كبيراً جداً، واضحاً، لأن الذي تفتري عليه الكذب هو الله. 
أحياناً يكون الإنسان في مكان وحده، فإذا ذهب إلى مكان آخر يتكلم كلاماً على مِزاجه، يكذب، أما إذا كنت في مكان، ويراقبك إنسان، وأنت وقفت موقفاً مخزياً، وكنت في جلسة بعد حين، وتبجّحت أمام هذا الذي كان واقفاً أمامك؛ أنني فعلت كذا وكذا، وأنت لم تفعل، فهذا منتهى الوقاحة، منتهى الوقاحة أن تتبجح بشيء لم تفعله أمام إنسان كان معك، ويرى كل حركاتك وسكناتك، فكيف إذا كذبت على الله؟ الذي ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾

الجبت والطاغوت اسمان لصنمين في مكة أو رمزان لمن يدعو لغير الله:


﴿  ٱنظُرۡ كَيۡفَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَكَفَىٰ بِهِۦٓ إِثۡمًا مُّبِينًا(50) أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا(51)﴾

[ سورة النساء ]

 هؤلاء أهل الكتاب أي على علم بأن لهذا الكون إلهاً، وأن لهذا الكون نبياً ورسولاً، وكتاباً، ومنهجاً، عندهم نصيب من الكتاب: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ يذهبون إلى مكة، ويتفقون مع مشركي مكة على محاربة النبي، ويذمون النبي، فتوجّسوا منهم خِيفةً، لعله اتفاق بينهم لا نعلمه، فلا بد أن تسجدوا لأصنامنا، للجِبت والطاغوت، فإن سجدتم لأصنامنا كنتم صادقين في نقض عهدكم مع النبي، فجاء أهل الكتاب إلى مكة المكرمة، وسجدوا لأصنام قريش، للجبِت والطاغوت، وقال بعض العلماء: كلّ مَن يدعو إلى غير الله هو جِبت، والطاغوت ليس طاغية بل شديد الطغيان، وكل من يطغى في أحكامه وفي تصرفاته فهو طاغوت، إما أن يكون الجبت والطاغوت اسمَين لصنمَين في مكة، وإما أن يكون الجبت والطاغوت رمزَين لمن يدعو لغير الله، ولمن يظلم ظلماً لا حدود له.

القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ بل إنه يقدم نماذج حية في كل زمان:


 قال تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا﴾ ألا تجد في حياة المسلمين من يثني على كافر ويذّم مؤمناً، ألا تجد في حياة المسلمين مَن يثني على بلد كافر تُرتَكب فيه الفواحش على قارعة الطريق، يثني على النظام، وعلى التقدم، وعلى الرقي، وعلى الحرية، وينسى أن هؤلاء قال الله عنهم: 

﴿  لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197)﴾

[  سورة آل عمران ]

 ينسى أن الله عز وجل قال عنهم: 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44)﴾

[ سورة الأنعام  ]

 ينسى ما قال الله عنهم: 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍۢ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَٰرُ(42)﴾

[  سورة إبراهيم ]

 هذا الذي يُثني على أهل الكفر، ويمدح أنظمتهم، ويمدح حياتهم، ويمدح قيمهم، ويمدح إباحيتهم، ويمدح حريتهم، ويمدح استغلالهم للدنيا، ويمدح بُعدَهم عن الدين، هذا الذي يمدحهم ويذم أمته، ويذم قومه، ويذم المؤمنين، ألا تنطبق عليه صفات هؤلاء تماماً، هذا كتاب هداية ليس كتاب تاريخ، لا يمكن أن يكون القرآن كتاب تاريخ، إنه يقدم نماذج حية في كل زمان.

إذا مُدِح الفاسق غضب الله عز وجل:


 قال تعالى: 

﴿  أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا(51) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُۖ وَمَن يَلۡعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ نَصِيرًا(52)﴾

[ سورة النساء ]

 طردهم وأبعدَهم ﴿وَمَن يَلۡعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ نَصِيرًا﴾ قد يلعنك إنسان -لا سمح الله ولا قدر- الإنسان مثلك ضعيف، قد يُوقِع بك الأذى، وربما لا يستطيع، أما إذا لعن الله إنساناً فهل هناك أمل بالنجاة؟ كم النجاة؟ واحد بالمئة؟ مستحيل: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُۖ وَمَن يَلۡعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ نَصِيرًا﴾ أي إذا مُدِح الفاسق غضب الله عز وجل. 

(( إن الله لَيغضبُ إذا مُدِحَ الفَاسقُ. ))

[ تخريج الإحياء للعراقي بسند ضعيف ]

هذا مطب كبير، مزلق خطير.

حينما ظهر من العرب نبياً حسده أهل الكتاب واليهود وكذبوه افتراءً وبغياًً:


 أن تذهب إلى بلاد الغرب وتعود وتقول: يا أخي غير حياة، نظام، قيم، حريات، ديمقراطية، حقوق إنسان، سلام عالمي، كل إنسان غارق في عمله، عمل، إنتاج، حسناً ماذا عن كفرهم؟ وإباحيتهم؟ وزناهم؟ وفسقهم؟ وفجورهم؟ وضياعهم؟ وشقاؤهم؟ لا يرى إلا الأشياء الإيجابية، ويتعامى عن السلبيات، كل إنسان يذهب إلى بلاد الغرب ولا يرى إلا أنهم نخبة من بني البشر ويزكيهم، ويقبّح قومه وأمته، تنطبق عليه هذه الآية: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُۖ وَمَن يَلۡعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ نَصِيرًا﴾ هم فوق ذلك بخلاء ماديون: 

﴿ أَمۡ لَهُمۡ نَصِيبٌ مِّنَ ٱلۡمُلۡكِ فَإِذًا لَّا يُؤۡتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيرًا(53)﴾

[ سورة النساء ]

 لو أن لهم نصيباً من الملك ﴿لَّا يُؤۡتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيرًا﴾

﴿ أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ ءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَيۡنَٰهُم مُّلۡكًا عَظِيمًا(54)﴾

[ سورة النساء ]

 الحقيقة هذا حسد، حسدوا النبي، هم يعلمون أنه لا بد أن يظهر نبي، حينما ظهر من العرب حسدوه، وكذبوه افتراءً، وبغياً، وحسداً. 

﴿  أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ ءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَيۡنَٰهُم مُّلۡكًا عَظِيمًا(54) فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن صَدَّ عَنۡهُۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا(55)﴾

[ سورة النساء ]

 الحديث عن أهل الكتاب الذين عايَشوا النبي عليه الصلاة والسلام، الحديث عن اليهود.

من خصائص المؤمن أنه يثني على الله عز وجل ولا يزكي نفسه:


 ذكرت في خطبة سابقة -كختام لهذا الدرس- أن الحُصَين بن سلّام من أحد أكبر أحبار اليهود، علم أنه بعث رجل في مكة، وهو نبي هذه الأمة، عاد إلى التوراة فرأى صفاته منطبقة عليه، فكان ينتظره في المدينة، كان على رأس نخلة، فسمع من ينادي، ويقول: جاء محمد إلى المدينة، فصاح بأعلى صوته وهو على رأس النخلة: الله أكبر، قالت له عمته خالدة: والله لو أن موسى بن عمران أتى لما قلت أفضل من ذلك، قال: يا عمتاه إنه نبي، إنه أخو موسى بن عمران، إنه أتى بما أتى به موسى، فنزل، ودخل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأعلن الشهادة وأسلم، فقال له النبي: من أنت؟ قال: أنا الحُصَين بن سلام، قال: بل عبد الله بن سلام، قال: إذاً والله ما أحب أن يكون لي بهذا الاسم اسماً آخر، أنا عبد الله بن سلّام، بعد حين قال له: 

(( يا رسولَ اللهِ! إِنَّ اليَهودَ قومٌ بُهْتٌ، وإنَّهُمْ إنْ سَمِعُوا بِإِيمانِي بِكَ؛ بَهَتُونِي ووَقَعُوا فِيَّ، فاخَبْأَنِي، وابْعَثْ إليهِم، وسَلْهُمْ عَنِّي، فجاءُوا، فقال: ما عبدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ؟ قالوا :سَيِّدُنا وابْنُ سيدِنا، وعَالِمُنا وابْنُ عَالِمِنا، وخَيْرُنا وابْنُ خَيْرِنا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أَرأيتُمْ إنْ أسلمَ؛ أَتُسْلِمُونَ؟ فَقَالوا: أَعَاذَهُ اللهُ أنْ يفعلَ ذلكَ! ما كان لِيَفْعَلَ! فقال: اخْرُجْ يا ابنَ سَلامٍ! فخَرَجَ إليهِمْ فقال: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، فَقَالوا: بَلْ هو شَرُّنا وابْنُ شرِّنا، وجَاهِلُنا وابْنُ جَاهِلِنا، فقال: أَلمْ أُخْبِرْكَ يا رسولَ اللهِ! أنَّهُمْ قومٌ بُهْتٌ. ))

[ صحيح الموارد ]

 فالحديث في الأصل عن أهل الكتاب، إلا أن هذه الآية التي شرحتها، وهي قوله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ﴾ هذه إذا نُزِعت من سياقها قانون ومنهج، ومن خصائص المؤمن أنه يثني على الله عز وجل ولا يزكي نفسه ﴿فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ﴾ سيدنا الصديق لما استخلف عمر بن الخطاب، ماذا قال؟ قالوا له: ولّيت علينا أشدَّنا، فقال الصديق رضي الله عنه: أتخوّفونني بالله، لو أن الله سألني يوم القيامة لمَ وليت عليهم عمراً؟ أقول: "يا رب وليت عليهم أرحمهم، هذا علمي به، فإن بدّل وغيّر فلا علم لي بالغيب" ، أرأيتم إلى هذا الأدب، وأنت إذا سُئلت عن إنسان فقل: هذا علمي به، فإن بدل وغيَّر فلا علم لي بالغيب، إن طلب منك أن تزكي إنساناً فقل: أحسبه صالحاً ولا أزكي على الله أحداً، والله أعلم.
 هذا الدرس في أدب التزكية، لا تزكي نفسك الله يزكيك، وإذا زكّاك الله لا تستطيع جهة في الأرض أن تخدش سُمعتك.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور